العقل الأداتي يخيم على مدينة الإنسان كما لم يفعل في يوم من الأيام. ولن يمضي وقت طويل قبل أن يفقد الإنسان قدرته على الاستبصار. تمتد التقنية الانضباطية إلى كل الحقول. إنه الرعب بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لن يكون هناك أي مجال للحديث عن تميز إنساني وعن طاقة إبداع. العقل المضبط هو الذي يسود تماماً. لن يهتم الناس بفعل فضيحة المجندة الأمريكية التي زعم من زعم أنها كانت أسيرة. إذ أن كل شيء أصبح يدخل في باب التسلية، وهو ليس واقعياً على الرغم من وقائعيته الشديدة. وفي هذا السياق، تقوم التكنولوجيا بمهمات خطيرة كان يقوم بها الحكواتي فيما مضى من أزمنة. اليوم تغير الزمن. وقد أصبح سحر المعلومة -التي لا فائدة منها باستثناء كسر الروتين الذي لا يكسر من حيث المبدأ لأن مصدره نمط الحياة الذي لا يرتوي- كاسحاً إلى حد لا نظير له. لن نتمكن بطبيعة الحال -مهما فعلنا- أن نقيم خطاً فاصلاً بين رأس المال والتكنولوجيا. والأخيرة كما كان قد لاحظ مفكرو مدرسة فرانكفوت من بداياتهم الأولى -أعني من هوركهايمر (Max Horkheimer)- وحتى آخر العظام -هابرماس (Jürgen Habermas)- هي مفخرة وجريمة الرأسمالية بلا منازع. لقد جرف رأس المال السريع بطء الحياة التي كانت سمة مميزة لحضارة ما قبل الرأسمالية. وكان مفكرو القرن التاسع عشر الكبار من شاكلة ستيورات مل (John Stuart Mill) وماركس (Karl Heinrich Marx) قد لاحظوا كيف تقوم الرأسمالية بتغيير العالم وتسريع إيقاعه. ولكن كل ذلك لم يكن بالطبع يشبه في شيء من التفصيل العجائب التي وقعت في السنوات العشرين الأخيرة. في استطلاع للرأي جرى منذ أشهر في الولايات المتحدة، أكد الناس -وهم من مختلف الأعمار- أن أعز أعزائهم هذه الأيام هو البريد الإلكتروني (E-mail)، الذي تفوق لأول مرة منذ عقود طويلة -أو أنها غدت طويلة في عرف الزمن الشجاع السريع الذي تسيد الموقف- على التلفزيون. ومن المعروف أن الأخير كان أعجوبة الزمن بلا منازع، لكنه تضاءل حتى أصبح جزءاً من حلقات الإنترنت المتعددة الجوانب. هكذا تسابق التكنولوجيا نفسها في إيقاع مجنون لا مثيل له في التاريخ. ولكن بسبب من هذه السرعة المذهلة، تغدو الأشياء غير واقعية وغير حقيقية، وتنعدم القدرة -إذا استعرنا سارتر (Jean-Paul Sartre)- التي يتمتع بها الإنسان العادي لفرض الأشكال على الأشياء. هكذا بلغة الفلاحين "تضيع الطاسة"، ويبدو الناس "مضروبين على رؤوسهم" تحسبهم سكارى وما هم بسكارى. من هذا الباب يبدو المواطن مضطرباً تماماً اتجاه موضوعة التمييز بين الواقعي والوقائعي. المسافة بينهما تهاوت كثيراً. ويبدو كأن غياب قدرة فرض الأشكال قد جعل الوقائع واقعاً، أو قل إن الواقع قد أصبح نوعاً من الوقائع وتفكك وجوده في شكل خطير ليس له سوابق. ولعل موجة ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية ما كان لها أن توجد لولا الحضور الكثيف للتكنولوجيا التي "ميعت" الواقع وأسالته نازعة عنه -أو منه- إهابه الصلب، محيلة إياه على سيلان لا معالم له، فأصبح الحلم والكابوس والأغنية والحب والحرب تفاصيل لها نوع الحضور نفسه الذي هو بالطبع لمفردات المنتجات التكنولوجية من قصص وأبطال وبضائع. وفي هذا السياق، أتذكر ذلك الطفل الذي أذهلني -كان في العاشرة من عمره- عندما أخبرني أن قصة تحرير المجندة الأمريكية من الأسر تبدو له أجمل من القصة الأخرى التي تقول إنها في الواقع إخراج سينمائي لا أكثر. وعلى الرغم من أن أي شخص عاقل سوف يتفق مع الطفل وسوف يعجب -على الأرجح ما لم يكن عربياً محبطاً أو حاسداً- بالقصة التي تفيض بالبطولة على قصة التلفيق غير الأخلاقي، إلا أن بيت القصيد هنا هو أن القصتين بدتا للطفل نوعاً ما من الحكاية غير المرتبطة بأي سياق واقعي. كانت فكرة الوقائعية المندغمة بفضاء لا يحيل على شيء سوى نفسها قد استُدخلت من قبل الطفل إلى حد أنني لم أفكر في قول شيء، وبخاصة أمام زهو الأم بذكاء ابنها وأخلاقه. وقد بدا لي أن الأم على الأرجح تعاني الأعراض نفسها. هل تفعل فلسفات "المابعد" أكثر من تكريس الوقائع التي هي منتجة بالفعل في فضاء الواقع الفعلي -الذي ما زلت أصر على وجوده من باب دفاع المنقرضين عن حقهم في الوجود- بفعل التكنولوجيا: أعني تسييل الهوية وإنكار المعنى تحت شعار أن الهوية إنشاء اجتماعي لا وجود موضوعي له في ذاته. ها هو الفيلسوف العاقل كانط (Immanuel Kant) ينتصر وينهزم في لحظة واحدة: ليس الظاهر إلا أكذوبة تنتجها التكنولوجيا في كل لحظة على نحو فريد، وإن يكن بطبيعة الحال فجاً ومبتذلاً. التذرير وتدمير الهويات هو نتاج ضروري لحركة التكنولوجيا التي تسير بسرعة الضوء لا تلوي على شيء. وبهذا المعنى، فإن فوكو (Michel Foucault) ودريدا (Jacques Derrida) -على سبيل المثال- يشرحان الواقع أو يكرسانه أكثر من أي شيء آخر. ولعل هذا السياق يحيل بقسوة غير مسبوقة على حالة غريبة لنفي المشروع أو قابلية التغيير مهما كانت. كيف نغير العالم اليوم؟ يسأل دريدا متشككاً. وتبدو أشباح ماركس باهتة ومسودة من كثرة ما تتغير سحنته بفعل التلاعب التكنولوجي بملامح وجهه المتردد بين السواد والبياض. في زحمة اللحظة يكتظ البريد الإلكتروني بمئات بل آلاف الرسائل التي تمتلئ دعوات من كل حدب وصوب: منظمات ومهرجانات وبيانات تتناقض وتتقاطع وتتباعد وتتقارب وتلمس طيفاً لا حد له من الاهتمامات، ولا تترك حيزاً أو نقطة مضيئة أو معتمة في حياة الإنسان إلا أتت على ذكرها وتحفيزها وإثارتها. وفي هذا الاتجاه، لا يبقى للمرء الذي يلهث طوال يومه من شاشة إلى شاشة من رغبة في التفكير في شيء، هذا على افتراض أن أحداً ما زال يمتلك القدرة للقبض على المعنى الذي تراجع إلى مستوى الجزئي الوضعي تماماً الذي ينكر الكلي والشامل والرؤيوي، باعتباره محض إنشاء. يصرخ كانط ومن ورائه توما (Thomas) وابن رشد وأرسطو (Aristotle): لكن لا علم إلا بالكلي. فيأتي الرد بارداً وشاحباً كما ينبغي له أن يكون: إذن لسنا في حاجة للعلم، التكنولوجيا تكفينا، والعقل الأداتي يكتفي بذاته. ولا نريد تركيبات من أي نوع. وسوف نشتغل بكل التفاصيل التي لا تختفي وراءها نظريات ولا ما يحزنون. حتى إن اشتبهنا في وجود النظرية فسوف نفككها دون رحمة، فهذا جوهر التكنولوجيا التي تهيمن على المسرح: تفاصيل، تفاصيل هائلة لا حد لها، بيانات تزدحم دونما رابط وسوف نطلق الرصاص على العقول التي تزعم أن هناك علائق وروابط، ومن كان له أذنان صاغيتان فليسمع، العقل قد مات. كان أفلاطون (Plato) قد لاحظ شكلاً ما من هذا الرعب الذي تحقق أخيراً. فقد انتبه أفلاطون إلى أن التقنية يمكن أن تهدف إلى الإتقان دون أن تكون مرتبطة بخير ما. وقد حذر الرجل من وضع تسيطر فيه تكنولوجيا لا يوجد وراءها تسويغ عقلي يحددها ويوجه مسارها. الحياد التكنولوجي يمكن أن يقود إلي أي شيء. وفي مثل هذه الحالة، فإن التقنية يمكن أن تستخدم من قبل أفراد للسيطرة بشكل شرير على حياة الآخرين. لم يكن ذلك الزمن -ولا نلوم أفلاطون بالطبع- قادراً على تخيل حالة تصبح فيها التقنية قوة فوق الإنسان بعامة. شيء يذكر من بعيد بفكرة ماركس عن الآلة التي اخترعها الإنسان لكي تخدمه فأصبح عبداً لها. لقد تغرب الإنسان عن منتجاته التي غدت خارجه وفي مواجهته تتحداه وتعانده وتعمل ضده. الأمر أكثر سوءاً من الصورة المرعبة التي يرسمها ماركس في مخطوطات باريس (1844)، حيث يبدو كل شيء في إطار الفهم الإنساني، ويبدو أن من الممكن من حيث المبدأ التغلب على المشكلة عبر تحرير البشر من آليات المجتمع الطبقي التي تجعل الإنسان عبداً لإنتاج مادي غير رشيد أو غير عقلاني. ربما أن جاك لندن قد تنبه بذكائه الفطري المذهل إلى أن الماكينة الجديدة تتفوق على كل ما سبقها بامتلاكها حياة خاصة بها تختلف تماماً عن حياة منتجها -الإنسان- بحيث يغدو كل البشر طوع بنان تلك الآلة، بمن فيهم من يتربعون على عرش المؤسسة الاجتماعية-الإنتاجية. ولذلك، فقد أوضح لندن -في العقب الحديدية التي هي نص روائي- أن الرجل البرجوازي يجلس في قمة هرم الماكينة "الاجتماعية"، ولكنه يقوم بدوره الذي تقرره الماكينة دون أن يكون له خيار كبير اتجاه ما يجري. ما تحسسه جاك لندن بشكل غامض نسبياً، سوف يكون موضوع درس عميق يصل إلى نتائج متشائمة من قبل الألماني هيدجر (Martin Heidegger) الذي يوضح مطلع القرن العشرين ومنتصفه أن التكنولوجيا التي تظهر بوصفها أداة حيادية يمكن أن تستخدم بشكل سيئ ضد الإنسان. وكما تخوف أفلاطون، فقد تجاوزت حياديتها بتحولها قوة حقيقية تهيمن على مسار الإنسان. وهكذا بدأ يتضح أن التكنولوجيا ليست أداة ملقاة هناك من أجل أن يستعملها الإنسان. التكنولوجيا ليست خالية من حكم القيمة كما تخيل أفلاطون بالذات، وكما يظن المواطن العادي اليوم. هنالك قيمة تحكم مسار عمل التكنولوجيا وهي قيمة رهيبة بكل معنى الكلمة، إنها ببساطة قيمة السيطرة. التكنولوجيا "تصنع" الإنسان -ربما أكثر مما يصنعها- وتسيطر على حياته وتوجهها باتجاه معين، سوف يقرأه فوكو على نحو خاص في معالجته للحداثة عندما يجد عناصر ضبط الإنسان وعلاقات القوة المصاحبة لذلك تتجلى في مناحي الحياة كافة. هنالك شيء في داخل لعبة التكنولوجيا يجعل "حياتها" نوعاً خاصاً من الحياة لم تعرفه البشرية من قبل. وذلك الأمر الذي سمح بسيطرة هائلة على حياة البشر -كما لاحظ فوكو- يعود في الواقع إلى نمط من العقلانية الغريبة التي تلقي بعيداً بـ "عقل" أفلاطون الأخلاقي والغائي مستبدلة إياه بعقل أداتي على حد تعبير هربرت ماركوز (Herbert Marcuse) الذي أسهب في شرح الظاهرة في مؤلفه الذائع الصيت "الإنسان ذو البعد الواحد" الذي ظهر في وقت مبكر نسبياً في أواخر الستينيات. على الرغم من أن ماركوز قد كتب في وقت مبكر -قبل هجوم التكنولوجبا الهائل في آخر عقدين- فإنه يتمكن من وضع يده على الرعب الهائل الذي تحمله التكنولوجيا في طياتها من حيث علاقتها بالعقل التركيبي أو القيمي على السواء. التكنولوجيا الحديثة انتصرت للعقل التصنيفي، التكميمي، وانتصرت للسيطرة على الإنسان بالذات. لم تعد الغاية -المضمرة أو المعلنة- ضبط الطبيعة، ذلك كان الهدف المتواضع للعلم، أما التكنولوجيا الجديدة فقد سيطرت على الإنسان وعلى عقله محولة إياه أداة طيعة في يد احتياجات التكنولوجيا. ليس هنالك من قيمة وراء الفاعلية التقنية، وكل من يعرض بضاعة تتجاوز ذلك ينظر له بازدراء في السوق التكنولوجية -الرأسمالية في آن- المعاصرة. ولذلك، فقد غدا العملي الأداتي هو كل ما هنالك وكل ما ينبغي عمله. ولذلك أيضاً، فإن قيمة الوقائعية التفصيلية التي تنزع إلى تحسين التفاصيل قد قتلت "الرؤية" تماماً. ومن هنا أصبح كل رؤيوي متهم بأنه "أيديولوجي"، بينما التكنولوجي الذي يتعاطى الواقع كما هو دون رغبة في الكشف عن أي شيء وراءه يبدو وكأنه منبت الصلة عن الأيديولوجيا. وفي الحقيقة، إن هذا الشكل من الهيمنة على العقل بتحديد شكله ومحتواه وطريقة عمله مبدئياً هو شكل لم يخطر ببال أحد من الناس الذين لم يعيشوا عصرنا، ولا بد أن غرامشي (Antonio Gramsci) سوف يصاب بالدوار من شكل الهيمنة الجديدة الذي تحققه التكنولوجيا بخلقها عقلاً جديداً غير قابل للتجاوز من حيث المبدأ. هذه الهيمنة العميقة للعقل الأداتي على الإنسان فرداً وجماعة، هي ما جعل ماركوز القادم من مواقع مادية وماركسية يتبنى مرغماً مواقع متشائمة لا تعتقد بإمكانية التغيير مثل مواقع هيدجر الذي ظن أن لا حل لهذا اللغز العجيب. وقد دعا ماركوز إلى رد الاعتبار للإستاطيقا كشكل عقلاني بالفعل للحياة. ولكن حتى لو صح أن العقل الجمالي الذي يتجاوز الأداتية النفعية للتكنولوجيا هو الحل بالفعل، فإن ماركوز بالطبع لا يستطيع أن يدلنا على جهة واحدة يمكن لها أن تبدأ في نشر هذا العقل والدفاع عنه في لجة السيطرة المطلقة لعقل التكنولوجيا، الذي يعيد إنتاج نفسه متوسعاً أكثر فأكثر باستمرار، ما يجعل أعداءه في تناقص مستمر، ويجعل مزيداً من البشر تحت هيمنته المطلقة بشكل مطّرد. تحيلنا أزمة ماركوز على أزمة الفكر البشري الطامح للتغيير بعامة، وتستعيد السؤال الذي لا يزال يطلب حلاً: كيف سيتمكن الإنسان من تغيير الواقع الذي يعتبر الإنسان بالذات واحداً من منتجاته؟ لعل برومثيوس (Prometheus) في حاجة لأن يجترح فعلاً بحجم سرقة النار مرة أخرى. ناجح شاهين باحث يعد لنيل الدكتوراه في الولايات المتحدة
بحـث
المواضيع الأخيرة
ازرار التصفُّح
نوفمبر 2024
الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت | الأحد |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | 3 | ||||
4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 |
18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 |
25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
ازرار التصفُّح
احصائيات
أعضاؤنا قدموا 254 مساهمة في هذا المنتدى في 142 موضوع
هذا المنتدى يتوفر على 35 عُضو.
آخر عُضو مُسجل هو sansharw فمرحباً به.
سحابة الكلمات الدلالية
تراجيديا العقل التكنولوجي ناجح شاهين
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 150
نقاط : 444
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 30/10/2009
العمر : 50
- مساهمة رقم 1
تراجيديا العقل التكنولوجي ناجح شاهين
العقل الأداتي يخيم على مدينة الإنسان كما لم يفعل في يوم من الأيام. ولن يمضي وقت طويل قبل أن يفقد الإنسان قدرته على الاستبصار. تمتد التقنية الانضباطية إلى كل الحقول. إنه الرعب بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لن يكون هناك أي مجال للحديث عن تميز إنساني وعن طاقة إبداع. العقل المضبط هو الذي يسود تماماً. لن يهتم الناس بفعل فضيحة المجندة الأمريكية التي زعم من زعم أنها كانت أسيرة. إذ أن كل شيء أصبح يدخل في باب التسلية، وهو ليس واقعياً على الرغم من وقائعيته الشديدة. وفي هذا السياق، تقوم التكنولوجيا بمهمات خطيرة كان يقوم بها الحكواتي فيما مضى من أزمنة. اليوم تغير الزمن. وقد أصبح سحر المعلومة -التي لا فائدة منها باستثناء كسر الروتين الذي لا يكسر من حيث المبدأ لأن مصدره نمط الحياة الذي لا يرتوي- كاسحاً إلى حد لا نظير له. لن نتمكن بطبيعة الحال -مهما فعلنا- أن نقيم خطاً فاصلاً بين رأس المال والتكنولوجيا. والأخيرة كما كان قد لاحظ مفكرو مدرسة فرانكفوت من بداياتهم الأولى -أعني من هوركهايمر (Max Horkheimer)- وحتى آخر العظام -هابرماس (Jürgen Habermas)- هي مفخرة وجريمة الرأسمالية بلا منازع. لقد جرف رأس المال السريع بطء الحياة التي كانت سمة مميزة لحضارة ما قبل الرأسمالية. وكان مفكرو القرن التاسع عشر الكبار من شاكلة ستيورات مل (John Stuart Mill) وماركس (Karl Heinrich Marx) قد لاحظوا كيف تقوم الرأسمالية بتغيير العالم وتسريع إيقاعه. ولكن كل ذلك لم يكن بالطبع يشبه في شيء من التفصيل العجائب التي وقعت في السنوات العشرين الأخيرة. في استطلاع للرأي جرى منذ أشهر في الولايات المتحدة، أكد الناس -وهم من مختلف الأعمار- أن أعز أعزائهم هذه الأيام هو البريد الإلكتروني (E-mail)، الذي تفوق لأول مرة منذ عقود طويلة -أو أنها غدت طويلة في عرف الزمن الشجاع السريع الذي تسيد الموقف- على التلفزيون. ومن المعروف أن الأخير كان أعجوبة الزمن بلا منازع، لكنه تضاءل حتى أصبح جزءاً من حلقات الإنترنت المتعددة الجوانب. هكذا تسابق التكنولوجيا نفسها في إيقاع مجنون لا مثيل له في التاريخ. ولكن بسبب من هذه السرعة المذهلة، تغدو الأشياء غير واقعية وغير حقيقية، وتنعدم القدرة -إذا استعرنا سارتر (Jean-Paul Sartre)- التي يتمتع بها الإنسان العادي لفرض الأشكال على الأشياء. هكذا بلغة الفلاحين "تضيع الطاسة"، ويبدو الناس "مضروبين على رؤوسهم" تحسبهم سكارى وما هم بسكارى. من هذا الباب يبدو المواطن مضطرباً تماماً اتجاه موضوعة التمييز بين الواقعي والوقائعي. المسافة بينهما تهاوت كثيراً. ويبدو كأن غياب قدرة فرض الأشكال قد جعل الوقائع واقعاً، أو قل إن الواقع قد أصبح نوعاً من الوقائع وتفكك وجوده في شكل خطير ليس له سوابق. ولعل موجة ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية ما كان لها أن توجد لولا الحضور الكثيف للتكنولوجيا التي "ميعت" الواقع وأسالته نازعة عنه -أو منه- إهابه الصلب، محيلة إياه على سيلان لا معالم له، فأصبح الحلم والكابوس والأغنية والحب والحرب تفاصيل لها نوع الحضور نفسه الذي هو بالطبع لمفردات المنتجات التكنولوجية من قصص وأبطال وبضائع. وفي هذا السياق، أتذكر ذلك الطفل الذي أذهلني -كان في العاشرة من عمره- عندما أخبرني أن قصة تحرير المجندة الأمريكية من الأسر تبدو له أجمل من القصة الأخرى التي تقول إنها في الواقع إخراج سينمائي لا أكثر. وعلى الرغم من أن أي شخص عاقل سوف يتفق مع الطفل وسوف يعجب -على الأرجح ما لم يكن عربياً محبطاً أو حاسداً- بالقصة التي تفيض بالبطولة على قصة التلفيق غير الأخلاقي، إلا أن بيت القصيد هنا هو أن القصتين بدتا للطفل نوعاً ما من الحكاية غير المرتبطة بأي سياق واقعي. كانت فكرة الوقائعية المندغمة بفضاء لا يحيل على شيء سوى نفسها قد استُدخلت من قبل الطفل إلى حد أنني لم أفكر في قول شيء، وبخاصة أمام زهو الأم بذكاء ابنها وأخلاقه. وقد بدا لي أن الأم على الأرجح تعاني الأعراض نفسها. هل تفعل فلسفات "المابعد" أكثر من تكريس الوقائع التي هي منتجة بالفعل في فضاء الواقع الفعلي -الذي ما زلت أصر على وجوده من باب دفاع المنقرضين عن حقهم في الوجود- بفعل التكنولوجيا: أعني تسييل الهوية وإنكار المعنى تحت شعار أن الهوية إنشاء اجتماعي لا وجود موضوعي له في ذاته. ها هو الفيلسوف العاقل كانط (Immanuel Kant) ينتصر وينهزم في لحظة واحدة: ليس الظاهر إلا أكذوبة تنتجها التكنولوجيا في كل لحظة على نحو فريد، وإن يكن بطبيعة الحال فجاً ومبتذلاً. التذرير وتدمير الهويات هو نتاج ضروري لحركة التكنولوجيا التي تسير بسرعة الضوء لا تلوي على شيء. وبهذا المعنى، فإن فوكو (Michel Foucault) ودريدا (Jacques Derrida) -على سبيل المثال- يشرحان الواقع أو يكرسانه أكثر من أي شيء آخر. ولعل هذا السياق يحيل بقسوة غير مسبوقة على حالة غريبة لنفي المشروع أو قابلية التغيير مهما كانت. كيف نغير العالم اليوم؟ يسأل دريدا متشككاً. وتبدو أشباح ماركس باهتة ومسودة من كثرة ما تتغير سحنته بفعل التلاعب التكنولوجي بملامح وجهه المتردد بين السواد والبياض. في زحمة اللحظة يكتظ البريد الإلكتروني بمئات بل آلاف الرسائل التي تمتلئ دعوات من كل حدب وصوب: منظمات ومهرجانات وبيانات تتناقض وتتقاطع وتتباعد وتتقارب وتلمس طيفاً لا حد له من الاهتمامات، ولا تترك حيزاً أو نقطة مضيئة أو معتمة في حياة الإنسان إلا أتت على ذكرها وتحفيزها وإثارتها. وفي هذا الاتجاه، لا يبقى للمرء الذي يلهث طوال يومه من شاشة إلى شاشة من رغبة في التفكير في شيء، هذا على افتراض أن أحداً ما زال يمتلك القدرة للقبض على المعنى الذي تراجع إلى مستوى الجزئي الوضعي تماماً الذي ينكر الكلي والشامل والرؤيوي، باعتباره محض إنشاء. يصرخ كانط ومن ورائه توما (Thomas) وابن رشد وأرسطو (Aristotle): لكن لا علم إلا بالكلي. فيأتي الرد بارداً وشاحباً كما ينبغي له أن يكون: إذن لسنا في حاجة للعلم، التكنولوجيا تكفينا، والعقل الأداتي يكتفي بذاته. ولا نريد تركيبات من أي نوع. وسوف نشتغل بكل التفاصيل التي لا تختفي وراءها نظريات ولا ما يحزنون. حتى إن اشتبهنا في وجود النظرية فسوف نفككها دون رحمة، فهذا جوهر التكنولوجيا التي تهيمن على المسرح: تفاصيل، تفاصيل هائلة لا حد لها، بيانات تزدحم دونما رابط وسوف نطلق الرصاص على العقول التي تزعم أن هناك علائق وروابط، ومن كان له أذنان صاغيتان فليسمع، العقل قد مات. كان أفلاطون (Plato) قد لاحظ شكلاً ما من هذا الرعب الذي تحقق أخيراً. فقد انتبه أفلاطون إلى أن التقنية يمكن أن تهدف إلى الإتقان دون أن تكون مرتبطة بخير ما. وقد حذر الرجل من وضع تسيطر فيه تكنولوجيا لا يوجد وراءها تسويغ عقلي يحددها ويوجه مسارها. الحياد التكنولوجي يمكن أن يقود إلي أي شيء. وفي مثل هذه الحالة، فإن التقنية يمكن أن تستخدم من قبل أفراد للسيطرة بشكل شرير على حياة الآخرين. لم يكن ذلك الزمن -ولا نلوم أفلاطون بالطبع- قادراً على تخيل حالة تصبح فيها التقنية قوة فوق الإنسان بعامة. شيء يذكر من بعيد بفكرة ماركس عن الآلة التي اخترعها الإنسان لكي تخدمه فأصبح عبداً لها. لقد تغرب الإنسان عن منتجاته التي غدت خارجه وفي مواجهته تتحداه وتعانده وتعمل ضده. الأمر أكثر سوءاً من الصورة المرعبة التي يرسمها ماركس في مخطوطات باريس (1844)، حيث يبدو كل شيء في إطار الفهم الإنساني، ويبدو أن من الممكن من حيث المبدأ التغلب على المشكلة عبر تحرير البشر من آليات المجتمع الطبقي التي تجعل الإنسان عبداً لإنتاج مادي غير رشيد أو غير عقلاني. ربما أن جاك لندن قد تنبه بذكائه الفطري المذهل إلى أن الماكينة الجديدة تتفوق على كل ما سبقها بامتلاكها حياة خاصة بها تختلف تماماً عن حياة منتجها -الإنسان- بحيث يغدو كل البشر طوع بنان تلك الآلة، بمن فيهم من يتربعون على عرش المؤسسة الاجتماعية-الإنتاجية. ولذلك، فقد أوضح لندن -في العقب الحديدية التي هي نص روائي- أن الرجل البرجوازي يجلس في قمة هرم الماكينة "الاجتماعية"، ولكنه يقوم بدوره الذي تقرره الماكينة دون أن يكون له خيار كبير اتجاه ما يجري. ما تحسسه جاك لندن بشكل غامض نسبياً، سوف يكون موضوع درس عميق يصل إلى نتائج متشائمة من قبل الألماني هيدجر (Martin Heidegger) الذي يوضح مطلع القرن العشرين ومنتصفه أن التكنولوجيا التي تظهر بوصفها أداة حيادية يمكن أن تستخدم بشكل سيئ ضد الإنسان. وكما تخوف أفلاطون، فقد تجاوزت حياديتها بتحولها قوة حقيقية تهيمن على مسار الإنسان. وهكذا بدأ يتضح أن التكنولوجيا ليست أداة ملقاة هناك من أجل أن يستعملها الإنسان. التكنولوجيا ليست خالية من حكم القيمة كما تخيل أفلاطون بالذات، وكما يظن المواطن العادي اليوم. هنالك قيمة تحكم مسار عمل التكنولوجيا وهي قيمة رهيبة بكل معنى الكلمة، إنها ببساطة قيمة السيطرة. التكنولوجيا "تصنع" الإنسان -ربما أكثر مما يصنعها- وتسيطر على حياته وتوجهها باتجاه معين، سوف يقرأه فوكو على نحو خاص في معالجته للحداثة عندما يجد عناصر ضبط الإنسان وعلاقات القوة المصاحبة لذلك تتجلى في مناحي الحياة كافة. هنالك شيء في داخل لعبة التكنولوجيا يجعل "حياتها" نوعاً خاصاً من الحياة لم تعرفه البشرية من قبل. وذلك الأمر الذي سمح بسيطرة هائلة على حياة البشر -كما لاحظ فوكو- يعود في الواقع إلى نمط من العقلانية الغريبة التي تلقي بعيداً بـ "عقل" أفلاطون الأخلاقي والغائي مستبدلة إياه بعقل أداتي على حد تعبير هربرت ماركوز (Herbert Marcuse) الذي أسهب في شرح الظاهرة في مؤلفه الذائع الصيت "الإنسان ذو البعد الواحد" الذي ظهر في وقت مبكر نسبياً في أواخر الستينيات. على الرغم من أن ماركوز قد كتب في وقت مبكر -قبل هجوم التكنولوجبا الهائل في آخر عقدين- فإنه يتمكن من وضع يده على الرعب الهائل الذي تحمله التكنولوجيا في طياتها من حيث علاقتها بالعقل التركيبي أو القيمي على السواء. التكنولوجيا الحديثة انتصرت للعقل التصنيفي، التكميمي، وانتصرت للسيطرة على الإنسان بالذات. لم تعد الغاية -المضمرة أو المعلنة- ضبط الطبيعة، ذلك كان الهدف المتواضع للعلم، أما التكنولوجيا الجديدة فقد سيطرت على الإنسان وعلى عقله محولة إياه أداة طيعة في يد احتياجات التكنولوجيا. ليس هنالك من قيمة وراء الفاعلية التقنية، وكل من يعرض بضاعة تتجاوز ذلك ينظر له بازدراء في السوق التكنولوجية -الرأسمالية في آن- المعاصرة. ولذلك، فقد غدا العملي الأداتي هو كل ما هنالك وكل ما ينبغي عمله. ولذلك أيضاً، فإن قيمة الوقائعية التفصيلية التي تنزع إلى تحسين التفاصيل قد قتلت "الرؤية" تماماً. ومن هنا أصبح كل رؤيوي متهم بأنه "أيديولوجي"، بينما التكنولوجي الذي يتعاطى الواقع كما هو دون رغبة في الكشف عن أي شيء وراءه يبدو وكأنه منبت الصلة عن الأيديولوجيا. وفي الحقيقة، إن هذا الشكل من الهيمنة على العقل بتحديد شكله ومحتواه وطريقة عمله مبدئياً هو شكل لم يخطر ببال أحد من الناس الذين لم يعيشوا عصرنا، ولا بد أن غرامشي (Antonio Gramsci) سوف يصاب بالدوار من شكل الهيمنة الجديدة الذي تحققه التكنولوجيا بخلقها عقلاً جديداً غير قابل للتجاوز من حيث المبدأ. هذه الهيمنة العميقة للعقل الأداتي على الإنسان فرداً وجماعة، هي ما جعل ماركوز القادم من مواقع مادية وماركسية يتبنى مرغماً مواقع متشائمة لا تعتقد بإمكانية التغيير مثل مواقع هيدجر الذي ظن أن لا حل لهذا اللغز العجيب. وقد دعا ماركوز إلى رد الاعتبار للإستاطيقا كشكل عقلاني بالفعل للحياة. ولكن حتى لو صح أن العقل الجمالي الذي يتجاوز الأداتية النفعية للتكنولوجيا هو الحل بالفعل، فإن ماركوز بالطبع لا يستطيع أن يدلنا على جهة واحدة يمكن لها أن تبدأ في نشر هذا العقل والدفاع عنه في لجة السيطرة المطلقة لعقل التكنولوجيا، الذي يعيد إنتاج نفسه متوسعاً أكثر فأكثر باستمرار، ما يجعل أعداءه في تناقص مستمر، ويجعل مزيداً من البشر تحت هيمنته المطلقة بشكل مطّرد. تحيلنا أزمة ماركوز على أزمة الفكر البشري الطامح للتغيير بعامة، وتستعيد السؤال الذي لا يزال يطلب حلاً: كيف سيتمكن الإنسان من تغيير الواقع الذي يعتبر الإنسان بالذات واحداً من منتجاته؟ لعل برومثيوس (Prometheus) في حاجة لأن يجترح فعلاً بحجم سرقة النار مرة أخرى. ناجح شاهين باحث يعد لنيل الدكتوراه في الولايات المتحدة
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:48 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية5
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:46 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية4
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:45 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية3
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:44 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية2
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:42 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:41 pm من طرف Admin
» نموذج من بناء الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:39 pm من طرف Admin
» كيف تنشأ الرواية أو المسرحية؟
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:38 pm من طرف Admin
» رواية جديدة
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:26 pm من طرف Admin