الإِبيجرام فى الشعر العربى الحديث
أحمد الصغير
تعد قصيدة الإِبيجرام فى الشعر العربي الحديث من القصائد المهمة التى يجمع فيها الشاعر عن طريق التكثيف والإيجاز قضايا الإنسان المعاصر، فهي تعد نوعاً أدبياً قائماً بذاته له سماته ومعاييره الفنية، وقد كتب طه حسين هذا النوع / الفن فى منتصف الأربعينيات من القرن الماضى (1944)، ونقله إلى العربية نثراً من خلال كتابه المهم (جنة الشوك). ويمكن أن نقدم تعريفاً موجزاً عن الإِبيجرام: "هو كل قصيدة قصيرة مختتمة بحكمة أو نكته، مدح أو ذم
ولا تخلو من الهجاء وكل هذا يشتمل على المفارقة : ويمكن أن نستعين بما قدمه طه حسين نفسه فيقول فى مقدمة جنة الشوك " يجب أن أعترف بأنى لا أعرف لهذا الفن من الشعر فى لغتنا العربية اسماً واضحاً متفقاً عليه، وإنما أعرف له اسمه الأوربى، فقد سمّاه اليونانيون واللاتينيون "إبيجراما" أى نقشاً واشتقوا هذا الاسم اشتقاقاً يسيراً قريباً من أن هذا الفن قد نشأ منقوشاً على الأحجار، فقد كان القدماء ينقشون على قبور الموتى وفى معابد الآلهة وعلى التماثيل والآنية والأداة البيت أو الأبيات من الشعر"(1) ويعد طه حسين أول ناقد عربى يقدم تعريفاً عن الإِبيجراما رغبة فى التجريب من حيث إن اللغة العربية هل ستقبل هذا الفن أم ترفضه؟! وقد أشار طه حسين إلى أهمية هذا الفن الجديد ودعا شباب الباحثين والمبدعين إلى الكتابة فيه والإضافة إليه.
وقد أشار عز الدين إسماعيل فى مقدمة ديوانه "دمعة للأسى دمعة للفرح" إلى أن كلمة إبيجراما نفسها كلمة مركبة فى اللغة اليونانية القديمة من كلمتين هما (eposg graphein) ومعناها : الكتابة على شىء، وفى البداية كانت تعنى النقش على الحجرِ فى المقابر إِحياء لذكرى المتوفى، أو تحت تمثال لأحد الشخوص"(2) وجاء تعريف الموسوعة البريطانية الجديدة للإبيجراما وهى "أنها كتابة تصلح للنحت على أي أثر أو تمثال..... وقد أصبح الاسم يطلق ويطبق على كل بيت قصير وملىء بالمعانى خاصة إِذا كان قوياً وذا معنى معين ويشير إلى مبدأ معيـن"(3) ومن ثم فإن الإِبيجرام نوع أدبى يقف نداً جانب الأنواع الأدبية الأخرى فقد كتبه الشعراء اليونانيون والأوربيون أمثال جون دن وبوب والكاتب الأمريكي مارك توين من أشهر من كتبوا الفطانات الإِبيجرامية.
ومن الشعراء العرب الذين كتبوا هذا النوع عز الدين إِسماعيل فى ديوانه دمعة للأسى دمعة للفرح، أودونيس فى قصائده الأولى، أحمد مطر فى لافتاته، الشاعر السعودى عيد الحجيلي،و محمد حبيبي، الفلسطيني عز الدين المناصرة ..... وغيرهم كثيرون الذين كتبوا هذا الفن وقد سبقهما العقاد فى كتابه (آخر كلمات العقاد) وطه حسين فى كتابه جنة الشوك.
لاشك أن طه حسين قدَّم مجموعة من النصوص المهمة الإِبيجرامية فى كتابة جنة الشوك نطرح منها بعض النماذج على سبيل المثال فيقول فى إبيجراما بعنوان هجاء:
" قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ : أى فنون الأدب أحق أن يزدهر وينفق فى هذا العصر الذى نحن فيه ؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى : لا أدرى ! ولكننا فى عصر انتقال أشد فنون الأدب ملاءمة فن الهجاء"
من الملاحظ أن طه حسين فى الإِبيجراما السابقة يتكىء على الحوار المباشر الذى يحمل فى باطنه مفارقة ما. وهذا الحوار القائم بين الفتى (السائل) والشيخ (المسئول) الذى يجيب عن أسئلة الفتى القلقة. والتى يشوبها إثارة حفيظة الشيخ من ناحية وتفجير الأسئلة والقضايا من ناحية أخرى، ومن الجلى أن طه حسين لجأ إلى هذا الحوار لكى يثبت أفكاره، وقضاياه الذاتية والجماعية فى آن واحد ولاشك أن الحوار سمة رئيسية فى إِبيجرامات طه حسين جميعها.
ومن ثم فان تلكم المفارقة تتضح فى إجابة الشيخ الذى لا يرى إِلا فن الهجاء فى الواقع المعاصر، بل يمثل ركناً اساسياً من أركان المجتمع ويصلح للازدهار؛ لأننا فى عصر انتقال على حد قوله. وتتجلى المفارقة أيضاً فى صيغة السؤال الثانى الذي وجهه الفتى للشيخ؛ لأن هذا السؤال لا يخلو من مكر وخديعة، فهذا السؤال يتضمن وراء نقابهِ الواقعَ القاتمَ الذى يؤرق السائل من جهة والمسئول من جهة أخرى، وتأتى إجابة الشيخ صادمة عندما يقول:لا أدرى (!) [ثم يضع علامة تعجب] تحقق هذه العلامة الصدمة المدوية، ثم تنتهى إِجابة الشيخ حاملة الأسئلة الملغزة والمخاتلة فى الوقت نفسه، فالشيخ (الرمز) الذى يصنعه طه حسين لا يروق له فى هذا العصر الذى يعيش فيه، إلا فن الهجاء؛ لأن كل ما فيه يحتاج إلى الهجاء.
ويقول أيضاً فى إِبيجراما بعنوان تملق :
" قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ : ألا ترى أن فلان قد كان أبعد الناس عن التملق، فلمَّا تقدمت به السن جعل إمعانه فيه يزداد من يوم إلى يوم ؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى : كان يعتمد على نفسه، ما واتته قوة الشباب، فلما أدركته الشيخوخة اتخذ من التملق عصا يدب عليها"(4) .
توجد علاقة قوية بين العنوان والنص الإِبيجرامى نفسه، فجاء العنوان دالاً على ما يحويه النص، فهو المؤشر الدلالى الأول للدخول فى متن النص، وتحمل الإِبيجراما السابقة السخرية الشديدة من شخص كان فى شبابه بعيداً عن التملق، فلما دخلت الشيخوخة عليه وتمكنت من قلبه أمعن فى التملق إمعاناً شديداً وتأتى إجابة الشيخ (الرمز) تحمل بعداً سياسياً شديداً له وقع الأثر؛ لأن طه حسين يرصد من خلال هذه الإِجابة التحول المضاد لبعض الشخوص الذين يكونون فى بداية حياتهم / شبابهم فى أقصى اليسار. وعندما داهنته السلطةُ اتخذها عصاً يدب عليها، حتى يؤَّمن نفسه متاعب الحياة.
ومن الإِبيجرامات التى كتبها العقاد فى آخر كلماته والتى نشرها الأستاذ عامر العقاد ابن أخيه فيقول العقاد " التواضع نفاق مرذول إذا أخفيت به ما لا يخفى من حسناتك توسلاً لكسب الثناء". إن المتأمل فى الإِبيجراما السابقة يلاحظ أن العقاد كان معتزاً بنفسه، شامخاً فهو يطرح الوجه الخفي من التواضع، فهو نفاق مرذول إِذا أُخفى به المرء ما لا يخفى من الحسناتِ حتى يقال عنه إنه رجل متواضع، ويكسب ثناء الناس عليه. ويقول أيضاً :
" كن شريفاً أميناً لا. لأن الناس يستحقون الشرف والأمانة ، بل لأنك أنت لا تستحق الضعة والخيانة"
تتجلى فى نثريات العقاد (إِبيجراماته) المفارقة بشكل واضح، حيث إنه يتكىء على مشاهد من الحياة، تلك المشاهد التى تؤثر فى نفسه أولاً، ثم يسجلها / يدونها، لتؤثر فى القارىء؛ لأنه يذم الضعة والخيانة والخسة ويمدح الشرف والأمانة؛ محاولاً ترسيخ هاتين الصفتين الحميدتين لدى الناس.
الإِبيجرامات الشعرية:
عندما أوغل الشعر العربى الحديث فى التجريب، استحدث الشعراء أشكالاً متعددة من الشعر، بدءاً من القصيدة الكلاسيكية والتفعيلية وقصيدة النثر، اتجه الشعراء أنفسهم إِلى كتابة قصيدة الإِبيجراما؛ لأنها تمثل كما قلنا ظاهرة جديدة فى الشعر العربى الحديث، فقد خصص الشاعر الدكتور عز الدين إسماعيل ديواناً كاملاً (دمعة للأسى...دمعة للفرح) عن الإِبيجراما، فقد تضمن هذا الديوان مائة وست وأربعين إِبيجراما تنوعت موضوعات الديوان بين الإنسانى والحياتى والسياسي والثقافى والاجتماعى .
فيقول فى إِبيجراما السؤال :
" بحثت فى كل الجهات
سألت كل من لقيت
لم أجد جواباً
وحينما يئست وانسحبت
جاء من يسألنى
ما سر هذه الكآبة" (5)
من الملاحظ فى الإِبيجراما السابقة أن الشاعر عز الدين إِسماعيل طرح أسباب هذه الكآبة من خلال عنوان الإِبيجراما نفسها (السؤال) فسبب كآبته هو عدم حصوله على إجابة ترضيه ونجده قد استخدم مفردات قريبة من الحزن مثل (يئست) من خلال استخدامه لهذه المفردات التى جاءت متفقة، ومتناسبة مع الشعور النفسى إزاء الواقع الذى يعيش فيه الشاعر من ناحية، والآخر من ناحية أخرى وتكمن المفارقة فى المقطع الأخير من الإِبيجراما عندما يسأله سائل ما سر هذه الكآبة فالسؤال إذن لا ينتهى، وكأننا فى حياة مفعمة بالأسئلة اللانهائية وكآبة تصيب الذات الشاعرة لاتعرف لها مبرراً.
ويقول أيضاً :
سنلتقى غداً
متى غداً
غداً غداً
ليتك تنسى الموعدا "(6)
يحدد الشاعر عز الدين إِسماعيل فى الإِبيجراما السابقة الزمن الذى سيلتقى فيه بالآخر الذى يخاطبه، زمن المستقبل الذى تجلى من خلال تكراره لمفردة غداً غداً. ومن ثمَّ يكشف النص الشعرى عن اللازمنية، أيضاً فالذات الشاعرة تتأرجح ما بين الغد القريب والغد البعيد. ويتكئ الشاعر العراقى أحمد مطر على المفارقةِ المباشرة فى جل نصوصه أعنى: المفارقة السياسية فيقول :
" صباح هذا اليوم
أيقظنى منبه الساعة
وقال لى : يا ابن العرب
قد حان وقت النوم !"
يتكئ الشاعر أحمد مطر على قيمة المفارقة التى يعيش فيها المجتمع العربى الذى يغط فى النوم، فلا توقظه المنبهات ولا الساعات ولا يعرف قدراً للزمن الذى يدور حوله. ونلاحظ ذلك عندما يختم الشاعر إِبيجراماته بعلامة التعجب ( ! ) لتومئ إلى الحس السياسي الساخر من المنظمات العربية فى كليتها.
وتكمن المفارقة أيضاً فى إِبيجرامات الشاعر السعودى عيد الحجيلي فيقول :
بعدما شربت عمره
الكلمات
قيل مات.
إِن الحجيلي ينسج عبر هذا النص الإِبيجرامى رحلة الإنسان / الشاعر لأن الشاعر الذى يعيش بين الكلمات / حياته مجموعة من الكلمات التى يستخدمها تعبيراً عما يدور فى ذهنه وقلبه معاً، إن الصدمة التى أحدثها النص تجعل المتلقى متعاطفاً مع هذا الشاعر الذى مات، فقد أخذت الكلمات عمره، ثم أخذه الموت بعد ذلك. الواقع أن الشاعر لم يمت؛ لأن كلماته ما تزال تحيا، ترددها ألسنة الجماهير الغفيرة / الأجيال من بعده.
تتجلى قصيدة الإِبيجراما فى نصوص أدونيس فيقول فى قصيدة بعنوان (مرثيتان إلى أبى)
أبى غَدٌ يخطر فى بيتنا
شمساً وفوق البيت يعلو سحاب
أحبه سراً عصياً دفين
وجبهةً مغمورة بالتراب
أحبه صدراً رميماً ، وطين
على بيتنا كان يشهق صمٍتُ ويبكى سكون
لأن أبى مات ، أجدبَ حقل ، ومات سنونو"(7)
يحلق الشاعر العربى الكبير أدونيس فى فضاءات الطبيعة المتعددة الرحبة يستمد منها صوره الشعرية التى تبوح بالحزن والأسى على فقدان الأب فقد كان الأبُ شمساً تضىء هذا البيت، على الرغم من أن السحاب يمكث فوقه، إلا أن العلاقة القوية بين الشاعر والأب (الرمز) يصبح إلهاً للخصب والنماء، فتتولد عنه الطبيعة أشياءً تلهم الشعراء نصوصهم الإِبيجرامية.
ونتج عن هذا كله اتحاد الشاعر بالطبيعة وانغماسها فيه أدى إلى خلق صيرورة أبدية يعيش الإنسان ومن ثمَّ يقول الشاعر مصطفى رجب:
أنادى أن تدور الشمس حول الأرض
وأرفق أن تدور الأرض
لأن الأرض إن دارت
أطاعت سلطة الشمس
فأين حقوقها فى الرفض؟
يتجلى الحس السياسي الساخر فى الإِبيجراما السابقة للشاعر الدكتور مصطفى رجب، حيث إنه يتكىء على استنطاق الأشياء فى الطبيعة؛ لأن الشاعر يريد أن يغير الحقائق العلمية، وأن تدور الشمس حول الكوكب (الأرض) ويعطى لذلك أسباباً، لأن الأرض إن دارت أطاعت سلطة الشمس، وتتجلى المفارقة أيضاً فى البعد السياسي الذى حاول الشاعر أن يبثه وهو حرية الرأى وحق الاعتراض وإبداء الرأى الآخر، فقد استخدم مصطفى رجب هذين الرمزين (الشمس و الأرض)؛ ليومىء إلى وجهين حقيقين فى الواقع المعاصر وجه الحاكم ووجه المحكوم.ومن ثم فإن المفارقة هي روح الإبيجراما علي حد قول كوليردج،وتجلي ذلك في نصوص الشعراء عز الين إسماعيل ،وأدونيس ،مصطفي رجب،كمال نشأت، عبد المنعم عواد يوسف،أحمدمطر،.......وغيرهم كتبوا هذه القصيدة(الإبيجراما) متأثرين بالشعر الأوروبي
الحديث،وانشغل هؤلاء الشعراء بطرح ذواتهم داخل الإبيجرام(النثري/الشعري).وتعد هذه المقالة بمثابة دعوة جادة للباحثين العرب للاهتمام بهذا النوع الأدبي.
أحمد الصغير
ناقد من مصر
المراجع
1. طه حسين : جنة الشوك ، دار المعارف ، ط11 ، 1986 ، القاهرة ص11.
2. عز الدين إسماعيل: " دمعة للأسى... دمعة للفرح ، مطابع لوتس، ط1، جـ9، 2000، القاهرة
3. The new Enseclopaedia Britannica, Micropedia Volum15 Edition, Helen Heming way Benton publisher 1973-1974 , p933
4. طه حسين : جنة الشوك ، ص67 .
5. السابق : ص77.
6. عامر العقاد : آخر كلمات العقاد ، ص43 .
7. عز الدين اسماعيل : دمعة للاسى – دمعة للفرح ، ص34.
8. السابق : ص 150 .
9. أحمد مطر : الأعمال الكاملة ، ص9 .
10. عيد الحجيلي : قامة تتلعثم ، ص61 .
11. أدونيس : الأعمال الكاملة ، جـ1 ، ص38 .
12. مصطفى رجب : عنترة يغير أقواله ، ص34 .
أحمد الصغير
تعد قصيدة الإِبيجرام فى الشعر العربي الحديث من القصائد المهمة التى يجمع فيها الشاعر عن طريق التكثيف والإيجاز قضايا الإنسان المعاصر، فهي تعد نوعاً أدبياً قائماً بذاته له سماته ومعاييره الفنية، وقد كتب طه حسين هذا النوع / الفن فى منتصف الأربعينيات من القرن الماضى (1944)، ونقله إلى العربية نثراً من خلال كتابه المهم (جنة الشوك). ويمكن أن نقدم تعريفاً موجزاً عن الإِبيجرام: "هو كل قصيدة قصيرة مختتمة بحكمة أو نكته، مدح أو ذم
ولا تخلو من الهجاء وكل هذا يشتمل على المفارقة : ويمكن أن نستعين بما قدمه طه حسين نفسه فيقول فى مقدمة جنة الشوك " يجب أن أعترف بأنى لا أعرف لهذا الفن من الشعر فى لغتنا العربية اسماً واضحاً متفقاً عليه، وإنما أعرف له اسمه الأوربى، فقد سمّاه اليونانيون واللاتينيون "إبيجراما" أى نقشاً واشتقوا هذا الاسم اشتقاقاً يسيراً قريباً من أن هذا الفن قد نشأ منقوشاً على الأحجار، فقد كان القدماء ينقشون على قبور الموتى وفى معابد الآلهة وعلى التماثيل والآنية والأداة البيت أو الأبيات من الشعر"(1) ويعد طه حسين أول ناقد عربى يقدم تعريفاً عن الإِبيجراما رغبة فى التجريب من حيث إن اللغة العربية هل ستقبل هذا الفن أم ترفضه؟! وقد أشار طه حسين إلى أهمية هذا الفن الجديد ودعا شباب الباحثين والمبدعين إلى الكتابة فيه والإضافة إليه.
وقد أشار عز الدين إسماعيل فى مقدمة ديوانه "دمعة للأسى دمعة للفرح" إلى أن كلمة إبيجراما نفسها كلمة مركبة فى اللغة اليونانية القديمة من كلمتين هما (eposg graphein) ومعناها : الكتابة على شىء، وفى البداية كانت تعنى النقش على الحجرِ فى المقابر إِحياء لذكرى المتوفى، أو تحت تمثال لأحد الشخوص"(2) وجاء تعريف الموسوعة البريطانية الجديدة للإبيجراما وهى "أنها كتابة تصلح للنحت على أي أثر أو تمثال..... وقد أصبح الاسم يطلق ويطبق على كل بيت قصير وملىء بالمعانى خاصة إِذا كان قوياً وذا معنى معين ويشير إلى مبدأ معيـن"(3) ومن ثم فإن الإِبيجرام نوع أدبى يقف نداً جانب الأنواع الأدبية الأخرى فقد كتبه الشعراء اليونانيون والأوربيون أمثال جون دن وبوب والكاتب الأمريكي مارك توين من أشهر من كتبوا الفطانات الإِبيجرامية.
ومن الشعراء العرب الذين كتبوا هذا النوع عز الدين إِسماعيل فى ديوانه دمعة للأسى دمعة للفرح، أودونيس فى قصائده الأولى، أحمد مطر فى لافتاته، الشاعر السعودى عيد الحجيلي،و محمد حبيبي، الفلسطيني عز الدين المناصرة ..... وغيرهم كثيرون الذين كتبوا هذا الفن وقد سبقهما العقاد فى كتابه (آخر كلمات العقاد) وطه حسين فى كتابه جنة الشوك.
لاشك أن طه حسين قدَّم مجموعة من النصوص المهمة الإِبيجرامية فى كتابة جنة الشوك نطرح منها بعض النماذج على سبيل المثال فيقول فى إبيجراما بعنوان هجاء:
" قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ : أى فنون الأدب أحق أن يزدهر وينفق فى هذا العصر الذى نحن فيه ؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى : لا أدرى ! ولكننا فى عصر انتقال أشد فنون الأدب ملاءمة فن الهجاء"
من الملاحظ أن طه حسين فى الإِبيجراما السابقة يتكىء على الحوار المباشر الذى يحمل فى باطنه مفارقة ما. وهذا الحوار القائم بين الفتى (السائل) والشيخ (المسئول) الذى يجيب عن أسئلة الفتى القلقة. والتى يشوبها إثارة حفيظة الشيخ من ناحية وتفجير الأسئلة والقضايا من ناحية أخرى، ومن الجلى أن طه حسين لجأ إلى هذا الحوار لكى يثبت أفكاره، وقضاياه الذاتية والجماعية فى آن واحد ولاشك أن الحوار سمة رئيسية فى إِبيجرامات طه حسين جميعها.
ومن ثم فان تلكم المفارقة تتضح فى إجابة الشيخ الذى لا يرى إِلا فن الهجاء فى الواقع المعاصر، بل يمثل ركناً اساسياً من أركان المجتمع ويصلح للازدهار؛ لأننا فى عصر انتقال على حد قوله. وتتجلى المفارقة أيضاً فى صيغة السؤال الثانى الذي وجهه الفتى للشيخ؛ لأن هذا السؤال لا يخلو من مكر وخديعة، فهذا السؤال يتضمن وراء نقابهِ الواقعَ القاتمَ الذى يؤرق السائل من جهة والمسئول من جهة أخرى، وتأتى إجابة الشيخ صادمة عندما يقول:لا أدرى (!) [ثم يضع علامة تعجب] تحقق هذه العلامة الصدمة المدوية، ثم تنتهى إِجابة الشيخ حاملة الأسئلة الملغزة والمخاتلة فى الوقت نفسه، فالشيخ (الرمز) الذى يصنعه طه حسين لا يروق له فى هذا العصر الذى يعيش فيه، إلا فن الهجاء؛ لأن كل ما فيه يحتاج إلى الهجاء.
ويقول أيضاً فى إِبيجراما بعنوان تملق :
" قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ : ألا ترى أن فلان قد كان أبعد الناس عن التملق، فلمَّا تقدمت به السن جعل إمعانه فيه يزداد من يوم إلى يوم ؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى : كان يعتمد على نفسه، ما واتته قوة الشباب، فلما أدركته الشيخوخة اتخذ من التملق عصا يدب عليها"(4) .
توجد علاقة قوية بين العنوان والنص الإِبيجرامى نفسه، فجاء العنوان دالاً على ما يحويه النص، فهو المؤشر الدلالى الأول للدخول فى متن النص، وتحمل الإِبيجراما السابقة السخرية الشديدة من شخص كان فى شبابه بعيداً عن التملق، فلما دخلت الشيخوخة عليه وتمكنت من قلبه أمعن فى التملق إمعاناً شديداً وتأتى إجابة الشيخ (الرمز) تحمل بعداً سياسياً شديداً له وقع الأثر؛ لأن طه حسين يرصد من خلال هذه الإِجابة التحول المضاد لبعض الشخوص الذين يكونون فى بداية حياتهم / شبابهم فى أقصى اليسار. وعندما داهنته السلطةُ اتخذها عصاً يدب عليها، حتى يؤَّمن نفسه متاعب الحياة.
ومن الإِبيجرامات التى كتبها العقاد فى آخر كلماته والتى نشرها الأستاذ عامر العقاد ابن أخيه فيقول العقاد " التواضع نفاق مرذول إذا أخفيت به ما لا يخفى من حسناتك توسلاً لكسب الثناء". إن المتأمل فى الإِبيجراما السابقة يلاحظ أن العقاد كان معتزاً بنفسه، شامخاً فهو يطرح الوجه الخفي من التواضع، فهو نفاق مرذول إِذا أُخفى به المرء ما لا يخفى من الحسناتِ حتى يقال عنه إنه رجل متواضع، ويكسب ثناء الناس عليه. ويقول أيضاً :
" كن شريفاً أميناً لا. لأن الناس يستحقون الشرف والأمانة ، بل لأنك أنت لا تستحق الضعة والخيانة"
تتجلى فى نثريات العقاد (إِبيجراماته) المفارقة بشكل واضح، حيث إنه يتكىء على مشاهد من الحياة، تلك المشاهد التى تؤثر فى نفسه أولاً، ثم يسجلها / يدونها، لتؤثر فى القارىء؛ لأنه يذم الضعة والخيانة والخسة ويمدح الشرف والأمانة؛ محاولاً ترسيخ هاتين الصفتين الحميدتين لدى الناس.
الإِبيجرامات الشعرية:
عندما أوغل الشعر العربى الحديث فى التجريب، استحدث الشعراء أشكالاً متعددة من الشعر، بدءاً من القصيدة الكلاسيكية والتفعيلية وقصيدة النثر، اتجه الشعراء أنفسهم إِلى كتابة قصيدة الإِبيجراما؛ لأنها تمثل كما قلنا ظاهرة جديدة فى الشعر العربى الحديث، فقد خصص الشاعر الدكتور عز الدين إسماعيل ديواناً كاملاً (دمعة للأسى...دمعة للفرح) عن الإِبيجراما، فقد تضمن هذا الديوان مائة وست وأربعين إِبيجراما تنوعت موضوعات الديوان بين الإنسانى والحياتى والسياسي والثقافى والاجتماعى .
فيقول فى إِبيجراما السؤال :
" بحثت فى كل الجهات
سألت كل من لقيت
لم أجد جواباً
وحينما يئست وانسحبت
جاء من يسألنى
ما سر هذه الكآبة" (5)
من الملاحظ فى الإِبيجراما السابقة أن الشاعر عز الدين إِسماعيل طرح أسباب هذه الكآبة من خلال عنوان الإِبيجراما نفسها (السؤال) فسبب كآبته هو عدم حصوله على إجابة ترضيه ونجده قد استخدم مفردات قريبة من الحزن مثل (يئست) من خلال استخدامه لهذه المفردات التى جاءت متفقة، ومتناسبة مع الشعور النفسى إزاء الواقع الذى يعيش فيه الشاعر من ناحية، والآخر من ناحية أخرى وتكمن المفارقة فى المقطع الأخير من الإِبيجراما عندما يسأله سائل ما سر هذه الكآبة فالسؤال إذن لا ينتهى، وكأننا فى حياة مفعمة بالأسئلة اللانهائية وكآبة تصيب الذات الشاعرة لاتعرف لها مبرراً.
ويقول أيضاً :
سنلتقى غداً
متى غداً
غداً غداً
ليتك تنسى الموعدا "(6)
يحدد الشاعر عز الدين إِسماعيل فى الإِبيجراما السابقة الزمن الذى سيلتقى فيه بالآخر الذى يخاطبه، زمن المستقبل الذى تجلى من خلال تكراره لمفردة غداً غداً. ومن ثمَّ يكشف النص الشعرى عن اللازمنية، أيضاً فالذات الشاعرة تتأرجح ما بين الغد القريب والغد البعيد. ويتكئ الشاعر العراقى أحمد مطر على المفارقةِ المباشرة فى جل نصوصه أعنى: المفارقة السياسية فيقول :
" صباح هذا اليوم
أيقظنى منبه الساعة
وقال لى : يا ابن العرب
قد حان وقت النوم !"
يتكئ الشاعر أحمد مطر على قيمة المفارقة التى يعيش فيها المجتمع العربى الذى يغط فى النوم، فلا توقظه المنبهات ولا الساعات ولا يعرف قدراً للزمن الذى يدور حوله. ونلاحظ ذلك عندما يختم الشاعر إِبيجراماته بعلامة التعجب ( ! ) لتومئ إلى الحس السياسي الساخر من المنظمات العربية فى كليتها.
وتكمن المفارقة أيضاً فى إِبيجرامات الشاعر السعودى عيد الحجيلي فيقول :
بعدما شربت عمره
الكلمات
قيل مات.
إِن الحجيلي ينسج عبر هذا النص الإِبيجرامى رحلة الإنسان / الشاعر لأن الشاعر الذى يعيش بين الكلمات / حياته مجموعة من الكلمات التى يستخدمها تعبيراً عما يدور فى ذهنه وقلبه معاً، إن الصدمة التى أحدثها النص تجعل المتلقى متعاطفاً مع هذا الشاعر الذى مات، فقد أخذت الكلمات عمره، ثم أخذه الموت بعد ذلك. الواقع أن الشاعر لم يمت؛ لأن كلماته ما تزال تحيا، ترددها ألسنة الجماهير الغفيرة / الأجيال من بعده.
تتجلى قصيدة الإِبيجراما فى نصوص أدونيس فيقول فى قصيدة بعنوان (مرثيتان إلى أبى)
أبى غَدٌ يخطر فى بيتنا
شمساً وفوق البيت يعلو سحاب
أحبه سراً عصياً دفين
وجبهةً مغمورة بالتراب
أحبه صدراً رميماً ، وطين
على بيتنا كان يشهق صمٍتُ ويبكى سكون
لأن أبى مات ، أجدبَ حقل ، ومات سنونو"(7)
يحلق الشاعر العربى الكبير أدونيس فى فضاءات الطبيعة المتعددة الرحبة يستمد منها صوره الشعرية التى تبوح بالحزن والأسى على فقدان الأب فقد كان الأبُ شمساً تضىء هذا البيت، على الرغم من أن السحاب يمكث فوقه، إلا أن العلاقة القوية بين الشاعر والأب (الرمز) يصبح إلهاً للخصب والنماء، فتتولد عنه الطبيعة أشياءً تلهم الشعراء نصوصهم الإِبيجرامية.
ونتج عن هذا كله اتحاد الشاعر بالطبيعة وانغماسها فيه أدى إلى خلق صيرورة أبدية يعيش الإنسان ومن ثمَّ يقول الشاعر مصطفى رجب:
أنادى أن تدور الشمس حول الأرض
وأرفق أن تدور الأرض
لأن الأرض إن دارت
أطاعت سلطة الشمس
فأين حقوقها فى الرفض؟
يتجلى الحس السياسي الساخر فى الإِبيجراما السابقة للشاعر الدكتور مصطفى رجب، حيث إنه يتكىء على استنطاق الأشياء فى الطبيعة؛ لأن الشاعر يريد أن يغير الحقائق العلمية، وأن تدور الشمس حول الكوكب (الأرض) ويعطى لذلك أسباباً، لأن الأرض إن دارت أطاعت سلطة الشمس، وتتجلى المفارقة أيضاً فى البعد السياسي الذى حاول الشاعر أن يبثه وهو حرية الرأى وحق الاعتراض وإبداء الرأى الآخر، فقد استخدم مصطفى رجب هذين الرمزين (الشمس و الأرض)؛ ليومىء إلى وجهين حقيقين فى الواقع المعاصر وجه الحاكم ووجه المحكوم.ومن ثم فإن المفارقة هي روح الإبيجراما علي حد قول كوليردج،وتجلي ذلك في نصوص الشعراء عز الين إسماعيل ،وأدونيس ،مصطفي رجب،كمال نشأت، عبد المنعم عواد يوسف،أحمدمطر،.......وغيرهم كتبوا هذه القصيدة(الإبيجراما) متأثرين بالشعر الأوروبي
الحديث،وانشغل هؤلاء الشعراء بطرح ذواتهم داخل الإبيجرام(النثري/الشعري).وتعد هذه المقالة بمثابة دعوة جادة للباحثين العرب للاهتمام بهذا النوع الأدبي.
أحمد الصغير
ناقد من مصر
المراجع
1. طه حسين : جنة الشوك ، دار المعارف ، ط11 ، 1986 ، القاهرة ص11.
2. عز الدين إسماعيل: " دمعة للأسى... دمعة للفرح ، مطابع لوتس، ط1، جـ9، 2000، القاهرة
3. The new Enseclopaedia Britannica, Micropedia Volum15 Edition, Helen Heming way Benton publisher 1973-1974 , p933
4. طه حسين : جنة الشوك ، ص67 .
5. السابق : ص77.
6. عامر العقاد : آخر كلمات العقاد ، ص43 .
7. عز الدين اسماعيل : دمعة للاسى – دمعة للفرح ، ص34.
8. السابق : ص 150 .
9. أحمد مطر : الأعمال الكاملة ، ص9 .
10. عيد الحجيلي : قامة تتلعثم ، ص61 .
11. أدونيس : الأعمال الكاملة ، جـ1 ، ص38 .
12. مصطفى رجب : عنترة يغير أقواله ، ص34 .
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:48 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية5
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:46 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية4
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:45 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية3
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:44 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية2
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:42 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:41 pm من طرف Admin
» نموذج من بناء الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:39 pm من طرف Admin
» كيف تنشأ الرواية أو المسرحية؟
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:38 pm من طرف Admin
» رواية جديدة
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:26 pm من طرف Admin