الجحيم
"الفصل الأول "الحصار
سرت ارتجاجة قوية، في أدغال (البرازيل)، على نحو أفزع حيواناتها العديدة، فانطلقت مجموعة ممتزجة من الصيحات الوحشية، وكائنات الأدغال كلها، على اختلاف أنواعها، تعدو مذعورة، محاولة الابتعاد عن ذلك البركان القديم، الذي يتوسَّط الأدغال، ويكاد يختفي تحت كم هائل من الأعشاب والأشجار، التي نبتت من تربته الخصبة، المشبعة بالمعادن* .
كان قد ظلّ خاملاً، منذ آلاف السنين، يغوص في بحر من الصمت والسكون، بعد ثورته الأخيرة، التي أمنت المنطقة أو كادت، قبل عشرات القرون، التي لا يعلم عددها إلا الله (سبحانه وتعالى)..
ثم فجأة، ودون سبب علمي واضح، استعاد نشاطه..
فمع تلك الارتجاجة القوية، التي انتشرت بسرعة مخيفة، في الأدغال المحيطة به، تصاعدت من فوهته أدخنة داكنة كثيفة، تنذر بكونه يستعد لثورة جديدة، يطلق خلالها حممه الملتهبة، من فوهته الواسعة، ليفرق كل ما حوله، فى بحر من اللهب.
بحر أشبه بالجحيم..
الجحيم الأرضي..
ومن بعيد، وفى عكس اتجاه فرار حيوانات الأدغال، انطلقت سيارة (جيب) قوية، تشق طريقها وسط الأحراش المتشابكة، حتى توقَّفت عند منطقة شديدة الوعورة، ليقول قائدها في عصبية:
- لا يمكننا أن نتقدَّم أكثر.. كان ينبغي أن تستمعا لنصيحتي، وأن تستخدما الهليوكوبتر؛ للوصول إلى ذلك المكان، وليس السيارة، فالمنطقة..
قاطعه أحد الرجلين، المرافقين له، وهو يلتقط منظاراً مقرِّباً، وينهض دافعاً جسده عبر فتحة السقف، قائلاً في صرامة:
-ليس هذا من شأنك يا رجل
وضع المنظار المقرِّب على عينيه، وتطلَّع فى قلق إلى الأدخنة السوداء الكثيفة، التى تصاعدت من فوهة البركان أكثر وأكثر
فى حين سأله زميله، بلغة لم يفهم سائق (الجيب) حرفاً واحداً منها:
- الوضع ينذر بالخطر.. أليس كذلك؟!
مطَّ الأوَّل شفتيه، وزفر في توتر ملحوظ، قبل أن يقول، بنفس اللغة:
- أكثر مما تتصوَّر.
هزَّ زميله رأسه، وتراجع في مقعده، مغمغماً:
- أراهن أن علماء الجيولوجيا سيحارون كثيراً، وهم يبحثون عن أسباب استعادة هذا البركان الخامل لنشاطه بغتة، دون أية مقدمات!
هتف السائق بنفاد صبر عصبي:
- ماذا تقولان بالضبط؟!.. لست أفهم حرفاً واحداً، وهذا يضاعف من عصبيتي؛ فالموقف أصعب من أن يُحتمل بالفعل.
أجابه الأوَّل في خشونة:
- ما نقوله ليس من شأنك يا رجل، ولست تتقاضى ذلك الأجر الباهظ، لتستمتع بما نقول.
مطَّ السائق شفتيه، وهمهم بكلمات ساخطة، قبل أن يشيح بوجهه معلناً غضبه، وعصبيته تتضاعف وتتضاعف، مع رائحة الغازات البركانية، التي بدأت تنتشر بالفعل..
أما الرجل الثاني، فقد نهض بدوره، والتقط المنظار المقرَّب من زميله، وهو يتساءل:
- هل انقطعت الاتصالات تماماً، مع تلك القاعدة السرية الرهيبة؟! أومأ الأوَّل برأسه إيجاباً، وتمتم:
- أراهنك أنه المسئول عن هذا.
وافقه الثاني بإيماءة من رأسه، قائلاً:
- ليست لدى ذرة من الشك في هذا.
ثم التفت إليه، مستطرداً، في حزم يمتزج بالكثير من التوتر والقلق:
- (أدهم) لا يمكن أن يواجه أمراً كهذا، دون أن يترك بصمته عليه كالمعتاد.
تنهَّد الأوَّل، وتطلع في قلق زائد إلى البركان، الذي راحت سحب الدخان المتصاعدة منه تتكاثف أكثر وأكثر، وهو يقول:
- الأمر هذه المرة يختلف، فهو خطير للغاية.. خطير أكثر مما كنا نتصور.
وصمت لحظة، قبل أن يضيف في شيء من العصبية:
- وربما أخطر من كل ما مر به (أدهم) نفسه في حياته كلها.
تطلَّع الثاني إلى الأدخنة الكثيفة بدوره، ثم هز كتفيه، قائلاً:
ـ لن يدهشني هذا في الواقع؛ فتلك المنظمة، التي يواجهها (أدهم) بمفرده، حتى هذه اللحظة تعد أخطر وأقوى منظمة جاسوسية إجرامية، عرفها التاريخ الحديث.. إنها تمتلك من القوة والتكنولوجيا، ما يفوق بألف مرة كل ما واجهناه من قبل، وكل ما واجهه هو نفسه من أجهزة مخابرات عالمية، أو منظمات تجسس قوية. وافقه الأوَّل بإيماءة من رأسه، وقال :
ـ اختيار وكرهم وحده، يشف عن مدى خطورتهم وبأسهم، ومقدار ما يتمتعون به من تكنولوجيا متطورة، وإمكانيات لا حدود لها.
ثم هزَّ رأسه، وهو يضيف متوترا ً:
- من يصدق اختيارهم لوكر كهذا، وتزويده بأحدث الأجهزة، والمعدات، وأسلحة الدفاع والهجوم، دون أن يشعر بهم أحد.أشار الثاني بيده، قائلاً:
- بل ومن يصدِّق أن (أدهم) قد كشف أمرهم، ويواجههم وحده الآن، داخل مقرهم المنيع.. وصمت لحظة، قبل أن يضيف، في لهجة جمعت بين الصرامة، والحزم، ومقدار لا محدود من التوتر:
- تحت هذا البركان الثائر. وتنهد مستطرداً:
- والذي يمكن أن ينفجر في أية لحظة.ولم ينطق الأوَّل ببنت شفة، وهو يستعيد منظاره المقرِّب، ويعاود التطلُّع إلى البركان..
ولكن حاجباه انعقدا في شدة..
فعلى الرغم من غرابة الأمر وخطورته، كان يعلم أن (أدهم صبري) هناك الآن بالفعل..
تحت ذلك البركان الثائر..
وأنه يواجه، في تلك اللحظة بالذات، أكبر خطر عرفه، في حياته كلها..
على الإطلاق..
[]*************************************************
________________________________________
"..الفصل الثاني "البـدايــة
"لست أصدق هذا أبداً.."..
هتفت (منى توفيق) بالعبارة، بكل دهشة الدنيا، وهى تتراجع في مقعدها، أمام (قدري)، خبير التزييف والتزوير، في الإدارة، والذي ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة مستمتعة، وهو يقول:
- ما الذي لا تصدقينه بالضبط يا عزيزتي (منى)؟!
لوحت (منى) بكفيها، هاتفة :
- أن (أدهم) قد فعل كل هذا؟!..
اعتدل، يسألها في اهتمام مشوب بالدهشة:
- ولم لا؟!..
هزت كتفيها، وهى تتراجع في مقعدها، وكأنها لا تجد جواباً منطقياً، ثم لم تلبث أن قالت، في شيء من العصبية:
- إنني أعمل إلى جوار (أدهم)، منذ فترة طويلة، وعاصرت معه عشرات العمليات الشرسة العنيفة، ولست أتصور أنه كان لديه المزيد.
أطلق (قدري) ضحكة عالية مجلجلة، ارتج معها جسده الضخم، قبل أن يقول بابتسامة كبيرة:
- عزيزتي (منى).. لقد بدأ (أدهم) عمله في المخابرات، وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وأنت التقيت به، قبل أن يتم عامه الخامس والثلاثين بقليل، فماذا فعل في رأيك، طوال دستة من الأعوام، قضاها كضابط مخابرات نشط .
هزت كتفيها مرة أخرى، وبدت مرتبكة إلى حد ما، وهى تقول:
- كنت أتصور أنك قد رويت لي كل ما فعله قديماً، عبر تلك الملفات السرية، التي منحوك تصريحاً بمطالعتها.
مال نحوها، وتراقصت ضحكة عابثة في عينيه، وهو يقول:
- ليس كل ما فعله.
وعاد يتراجع في مقعده بحركة سريعة، وكأنما يرهقه الانحناء، فوق كرشه الضخم، قبل أن يتابع:
- لقد فوجئت بأن لدينا هنا كنز ضخم، من ملفات عمليات (أدهم) القديمة، منذ كان شاباً صغيراً، وحتى التقى بك، في أولى عملياتكم المشتركة*.
بدا عليها اهتمام شديد، وهى تسأله:
- وكم يبلغ حجم هذا الكنز تقريباً؟!
مط شفتيه، قائلاً:
- ليست لدى أرقاماً واضحة، ولكنني، عندما حصلت على هذا الملف، أمكنني أن أحصى أكثر من عشرين ملفاً آخر إلى جواره، وكلها تحمل الكود الشفري الخاص بعزيزنا (أدهم)..
والتقط نفساً عميقاً، قبل أن يضيف في زهو، وكأنما يتحدث عن نفسه:
- (ن -1) .
تراجعت في مقعدها مرة أخرى، وهى تغمغم :
- إنني لا أخاطبه به أبداً.
هز رأسه، قائلاً :
- ولا أنا..
ثم أشار بسبابته، مضيفاً في حزم :
- ولكنه يحمله، على أية حال..
وصمت لحظة، ثم أكمل، وهو يغمز بعينه، ويربت على الملف الذي يحمله:
- ومنذ هذه العملية.
تألقت عيناها في لهفة، وهى تهتف:
- وكيف هذا؟!
--------------------------------------------------------------------------------
ابتسم ابتسامة كبيرة، وكأنما يسعده ما تركه فيها من تأثير، ولوح بيده، قائلاً:
- الأمور لم تبدأ على النحو نفسه، الذي قرأت لك جزءاً منه، ففي البداية، لم تكن المهمة تتعلق بمنظمة (هيل آرت) هذه.. بل ولم تكن هناك مهمة رسمية على الإطلاق.
كررت في انبهار :
- حقاً؟!..
ثم هزت رأسها، وكأنها تطرح عن نفسها انبهارها، وتابعت في اهتمام متوتر:
- ولكن لماذا سافر (أدهم) إلى (البرازيل)، ما دام لم يكن يعمل في مهمة رسمية؟!
ابتسم (قدري)، وقال بلهجة خاصة، وكأنما يتعمد إثارة مشاعرها وانفعالاتها :
ـ إنه لم يذهب إلى (البرازيل) بإرادته.
اتسعت عيناها أكثر، وحدقت في وجهه بضع لحظات، قبل أن ينعقد حاجباها وتعتدل في مقعدها، قائلة في حزم:
ـ (قدري).. لست أميل إلى هذا الأسلوب.
أطلق ضحكة مجلجلة، قائلاً :
ـ ولكنني أعشقه.
أمسكت يده في قوة، وهى تقول:
ـ في هذه المرة، سنعمل بأسلوبي أنا، وستروى لي تفاصيل هذه العملية، منذ البداية.
تراقصت ضحكة أخرى في عينيه، وهو يقول :
- فليكن.. سأروى لك كل شيء .
تركت يده، واسترخت في مقعدها، محاولة التغلب على انفعالها ولهفتها، في حين تنحنح هو، والتقط الملف، و..
وبدأ يروى..
أزاح مدير المخابرات المصرية منظار القراءة عن عينيه، وهو يرفع رأسه إلى ضابطه (أدهم)، الذي وقف أمامه مشدود القامة، في اعتداد معتدل، قائلاً بلهجة قوية واثقة:
- (أدهم صبري) في خدمتك يا سيدي !
أشار إليه مدير المخابرات، قائلاً :
- استرخ أيها الرائد.. إنه أمر شخصي هذه المرة.
أدهشت العبارة الأخيرة (أدهم)، ولم تساعده إطلاقاً على الاسترخاء، وإنما ضاعفت من توتر عضلاته، وهو يشد قامته أكثر، متسائلاً في حذر زائد:
- شخصي؟!.. كنت أتصور أنه لا وجود للأمور الشخصية، في عالمنا السري هذا يا سيدي .
ابتسم مدير المخابرات، وهو يقول :
- هذا صحيح أيها الرائد.. لا وجود للأمور الشخصية في عالمنا هذا، ولكن الأمر لا يتعلق بعملنا هذه المرة.
ثم أشار إليه، مستطرداً في حزم :
- بل بك أنت.
غمغم (أدهم) في دهشة، امتزجت بالكثير من الحذر :
- أنا؟!
نهض مدير المخابرات من خلف مكتبه، واتجه نحوه، وربت على كتفه في حرارة، وهو يقول:
- نعم.. أنت أيها الرائد.. أو بوالدك، لو شئنا الدقة.
أطلت حيرة واضحة من عيني (أدهم)، وإن حجبتها ملامحه القوية عن وجهه، فابتسم مدير المخابرات، وأكمل حديثه، وهو يعود إلى مكتبه:
- فغداً، تأتى ذكرى والدك (رحمه الله)، الذي اغتاله الإسرائيليون، أثناء عمله الدبلوماسي في (لندن)، ومن أجل هذه المناسبة، قرر بعض الزملاء في سفارتنا، في العاصمة البريطانية، إقامة حفل تأبين لذكراه، وكان من المحتم أن تتم دعوتك، أنت وشقيقك الدكتور (أحمد)، إلى ذلك الحفل.
تمتم (أدهم)، وقد استوعب الموقف :
- آه.. فهمت.
ناوله المدير جواز سفره، وهو يقول :
- إحدى شركات السياحة التابعة لنا، أنهت إجراءات تأشيرة السفر من أجلك، ووفقاً لمعلوماتي عنك، فحقيبتك معدة دوماً لأي سفر مفاجئ.
غمغم (أدهم) بابتسامة هادئة :
- هذا صحيح يا سيدي.
تراجع المدير في مقعده، واتسعت ابتسامته، وهو يقول:
- طائرتك ستقلع بعد ثلاث ساعات تقريباً أيها الرائد.. أرجو لك سفراً هادئاً.
شد (أدهم) قامته، قائلاً :
- أشكرك يا سيدي.. أشكرك كثيراً.
واستدار ليغادر المكان، في خطوات سريعة قوية، فاستوقفه مدير المخابرات، قبل أن يغادر الحجرة، وهو يقول:
- (أدهم).
كانت المرة الأولى، التي يخاطبه فيها مدير المخابرات باسمه مجرّداً ، فاستدار إليه في احترام ممتزج ببعض الدهشة، ولكن ابتسامة المدير استقبلته، وهو يكمل في مودة أبوية خالصة:
- هناك أمر ينبغي أن تتذكره، في هذه الرحلة بالذات.
ثم مال إلى الأمام، مضيفاً بابتسامة أكبر :
- إنها ليست رحلة عمل، أو مهمة خاصة.. تذكر هذا جيداً.
شد (أدهم) قامته، ولاذ بالصمت بضع لحظات، ثم قال في حزم :
- سأحاول يا سيدي.. سأحاول.
وكان هذا كل ما يملكه في الواقع.
أن يحاول..
استرخى رجل (الموساد) المخضرم (إيتان مائير)، في مقعده الواسع الكبير، داخل السفارة الإسرائيلية في (لندن)، وتطلع بعينين خاملتين، نصف مغمضتين، إلى سير (وينسلوت)، عضو مجلس العموم البريطاني الشهير، وهو يقول في بطء:
- مبادرة جريئة منك بالفعل يا سير (وينسلوت)، أن تزورني هنا في مكتبي!.. ألم تخش أن يرصدك أحد الصحفيين، وأنت تدخل إلى السفارة الإسرائيلية.
ابتسم سير (وينسلوت) ابتسامة ساخرة باردة، وهو يتخذ مقعداً وثيراً، داخل حجرة (إيتان) الواسعة، وقال بصوته الثلجي المستفز، وهو يرمقه بنظرة متعالية:
- أمثالي لا يرتكبون أخطاءً تافهة يا عزيزي (إيتان)، فكل شيء في حياتي محسوب بدقة… بمنتهى الدقة.
قال (إيتان)، في خمول عجيب :
- حقاً ؟!..
أجابه سير (وينسلوت) في سرعة :
- نعم.. حقاً يا (إيتان).
ثم التقط من جيب سترته سيجاراً كوبياً فاخراً، أشعله بقداحته الذهبية في هدوء، قبل أن يتابع ببروده الثلجي المستفز:
- أنا عضو مجلس عموم محترم، ورجل أعمال شهير، ورثت عن والدي لقب (سير)، مما يمنحني مكانة خاصة رفيعة في المجتمع، وأمثالي لا يرتكبون أخطاءً تؤخذ عليهم، أو يلتقطها صحفي سخيف؛ ليصنع منها خبر الموسم، في الصفحات الأولى لصحف الفضائح.
ونفث دخان السيجار في بطء، ثم تابع :
- ولو أنك تتابع أخبار مجلس العموم؛ لعلمت أنني قد أصبحت رئيس لجنة العلاقات الخارجية، وأنه من صميم عملي، أن أعمل على توطيد العلاقات الديبلوماسية، بين (بريطانيا) العظمى، وجميع الدول الأخرى.
ورفع حاجبيه، في تعالى واضح، وهو يضيف :
- ومن بينها (إسرائيل).
ظلت ملامح (إيتان) خاملة بليدة، وهو يكرر، في لهجة حملت نبرة ساخرة واضحة:
- (بريطانيا) العظمى!..
نفث سير (وينسلوت) دخان سيجاره في بطء، دون أن تحمل ملامحه أية انفعالات، وإن أطلت من عينيه نظرة مقت واضحة، وهو يقول في بطء:
- نعم.. (بريطانيا) العظمى يا (إيتان).. (بريطانيا) التي منحتكم وعدها الشهير*، الذي منحكم بدوره الحق في استيطان واحتلال (فلسطين)**..
وضاقت عيناه، وهو يضيف في صرامة :
- أم أنكم قد نسيتم هذا ؟!
ابتسم (إيتان) ابتسامة ساخرة خاملة، وهو يقول :
- نحن دولة صغيرة يا سير (وينسلوت)، وذاكرتنا لا يمكن أن تحتمل ما تحتمله ذاكرة دولة (عظمى) مثلكم.
نطق كلمته قبل الأخيرة في سخرية واضحة، ابتسم لها سير (وينسلوت) في برود، ونفث دخان سيجاره في بطء، قائلاً:
- هذا أمر طبيعي أيها الإسرائيلي.. أمر طبيعي للغاية.
ثم مال إلى الأمام، مستطرداً في صرامة قاسية :
- وما ينبغي أن تدركه الآن، وأن يدركه رؤسائك في (تل أبيب)، هو أنكم إن لم تستمعوا إلىَّ جيداً، فسيصغر شأن دولتكم أكثر، على نحو لا يمكن تصوره أو تخيله، حتى في أبشع كوابيسكم.
قالها، ثم نهض في حزم، فاعتدل (إيتان) على مقعده، وزال خموله مع بلادته الزائفة دفعة واحدة، وهو يقول فى شيء من الشراسة:
- ما الذي يعنيه هذا بالضبط يا سير (وينسلوت)؟!
قال سير (وينسلوت) في برود، وهو يواصل نفث دخان سيجاره الكوبي الفاخر:
- ما يعنيه هو بالضبط ما أتيت لأخبرك به يا..
صمت لحظة، ثم مال نحوه، قبل أن يضيف في قسوة صارمة:
- يا رجل الموساد.
--------------------------------------------------------------------------------
* آرثر جيمس بلفور (1848 - 1930م) :سياسي بريطاني، شغل عدة مناصب سياسية في بلاده، قبل أن يصبح رئيساً للوزراء (1902 - 1905م)، وبعدها أصبح وزيراً للبحرية (1915 - 1916م)، ثم وزيراً للخارجية (1916 - 1922م)، وخلال صفته هذه، أصدر تصريحه الشهير، المعروف باسم وعد (بلفور) (2 نوفمبر 1917م)، والذي يعلن فيه تعهد (بريطانيا) بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى..
* * فلسطين: دولة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، اسمها في التوراة بلاد (كنعان)، ويعتبرها الإسرائيليون أرضاً مقدسة لهم، بعد أن غزاها يشوع، الذي خلف (موسى) في قيادة اليهود، في الأزمنة القديمة.
رمقه (إيتان) بنظرة قاسية، من خلف جفنيه نصف المغلقين، ثم قال في شيء من التحدي:
- وما الذي أتيت لتخبرني به بالضبط أيها البريطاني؟!.. هل ترغب في رفع قيمة المكافأة، التي تتقاضها منا، مقابل تعاونك معنا؟!
قال سير (وينسلوت) في سخرية:
- مكافأة؟!.. لو راجعت رؤساءك، لأدركت أنني لم أتقاضى منكم بنساً واحداً، منذ منحتكم تلك المعلومات العسكرية يا هذا.. لقد كانت هدية.. مجرد هدية؛ لتحديد ما يمكنني أن أمنحكم إياه.
قال (إيتان)، في استهتار متعمد:
- لم أكن أعتقد أنه توجد هدايا من هذا النوع، في عالمنا الخاص أيها البريطاني.
نفث سير (وينسلوت) دخان سيجاره الفخم، نحوه مباشرة، قبل أن يقول في برود:
- (وينسلوت) أيها الإسرائيلي.. سير (وينسلوت)… مسئول العلاقات الخارجية، في مجلس العموم البريطاني، و…
مال نحوه مرة أخرى، ثم تابع في صرامة:
- والزعيم الفعلي، لمنظمة (هيل آرت).
انتفض جسد (إيتان) في عنف، واتسعت عيناه عن آخرهما، وهبَّ من مقعده بحركة حادة عنيفة، هاتفاً:
- أنت؟!..
وهنا فقط، تخلى سير (وينسلوت) عن وقاره وبروده، وانطلقت من أعمق أعماقه ضحكة قوية، واثقة، مجلجلة، قبل أن ينفث دخان سيجاره، ويقول :
- مفاجأة قوية.. أليس كذلك ؟!
ظل (إيتان) يحدق في وجهه لبضع لحظات أخرى، في ذهول بالغ، قبل أن يتراجع، ويجلس في مقعده، قائلاً:
- إذن فهو أنت.
ومع ابتسامة سير (وينسلوت) الباردة، هز الإسرائيلي رأسه في قوة، مستطرداً:
- من يصدق هذا؟!
أطلق سير (وينسلوت) ضحكة قصيرة، ونفث دخان سيجاره مرة أخرى، وهو يقول:
- ومن يمكن أن يدين نفسه بتهمة كهذه، بعد أن ضربت منظمة (هيل آرت) ضربتها الكبرى، واستولت على تلك الوثائق النووية الأمريكية.
تألقت عينا (إيتان)، وهو يقول :
- لو أنك هنا، للسبب الذي يدور في ذهني يا سير (وينسلوت)، فأنا واثق من أن دولتي مستعدة لدفع أي مبلغ تطلبه، مقابل تلك الوثائق.
رفع سير (وينسلوت) حاجبيه بدهشة مصطنعة، وهو يقول :
- عجباً!.. كنت أتصور أن دولتكم هي الابن غير الشرعي للأمريكيين، وأن التعاون بينها وبينهم كاملاً.
تجاهل (إيتان) العبارة تماماً، وهو يقول في لهفة:
- كم تطلب؛ ثمناً لتلك الوثائق يا سير (وينسلوت)؟!
عاد سير (وينسلوت) إلى مقعده، ووضع إحدى ساقيه فوق الأخرى، ولوح بيده الممسكة بالسيجار، في حركة مسرحية أنيقة، وقال:
- هل تعتقد أن بإمكانكم دفع ثمنها؟!
أجابه (إيتان) في عصبية :
- قلت لك : إن دولتي مستعدة لدفع أي ثمن تطلبه، في مقابل تلك الوثائق.
مط سير (وينسلوت) شفتيه، وقال في خبث:
- أيعنى هذا أنك مفوض منها، لإتمام هذه الصفقة؟!
انعقد حاجبا (إيتان) في شدة، وتراجع في مقعده بحركة حادة، دون أن ينبس ببنت شفة، فنهض سير (وينسلوت) مرة أخرى، وقال وهو يلتقط معطفه:
- هذا ما توقعته.
هبّ (إيتان) من مقعده في عصبية، هاتفاً :
- رويدك يا سير (وينسلوت).. إننا نريد حقاً هذه الصفقة، ولن نتنازل عنها قط.
ارتدى سير (وينسلوت) معطفه في هدوء، وهو يقول:
- يمكنكم إذن دخول المزاد، يا عزيزي (إيتان).
اعتدل (إيتان)، وهو يقول، في صرامة شديدة :
- لا مزادات يا سير (وينسلوت).. إننا نريد هذه الصفقة حقاً.. وبأي ثمن.
أجابه سير (وينسلوت)، وهو يتجه إلى الباب، ودون أن يلتفت إليه :
- اتصل برؤسائك في (تل أبيب) إذن.
وفتح باب الحجرة، ثم توقف لحظة، قبل أن يستدير إليه، قائلاً بغطرسة شامتة متعالية :
- أريد مفاوضاً أعلى شأنا.
قالها، وغادر المكان، وهو يضحك..
ويضحك..
ويضحك..
ولم يدرك (إيتان)، الذي احتقن وجهه بشدة لحظتها، أن تلك الضحكات الساخرة الشامتة الظافرة، كانت المفتاح الفعلي..
المفتاح الحقيقي لكل الأبواب..
أبواب الجحيم.
******************************************
الفصل الثالث "لـنـدن
التقط (أدهم) نفساً عميقاً، من هواء (لندن) البارد، المشبع بدرجة عالية من الرطوبة، وضم ياقتي معطفه في قوة، وهو يغادر مطار (هيثرو)، وارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة، عندما استقبله زميله (حازم)، قائلاً في حرارة وترحاب:
- مرحباً بك في (لندن) يا صديقي.. لقد مضت فترة طويلة، منذ التقينا لآخر مرة.
صافحه (أدهم) في حرارة، وهو يقول:
- ثلاث سنوات تقريباً.. منذ عملية الصاروخ السوفيتى.
أطلق (حازم) ضحكة قصيرة، وهو يقول:
- بالضبط.
اصطحبه إلى سيارة بريطانية الصنع، وهو يربت على ظهره في حرارة، قائلاً:
- كانت عملية، لا يمكن أن تنسى.
استقل كلاهما السيارة، التي انطلق بها (حازم)، في شوارع (لندن)، و(أدهم) يسأله:
- هل انتهت فترة تدريبك هنا؟!
صمت (حازم) بضع لحظات، ثم قال في اقتضاب:
- إنه ليس تدريباً.
لم يشعر (أدهم) بالدهشة مع قوله..
بل ولم يحاول حتى أن يسأله عما يعنيه..
فكرجل مخابرات محترف، كان يدرك جيداً ما يعنيه قول زميله هذا..
إنه في مهمة..
مهمة على درجة عالية من السرية..
ووفقاً لنظم ومعايير العمل في المخابرات، كان من الضروري أن يكتم (حازم) السر..
حتى عن أقرب وأخلص أصدقائه وزملائه..
ومن الضروري أيضاً ألا يسأله هو عما يخفيه..
هذا لأن المعرفة، في عالم المخابرات، على قدر الحاجة..
فقط..
وفى محاولة لتفادى الحديث، حول مهمة (حازم) السرية، تساءل (أدهم) :
- هل سيقيمون احتفالهم الليلة؟!
أومأ (حازم) برأسه إيجاباً، وقال:
- نعم.. في التاسعة مساءً، بتوقيت (جرينتش)*.
ورمقه بنظرة جانبية، متسائلاً :
- ولكن هذا لا يروق لك.. أليس كذلك؟!
هز (أدهم) رأسه، قائلاً :
- لم يرق لي أبداً الاحتفال بذكرى مصرع والدي؛ فهذا يعيد إلى ذهني المرارة نفسها، التي شعرت وشقيقي (أحمد) بها، عندما تم اغتياله هنا في (لندن).
سأله (حازم) في تعاطف :
- أهذا سر كراهيتك الشديدة للإسرائيليين؟!
تنهد (أدهم)، مجيباً :
- ألا يكفى ما يفعلونه في (فلسطين) سبباً يا رجل؟!
لم يجب (حازم) تساؤله، وإنما رمقه بنظرة جانبية أخرى، لاذ بعدها بالصمت التام، الذي شاركه فيه (أدهم) بضع لحظات، قبل أن يتابع:
- من القواعد الأولى، التي لقننا إياها والدي (رحمه الله)، ألا نمزج مشاعرنا الشخصية بعملنا، ولقد أخبرني دوماً أن رجل المخابرات الناجح، لا ينتمي إلا لوطنه وحده.. ليس إلى المال، أو المرأة، أو حتى مشاعره الخاصة.
--------------------------------------------------------------------------------
* جرينتش:ضاحية من ضواحي العاصمة البريطانية (لندن)، على نهر (التايمز)، تقع فيها الكلية الملكية البحرية، والمعرض الملكي، ويعتبر أحد تلال (جرينتش بارك)، والذي اختباره سير (كريستوفر رن)، هو خط الزوال، بالنسبة للطول الجغرافي.
************************************************** ******************
أومأ (حازم) برأسه، قائلاً :
- والدك (رحمه الله) كان رجلاً عظيماً.
وصمت لحظة، ثم أضاف :
- وأنجب ابنين عظيمين أيضاً.
ابتسم (أدهم) دون أن يجيب، وحاول الاسترخاء في مقعده، و(حازم) يسأله في اهتمام:
- ما دام الاحتفال بذكرى والدك لا يروقك، لماذا قطعت كل هذه المسافة، من (القاهرة) إلى (لندن).
هز (أدهم) كتفيه، قائلاً :
- لم يكن من الممكن أن أحبط الجميع، برفض الحضور إلى هنا، ومشاركتهم في احتفال، بذلوا الكثير من الجهد لإقامته… وأظن أن هذا نفس ما فعله أخي (أحمد) أيضاً ، الذي يقطع المسافة الآن ، من (ستوكهولم) إلى هنا ، ولن يمكنك أن تتصوّر كم أشتاق لرؤيته .
ابتسم (حازم)، قائلاً :
- ألم أقل لك : إنكما عظيمان بحق؟!
غمغم (أدهم)، وهو يشيح بوجهه :
- العظمة لله وحده يا صديقي.
هم (حازم) بقول شيء ما، وهو ينحرف بالسيارة في نهاية الطريق، لبلوغ مبنى السفارة المصرية، و…
وفجأة، ضغطت قدمه دواسة الفرامل بكل قوته، وهو يهتف:
- يا إلهي !
أدار (أدهم) عينيه بسرعة إلى الطريق، الذي بدت حركته عادية مألوفة، باستثناء رجل الشرطة، الذي اعترض طريق السيارة، ورفع راحته ليستوقفها في صرامة..
كان شرطياً عادياً بسيطاً، يحمل ملامح صارمة حازمة، وتشير الأشرطة على ذراعيه إلى أنه يحتل مكانة ثالثة، بين الرتب المسموح لها بالتواجد في طرقات العاصمة..
ولكن شيئاً ما في أعمق أعماق (أدهم) شعر بتوتر..
توتر غامض..
مبهم..
عجيب..
توتر ربما نبت من حاسة خاصة، نمت مع الوقت والخبرة، في أعماق رجل مخابرات محترف..
أو أتى من شيء ما..
شيء رآه..
أو سمعه..
شيء لم تدركه حواسه التقليدية، وإن انتبهت إليه بشدة حاسة رجل المخابرات، في كل ذرة من كيانه..
المهم أنه قد اعتدل..
وتحفز..
وانتظر..
وفى صرامة حازمة، دار الشرطي حول مقدمة السيارة، التي تحمل أرقاماً ديبلوماسية واضحة، وهو يقول لـ(حازم):
- رخصتا القيادة والسيارة يا سيدي.
أجابه (حازم)، في صرامة مماثلة، وبلغة إنجليزية سليمة:
- هذه السيارة تحمل لوحات ديبلوماسية، وليس من حقك أن..
ولم يكمل (أدهم) سماع العبارة..
الحاسة نفسها، التي جعلته يشعر بالتوتر، دفعته إلى الاستدارة إلى الجانب الأيسر، الذي انشغل عنه (حازم)، بحديثه مع الشرطي، في الجانب الأيمن*..
ولقد جاءت استدارته، في الوقت المناسب..
المناسب تماماً..
--------------------------------------------------------------------------------
* في (إنجلترا)، وبعض المستعمرات التابعة لها، أو المنفصلة عنها، توضع عجلة القيادة في الجانب الأيمن للسيارة، بخلاف باقي دول العالم.
*******************************************
ففي نفس اللحظة، التي استدار فيها، كان هناك رجلان، في معطفي مطر، يندفعان نحو السيارة، من جانبها الأيسر، وكل منهما يدس يده في معطفه، بحركة لا يمكن أن تخطئها عين محترف مثله..
حركة تعنى أن كل منهما يهم بسحب سلاحه، و…
وكعادته، وكما لقنه والده الراحل، لم يضع (أدهم) لحظة واحدة..
لم يكن يحمل سلاحاً..
ولم يكن هناك ما يكفى من الوقت، لسؤال (حازم)، عما إذا كان يحمل سلاحاً بدوره..
ولم تكن هناك دلالة واحدة، لعدد المعتدين حولهما..
لذا، فقد دفع (أدهم) قدمه اليمنى، في حركة سريعة مرنة، وضغط دواسة وقود السيارة، التي رفع (حازم) قدمه عنها ، وهو يمسك مقودها في إحكام..
وفوجئ (حازم) بالسيارة تثب فجأة، وتنطلق من إطاراتها صرخات صريرية عنيفة، قبل أن تندفع في الطريق، فصاح في دهشة:
- ماذا تفعل؟!
ولم يجب (أدهم) تساؤله..
بل أجابته رصاصات المعتدين..
أجابته ثلاث مرات، تحطم معها الزجاج الخلفي للسيارة، وتناثر بمنتهى العنف، دون أن تدوي أية رصاصات من خلفهما..
ومع اختراق إحدى الرصاصات الثلاث للزجاج الأمامي، تاركة فيه ثقباً صغيراً، أحيط بشبكة من الشروخ العنكبوتية، صاح (حازم):
- رباه!.. إنهم يستخدمون كواتم الصوت.
قالها، واستعاد سيطرته على عجلة القيادة، و(أدهم) يرفع قدمه عن دواسة الوقود، قائلاً في غضب:
- محاولة اغتيال حقيرة أخرى.
هتف (حازم)، وهو يعيد قدمه إلى دواسة الوقود، وينطلق بالسيارة عبر شوارع (لندن) :
- إنهم ليسوا رجال مخابرات.
أجابه (أدهم)، وهو يستدير خلفه؛ لمراقبة الطريق:
- نعم.. أسلوبهم أشبه بعصابات (المافيا).
عض (حازم) شفته السفلى في ألم، وهو يقول:
- إنهم مجرمو (هيل آرت).. يحاولون إزاحتي عن طريقهم.. لقد أدركوا حتماً أنني قد اقتربت كثيراً منهم.
انعقد حاجبا (أدهم)، وهو يتساءل :
- (هيل آرت)؟!.. أي اسم هذا؟!
قبل أن يجيبه (حازم)، ظهرت ثلاث درجات آلية، تنطلق عكس اتجاه السير القانوني، نحو السيارة مباشرة..
وبحركة عنيفة، انحرف (حازم)، بالسيارة إلى جانب الطريق، على نحو جعله يصطدم بجانب سيارة كبيرة أخرى، وهو يهتف
- احترس يا (أدهم).
وقبل حتى أن يكتمل هتافه، كان ركاب الدراجات الثلاثة يصوبون مسدساتهم، المزودة بكواتم للصوت، نحو السيارة مباشرة..
ويطلقون النار..
ولكن رد فعل (أدهم) كان سريعاً للغاية..
لقد انحنى بسرعة، ومال جانباً، وسمع صوت اختراق الرصاصات الصامتة لزجاج السيارة الأمامي، الذي تناثر بعضه فوق رأسه مباشرة، ممتزجاً بآهة ألم، أطلقها (حازم)، قبل أن ينحرف بالسيارة مرة أخرى، صائحاً:
- لقد ظفروا بي.
استدار إليه (ادهم) بحركة حادة، وشاهد ذلك الخيط من الدم، الذي يسيل على قميصه، من ثقب في صدره، وبقعة الدم الكبيرة، التي تغطى كتفه اليسرى، في نفس اللحظة التي اختل فيها توازن السيارة، وقفزت فوق الإفريز الجانبي للطريق، وارتطمت بأحد أعمدة الإنارة المعدنية، ثم انقلبت على جانبها، وراحت تزحف على الإفريز، لمتر أو مترين، قبل أن تنقلب مرة أخرى على سطحها، وإطاراتها تواصل دورانها عالياً في الهواء..
وطوال كل هذا الوقت، ومع الحركة المعقدة، التي قامت بها السيارة أثناء انقلابها، لم يتوقف راكبو الدراجات الآلية الثلاثة لحظة واحدة، عن إطلاق رصاصاتهم نحوها..
ونحو خزان وقودها بالتحديد..
وساد ذعر شديد، في ذلك الشارع اللندني، مع المشهد الرهيب، الذي يصلح لشاشة السينما، بأكثر مما يصلح على أرض الواقع، وبخاصة عندما توقف القتلة بدراجاتهم الآلية، في حركة تشف عن البراعة، على مسافة أمتار قليلة من السيارة المقلوبة رأساً على عقب، وصوبوا فوهات مسدساتهم نحو خزان وقودها مباشرة، و..
وفجأة، خيل إليهم، ولكل شهود عيان الواقعة، أن صاعقة قد انطلقت من السيارة، وانقضت عليهم بعنف..
بمنتهى العنف..
صاعقة بشرية، اندفعت عبر نافذة السيارة المقلوبة، وبدا وكأنها قد طارت في الهواء، أو أنها تتحرك في أربع اتجاهات في وقت واحد، لتطيح بالقتلة الثلاثة على نحو مدهش، عجز كل الشهود عن وصفه بدقة، في تقارير الشرطة الرسمية..
كل ما اتفقوا عليه، هو أنه بعد ثانية واحدة، كان هناك رجل وسيم، يقف بين ثلاثة من قائدي الدراجات النارية، الذين فقدوا الوعي، وسيارة مقلوبة، بدأت النيران تشتعل في مؤخرتها بالفعل، وأن ذلك الرجل قد انحنى، والتقط أحد تلك المسدسات، المزودة بكواتم الصوت، قبل أن يهتف بالجميع، بلغة إنجليزية سليمة، ولهجة لندنية دقيقة، جعلتهم يقسمون جميعاً، دون استثناء واحد، على أنه بريطاني الجنسية:
- ابتعدوا.. ابتعدوا بسرعة.. السيارة ستنفجر.
وعند هذه النقطة، اختلفت أقوال شهود العيان..
اثنان فقط، أشارا إلى أنهما قد شاهدا ذلك الرجل، وهو يدور حول السيارة، ويجذب جسد رجل مصاب خارجها، ثم يحمله على كتفيه، وينطلق مبتعداً، في سرعة مدهشة..
أما الباقين، فلم تزد أقوالهم على أنهم قد ابتعدوا مذعورين، وسمعوا صوت انفجار السيارة خلفهم، وشعروا بوهج انفجارها في ظهورهم، وعندما استداروا لرؤية ما حدث، كان ذلك الرجل قد اختفى بحمله..
اختفى تماماً..
أما الشهود الفرعيين، في الشارعين الرئيسيين، اللذين يفصلان السفارة المصرية، عن موقع الحادث، فقد اجتمعوا على أنهم قد شاهدوا ذلك الرجل، وهو يعدو كشخص آلي قوى، حاملاً ذلك المصاب على كتفيه، دون أن يتوقف لحظة واحدة ليلتقط أنفاسه، أو ينتظر وصول سيارة الإسعاف، التي تعالى دوى أبواقها، وهى تشق طريقها إلى موقع الحادث العنيف..
"هل سينجو؟!.."
ألقى (أدهم) السؤال، في توتر بالغ، على مسامع الملحق الطبي للسفارة المصرية، والذي انهمك مع فريق طبي خاص، في فحص إصابات (حازم)، قبل أن يجيب:
- حالته ليست مطمئنة، وسيحتاج إلى جراحة عاجلة حتماً؛ لاستخراج تلك الرصاصة، التي اخترقت قفصه الصدري، أما الأخرى، التي أصابت كتفه اليسرى من الخلف، فيمكنني إخراجها بالإمكانيات المتاحة هنا.
ثم اعتدل، وعدل منظاره الطبي على أنفه، مضيفاً في حزم:
- ولكنني لا أنصح بهذا..
سأله (أدهم) في صرامة عجيبة:
- وما الذي تنصح به بالضبط؟!.. ما الأفضل بالنسبة له؟!
أجابه الطبيب، في سرعة وحسم :
- لابد من نقله فوراً، إلى أقرب مستشفى إلينا؛ فهو فاقد الوعي، وتلك الرصاصة في صدره، قد تؤدى إلى موته في أية لحظة؛ لو لم يتم استخراجها جراحياً، بأقصى سرعة ممكنة.
شد (أدهم) قامته، وبدا حازماً صارماً، وهو يلتفت إلى الملحق الطبي للسفارة، قائلاً:
- فلنتخذ كل الإجراءات؛ لنقله إلى المستشفى فوراً.
هز الملحق العسكري رأسه، قائلاً في توتر:
- ولكن المستشفى يعنى العديد من الإجراءات الرسمية، وتحقيقات الشرطة، و…
قاطعه (أدهم) بمنتهى الحزم :
- سنفعل الأفضل له.
عاد الملحق العسكري يهز رأسه في قوة، قائلاً:
- الأفضل له أن نقوم باستدعاء أحد كبار الجراحين إلى هنا، و…
قاطعه الملحق الطبي في توتر:
- هذا لن يكفى.. الرجل يحتاج إلى ما هو أكثر من جراح ماهر.. إنه يحتاج إلى إمكانيات للإسعاف والعناية الفائقة، لا يمكن أن تتواجد إلا في مستشفى كبير، يملك إمكانيات طبية كاملة.
قال الملحق العسكري في عصبية:
- وماذا لو حاولوا اغتياله مرة أخرى هناك؟!… الشرطة هنا لن تسمح لنا بحمايته، وستصر على أن تتولى المهمة بنفسها، ولا يمكنك الآن أن تثق في أي رجل شرطة بريطاني، و…
اطعه (أدهم) في حزم :
- لن يحاولوا اغتياله هناك.
سأله الملحق العسكري في عصبية :
- ومن سيمنعهم ؟!
عقد (أدهم) ساعديه أمام صدره، وهو يقول في صرامة :
- أنا.
حدق الكل في وجهه بدهشة بضع لحظات، ثم لم يلبث الملحق العسكري أن وضع يده على كتفه، قائلاً:
- اسمعني جيداً يا (أدهم).. كلنا هنا نعرف مدى تفوقك وقدراتك، ونعلم الكثير عن تلك التجربة الفريدة، التي قام بها والدك (رحمه الله)، ليصنع منك ما صنعه، ولكنك هنا في أرض أجنبية، ولو حاولت حماية صديقك وحدك، على نحو غير رسمي، سيكون عليك أن تواجه القتلة، والشرطة البريطانية أيضاً، و…
قاطعه (أدهم) في حزم :
- اطمئن.. لن أفعل ما يمكن أن يخطر ببالك.
وصمت لحظة، ثم أضاف في صرامة :
- أو ببالهم.
سأله الملحق العسكري في حذر متوتر:
- ما الذي تعنيه بالضبط؟!
تطلع (أدهم) في إشفاق إلى وجه زميله (حازم) الشاحب، وربت عليه في رفق، وهو يتنهد في عمق، قبل أن يقول:
- لن يحاولوا اغتياله.
سأله الملحق العسكري في توتر أكثر :
- وما الذي يمكن أن يمنعهم ؟!
صمت (أدهم) بضع لحظات، ثم قال فى حزم :
- إنهم سيسعون لاغتيالي أنا.
نطقها في ثقة عجيبة، جعلت الكل يحدق فيه في ذهول..
ولكنه بدا أمامهم قوياً..
صارماً..
حازماً..
متماسكاً..
وواثقاً..
لذا، فقد ازدرد الملحق العسكري لعابه في صعوبة وتوتر، قبل أن يميل نحوه، ويسأله في خفوت، وكأنما يخشى تحطيم حالة الانبهار، المسيطرة على المكان:
- وكيف هذا؟!
التقط (أدهم) نفساً عميقاً، قبل أن يجيبه بمنتهى الحزم:
- لدى خطة.
نطقها في ثقة شديدة، وفى اقتضاب شديد، دون أن يضيف أية تفاصيل..
ودون أن يسأله أحدهم عما يعنيه..
فقد بدا، في تلك اللحظة، واثقاً وغامضاً..
إلى أقصى حد.
***********************************
الفصل الرابع "الأوغاد"
انعقد حاجبا سير (وينسلوت)، زعيم منظمة (هيل آرت)، في صرامة شديدة، وهو ينفث دخان سيجاره الفخم، في وجه قائد حراسه (بيتون)، قائلاً:
- الفشل يا (بيتون).. الشيء الوحيد الذي أبغضه، في حياتي كلها.
بدا (بيتون) شديد التوتر، وهو يقول:
- العملية تم تخطيطها وتنفيذها بمنتهى الدقة يا سير (وينسلوت)، ولكن هناك عوامل خارجية، أفسدت بعض خطواتها، وانتهت بخسارة فرصة اصطياد الفريسة.
مال سير (وينسلوت) نحوه، ونفث دخان سيجاره مرة أخرى في وجهه، قائلاً :
- وهذا بالضبط ما أطلق عليه اسم الفشل يا (بيتون)..
تضاعف توتر (بيتون)، وسير (وينسلوت) يلوح في وجهه بسيجاره الفخم، مستطرداً بنفس الصرامة القاسية:
- الفشل الحقيقي هو ألا تضع في حساباتك كل الاحتمالات الممكنة.. حتى غير المنطقي منها.. ألا تضع أكثر من خطة، وليس خطة واحدة، بحيث يمكنك أن تنتقل، من واحدة إلى أخرى، إذا ما تغيرت الظروف، أو ظهرت عوامل غير متوقعة.
قال (بيتون) في عصبية :
- وهذا بالضبط ما فعلته يا سير (وينسلوت).. لقد وضعت خطة أساسية، وأخرى احتياطية، وتعتمد على اصطياد ركاب الدراجات النارية لهم، لو أنهم أفلتوا من الفخ الأول، ولكن..
قاطعه سير (وينسلوت) في صرامة :
- أبغض ما أبغضه هو كلمة (لكن) هذه؛ فهي تعترض دوماً سير الأحداث، وتفسد مجريات الأمور.
قال (بيتون) في حدة غير مقصودة :
- ذلك الرجل الآخر لم يكن شخصاً عادياً.
التقى حاجبا سير (وينسلوت) مرة أخرى، وهو يقول :
- وكيف هذا؟!..
بدا (بيتون) شديد الانفعال، على نحو يفوق المألوف، وهو يلوح بذراعيه، قائلاً:
- أنت تعرفني جيداً يا سير (وينسلوت).. أنا رجل مخابرات قديم ومحترف، وأقود لحسابك فريقاً من أبرع محترفي القتال.. والقتل أيضاً، وعلى الرغم من هذا، فلم أر، في حياتي كلها، من يفوق ذلك الرجل قوة، وسرعة، وبراعة!!.. لقد شاهدت بنفسي فيلماً قصيراً، صوره أحد رجالنا لما حدث، بناءً على أوامري، وكاد قلبي يثب من بين ضلوعي، من فرط دهشتي وانفعالي، وأنا أشاهد الوسيلة، التي تعامل بها مع رجالنا.
واشتد انفعاله أكثر، وهو يهتف:
- لقد أسقط ثلاثة من المحترفين، فيما بدا وكأنه ثانية واحدة!!.. إنه ليس رجلاً عادياً بالتأكيد.
انعقد حاجبا سير (وينسلوت) في دهشة، وهو يتطلع إلى انفعال قائد حراسه، الذي لم يرصد مثله من قبل قط،،على محترف مثله، ثم سأله في برود صارم:
- وأين ذلك الفيلم؟!
أجابه (بيتون) في سرعة، وكأنه كان ينتظر هذا السؤال بالتحديد:
- لقد أحضرته معي يا سير (وينسلوت).
استغرق الأمر عشر دقائق فحسب، لإعداد الفيلم للعرض، ثم أطفأ (بيتون) أنوار الحجرة، وهو يقول بنفس الانفعال، الذي لم يفارقه بعد:
- ستشاهده بنفسك يا سير (وينسلوت).
راح سير (وينسلوت) ينفث دخان سيجاره الفخم في بطء، وهو يستنفر كل بروده الإنجليزي الموروث؛ للسيطرة على انفعاله الجارف، أثناء متابعته ذلك الفيلم القصير جداً، لحادث سيارة (حازم)، ذات اللوحات الديبلوماسية..
وكدلالة على اهتمامه الشديد، طلب إعادة العرض مرة..
وثانية..
وثالثة..
وفي كل مرة، طالع خلالها الفيلم، كان يحاول عبثاً رؤية وجه (أدهم)، أو تحديد ملامحه، مع حركته فائقة السرعة..
وأخيراً أدرك أن هذا مستحيل!..
السرعة التي يتحرك بها (أدهم)، كانت تفوق سرعة آلات التصوير الحديثة، في تلك الفترة، على رصد التفاصيل الدقيقة..
وفي نهاية العرض الأخير، أشار سير (وينسلوت) إلى قائد حراسه بإشعال الأضواء، قبل أن يقول في برود:
- أرسل هذا الفيلم إلى معاملنا الخاصة.. أريد طبع صور مكبرة، لكل ما يحويه من تفاصيل، لوجه ذلك الرجل، الذي أفسد عمليتكم.
قال (بيتون) في سرعة:
- فوراً يا سير (وينسلوت).
تراجع سير (وينسلوت) في مقعده، وهو يقول في صرامة:
- هل تعلم شيئاً، عن مصير الرجل الآخر؟!.. أعنى رجل المخابرات المصري، الذي فشلت خطة اغتياله.. لقد حمله زميله الفائق على كتفيه، وانطلق يجرى به نحو سفارتهما، كما يوضح فيلمك، ولكنكم لا تعرفون ما إذا كان قد نجا تماماً، أم..
قبل أن يتم عبارته، اندفع (بيتون) يقول في انفعال:
- لقد تم نقله إلى المستشفى؛ لإسعافه من طلق ناري في صدره.
اعتدل سير (وينسلوت)، وهو يسأله في اهتمام:
- أي مستشفى؟!
أجابه في سرعة:
- (لندن كلينيك).
تراجع سير (وينسلوت) في مقعده الوثير، ونفث دخان سيجاره في بطء وعمق، وهو يقول:
- عظيم.. هذا يمنحكم فرصة ثانية إذن.
شد (بيتون) قامته، في وقفة عسكرية غريزية، وهو يقول، في اهتمام منفعل:
- هل نقوم بمحاولة أخرى لاغتياله هناك؟!
قال سير (وينسلوت) في صرامة:
- وهل يحتاج هذا إلى سؤال؟!.
أجابه (بيتون) في حماس:
- كلا.. كلا بالتأكيد يا سير (وينسلوت).
قالها، واندفع لتنفيذ الأمر، فاستوقفه سير (وينسلوت)، قائلاً بمنتهى الحزم والصرامة:
- (بيتون).. لا أريد أية أخطاء هذه المرة.
أومأ (بيتون) برأسه في توتر، قائلاً:
- بالتأكيد يا سير (وينسلوت).. بالتأكيد.
قالها (بيتون)، وغادر المكان في سرعة، ولم يكد يفعل، حتى قلب سير (وينسلوت) شفتيه، مغمغماً:
- يا للغباء!.. لماذا يرفض العباقرة دوماً، العمل في مجالات الأمن والحراسة؟!
نفث دخان سيجاره في عمق، وهو يراجع تفاصيل الموقف في ذهنه، و…
وفجأة، ارتفع رنين هاتفه الخاص..
الخاص جداً..
وفي دهشة قلقة، التفت سير (وينسلوت) إلى هاتفه الخاص، وهو يتمتم:
- عجباً!.. المفترض أن هذا الهاتف سرى للغاية.
كان الهاتف خاصاً وسرياً بالفعل، حتى أنه لم يكن مسجلاً باسم سير (وينسلوت)، أو يحمل الأرقام المعتادة للمنطقة، لذا فقد شعر زعيم منظمة (هيل آرت) بقلق وتوتر حقيقيين، وهو يلتقط سماعته في حذر، ويضعها على أذنه، قائلاً، وهو يبذل قصارى جهده؛ لتغيير صوته الطبيعي:
- من المتحدث؟!
فوجئ بصوت هادى من الجانب الآخر، يجيب في لهجة حملت لمحة من الخبث:
- سير (وينسلوت).. دولتي كلفتني الاتصال بك فوراً؛ للتفاوض بشأن ما لديك؟!
انعقد حاجبا سير (وينسلوت) بشدة، وهو يقول بحذر أكثر:
- دولتك؟!
أجابه صاحب الصوت الهادئ الخبيث في سرعة:
- نعم.. دولتي.. (إسرائيل) يا سير (وينسلوت).
صمت سير (وينسلوت) لحظة، قبل أن يقول بصوت هادئ، أخفى تماماً ذلك القلق، الذي يعتمل في أعماقه:
- آه.. الآن فقط فهمت، لماذا استخدمتم هذا الرقم الخاص، بدلاً من الاتصال عبر هاتفي التقليدي.. إنها رسالة من جهاز مخابراتكم.. أليس كذلك؟!
أجابه صاحب الصوت الهادئ، في خبث أكثر:
- لو أنها رسالة، فهي دليل على الصداقة القوية، والتعاون المثمر، بين دولتنا ومنظمتك.
كاد سير (وينسلوت) يجيبه بعبارة قاسية صارمة، إلا أنه صمت لحظة، ثم قال ببروده الإنجليزي الشهير:
- بالتأكيد.
التقط صاحب الصوت الخيط، وقال في احترام مدروس:
- كل ما أطلبه هو موعد للقاء؛ لنناقش طلباتك واقتراحاتك، بشأن الصفقة التي سنعقدها معاً، يا سير (وينسلوت).
صمت سير (وينسلوت) بضع لحظات أخرى، نفث خلالها دخان سيجاره في بطء، قبل أن يقول:
- إنك تتحدث من (لندن) يا سيد…
أجابه الرجل في سرعة :
- (جراهام) يا سير (وينسلوت).. (دافيد جراهام).
سأله سير (وينسلوت) في صرامة:
- وكيف وصلت بهذه السرعة يا سيد (جراهام)، من (تل أبيب) إلى (لندن)؟!
أجابه (جراهام) في احترام مفتعل:
- لم آت من الوطن يا سير (وينسلوت).. من الواضح أن ما لديك يهم رؤسائي جداً، فقد أجروا اتصالاً مباشراً معي من (تل أبيب)، وطلبوا من التوجه من (باريس) إلى هنا، لألتقي بك مباشرة، في أسرع وقت ممكن، كما منحوني كل الصلاحيات اللازمة للتفاوض، وإتمام الصفقة على نحو مرض.
مط (وينسلوت) شفتيه، وقال:
- فليكن.. يمكننا أن نلتقي خلال ساعة واحدة.
قال (جراهام) في سرعة:
- وماذا عن الآن؟!
انعقد حاجبا سير (وينسلوت)، وهو يقول مستنكراً:
- الآن؟!
أجابه (جراهام) بنفس السرعة، وكأنما يحاول ألا يمنحه فرصة للتفكير:
- ولم لا يا سير (وينسلوت)؟!.. الصفقات الضخمة تحتاج إلى عدم إضاعة لحظة واحدة، ثم أننى أتحدث إليك من هاتف سيارة، أقودها في الطريق إلى قصرك مباشرة، وسأصل إليه خلال خمس دقائق لا أكثر.
ازداد انعقاد حاجبي سير (وينسلوت)، وهو يقول في صرامة:
- أسلوبكم هذا لا يروق لي.
__________________
أجاب (جراهام)، بسرعته المعهودة:
- وربما لا يروق لنا أسلوبك أيضاً يا سير (وينسلوت)، ولكن هذا لا يهم… المهم أن نتفق في النهاية، على أسلوب يرضينا معاً.
نفث سير (وينسلوت) دخان سيجاره، وهو يقول في بطء حذر:
- ولم؟!.. إنها مجرد صفقة!
خيل إليه أن أسلاك الهاتف قد نقلت إليه ابتسامة (جراهام) الساخرة، والتي لم تبد في لهجة ذلك الأخير، وهو يقول:
- لو أن الأمر مجرد صفقة، لأعلنت رقماً بكل بساطة، قبل أن تطلب مقابلة مفاوض أعلى شأناً… كلا يا سير (وينسلوت).. الواقع أنك تنشد نفس ما ننشده، من خلال اتصالنا بك..
وقسا صوته، على نحو مخيف، وهو يضيف:
- أن نغير معاً وجه العالم.. وإلى الأبد.
ولم ينبس سير (وينسلوت) ببنت شفة..
فالواقع أن (جراهام) هذا كان على حق..
على حق تماماً..
لم تكد سيارة فريق (بيتون) تتوقف، أمام مستشفى (لندن كلينيك) الشهير، في قلب العاصمة البريطانية، حتى غادرها هذا الأخير، في معطفه الأنيق، وتبعه اثنان من رجاله إلى داخل المكان، وهو يسأل أحدهما في صرامة:
- أأنت واثق من أن حجرته في الطابق الثاني؟!
أجابه الرجل، في سرعة وحزم:
- رقمها (تسعة - بي) أيها القائد، والأطباء يستعدون لإجراء جراحة طوارئ له الآن، أما الشرطة، فقد راق المبلغ الذي دفعناه لرئيسها، وقرر ألا يبدأ تحقيقاته، إلا صباح الغد، عندما يستعيد المصاب المصري وعيه، عقب العملية الجراحية.
تساءل (بيتون)، وهو يتجه نحو المصعد:
- وماذا عن طاقم أمن السفارة المصرية؟!.. هل يقوم بعضهم بحراسته هنا؟!
أجاب الرجل الآخر:
- رئيس الشرطة منعهم من هذا أيضاً، وأخبرهم أن صلاحياتهم تنتهي عند باب سفارتهم، وفقاً للقوانين والقواعد الدولية*، وأنه سيؤمن الحراسة اللازمة لرجلهم المصاب.
غمغم (بيتون)، والمصعد يحملهم إلى الطابق الثاني:
- عظيم.
--------------------------------------------------------------------------------
* معلومة صحيحة.
************************************************
لم يتبادلوا كلمة واحدة إضافية، حتى بلغ بهم المصعد الطابق الثاني، فاتجهوا مباشرة نحو الحجرة المنشودة، والتي اختفى الشرطي الذي يقوم على حراستها بوسيلة ما، وترك خلفه مقعداً خالياً، واستوقف (بيتون) ممرضة تهم بدخولها، وهو يقول في صرامة:
- فيما بعد… نريد أن نستجوب المصاب أولاً.
حاولت الممرضة أن تعترض، قائلة:
- ولكن الأطباء المعالجين أكدوا أن…
قاطعها أحد الرجلين، وهو يقول في خشونة قاسية:
- قلنا: فيما بعد.
تراجعت الممرضة في توتر غاضب، في حين أشار (بيتون) إلى أحد الرجلين، قائلاً:
- ابق هنا؛ لمنع أي مخلوق من الدخول، حتى نتم المهمة، ونرحل جميعاً من هنا بسرعة.
شد الرجل قامته، وهو يقف أمام الباب في صرامة، في حين سحب (بيتون) والآخر مسدسيهما في تحفز، وهما يخفياهما بجسديهما عن العاملين بالمكان، ودفع (بيتون) باب الحجرة بقدمه، واندفع مع الرجل الآخر داخلها، وأطلق كلاهما عدة رصاصات صامتة، نحو رأس وجسد ذلك الشخص، الراقد على الفراش الطبي في منتصفها، والمحاط بعدد من أجهزة العناية الفائقة..
كان تصويبهما دقيقاً وصائباً، شأن أي محترف في هذا المضمار، إلا أن صوت ارتطام الرصاصات بدا عجيباً في أذنيهما، وأشبه بصوت ارتطامها بلوح من الخش
"الفصل الأول "الحصار
سرت ارتجاجة قوية، في أدغال (البرازيل)، على نحو أفزع حيواناتها العديدة، فانطلقت مجموعة ممتزجة من الصيحات الوحشية، وكائنات الأدغال كلها، على اختلاف أنواعها، تعدو مذعورة، محاولة الابتعاد عن ذلك البركان القديم، الذي يتوسَّط الأدغال، ويكاد يختفي تحت كم هائل من الأعشاب والأشجار، التي نبتت من تربته الخصبة، المشبعة بالمعادن* .
كان قد ظلّ خاملاً، منذ آلاف السنين، يغوص في بحر من الصمت والسكون، بعد ثورته الأخيرة، التي أمنت المنطقة أو كادت، قبل عشرات القرون، التي لا يعلم عددها إلا الله (سبحانه وتعالى)..
ثم فجأة، ودون سبب علمي واضح، استعاد نشاطه..
فمع تلك الارتجاجة القوية، التي انتشرت بسرعة مخيفة، في الأدغال المحيطة به، تصاعدت من فوهته أدخنة داكنة كثيفة، تنذر بكونه يستعد لثورة جديدة، يطلق خلالها حممه الملتهبة، من فوهته الواسعة، ليفرق كل ما حوله، فى بحر من اللهب.
بحر أشبه بالجحيم..
الجحيم الأرضي..
ومن بعيد، وفى عكس اتجاه فرار حيوانات الأدغال، انطلقت سيارة (جيب) قوية، تشق طريقها وسط الأحراش المتشابكة، حتى توقَّفت عند منطقة شديدة الوعورة، ليقول قائدها في عصبية:
- لا يمكننا أن نتقدَّم أكثر.. كان ينبغي أن تستمعا لنصيحتي، وأن تستخدما الهليوكوبتر؛ للوصول إلى ذلك المكان، وليس السيارة، فالمنطقة..
قاطعه أحد الرجلين، المرافقين له، وهو يلتقط منظاراً مقرِّباً، وينهض دافعاً جسده عبر فتحة السقف، قائلاً في صرامة:
-ليس هذا من شأنك يا رجل
وضع المنظار المقرِّب على عينيه، وتطلَّع فى قلق إلى الأدخنة السوداء الكثيفة، التى تصاعدت من فوهة البركان أكثر وأكثر
فى حين سأله زميله، بلغة لم يفهم سائق (الجيب) حرفاً واحداً منها:
- الوضع ينذر بالخطر.. أليس كذلك؟!
مطَّ الأوَّل شفتيه، وزفر في توتر ملحوظ، قبل أن يقول، بنفس اللغة:
- أكثر مما تتصوَّر.
هزَّ زميله رأسه، وتراجع في مقعده، مغمغماً:
- أراهن أن علماء الجيولوجيا سيحارون كثيراً، وهم يبحثون عن أسباب استعادة هذا البركان الخامل لنشاطه بغتة، دون أية مقدمات!
هتف السائق بنفاد صبر عصبي:
- ماذا تقولان بالضبط؟!.. لست أفهم حرفاً واحداً، وهذا يضاعف من عصبيتي؛ فالموقف أصعب من أن يُحتمل بالفعل.
أجابه الأوَّل في خشونة:
- ما نقوله ليس من شأنك يا رجل، ولست تتقاضى ذلك الأجر الباهظ، لتستمتع بما نقول.
مطَّ السائق شفتيه، وهمهم بكلمات ساخطة، قبل أن يشيح بوجهه معلناً غضبه، وعصبيته تتضاعف وتتضاعف، مع رائحة الغازات البركانية، التي بدأت تنتشر بالفعل..
أما الرجل الثاني، فقد نهض بدوره، والتقط المنظار المقرَّب من زميله، وهو يتساءل:
- هل انقطعت الاتصالات تماماً، مع تلك القاعدة السرية الرهيبة؟! أومأ الأوَّل برأسه إيجاباً، وتمتم:
- أراهنك أنه المسئول عن هذا.
وافقه الثاني بإيماءة من رأسه، قائلاً:
- ليست لدى ذرة من الشك في هذا.
ثم التفت إليه، مستطرداً، في حزم يمتزج بالكثير من التوتر والقلق:
- (أدهم) لا يمكن أن يواجه أمراً كهذا، دون أن يترك بصمته عليه كالمعتاد.
تنهَّد الأوَّل، وتطلع في قلق زائد إلى البركان، الذي راحت سحب الدخان المتصاعدة منه تتكاثف أكثر وأكثر، وهو يقول:
- الأمر هذه المرة يختلف، فهو خطير للغاية.. خطير أكثر مما كنا نتصور.
وصمت لحظة، قبل أن يضيف في شيء من العصبية:
- وربما أخطر من كل ما مر به (أدهم) نفسه في حياته كلها.
تطلَّع الثاني إلى الأدخنة الكثيفة بدوره، ثم هز كتفيه، قائلاً:
ـ لن يدهشني هذا في الواقع؛ فتلك المنظمة، التي يواجهها (أدهم) بمفرده، حتى هذه اللحظة تعد أخطر وأقوى منظمة جاسوسية إجرامية، عرفها التاريخ الحديث.. إنها تمتلك من القوة والتكنولوجيا، ما يفوق بألف مرة كل ما واجهناه من قبل، وكل ما واجهه هو نفسه من أجهزة مخابرات عالمية، أو منظمات تجسس قوية. وافقه الأوَّل بإيماءة من رأسه، وقال :
ـ اختيار وكرهم وحده، يشف عن مدى خطورتهم وبأسهم، ومقدار ما يتمتعون به من تكنولوجيا متطورة، وإمكانيات لا حدود لها.
ثم هزَّ رأسه، وهو يضيف متوترا ً:
- من يصدق اختيارهم لوكر كهذا، وتزويده بأحدث الأجهزة، والمعدات، وأسلحة الدفاع والهجوم، دون أن يشعر بهم أحد.أشار الثاني بيده، قائلاً:
- بل ومن يصدِّق أن (أدهم) قد كشف أمرهم، ويواجههم وحده الآن، داخل مقرهم المنيع.. وصمت لحظة، قبل أن يضيف، في لهجة جمعت بين الصرامة، والحزم، ومقدار لا محدود من التوتر:
- تحت هذا البركان الثائر. وتنهد مستطرداً:
- والذي يمكن أن ينفجر في أية لحظة.ولم ينطق الأوَّل ببنت شفة، وهو يستعيد منظاره المقرِّب، ويعاود التطلُّع إلى البركان..
ولكن حاجباه انعقدا في شدة..
فعلى الرغم من غرابة الأمر وخطورته، كان يعلم أن (أدهم صبري) هناك الآن بالفعل..
تحت ذلك البركان الثائر..
وأنه يواجه، في تلك اللحظة بالذات، أكبر خطر عرفه، في حياته كلها..
على الإطلاق..
[]*************************************************
________________________________________
"..الفصل الثاني "البـدايــة
"لست أصدق هذا أبداً.."..
هتفت (منى توفيق) بالعبارة، بكل دهشة الدنيا، وهى تتراجع في مقعدها، أمام (قدري)، خبير التزييف والتزوير، في الإدارة، والذي ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة مستمتعة، وهو يقول:
- ما الذي لا تصدقينه بالضبط يا عزيزتي (منى)؟!
لوحت (منى) بكفيها، هاتفة :
- أن (أدهم) قد فعل كل هذا؟!..
اعتدل، يسألها في اهتمام مشوب بالدهشة:
- ولم لا؟!..
هزت كتفيها، وهى تتراجع في مقعدها، وكأنها لا تجد جواباً منطقياً، ثم لم تلبث أن قالت، في شيء من العصبية:
- إنني أعمل إلى جوار (أدهم)، منذ فترة طويلة، وعاصرت معه عشرات العمليات الشرسة العنيفة، ولست أتصور أنه كان لديه المزيد.
أطلق (قدري) ضحكة عالية مجلجلة، ارتج معها جسده الضخم، قبل أن يقول بابتسامة كبيرة:
- عزيزتي (منى).. لقد بدأ (أدهم) عمله في المخابرات، وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وأنت التقيت به، قبل أن يتم عامه الخامس والثلاثين بقليل، فماذا فعل في رأيك، طوال دستة من الأعوام، قضاها كضابط مخابرات نشط .
هزت كتفيها مرة أخرى، وبدت مرتبكة إلى حد ما، وهى تقول:
- كنت أتصور أنك قد رويت لي كل ما فعله قديماً، عبر تلك الملفات السرية، التي منحوك تصريحاً بمطالعتها.
مال نحوها، وتراقصت ضحكة عابثة في عينيه، وهو يقول:
- ليس كل ما فعله.
وعاد يتراجع في مقعده بحركة سريعة، وكأنما يرهقه الانحناء، فوق كرشه الضخم، قبل أن يتابع:
- لقد فوجئت بأن لدينا هنا كنز ضخم، من ملفات عمليات (أدهم) القديمة، منذ كان شاباً صغيراً، وحتى التقى بك، في أولى عملياتكم المشتركة*.
بدا عليها اهتمام شديد، وهى تسأله:
- وكم يبلغ حجم هذا الكنز تقريباً؟!
مط شفتيه، قائلاً:
- ليست لدى أرقاماً واضحة، ولكنني، عندما حصلت على هذا الملف، أمكنني أن أحصى أكثر من عشرين ملفاً آخر إلى جواره، وكلها تحمل الكود الشفري الخاص بعزيزنا (أدهم)..
والتقط نفساً عميقاً، قبل أن يضيف في زهو، وكأنما يتحدث عن نفسه:
- (ن -1) .
تراجعت في مقعدها مرة أخرى، وهى تغمغم :
- إنني لا أخاطبه به أبداً.
هز رأسه، قائلاً :
- ولا أنا..
ثم أشار بسبابته، مضيفاً في حزم :
- ولكنه يحمله، على أية حال..
وصمت لحظة، ثم أكمل، وهو يغمز بعينه، ويربت على الملف الذي يحمله:
- ومنذ هذه العملية.
تألقت عيناها في لهفة، وهى تهتف:
- وكيف هذا؟!
--------------------------------------------------------------------------------
ابتسم ابتسامة كبيرة، وكأنما يسعده ما تركه فيها من تأثير، ولوح بيده، قائلاً:
- الأمور لم تبدأ على النحو نفسه، الذي قرأت لك جزءاً منه، ففي البداية، لم تكن المهمة تتعلق بمنظمة (هيل آرت) هذه.. بل ولم تكن هناك مهمة رسمية على الإطلاق.
كررت في انبهار :
- حقاً؟!..
ثم هزت رأسها، وكأنها تطرح عن نفسها انبهارها، وتابعت في اهتمام متوتر:
- ولكن لماذا سافر (أدهم) إلى (البرازيل)، ما دام لم يكن يعمل في مهمة رسمية؟!
ابتسم (قدري)، وقال بلهجة خاصة، وكأنما يتعمد إثارة مشاعرها وانفعالاتها :
ـ إنه لم يذهب إلى (البرازيل) بإرادته.
اتسعت عيناها أكثر، وحدقت في وجهه بضع لحظات، قبل أن ينعقد حاجباها وتعتدل في مقعدها، قائلة في حزم:
ـ (قدري).. لست أميل إلى هذا الأسلوب.
أطلق ضحكة مجلجلة، قائلاً :
ـ ولكنني أعشقه.
أمسكت يده في قوة، وهى تقول:
ـ في هذه المرة، سنعمل بأسلوبي أنا، وستروى لي تفاصيل هذه العملية، منذ البداية.
تراقصت ضحكة أخرى في عينيه، وهو يقول :
- فليكن.. سأروى لك كل شيء .
تركت يده، واسترخت في مقعدها، محاولة التغلب على انفعالها ولهفتها، في حين تنحنح هو، والتقط الملف، و..
وبدأ يروى..
أزاح مدير المخابرات المصرية منظار القراءة عن عينيه، وهو يرفع رأسه إلى ضابطه (أدهم)، الذي وقف أمامه مشدود القامة، في اعتداد معتدل، قائلاً بلهجة قوية واثقة:
- (أدهم صبري) في خدمتك يا سيدي !
أشار إليه مدير المخابرات، قائلاً :
- استرخ أيها الرائد.. إنه أمر شخصي هذه المرة.
أدهشت العبارة الأخيرة (أدهم)، ولم تساعده إطلاقاً على الاسترخاء، وإنما ضاعفت من توتر عضلاته، وهو يشد قامته أكثر، متسائلاً في حذر زائد:
- شخصي؟!.. كنت أتصور أنه لا وجود للأمور الشخصية، في عالمنا السري هذا يا سيدي .
ابتسم مدير المخابرات، وهو يقول :
- هذا صحيح أيها الرائد.. لا وجود للأمور الشخصية في عالمنا هذا، ولكن الأمر لا يتعلق بعملنا هذه المرة.
ثم أشار إليه، مستطرداً في حزم :
- بل بك أنت.
غمغم (أدهم) في دهشة، امتزجت بالكثير من الحذر :
- أنا؟!
نهض مدير المخابرات من خلف مكتبه، واتجه نحوه، وربت على كتفه في حرارة، وهو يقول:
- نعم.. أنت أيها الرائد.. أو بوالدك، لو شئنا الدقة.
أطلت حيرة واضحة من عيني (أدهم)، وإن حجبتها ملامحه القوية عن وجهه، فابتسم مدير المخابرات، وأكمل حديثه، وهو يعود إلى مكتبه:
- فغداً، تأتى ذكرى والدك (رحمه الله)، الذي اغتاله الإسرائيليون، أثناء عمله الدبلوماسي في (لندن)، ومن أجل هذه المناسبة، قرر بعض الزملاء في سفارتنا، في العاصمة البريطانية، إقامة حفل تأبين لذكراه، وكان من المحتم أن تتم دعوتك، أنت وشقيقك الدكتور (أحمد)، إلى ذلك الحفل.
تمتم (أدهم)، وقد استوعب الموقف :
- آه.. فهمت.
ناوله المدير جواز سفره، وهو يقول :
- إحدى شركات السياحة التابعة لنا، أنهت إجراءات تأشيرة السفر من أجلك، ووفقاً لمعلوماتي عنك، فحقيبتك معدة دوماً لأي سفر مفاجئ.
غمغم (أدهم) بابتسامة هادئة :
- هذا صحيح يا سيدي.
تراجع المدير في مقعده، واتسعت ابتسامته، وهو يقول:
- طائرتك ستقلع بعد ثلاث ساعات تقريباً أيها الرائد.. أرجو لك سفراً هادئاً.
شد (أدهم) قامته، قائلاً :
- أشكرك يا سيدي.. أشكرك كثيراً.
واستدار ليغادر المكان، في خطوات سريعة قوية، فاستوقفه مدير المخابرات، قبل أن يغادر الحجرة، وهو يقول:
- (أدهم).
كانت المرة الأولى، التي يخاطبه فيها مدير المخابرات باسمه مجرّداً ، فاستدار إليه في احترام ممتزج ببعض الدهشة، ولكن ابتسامة المدير استقبلته، وهو يكمل في مودة أبوية خالصة:
- هناك أمر ينبغي أن تتذكره، في هذه الرحلة بالذات.
ثم مال إلى الأمام، مضيفاً بابتسامة أكبر :
- إنها ليست رحلة عمل، أو مهمة خاصة.. تذكر هذا جيداً.
شد (أدهم) قامته، ولاذ بالصمت بضع لحظات، ثم قال في حزم :
- سأحاول يا سيدي.. سأحاول.
وكان هذا كل ما يملكه في الواقع.
أن يحاول..
استرخى رجل (الموساد) المخضرم (إيتان مائير)، في مقعده الواسع الكبير، داخل السفارة الإسرائيلية في (لندن)، وتطلع بعينين خاملتين، نصف مغمضتين، إلى سير (وينسلوت)، عضو مجلس العموم البريطاني الشهير، وهو يقول في بطء:
- مبادرة جريئة منك بالفعل يا سير (وينسلوت)، أن تزورني هنا في مكتبي!.. ألم تخش أن يرصدك أحد الصحفيين، وأنت تدخل إلى السفارة الإسرائيلية.
ابتسم سير (وينسلوت) ابتسامة ساخرة باردة، وهو يتخذ مقعداً وثيراً، داخل حجرة (إيتان) الواسعة، وقال بصوته الثلجي المستفز، وهو يرمقه بنظرة متعالية:
- أمثالي لا يرتكبون أخطاءً تافهة يا عزيزي (إيتان)، فكل شيء في حياتي محسوب بدقة… بمنتهى الدقة.
قال (إيتان)، في خمول عجيب :
- حقاً ؟!..
أجابه سير (وينسلوت) في سرعة :
- نعم.. حقاً يا (إيتان).
ثم التقط من جيب سترته سيجاراً كوبياً فاخراً، أشعله بقداحته الذهبية في هدوء، قبل أن يتابع ببروده الثلجي المستفز:
- أنا عضو مجلس عموم محترم، ورجل أعمال شهير، ورثت عن والدي لقب (سير)، مما يمنحني مكانة خاصة رفيعة في المجتمع، وأمثالي لا يرتكبون أخطاءً تؤخذ عليهم، أو يلتقطها صحفي سخيف؛ ليصنع منها خبر الموسم، في الصفحات الأولى لصحف الفضائح.
ونفث دخان السيجار في بطء، ثم تابع :
- ولو أنك تتابع أخبار مجلس العموم؛ لعلمت أنني قد أصبحت رئيس لجنة العلاقات الخارجية، وأنه من صميم عملي، أن أعمل على توطيد العلاقات الديبلوماسية، بين (بريطانيا) العظمى، وجميع الدول الأخرى.
ورفع حاجبيه، في تعالى واضح، وهو يضيف :
- ومن بينها (إسرائيل).
ظلت ملامح (إيتان) خاملة بليدة، وهو يكرر، في لهجة حملت نبرة ساخرة واضحة:
- (بريطانيا) العظمى!..
نفث سير (وينسلوت) دخان سيجاره في بطء، دون أن تحمل ملامحه أية انفعالات، وإن أطلت من عينيه نظرة مقت واضحة، وهو يقول في بطء:
- نعم.. (بريطانيا) العظمى يا (إيتان).. (بريطانيا) التي منحتكم وعدها الشهير*، الذي منحكم بدوره الحق في استيطان واحتلال (فلسطين)**..
وضاقت عيناه، وهو يضيف في صرامة :
- أم أنكم قد نسيتم هذا ؟!
ابتسم (إيتان) ابتسامة ساخرة خاملة، وهو يقول :
- نحن دولة صغيرة يا سير (وينسلوت)، وذاكرتنا لا يمكن أن تحتمل ما تحتمله ذاكرة دولة (عظمى) مثلكم.
نطق كلمته قبل الأخيرة في سخرية واضحة، ابتسم لها سير (وينسلوت) في برود، ونفث دخان سيجاره في بطء، قائلاً:
- هذا أمر طبيعي أيها الإسرائيلي.. أمر طبيعي للغاية.
ثم مال إلى الأمام، مستطرداً في صرامة قاسية :
- وما ينبغي أن تدركه الآن، وأن يدركه رؤسائك في (تل أبيب)، هو أنكم إن لم تستمعوا إلىَّ جيداً، فسيصغر شأن دولتكم أكثر، على نحو لا يمكن تصوره أو تخيله، حتى في أبشع كوابيسكم.
قالها، ثم نهض في حزم، فاعتدل (إيتان) على مقعده، وزال خموله مع بلادته الزائفة دفعة واحدة، وهو يقول فى شيء من الشراسة:
- ما الذي يعنيه هذا بالضبط يا سير (وينسلوت)؟!
قال سير (وينسلوت) في برود، وهو يواصل نفث دخان سيجاره الكوبي الفاخر:
- ما يعنيه هو بالضبط ما أتيت لأخبرك به يا..
صمت لحظة، ثم مال نحوه، قبل أن يضيف في قسوة صارمة:
- يا رجل الموساد.
--------------------------------------------------------------------------------
* آرثر جيمس بلفور (1848 - 1930م) :سياسي بريطاني، شغل عدة مناصب سياسية في بلاده، قبل أن يصبح رئيساً للوزراء (1902 - 1905م)، وبعدها أصبح وزيراً للبحرية (1915 - 1916م)، ثم وزيراً للخارجية (1916 - 1922م)، وخلال صفته هذه، أصدر تصريحه الشهير، المعروف باسم وعد (بلفور) (2 نوفمبر 1917م)، والذي يعلن فيه تعهد (بريطانيا) بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى..
* * فلسطين: دولة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، اسمها في التوراة بلاد (كنعان)، ويعتبرها الإسرائيليون أرضاً مقدسة لهم، بعد أن غزاها يشوع، الذي خلف (موسى) في قيادة اليهود، في الأزمنة القديمة.
رمقه (إيتان) بنظرة قاسية، من خلف جفنيه نصف المغلقين، ثم قال في شيء من التحدي:
- وما الذي أتيت لتخبرني به بالضبط أيها البريطاني؟!.. هل ترغب في رفع قيمة المكافأة، التي تتقاضها منا، مقابل تعاونك معنا؟!
قال سير (وينسلوت) في سخرية:
- مكافأة؟!.. لو راجعت رؤساءك، لأدركت أنني لم أتقاضى منكم بنساً واحداً، منذ منحتكم تلك المعلومات العسكرية يا هذا.. لقد كانت هدية.. مجرد هدية؛ لتحديد ما يمكنني أن أمنحكم إياه.
قال (إيتان)، في استهتار متعمد:
- لم أكن أعتقد أنه توجد هدايا من هذا النوع، في عالمنا الخاص أيها البريطاني.
نفث سير (وينسلوت) دخان سيجاره الفخم، نحوه مباشرة، قبل أن يقول في برود:
- (وينسلوت) أيها الإسرائيلي.. سير (وينسلوت)… مسئول العلاقات الخارجية، في مجلس العموم البريطاني، و…
مال نحوه مرة أخرى، ثم تابع في صرامة:
- والزعيم الفعلي، لمنظمة (هيل آرت).
انتفض جسد (إيتان) في عنف، واتسعت عيناه عن آخرهما، وهبَّ من مقعده بحركة حادة عنيفة، هاتفاً:
- أنت؟!..
وهنا فقط، تخلى سير (وينسلوت) عن وقاره وبروده، وانطلقت من أعمق أعماقه ضحكة قوية، واثقة، مجلجلة، قبل أن ينفث دخان سيجاره، ويقول :
- مفاجأة قوية.. أليس كذلك ؟!
ظل (إيتان) يحدق في وجهه لبضع لحظات أخرى، في ذهول بالغ، قبل أن يتراجع، ويجلس في مقعده، قائلاً:
- إذن فهو أنت.
ومع ابتسامة سير (وينسلوت) الباردة، هز الإسرائيلي رأسه في قوة، مستطرداً:
- من يصدق هذا؟!
أطلق سير (وينسلوت) ضحكة قصيرة، ونفث دخان سيجاره مرة أخرى، وهو يقول:
- ومن يمكن أن يدين نفسه بتهمة كهذه، بعد أن ضربت منظمة (هيل آرت) ضربتها الكبرى، واستولت على تلك الوثائق النووية الأمريكية.
تألقت عينا (إيتان)، وهو يقول :
- لو أنك هنا، للسبب الذي يدور في ذهني يا سير (وينسلوت)، فأنا واثق من أن دولتي مستعدة لدفع أي مبلغ تطلبه، مقابل تلك الوثائق.
رفع سير (وينسلوت) حاجبيه بدهشة مصطنعة، وهو يقول :
- عجباً!.. كنت أتصور أن دولتكم هي الابن غير الشرعي للأمريكيين، وأن التعاون بينها وبينهم كاملاً.
تجاهل (إيتان) العبارة تماماً، وهو يقول في لهفة:
- كم تطلب؛ ثمناً لتلك الوثائق يا سير (وينسلوت)؟!
عاد سير (وينسلوت) إلى مقعده، ووضع إحدى ساقيه فوق الأخرى، ولوح بيده الممسكة بالسيجار، في حركة مسرحية أنيقة، وقال:
- هل تعتقد أن بإمكانكم دفع ثمنها؟!
أجابه (إيتان) في عصبية :
- قلت لك : إن دولتي مستعدة لدفع أي ثمن تطلبه، في مقابل تلك الوثائق.
مط سير (وينسلوت) شفتيه، وقال في خبث:
- أيعنى هذا أنك مفوض منها، لإتمام هذه الصفقة؟!
انعقد حاجبا (إيتان) في شدة، وتراجع في مقعده بحركة حادة، دون أن ينبس ببنت شفة، فنهض سير (وينسلوت) مرة أخرى، وقال وهو يلتقط معطفه:
- هذا ما توقعته.
هبّ (إيتان) من مقعده في عصبية، هاتفاً :
- رويدك يا سير (وينسلوت).. إننا نريد حقاً هذه الصفقة، ولن نتنازل عنها قط.
ارتدى سير (وينسلوت) معطفه في هدوء، وهو يقول:
- يمكنكم إذن دخول المزاد، يا عزيزي (إيتان).
اعتدل (إيتان)، وهو يقول، في صرامة شديدة :
- لا مزادات يا سير (وينسلوت).. إننا نريد هذه الصفقة حقاً.. وبأي ثمن.
أجابه سير (وينسلوت)، وهو يتجه إلى الباب، ودون أن يلتفت إليه :
- اتصل برؤسائك في (تل أبيب) إذن.
وفتح باب الحجرة، ثم توقف لحظة، قبل أن يستدير إليه، قائلاً بغطرسة شامتة متعالية :
- أريد مفاوضاً أعلى شأنا.
قالها، وغادر المكان، وهو يضحك..
ويضحك..
ويضحك..
ولم يدرك (إيتان)، الذي احتقن وجهه بشدة لحظتها، أن تلك الضحكات الساخرة الشامتة الظافرة، كانت المفتاح الفعلي..
المفتاح الحقيقي لكل الأبواب..
أبواب الجحيم.
******************************************
الفصل الثالث "لـنـدن
التقط (أدهم) نفساً عميقاً، من هواء (لندن) البارد، المشبع بدرجة عالية من الرطوبة، وضم ياقتي معطفه في قوة، وهو يغادر مطار (هيثرو)، وارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة، عندما استقبله زميله (حازم)، قائلاً في حرارة وترحاب:
- مرحباً بك في (لندن) يا صديقي.. لقد مضت فترة طويلة، منذ التقينا لآخر مرة.
صافحه (أدهم) في حرارة، وهو يقول:
- ثلاث سنوات تقريباً.. منذ عملية الصاروخ السوفيتى.
أطلق (حازم) ضحكة قصيرة، وهو يقول:
- بالضبط.
اصطحبه إلى سيارة بريطانية الصنع، وهو يربت على ظهره في حرارة، قائلاً:
- كانت عملية، لا يمكن أن تنسى.
استقل كلاهما السيارة، التي انطلق بها (حازم)، في شوارع (لندن)، و(أدهم) يسأله:
- هل انتهت فترة تدريبك هنا؟!
صمت (حازم) بضع لحظات، ثم قال في اقتضاب:
- إنه ليس تدريباً.
لم يشعر (أدهم) بالدهشة مع قوله..
بل ولم يحاول حتى أن يسأله عما يعنيه..
فكرجل مخابرات محترف، كان يدرك جيداً ما يعنيه قول زميله هذا..
إنه في مهمة..
مهمة على درجة عالية من السرية..
ووفقاً لنظم ومعايير العمل في المخابرات، كان من الضروري أن يكتم (حازم) السر..
حتى عن أقرب وأخلص أصدقائه وزملائه..
ومن الضروري أيضاً ألا يسأله هو عما يخفيه..
هذا لأن المعرفة، في عالم المخابرات، على قدر الحاجة..
فقط..
وفى محاولة لتفادى الحديث، حول مهمة (حازم) السرية، تساءل (أدهم) :
- هل سيقيمون احتفالهم الليلة؟!
أومأ (حازم) برأسه إيجاباً، وقال:
- نعم.. في التاسعة مساءً، بتوقيت (جرينتش)*.
ورمقه بنظرة جانبية، متسائلاً :
- ولكن هذا لا يروق لك.. أليس كذلك؟!
هز (أدهم) رأسه، قائلاً :
- لم يرق لي أبداً الاحتفال بذكرى مصرع والدي؛ فهذا يعيد إلى ذهني المرارة نفسها، التي شعرت وشقيقي (أحمد) بها، عندما تم اغتياله هنا في (لندن).
سأله (حازم) في تعاطف :
- أهذا سر كراهيتك الشديدة للإسرائيليين؟!
تنهد (أدهم)، مجيباً :
- ألا يكفى ما يفعلونه في (فلسطين) سبباً يا رجل؟!
لم يجب (حازم) تساؤله، وإنما رمقه بنظرة جانبية أخرى، لاذ بعدها بالصمت التام، الذي شاركه فيه (أدهم) بضع لحظات، قبل أن يتابع:
- من القواعد الأولى، التي لقننا إياها والدي (رحمه الله)، ألا نمزج مشاعرنا الشخصية بعملنا، ولقد أخبرني دوماً أن رجل المخابرات الناجح، لا ينتمي إلا لوطنه وحده.. ليس إلى المال، أو المرأة، أو حتى مشاعره الخاصة.
--------------------------------------------------------------------------------
* جرينتش:ضاحية من ضواحي العاصمة البريطانية (لندن)، على نهر (التايمز)، تقع فيها الكلية الملكية البحرية، والمعرض الملكي، ويعتبر أحد تلال (جرينتش بارك)، والذي اختباره سير (كريستوفر رن)، هو خط الزوال، بالنسبة للطول الجغرافي.
************************************************** ******************
أومأ (حازم) برأسه، قائلاً :
- والدك (رحمه الله) كان رجلاً عظيماً.
وصمت لحظة، ثم أضاف :
- وأنجب ابنين عظيمين أيضاً.
ابتسم (أدهم) دون أن يجيب، وحاول الاسترخاء في مقعده، و(حازم) يسأله في اهتمام:
- ما دام الاحتفال بذكرى والدك لا يروقك، لماذا قطعت كل هذه المسافة، من (القاهرة) إلى (لندن).
هز (أدهم) كتفيه، قائلاً :
- لم يكن من الممكن أن أحبط الجميع، برفض الحضور إلى هنا، ومشاركتهم في احتفال، بذلوا الكثير من الجهد لإقامته… وأظن أن هذا نفس ما فعله أخي (أحمد) أيضاً ، الذي يقطع المسافة الآن ، من (ستوكهولم) إلى هنا ، ولن يمكنك أن تتصوّر كم أشتاق لرؤيته .
ابتسم (حازم)، قائلاً :
- ألم أقل لك : إنكما عظيمان بحق؟!
غمغم (أدهم)، وهو يشيح بوجهه :
- العظمة لله وحده يا صديقي.
هم (حازم) بقول شيء ما، وهو ينحرف بالسيارة في نهاية الطريق، لبلوغ مبنى السفارة المصرية، و…
وفجأة، ضغطت قدمه دواسة الفرامل بكل قوته، وهو يهتف:
- يا إلهي !
أدار (أدهم) عينيه بسرعة إلى الطريق، الذي بدت حركته عادية مألوفة، باستثناء رجل الشرطة، الذي اعترض طريق السيارة، ورفع راحته ليستوقفها في صرامة..
كان شرطياً عادياً بسيطاً، يحمل ملامح صارمة حازمة، وتشير الأشرطة على ذراعيه إلى أنه يحتل مكانة ثالثة، بين الرتب المسموح لها بالتواجد في طرقات العاصمة..
ولكن شيئاً ما في أعمق أعماق (أدهم) شعر بتوتر..
توتر غامض..
مبهم..
عجيب..
توتر ربما نبت من حاسة خاصة، نمت مع الوقت والخبرة، في أعماق رجل مخابرات محترف..
أو أتى من شيء ما..
شيء رآه..
أو سمعه..
شيء لم تدركه حواسه التقليدية، وإن انتبهت إليه بشدة حاسة رجل المخابرات، في كل ذرة من كيانه..
المهم أنه قد اعتدل..
وتحفز..
وانتظر..
وفى صرامة حازمة، دار الشرطي حول مقدمة السيارة، التي تحمل أرقاماً ديبلوماسية واضحة، وهو يقول لـ(حازم):
- رخصتا القيادة والسيارة يا سيدي.
أجابه (حازم)، في صرامة مماثلة، وبلغة إنجليزية سليمة:
- هذه السيارة تحمل لوحات ديبلوماسية، وليس من حقك أن..
ولم يكمل (أدهم) سماع العبارة..
الحاسة نفسها، التي جعلته يشعر بالتوتر، دفعته إلى الاستدارة إلى الجانب الأيسر، الذي انشغل عنه (حازم)، بحديثه مع الشرطي، في الجانب الأيمن*..
ولقد جاءت استدارته، في الوقت المناسب..
المناسب تماماً..
--------------------------------------------------------------------------------
* في (إنجلترا)، وبعض المستعمرات التابعة لها، أو المنفصلة عنها، توضع عجلة القيادة في الجانب الأيمن للسيارة، بخلاف باقي دول العالم.
*******************************************
ففي نفس اللحظة، التي استدار فيها، كان هناك رجلان، في معطفي مطر، يندفعان نحو السيارة، من جانبها الأيسر، وكل منهما يدس يده في معطفه، بحركة لا يمكن أن تخطئها عين محترف مثله..
حركة تعنى أن كل منهما يهم بسحب سلاحه، و…
وكعادته، وكما لقنه والده الراحل، لم يضع (أدهم) لحظة واحدة..
لم يكن يحمل سلاحاً..
ولم يكن هناك ما يكفى من الوقت، لسؤال (حازم)، عما إذا كان يحمل سلاحاً بدوره..
ولم تكن هناك دلالة واحدة، لعدد المعتدين حولهما..
لذا، فقد دفع (أدهم) قدمه اليمنى، في حركة سريعة مرنة، وضغط دواسة وقود السيارة، التي رفع (حازم) قدمه عنها ، وهو يمسك مقودها في إحكام..
وفوجئ (حازم) بالسيارة تثب فجأة، وتنطلق من إطاراتها صرخات صريرية عنيفة، قبل أن تندفع في الطريق، فصاح في دهشة:
- ماذا تفعل؟!
ولم يجب (أدهم) تساؤله..
بل أجابته رصاصات المعتدين..
أجابته ثلاث مرات، تحطم معها الزجاج الخلفي للسيارة، وتناثر بمنتهى العنف، دون أن تدوي أية رصاصات من خلفهما..
ومع اختراق إحدى الرصاصات الثلاث للزجاج الأمامي، تاركة فيه ثقباً صغيراً، أحيط بشبكة من الشروخ العنكبوتية، صاح (حازم):
- رباه!.. إنهم يستخدمون كواتم الصوت.
قالها، واستعاد سيطرته على عجلة القيادة، و(أدهم) يرفع قدمه عن دواسة الوقود، قائلاً في غضب:
- محاولة اغتيال حقيرة أخرى.
هتف (حازم)، وهو يعيد قدمه إلى دواسة الوقود، وينطلق بالسيارة عبر شوارع (لندن) :
- إنهم ليسوا رجال مخابرات.
أجابه (أدهم)، وهو يستدير خلفه؛ لمراقبة الطريق:
- نعم.. أسلوبهم أشبه بعصابات (المافيا).
عض (حازم) شفته السفلى في ألم، وهو يقول:
- إنهم مجرمو (هيل آرت).. يحاولون إزاحتي عن طريقهم.. لقد أدركوا حتماً أنني قد اقتربت كثيراً منهم.
انعقد حاجبا (أدهم)، وهو يتساءل :
- (هيل آرت)؟!.. أي اسم هذا؟!
قبل أن يجيبه (حازم)، ظهرت ثلاث درجات آلية، تنطلق عكس اتجاه السير القانوني، نحو السيارة مباشرة..
وبحركة عنيفة، انحرف (حازم)، بالسيارة إلى جانب الطريق، على نحو جعله يصطدم بجانب سيارة كبيرة أخرى، وهو يهتف
- احترس يا (أدهم).
وقبل حتى أن يكتمل هتافه، كان ركاب الدراجات الثلاثة يصوبون مسدساتهم، المزودة بكواتم للصوت، نحو السيارة مباشرة..
ويطلقون النار..
ولكن رد فعل (أدهم) كان سريعاً للغاية..
لقد انحنى بسرعة، ومال جانباً، وسمع صوت اختراق الرصاصات الصامتة لزجاج السيارة الأمامي، الذي تناثر بعضه فوق رأسه مباشرة، ممتزجاً بآهة ألم، أطلقها (حازم)، قبل أن ينحرف بالسيارة مرة أخرى، صائحاً:
- لقد ظفروا بي.
استدار إليه (ادهم) بحركة حادة، وشاهد ذلك الخيط من الدم، الذي يسيل على قميصه، من ثقب في صدره، وبقعة الدم الكبيرة، التي تغطى كتفه اليسرى، في نفس اللحظة التي اختل فيها توازن السيارة، وقفزت فوق الإفريز الجانبي للطريق، وارتطمت بأحد أعمدة الإنارة المعدنية، ثم انقلبت على جانبها، وراحت تزحف على الإفريز، لمتر أو مترين، قبل أن تنقلب مرة أخرى على سطحها، وإطاراتها تواصل دورانها عالياً في الهواء..
وطوال كل هذا الوقت، ومع الحركة المعقدة، التي قامت بها السيارة أثناء انقلابها، لم يتوقف راكبو الدراجات الآلية الثلاثة لحظة واحدة، عن إطلاق رصاصاتهم نحوها..
ونحو خزان وقودها بالتحديد..
وساد ذعر شديد، في ذلك الشارع اللندني، مع المشهد الرهيب، الذي يصلح لشاشة السينما، بأكثر مما يصلح على أرض الواقع، وبخاصة عندما توقف القتلة بدراجاتهم الآلية، في حركة تشف عن البراعة، على مسافة أمتار قليلة من السيارة المقلوبة رأساً على عقب، وصوبوا فوهات مسدساتهم نحو خزان وقودها مباشرة، و..
وفجأة، خيل إليهم، ولكل شهود عيان الواقعة، أن صاعقة قد انطلقت من السيارة، وانقضت عليهم بعنف..
بمنتهى العنف..
صاعقة بشرية، اندفعت عبر نافذة السيارة المقلوبة، وبدا وكأنها قد طارت في الهواء، أو أنها تتحرك في أربع اتجاهات في وقت واحد، لتطيح بالقتلة الثلاثة على نحو مدهش، عجز كل الشهود عن وصفه بدقة، في تقارير الشرطة الرسمية..
كل ما اتفقوا عليه، هو أنه بعد ثانية واحدة، كان هناك رجل وسيم، يقف بين ثلاثة من قائدي الدراجات النارية، الذين فقدوا الوعي، وسيارة مقلوبة، بدأت النيران تشتعل في مؤخرتها بالفعل، وأن ذلك الرجل قد انحنى، والتقط أحد تلك المسدسات، المزودة بكواتم الصوت، قبل أن يهتف بالجميع، بلغة إنجليزية سليمة، ولهجة لندنية دقيقة، جعلتهم يقسمون جميعاً، دون استثناء واحد، على أنه بريطاني الجنسية:
- ابتعدوا.. ابتعدوا بسرعة.. السيارة ستنفجر.
وعند هذه النقطة، اختلفت أقوال شهود العيان..
اثنان فقط، أشارا إلى أنهما قد شاهدا ذلك الرجل، وهو يدور حول السيارة، ويجذب جسد رجل مصاب خارجها، ثم يحمله على كتفيه، وينطلق مبتعداً، في سرعة مدهشة..
أما الباقين، فلم تزد أقوالهم على أنهم قد ابتعدوا مذعورين، وسمعوا صوت انفجار السيارة خلفهم، وشعروا بوهج انفجارها في ظهورهم، وعندما استداروا لرؤية ما حدث، كان ذلك الرجل قد اختفى بحمله..
اختفى تماماً..
أما الشهود الفرعيين، في الشارعين الرئيسيين، اللذين يفصلان السفارة المصرية، عن موقع الحادث، فقد اجتمعوا على أنهم قد شاهدوا ذلك الرجل، وهو يعدو كشخص آلي قوى، حاملاً ذلك المصاب على كتفيه، دون أن يتوقف لحظة واحدة ليلتقط أنفاسه، أو ينتظر وصول سيارة الإسعاف، التي تعالى دوى أبواقها، وهى تشق طريقها إلى موقع الحادث العنيف..
"هل سينجو؟!.."
ألقى (أدهم) السؤال، في توتر بالغ، على مسامع الملحق الطبي للسفارة المصرية، والذي انهمك مع فريق طبي خاص، في فحص إصابات (حازم)، قبل أن يجيب:
- حالته ليست مطمئنة، وسيحتاج إلى جراحة عاجلة حتماً؛ لاستخراج تلك الرصاصة، التي اخترقت قفصه الصدري، أما الأخرى، التي أصابت كتفه اليسرى من الخلف، فيمكنني إخراجها بالإمكانيات المتاحة هنا.
ثم اعتدل، وعدل منظاره الطبي على أنفه، مضيفاً في حزم:
- ولكنني لا أنصح بهذا..
سأله (أدهم) في صرامة عجيبة:
- وما الذي تنصح به بالضبط؟!.. ما الأفضل بالنسبة له؟!
أجابه الطبيب، في سرعة وحسم :
- لابد من نقله فوراً، إلى أقرب مستشفى إلينا؛ فهو فاقد الوعي، وتلك الرصاصة في صدره، قد تؤدى إلى موته في أية لحظة؛ لو لم يتم استخراجها جراحياً، بأقصى سرعة ممكنة.
شد (أدهم) قامته، وبدا حازماً صارماً، وهو يلتفت إلى الملحق الطبي للسفارة، قائلاً:
- فلنتخذ كل الإجراءات؛ لنقله إلى المستشفى فوراً.
هز الملحق العسكري رأسه، قائلاً في توتر:
- ولكن المستشفى يعنى العديد من الإجراءات الرسمية، وتحقيقات الشرطة، و…
قاطعه (أدهم) بمنتهى الحزم :
- سنفعل الأفضل له.
عاد الملحق العسكري يهز رأسه في قوة، قائلاً:
- الأفضل له أن نقوم باستدعاء أحد كبار الجراحين إلى هنا، و…
قاطعه الملحق الطبي في توتر:
- هذا لن يكفى.. الرجل يحتاج إلى ما هو أكثر من جراح ماهر.. إنه يحتاج إلى إمكانيات للإسعاف والعناية الفائقة، لا يمكن أن تتواجد إلا في مستشفى كبير، يملك إمكانيات طبية كاملة.
قال الملحق العسكري في عصبية:
- وماذا لو حاولوا اغتياله مرة أخرى هناك؟!… الشرطة هنا لن تسمح لنا بحمايته، وستصر على أن تتولى المهمة بنفسها، ولا يمكنك الآن أن تثق في أي رجل شرطة بريطاني، و…
اطعه (أدهم) في حزم :
- لن يحاولوا اغتياله هناك.
سأله الملحق العسكري في عصبية :
- ومن سيمنعهم ؟!
عقد (أدهم) ساعديه أمام صدره، وهو يقول في صرامة :
- أنا.
حدق الكل في وجهه بدهشة بضع لحظات، ثم لم يلبث الملحق العسكري أن وضع يده على كتفه، قائلاً:
- اسمعني جيداً يا (أدهم).. كلنا هنا نعرف مدى تفوقك وقدراتك، ونعلم الكثير عن تلك التجربة الفريدة، التي قام بها والدك (رحمه الله)، ليصنع منك ما صنعه، ولكنك هنا في أرض أجنبية، ولو حاولت حماية صديقك وحدك، على نحو غير رسمي، سيكون عليك أن تواجه القتلة، والشرطة البريطانية أيضاً، و…
قاطعه (أدهم) في حزم :
- اطمئن.. لن أفعل ما يمكن أن يخطر ببالك.
وصمت لحظة، ثم أضاف في صرامة :
- أو ببالهم.
سأله الملحق العسكري في حذر متوتر:
- ما الذي تعنيه بالضبط؟!
تطلع (أدهم) في إشفاق إلى وجه زميله (حازم) الشاحب، وربت عليه في رفق، وهو يتنهد في عمق، قبل أن يقول:
- لن يحاولوا اغتياله.
سأله الملحق العسكري في توتر أكثر :
- وما الذي يمكن أن يمنعهم ؟!
صمت (أدهم) بضع لحظات، ثم قال فى حزم :
- إنهم سيسعون لاغتيالي أنا.
نطقها في ثقة عجيبة، جعلت الكل يحدق فيه في ذهول..
ولكنه بدا أمامهم قوياً..
صارماً..
حازماً..
متماسكاً..
وواثقاً..
لذا، فقد ازدرد الملحق العسكري لعابه في صعوبة وتوتر، قبل أن يميل نحوه، ويسأله في خفوت، وكأنما يخشى تحطيم حالة الانبهار، المسيطرة على المكان:
- وكيف هذا؟!
التقط (أدهم) نفساً عميقاً، قبل أن يجيبه بمنتهى الحزم:
- لدى خطة.
نطقها في ثقة شديدة، وفى اقتضاب شديد، دون أن يضيف أية تفاصيل..
ودون أن يسأله أحدهم عما يعنيه..
فقد بدا، في تلك اللحظة، واثقاً وغامضاً..
إلى أقصى حد.
***********************************
الفصل الرابع "الأوغاد"
انعقد حاجبا سير (وينسلوت)، زعيم منظمة (هيل آرت)، في صرامة شديدة، وهو ينفث دخان سيجاره الفخم، في وجه قائد حراسه (بيتون)، قائلاً:
- الفشل يا (بيتون).. الشيء الوحيد الذي أبغضه، في حياتي كلها.
بدا (بيتون) شديد التوتر، وهو يقول:
- العملية تم تخطيطها وتنفيذها بمنتهى الدقة يا سير (وينسلوت)، ولكن هناك عوامل خارجية، أفسدت بعض خطواتها، وانتهت بخسارة فرصة اصطياد الفريسة.
مال سير (وينسلوت) نحوه، ونفث دخان سيجاره مرة أخرى في وجهه، قائلاً :
- وهذا بالضبط ما أطلق عليه اسم الفشل يا (بيتون)..
تضاعف توتر (بيتون)، وسير (وينسلوت) يلوح في وجهه بسيجاره الفخم، مستطرداً بنفس الصرامة القاسية:
- الفشل الحقيقي هو ألا تضع في حساباتك كل الاحتمالات الممكنة.. حتى غير المنطقي منها.. ألا تضع أكثر من خطة، وليس خطة واحدة، بحيث يمكنك أن تنتقل، من واحدة إلى أخرى، إذا ما تغيرت الظروف، أو ظهرت عوامل غير متوقعة.
قال (بيتون) في عصبية :
- وهذا بالضبط ما فعلته يا سير (وينسلوت).. لقد وضعت خطة أساسية، وأخرى احتياطية، وتعتمد على اصطياد ركاب الدراجات النارية لهم، لو أنهم أفلتوا من الفخ الأول، ولكن..
قاطعه سير (وينسلوت) في صرامة :
- أبغض ما أبغضه هو كلمة (لكن) هذه؛ فهي تعترض دوماً سير الأحداث، وتفسد مجريات الأمور.
قال (بيتون) في حدة غير مقصودة :
- ذلك الرجل الآخر لم يكن شخصاً عادياً.
التقى حاجبا سير (وينسلوت) مرة أخرى، وهو يقول :
- وكيف هذا؟!..
بدا (بيتون) شديد الانفعال، على نحو يفوق المألوف، وهو يلوح بذراعيه، قائلاً:
- أنت تعرفني جيداً يا سير (وينسلوت).. أنا رجل مخابرات قديم ومحترف، وأقود لحسابك فريقاً من أبرع محترفي القتال.. والقتل أيضاً، وعلى الرغم من هذا، فلم أر، في حياتي كلها، من يفوق ذلك الرجل قوة، وسرعة، وبراعة!!.. لقد شاهدت بنفسي فيلماً قصيراً، صوره أحد رجالنا لما حدث، بناءً على أوامري، وكاد قلبي يثب من بين ضلوعي، من فرط دهشتي وانفعالي، وأنا أشاهد الوسيلة، التي تعامل بها مع رجالنا.
واشتد انفعاله أكثر، وهو يهتف:
- لقد أسقط ثلاثة من المحترفين، فيما بدا وكأنه ثانية واحدة!!.. إنه ليس رجلاً عادياً بالتأكيد.
انعقد حاجبا سير (وينسلوت) في دهشة، وهو يتطلع إلى انفعال قائد حراسه، الذي لم يرصد مثله من قبل قط،،على محترف مثله، ثم سأله في برود صارم:
- وأين ذلك الفيلم؟!
أجابه (بيتون) في سرعة، وكأنه كان ينتظر هذا السؤال بالتحديد:
- لقد أحضرته معي يا سير (وينسلوت).
استغرق الأمر عشر دقائق فحسب، لإعداد الفيلم للعرض، ثم أطفأ (بيتون) أنوار الحجرة، وهو يقول بنفس الانفعال، الذي لم يفارقه بعد:
- ستشاهده بنفسك يا سير (وينسلوت).
راح سير (وينسلوت) ينفث دخان سيجاره الفخم في بطء، وهو يستنفر كل بروده الإنجليزي الموروث؛ للسيطرة على انفعاله الجارف، أثناء متابعته ذلك الفيلم القصير جداً، لحادث سيارة (حازم)، ذات اللوحات الديبلوماسية..
وكدلالة على اهتمامه الشديد، طلب إعادة العرض مرة..
وثانية..
وثالثة..
وفي كل مرة، طالع خلالها الفيلم، كان يحاول عبثاً رؤية وجه (أدهم)، أو تحديد ملامحه، مع حركته فائقة السرعة..
وأخيراً أدرك أن هذا مستحيل!..
السرعة التي يتحرك بها (أدهم)، كانت تفوق سرعة آلات التصوير الحديثة، في تلك الفترة، على رصد التفاصيل الدقيقة..
وفي نهاية العرض الأخير، أشار سير (وينسلوت) إلى قائد حراسه بإشعال الأضواء، قبل أن يقول في برود:
- أرسل هذا الفيلم إلى معاملنا الخاصة.. أريد طبع صور مكبرة، لكل ما يحويه من تفاصيل، لوجه ذلك الرجل، الذي أفسد عمليتكم.
قال (بيتون) في سرعة:
- فوراً يا سير (وينسلوت).
تراجع سير (وينسلوت) في مقعده، وهو يقول في صرامة:
- هل تعلم شيئاً، عن مصير الرجل الآخر؟!.. أعنى رجل المخابرات المصري، الذي فشلت خطة اغتياله.. لقد حمله زميله الفائق على كتفيه، وانطلق يجرى به نحو سفارتهما، كما يوضح فيلمك، ولكنكم لا تعرفون ما إذا كان قد نجا تماماً، أم..
قبل أن يتم عبارته، اندفع (بيتون) يقول في انفعال:
- لقد تم نقله إلى المستشفى؛ لإسعافه من طلق ناري في صدره.
اعتدل سير (وينسلوت)، وهو يسأله في اهتمام:
- أي مستشفى؟!
أجابه في سرعة:
- (لندن كلينيك).
تراجع سير (وينسلوت) في مقعده الوثير، ونفث دخان سيجاره في بطء وعمق، وهو يقول:
- عظيم.. هذا يمنحكم فرصة ثانية إذن.
شد (بيتون) قامته، في وقفة عسكرية غريزية، وهو يقول، في اهتمام منفعل:
- هل نقوم بمحاولة أخرى لاغتياله هناك؟!
قال سير (وينسلوت) في صرامة:
- وهل يحتاج هذا إلى سؤال؟!.
أجابه (بيتون) في حماس:
- كلا.. كلا بالتأكيد يا سير (وينسلوت).
قالها، واندفع لتنفيذ الأمر، فاستوقفه سير (وينسلوت)، قائلاً بمنتهى الحزم والصرامة:
- (بيتون).. لا أريد أية أخطاء هذه المرة.
أومأ (بيتون) برأسه في توتر، قائلاً:
- بالتأكيد يا سير (وينسلوت).. بالتأكيد.
قالها (بيتون)، وغادر المكان في سرعة، ولم يكد يفعل، حتى قلب سير (وينسلوت) شفتيه، مغمغماً:
- يا للغباء!.. لماذا يرفض العباقرة دوماً، العمل في مجالات الأمن والحراسة؟!
نفث دخان سيجاره في عمق، وهو يراجع تفاصيل الموقف في ذهنه، و…
وفجأة، ارتفع رنين هاتفه الخاص..
الخاص جداً..
وفي دهشة قلقة، التفت سير (وينسلوت) إلى هاتفه الخاص، وهو يتمتم:
- عجباً!.. المفترض أن هذا الهاتف سرى للغاية.
كان الهاتف خاصاً وسرياً بالفعل، حتى أنه لم يكن مسجلاً باسم سير (وينسلوت)، أو يحمل الأرقام المعتادة للمنطقة، لذا فقد شعر زعيم منظمة (هيل آرت) بقلق وتوتر حقيقيين، وهو يلتقط سماعته في حذر، ويضعها على أذنه، قائلاً، وهو يبذل قصارى جهده؛ لتغيير صوته الطبيعي:
- من المتحدث؟!
فوجئ بصوت هادى من الجانب الآخر، يجيب في لهجة حملت لمحة من الخبث:
- سير (وينسلوت).. دولتي كلفتني الاتصال بك فوراً؛ للتفاوض بشأن ما لديك؟!
انعقد حاجبا سير (وينسلوت) بشدة، وهو يقول بحذر أكثر:
- دولتك؟!
أجابه صاحب الصوت الهادئ الخبيث في سرعة:
- نعم.. دولتي.. (إسرائيل) يا سير (وينسلوت).
صمت سير (وينسلوت) لحظة، قبل أن يقول بصوت هادئ، أخفى تماماً ذلك القلق، الذي يعتمل في أعماقه:
- آه.. الآن فقط فهمت، لماذا استخدمتم هذا الرقم الخاص، بدلاً من الاتصال عبر هاتفي التقليدي.. إنها رسالة من جهاز مخابراتكم.. أليس كذلك؟!
أجابه صاحب الصوت الهادئ، في خبث أكثر:
- لو أنها رسالة، فهي دليل على الصداقة القوية، والتعاون المثمر، بين دولتنا ومنظمتك.
كاد سير (وينسلوت) يجيبه بعبارة قاسية صارمة، إلا أنه صمت لحظة، ثم قال ببروده الإنجليزي الشهير:
- بالتأكيد.
التقط صاحب الصوت الخيط، وقال في احترام مدروس:
- كل ما أطلبه هو موعد للقاء؛ لنناقش طلباتك واقتراحاتك، بشأن الصفقة التي سنعقدها معاً، يا سير (وينسلوت).
صمت سير (وينسلوت) بضع لحظات أخرى، نفث خلالها دخان سيجاره في بطء، قبل أن يقول:
- إنك تتحدث من (لندن) يا سيد…
أجابه الرجل في سرعة :
- (جراهام) يا سير (وينسلوت).. (دافيد جراهام).
سأله سير (وينسلوت) في صرامة:
- وكيف وصلت بهذه السرعة يا سيد (جراهام)، من (تل أبيب) إلى (لندن)؟!
أجابه (جراهام) في احترام مفتعل:
- لم آت من الوطن يا سير (وينسلوت).. من الواضح أن ما لديك يهم رؤسائي جداً، فقد أجروا اتصالاً مباشراً معي من (تل أبيب)، وطلبوا من التوجه من (باريس) إلى هنا، لألتقي بك مباشرة، في أسرع وقت ممكن، كما منحوني كل الصلاحيات اللازمة للتفاوض، وإتمام الصفقة على نحو مرض.
مط (وينسلوت) شفتيه، وقال:
- فليكن.. يمكننا أن نلتقي خلال ساعة واحدة.
قال (جراهام) في سرعة:
- وماذا عن الآن؟!
انعقد حاجبا سير (وينسلوت)، وهو يقول مستنكراً:
- الآن؟!
أجابه (جراهام) بنفس السرعة، وكأنما يحاول ألا يمنحه فرصة للتفكير:
- ولم لا يا سير (وينسلوت)؟!.. الصفقات الضخمة تحتاج إلى عدم إضاعة لحظة واحدة، ثم أننى أتحدث إليك من هاتف سيارة، أقودها في الطريق إلى قصرك مباشرة، وسأصل إليه خلال خمس دقائق لا أكثر.
ازداد انعقاد حاجبي سير (وينسلوت)، وهو يقول في صرامة:
- أسلوبكم هذا لا يروق لي.
__________________
أجاب (جراهام)، بسرعته المعهودة:
- وربما لا يروق لنا أسلوبك أيضاً يا سير (وينسلوت)، ولكن هذا لا يهم… المهم أن نتفق في النهاية، على أسلوب يرضينا معاً.
نفث سير (وينسلوت) دخان سيجاره، وهو يقول في بطء حذر:
- ولم؟!.. إنها مجرد صفقة!
خيل إليه أن أسلاك الهاتف قد نقلت إليه ابتسامة (جراهام) الساخرة، والتي لم تبد في لهجة ذلك الأخير، وهو يقول:
- لو أن الأمر مجرد صفقة، لأعلنت رقماً بكل بساطة، قبل أن تطلب مقابلة مفاوض أعلى شأناً… كلا يا سير (وينسلوت).. الواقع أنك تنشد نفس ما ننشده، من خلال اتصالنا بك..
وقسا صوته، على نحو مخيف، وهو يضيف:
- أن نغير معاً وجه العالم.. وإلى الأبد.
ولم ينبس سير (وينسلوت) ببنت شفة..
فالواقع أن (جراهام) هذا كان على حق..
على حق تماماً..
لم تكد سيارة فريق (بيتون) تتوقف، أمام مستشفى (لندن كلينيك) الشهير، في قلب العاصمة البريطانية، حتى غادرها هذا الأخير، في معطفه الأنيق، وتبعه اثنان من رجاله إلى داخل المكان، وهو يسأل أحدهما في صرامة:
- أأنت واثق من أن حجرته في الطابق الثاني؟!
أجابه الرجل، في سرعة وحزم:
- رقمها (تسعة - بي) أيها القائد، والأطباء يستعدون لإجراء جراحة طوارئ له الآن، أما الشرطة، فقد راق المبلغ الذي دفعناه لرئيسها، وقرر ألا يبدأ تحقيقاته، إلا صباح الغد، عندما يستعيد المصاب المصري وعيه، عقب العملية الجراحية.
تساءل (بيتون)، وهو يتجه نحو المصعد:
- وماذا عن طاقم أمن السفارة المصرية؟!.. هل يقوم بعضهم بحراسته هنا؟!
أجاب الرجل الآخر:
- رئيس الشرطة منعهم من هذا أيضاً، وأخبرهم أن صلاحياتهم تنتهي عند باب سفارتهم، وفقاً للقوانين والقواعد الدولية*، وأنه سيؤمن الحراسة اللازمة لرجلهم المصاب.
غمغم (بيتون)، والمصعد يحملهم إلى الطابق الثاني:
- عظيم.
--------------------------------------------------------------------------------
* معلومة صحيحة.
************************************************
لم يتبادلوا كلمة واحدة إضافية، حتى بلغ بهم المصعد الطابق الثاني، فاتجهوا مباشرة نحو الحجرة المنشودة، والتي اختفى الشرطي الذي يقوم على حراستها بوسيلة ما، وترك خلفه مقعداً خالياً، واستوقف (بيتون) ممرضة تهم بدخولها، وهو يقول في صرامة:
- فيما بعد… نريد أن نستجوب المصاب أولاً.
حاولت الممرضة أن تعترض، قائلة:
- ولكن الأطباء المعالجين أكدوا أن…
قاطعها أحد الرجلين، وهو يقول في خشونة قاسية:
- قلنا: فيما بعد.
تراجعت الممرضة في توتر غاضب، في حين أشار (بيتون) إلى أحد الرجلين، قائلاً:
- ابق هنا؛ لمنع أي مخلوق من الدخول، حتى نتم المهمة، ونرحل جميعاً من هنا بسرعة.
شد الرجل قامته، وهو يقف أمام الباب في صرامة، في حين سحب (بيتون) والآخر مسدسيهما في تحفز، وهما يخفياهما بجسديهما عن العاملين بالمكان، ودفع (بيتون) باب الحجرة بقدمه، واندفع مع الرجل الآخر داخلها، وأطلق كلاهما عدة رصاصات صامتة، نحو رأس وجسد ذلك الشخص، الراقد على الفراش الطبي في منتصفها، والمحاط بعدد من أجهزة العناية الفائقة..
كان تصويبهما دقيقاً وصائباً، شأن أي محترف في هذا المضمار، إلا أن صوت ارتطام الرصاصات بدا عجيباً في أذنيهما، وأشبه بصوت ارتطامها بلوح من الخش
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:48 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية5
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:46 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية4
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:45 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية3
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:44 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية2
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:42 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:41 pm من طرف Admin
» نموذج من بناء الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:39 pm من طرف Admin
» كيف تنشأ الرواية أو المسرحية؟
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:38 pm من طرف Admin
» رواية جديدة
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:26 pm من طرف Admin