تقديـــــــــم :
تعني السعادة في الدلالة الفلسفية:
- " الرضاء الدائم ، وهو ما يتوق إلى تحقيقه الحكيم " ( تعريف أرسطو )
- " حالة إرضاء ( إشباع وارتياح ) تام للذات يتسم بالقوة والثبات ، ويتميز عن اللذة للحظيتها وعن الفرح
لحركيته . "
- " الشعور باللذة الحاضرة " ( أبيقور – اسبينوزا )
الإشكالية الفلسفية :
إذا كانت السعادة هي حالة إرضاء تام ، فكيف هو هذا الإرضاء ،أهو مادي أم عقلي أم وجداني ؟
هل تحصل السعادة للإنسان بوصفه فردا أم تتحقق لديه في إطار الجماعة ؟
للإجابة عن هذين السؤالين سننفتح على الفلسفتين اليونانية والإسلامية .
I. السعادة إرضاء للبدن أم العقل أم القلب ؟
إذا كانت السعادة هي الشعور التام بالرضى ، فأين يكمن هذا الشعور ؟ هل هي إرضاء للبدن أم العقل أم القلب؟
1- السعادة إرضاء للعقل ؟
أ – موقف أفلاطون :
قسم أفلاطون العالم إلى عالمين : عالم مادي محسوس فان ومتغير ، وعالم المثل عالم المعقولات والأفكار الخالدة. و بحكم نزعته العقلانية المثالية فقد أعطى أهمية لهذا العالم الأخير . وتبعا لذلك جزأ أفلاطون الإنسان، الذي يعيش العالم ، إلى جسم ونفس . الجسم منه يمثل العنصر الفاني ، في حين أن النفس هي العنصر الباقي ، فهي خالدة، و خلودها عنده يعني تحررها من قيود الجسد الذي اتحدت به في هذا العالم .
السعادة حسب أفلاطون تعني العودة إلى " عالم المثل " عالم تحرر النفس من الجسم حيث تجد هذه النفس سعادتها.
ب – وجهة نظر الفارابي :
يقول الفارابي : << السعادة هي أن تصير نفس الإنسان إلى الكمال في الوجود إلى حيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة ، وذلك أن تصير في جملة الأشياء البريئة عن الأجسام ، وفي جملة الجواهر المفارقة للمادة . >>
يرى الفارابي السعادة في كمال النفس ، أي تلك المرتبطة بالنفس ، على حساب السعادة المرتبطة بالجسد أو بالمادة بصفة عامة .
إن سعادة الإنسان هي إذن في النفس العاقلة المجدة في طلب العلم و المعرفة والتأمل واستعمال العقل . لذلك اعتبر الفارابي الفلسفة سبيل السعادة ، لقدرتها على التمييز بين الخير والشر . فبالفلسفة نسعى إلى بلوغ الحقيقة ، بهذا السعي تحصل السعادة القصوى ( سعادة العقل ).
استنتــاج :
تأتي أطروحة " ارتباط السعادة بإرضاء النفس العاقلة " في سياق فلسفي أسسه أفلاطون ، واستمر مع المفكرين المسلمين ، خاصة الفارابي ، الذين نظروا إلى الإنسان من خلال ثنائية " نفس – جسد " ، فتم تمجيد النفس والعقل الخالد واحتقار البدن الفاني .
2- السعادة إرضاء للبدن والعقل معا :
أ - رأي أرسطو :
ينتقد أرسطو التصور الأفلاطوني للسعادة ، ويرى أن السعادة هي للإنسان من حيث هو مركب من بدن ونفس . فالسعادة عنده توازن بين تلبية حاجات الجسم وتحقيق فضائل النفس .
يربط أرسطو السعادة بالفضائل ، و الفضائل متعددة منها : الانسجام في النفس ، والانسجام بين النفس والجسم ، وهي كذلك فضائل عقلية تتجلى في الحكم والعلم والتعقل .
ب – موقف مسكويه :
يقول مسكويه : << السعيد إذن من الناس يكون في إحدى مرتبتين : إما أن يكون في مرتبة الأشياء الجسمانية متعلقا بأحوالها السفلى سعيدا بها ، وهو مع ذلك يطالع الأمور الشريفة باحثا عنها مشتاقا إليها متحركا نحوها مغتبطا بها ، وإما أن يكون في مرتبة الأشياء الروحانية متعلقا بأحوالها العليا سعيدا بها ، وهو مع ذلك يطالع الأمور الدنيئة معتبرا بها ناظرا في علامات القدرة الإلهية ودلائل الحكمة البالغة ، مقتديا بها ، ناظما لها (...) وأي امرئ لم يحصل في إحدى هاتين المنزلتين فهو في مرتبة الأنعام بل هو أضل ... >>
يؤكد مسكويه أن السعادة الحقة تكون للانسان في البدن والنفس معا ،لأن الإنسان في حقيقته وحدة بينهما . وذلك أنه إذا كانت السعادة أفضل الخيرات ، وكانت هي الغاية القصوى للإنسان ، فإنها لا تكون بالنفس فحسب ، وإنما تكون في حاجة إلى سعادات أخرى ، تتحقق في النفس والبدن على حد سواء ، إذ في اتحادهما يبلغ الانسان الكمال وتتحقق السعادة القصوى .
3- السعادة إرضاء للقلب :
يعبر عن هذا الطرح اتجاه آخر في الفكر الإسلامي هو " الصوفية " التي ربطت السعادة بالحياة الروحية ، حيث التعالي على كل اللذات والمطالب المادية المرتبطة بالجسد .
السعادة عند المتصوفة لا تتحقق بالتأمل والعقل والمعرفة الفلسفية ، بل بواسطة الزهد والعبادة والإشراق ، حيث الاتصال الدائم بالحضرة الإلهية ، لذلك ليس البدن أو العقل سبيلا لبلوغ السعادة الحقة .
أ – وجهة نظر الأصفهاني :
يقول الأصفهاني : << يجب أن يعلم أن لا سبيل لأحد ، لشيء من الفضائل إلا بهداية الله تعالى ورحمته ، فهو مبدأ الخيرات ومنتهاها . >>
السعادة حسب الأصفهاني ليست من فعل الإنسان ، بل هي خير و فضيلة تتحقق بهداية ورشد من الله ، بالإيمان الصادق أي من خلال التصديق القلبي .
ب - موقف التهانوي :
يرى التهانوي أن السعادة العظمى و المرتبة العليا للنفس كامنة في معرفة الله بما له من صفات الكمال والتنزه عن النقصان . ويرى أن الطريق إلى هذه المعرفة الإلهية يكون من وجهين : الأول طريق أهل النظر والاستدلال (الفلاسفة ) إذا اتبعوا ملة من ملل الأنبياء ، والثاني طريق أهل الرياضة والمجاهدة ( المتصوفة ) .
استنتـــاج :
لقد اصطدمت نظرية السعادة عند الفلاسفة المسلمين العقلانيين بالخطاب الصوفي الذي ربط السعادة بالمقام الروحي المتعالي عن المادة والعقل ، وهكذا للحصول عليها لا بد من مجاهدة الجسد بكبح رغباته وميوله ، ولابد أيضا من محاصرة العقل و وضع القيود عليه .
استنتـــاج محوري :
إن الإنسان كل لا يتجزأ ، فهو في نفس الوقت عقل وقلب وبدن ، وكل اختزال للوحدة المتكاملة للانسان في بعد من أبعاده ، يفقد الانسان إنسانيته كلية ، وعليه فإن السعادة تكون للانسان من حيث هو مركب من بدن وعقل وقلب .
II. السعادة تدبير للفرد أم للمدينة ؟
ترتبط السعادة لدى الإنسان بالانسجام بين مكوناته الجسدية والعقلية والروحية . لكن هل تحصل السعادة للانسان بوصفه فردا فحسب أم باعتباره عضوا داخل الجماعة ؟ هل تكمن السعادة في الانسجام الداخلى للفرد أم في التعاون والتآزر والعدالة التي تسود المجتمع ؟
1 – السعادة تدبير للفرد : ( الإرادة والاختيار )
أ - رأي الغزالي :
يقول الغزالي في كتابه ( ميزان العمل ) : << ... بالمجاهدة والرياضة وبالتفكر والمعاينة تنال النفس سعادتها فلا علم بلا عمل " إليه يصعد الكلم الطيب " ذلك هو العلم ، و " والعمل الصالح يرفعه " ذلك هو العمل . >>
يقول الغزالي أن السعادة لا تحصل إلا بالعلم والعمل ، بالمواظبة والمثابرة على تحصيل المعرفة وممارسة العبادة على أكمل وجه ، وهما شرطان لتحقيق سعادة الدنيا والآخرة ، بهدي من الشريعة الإسلامية .
السعادة ، عند الغزالي ، تدبير للفرد ، وهي تحصل له بسلوك طريق المجاهدة والرياضة والتفكر .
ب- موقف المتصوفة :
يؤكد المتصوفة أن السعادة أنما تتم للإنسان – بوصفه فردا – بالعزلة والخلوة والمداومة على مجاهدة النفس والزهد والتقشف ... إنهم يجعلون الابتعاد عن مفاتن الحياة الاجتماعية الدنيوية شرطا أساسيا لتحصيل نشوة السعادة .
استنتـــاج :
إن اشتراط الإرادة والاختيار في السعادة يكشف عن طبيعتها الفردية ، عن كفاية الانسان لنفسه في تحقيق السعادة المتوخاة ، بالاعتماد على مجهود الفرد الخاص دون ضرورة الاتفاق والاجتماع من أجل بلوغها .
2- السعادة تدبير للمدينة : ( الاتفاق والاجتماع )
أ- موقف الفارابي :
يقول الفارابي في كتابه " آراء أهل المدينة الفاضلة " : << المدينة التي يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة في الحقيقة ، هي المدينة الفاضلة . >>
السعادة عند الفارابي تتحقق في مجتمع المدينة ، فهي لا تحصل للانسان بوصفه فردا ، بل ضمن الجماعة تماشيا مع فطرة الانسان في التعاون من قبل تحقيق الحاجات ، لأن شرط تحقيق السعادة إذن هو الاتفاق والاجتماع داخل مجتمع منظم ( المدينة الفاضلة ).
ب - رأي مسكويه :
يقول مسكويه في كتابه " تهذيب الأخلاق " : << الفضائل (...) أفعال وأعمال تظهر من مشاركات الناس ومساكنتهم وفي المعاملات وضروب الاجتماعات . ونحن إنما نعلم ونتعلم الفضائل الإنسانية التي نساكن بها الناس ونخالطهم ، لنصل منها وبها إلى سعادات آخرى . >>
يرى مسكويه أن الإنسان لابد من معاونة لكي يحصل على السعادة ، فهو محتاج إلى المدينة . فالعقل والواقع يقتضيان مساعدة الناس بعضهم البعض من أجل تحقيق الخيرات والفضائل .
استنتـــاج :
تحدث السعادة لا عن إرادة الفرد واختياره بل لضرورات الحياة الجماعية ، لهذه الاعتبارات تم دحض أطروحات الاتجاه الفردي ومن بينها الخيار الصوفي ، واستبداله باتجاه اجتماعي يمجد المدينة ويقر بأهميتها . فالاختيار العقلاني والاجتماعي هو طريق تحصيل السعادة في الأرض عند الفارابي ومسكويه .
استنتـــاج محوري :
تتحقق السعادة باجتماع شرطي الإرادة ( الفرد ) والجماعة ( المدينة ) ، الاختيار والاتفاق ، بالانسجام بين مكونات الفرد الذاتية مع ضرورات الحياة الجماعية . السعادة إذن تؤطر ضمن علاقة التفاعل بين الفرد والمدينة .
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:48 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية5
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:46 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية4
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:45 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية3
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:44 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية2
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:42 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:41 pm من طرف Admin
» نموذج من بناء الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:39 pm من طرف Admin
» كيف تنشأ الرواية أو المسرحية؟
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:38 pm من طرف Admin
» رواية جديدة
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:26 pm من طرف Admin