منتدي جمال عزوز

أهلا بكم في المنتدى

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي جمال عزوز

أهلا بكم في المنتدى

منتدي جمال عزوز

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدي جمال عزوز

منتدي الادب والفنون والكتابات النثرية والقصة القصيرة

المواضيع الأخيرة

» من كتاب الشخصية6
ليس لدي الكولونيل من يكاتبه (1).. ماركيز Emptyالإثنين ديسمبر 09, 2013 5:48 pm من طرف Admin

» من كتاب الشخصية5
ليس لدي الكولونيل من يكاتبه (1).. ماركيز Emptyالإثنين ديسمبر 09, 2013 5:46 pm من طرف Admin

» من كتاب الشخصية4
ليس لدي الكولونيل من يكاتبه (1).. ماركيز Emptyالإثنين ديسمبر 09, 2013 5:45 pm من طرف Admin

» من كتاب الشخصية3
ليس لدي الكولونيل من يكاتبه (1).. ماركيز Emptyالإثنين ديسمبر 09, 2013 5:44 pm من طرف Admin

» من كتاب الشخصية2
ليس لدي الكولونيل من يكاتبه (1).. ماركيز Emptyالإثنين ديسمبر 09, 2013 5:42 pm من طرف Admin

» من كتاب الشخصية
ليس لدي الكولونيل من يكاتبه (1).. ماركيز Emptyالإثنين ديسمبر 09, 2013 5:41 pm من طرف Admin

» نموذج من بناء الشخصية
ليس لدي الكولونيل من يكاتبه (1).. ماركيز Emptyالإثنين ديسمبر 09, 2013 5:39 pm من طرف Admin

» كيف تنشأ الرواية أو المسرحية؟
ليس لدي الكولونيل من يكاتبه (1).. ماركيز Emptyالإثنين ديسمبر 09, 2013 5:38 pm من طرف Admin

» رواية جديدة
ليس لدي الكولونيل من يكاتبه (1).. ماركيز Emptyالإثنين ديسمبر 09, 2013 5:26 pm من طرف Admin

التبادل الاعلاني

احداث منتدى مجاني

نوفمبر 2024

الإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبتالأحد
    123
45678910
11121314151617
18192021222324
252627282930 

اليومية اليومية

تصويت

تدفق ال RSS


Yahoo! 
MSN 
AOL 
Netvibes 
Bloglines 

احصائيات

أعضاؤنا قدموا 254 مساهمة في هذا المنتدى في 142 موضوع

هذا المنتدى يتوفر على 35 عُضو.

آخر عُضو مُسجل هو sansharw فمرحباً به.

سحابة الكلمات الدلالية


    ليس لدي الكولونيل من يكاتبه (1).. ماركيز

    avatar
    Admin
    Admin

    عدد المساهمات : 150
    نقاط : 444
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/10/2009
    العمر : 50
    22012012

    ليس لدي الكولونيل من يكاتبه (1).. ماركيز Empty ليس لدي الكولونيل من يكاتبه (1).. ماركيز

    مُساهمة  Admin


    ليس لدي الكولونيل من يكاتبه

    ترجمها عن الأسبانية : صالح علماني
    ودققها : سعيد حورانية

    نزع الكولونيل غطاء علبة البنْ فتأكد من أنه لم يبق فيها سوي قدر ملعقة صغيرة. فتناول إبريق القهوة عن الموقد، وسكب نصف ما يحتويه من ماء على الأرض الترابية، ثم كشط بسكين محتويات العلبة ونفضه فوق الإبريق إلى أن سقطت آخر ذرات البنْ مختلطة بصدأ العلبة.
    وبينما كان ينتظر غليان القهوة، شعر الكولونيل وهو يجلس إلى جانب الموقد المصنوع من لبن، وعلى وجهه تبدو مظاهر الانتظار الواثق البريء، بأن نبتات فطر وزنابق سامة تنمو في أحشائه. حدث هذا في أكتوبر. في صباح يوم من الصعب تصنيفه، وخاصة لرجل مثله عاش أصباحا كثيرة مثل هذا الصباح. فطوال ست وخمسين سنة منذ انتهت الحرب الأهلية الأخيرة لم يفعل الكولونيل خلالها شيئا سوي الانتظار، وكان مجيء أكتوبر أحد الأمور القليلة التي تمر في حياته.
    رفعت زوجته الكلة عندما رأته يدخل حجرة النوم حاملا القهوة. لقد عانت تلك الليلة من نوبة ربو، وتنتابها الآن حالة من النعاس. ولكنها اعتدلت لتتناول الفنجان، وقالت:
    ـ وأنت!
    فكذب الكولونيل قائلا:
    ـ لقد تناولت قهوتي، ومازالت لدينا ملعقة كبيرة من البنْ.
    في تلك اللحظة شرعت الأجراس تقرع. كان الكولونيل قد نسي الجنازة. وبينما كانت زوجته تتناول القهوة، نزع شبكة النوم المعلقة في أحد أركان الغرفة وطواها في الركن الآخر وراء الباب. فكرت المرأة بالميت، وقالت:
    ـ ولد سنة .1922 بعد شهر تماما من ميلاد ابننا. يوم السادس من نيسان (ابريل).
    وتابعت رشف القهوة ما بين شهقات تنفسها المتقطع. كانت امرأة تبدو وكأنها مبنية من غضاريف بيضاء مسندة إلى عمود فقري متقوس وبلا مرونة. واختلاجات أنفاسها تضطرها إلى ضغط أسئلتها. وعندما انتهت من تناول القهوة كانت ما تزال تفكر بالميت فقال: 'لابد أن دفن المرء في أكتوبر شيء رهيب'. ولكن زوجها لم يعرها اهتماما. فتح النافذة. كان أكتوبر قد استقر في البهو. فأخذ يتأمل النباتات التي كانت تنشق عن اخضرار كثيف. والأخاديد الدقيقة التي خلفتها الديدان في الوحل، ثم أخذ يحس من جديد بالشهر المشئوم في أمعائه.
    ****
    قال
    ـ أشعر بأن عظامي رطبة.
    فردت زوجته:
    ـ انه الشتاء. منذ بدأ المطر يهطل وأنا أقول لك بأن تنام لابسا جرابك.
    ـ منذ أسبوع وأنا أنام بالجراب.
    كانت السماء تمطر ببطء ولكن دون توقف. وكان الكولونيل يود أن يلف نفسه ببطانية صوفية ويعود من جديد إلى سريره المعلق. ولكن إلحاح الأجراس البرونزية ذكٌره بالجنازة، فدمدم: 'يا لأكتوبر'، وسار نحو وسط الغرفة. وعند ذلك فقط تذكر ديك المصارعة المربوط بقائمة السرير.
    وبعد أن حمل الفنجان الفارغ إلى المطبخ، ملأ الساعة ذات البندول المثبتة ضمن إطار خشبي مزخرف في الصالة. وعلى العكس من غرفة النوم الضيقة التي لا تناسب تنفس المريضة بالربو. فقد كانت الصالة واسعة. وفيها أربعة كراسي هزازة من الليف حول طاولة من الجص. وعلى الجدار المقابل لذلك الذي علقت عليه الساعة. علقت لوحة لامرأة متكئة وسط حرير ناعم شفاف ومحاطة بعشاق في مركب يغص بالزهور.
    كانت السادسة وعشرين دقيقة عندما انتهي من تعبئة الساعة. بعد ذلك حمل الديك إلى المطبخ، وربطه إلى دعامة بجانب حفنة من الذرة. نفذت مجموعة من الأطفال من خلال السور المتشقق، وجلست حول الديك لتراقبه بصمت.
    ـ لا تنظروا كثيرا إلى هذا الحيوان. فالديوك تتآكل من كثرة النظر إليها قال لهم الكولونيل.
    ولكن الأطفال لم يرفعوا أنظارهم عن الديك، وراح أحدهم يعزف على الهارمونيكا أنغام الأغنية الدارجة 'لا تلمسني اليوم'، فقال له الكولونيل: 'هناك ميت في القرية' فدس الطفل الآلة في جيب بنطلونه ومضي الكولونيل إلى الغرفة ليرتدي ملابسه ويذهب إلى الجنازة.
    لم تكن ملابسه البيضاء مكويّة بسبب نوبة الربو التي أصابت المرأة. وهكذا كان عليه أن يستقر رأيه على ارتداء بدلة الجوخ السوداء التي استخدمها في مناسبات خاصة جدا بعد زواجه. وقد كلفة العثور عليها في أسفل الصندوق جهدا ليس بالقليل. كانت ملفوفة بأوراق الصحف، ومحفوظة من العث بكرات صغيرة من النفتالين. تابعت المرأة التي كانت مستلقية على السرير التفكير بالميت وقالت:
    ـ لابد وأنه التقي مع أغوستين الآن. ويمكن ألا يكون قد حكي له عن الحالة التي وصلنا إليها بعد موته.
    فقال الكولونيل:
    ـ لابد وانهما يتناقشان عن الديوك الآن.
    عثر في الصندوق على مظلة كبيرة وقديمة. كانت زوجته قد ربحتها في سوق خيري أقيم لجمع تبرعات لصالح حزب الكولونيل. في تلك الليلة ذاتها حضروا عرضا في الهواء الطلق. ولم يتوقف العرض برغم المطر الذي كان يهطل. وشاهد الكولونيل، وزوجته، وابنه أغوستين الذي كان عمره حينئذ ثماني سنوات العرض حتى نهايته، وهم جالسون تحت المظلة. لقد مات أغوستين الآن وبطانة المظلة التي هي من الأطلس قد اهترأت يفعل العث.
    ـ انظري كيف صارت مظلتنا كمظلات مهرجي السيرك. قالها الكولونيل وكأنه يقول عبارة قديمة كان يستخدمها بكثرة. وفتح فوق رأسه جهازا غامضا من القضبان المعدنية. ثم تابع:
    ـ إنها تنفع الآن لعدّ النجوم فقط.
    ابتسم. ولكن المرأة لم تتكلف مشقة النظر إلى المظلة ودمدمت: 'كل شيء هكذا'. 'إننا نتعفن في الحياة'. وأغمضت عينيها لتفكر بالميت بتركيز أكبر.
    بعد أن حلق الكولونيل ذقنه بالتلمس إذ لم تكن عنده مرآة منذ زمن بعيد ارتدي ملابسه بصمت. كان البنطال ضيقا وملتصقا بالساقين مثل سروال داخلي طويل تقريبا، ويغلق عند الكاحلين بعقدتين منزلقتين، ويثبت عند الخصر بلسانين صغيرين من القماش نفسه يمران من خلال ابزيمين مذهبين ومخاطين على ارتفاع الكليتين، فهو لم يكن يستخدم حزاما، أما القميص الذي كان بلون الكرتون، وبقساوة الكرتون أيضا، فانه يغلق في أعلاه بزر نحاسي، وهذا الزر نفسه يثبت أيضا الياقة المستعارة. ولكن الياقة المستعارة كانت ممزقة، لذلك فان الكولونيل تخلي عن وضع ربطة العنق.
    كان يقوم بكل حركة وكأنه يؤدي مهمة خطيرة. عظام يديه كانت مغطاة بالجلد اللامع المشدود والمخطط بتفرعات العروق كجلد الرقبة. وقبل أن يلبس حذاءه ذا الكعب العالي اللامع حكّ الوحل العالق بنعله. وفي هذه اللحظة فقط رأته زوجته وهو يرتدي ملابس يوم عرسه. وعندها أدركت كم هرم زوجها.
    قالت:
    ـ يبدو وكأنك ذاهب إلى حدث هام.
    فقال الكولونيل:
    ـ هذه الجنازة حدث هام. فهذا هو الميت الأول الذي يموت ميتة طبيعية منذ سنوات عديدة.
    انقطع المطر بعد التاسعة. وأخذ الكولونيل يستعد للخروج عندما جذبته زوجته من كم سترته، وقالت:
    ـ سرح شعرك.
    حاول أن يثني شعره الخشن بمشط عظم، ولكن جهده ذهب سدي.
    ـ لابد أني أبدو كببغاء.
    تفحصته المرأة. وفكرت أن لا. فلم يكن الكولونيل يبدو كببغاء. كان رجلا جافا، له عظام متينة متمفصلة كبراغ وصمولات. وبسبب حيوية عينيه فقط لا يبدو ككائن محنط بالفورمول.
    'حسن هكذا'، وافقت هي، وأضافت عندما كان زوجها يغادر الغرفة:
    ـ اسأل الطبيب عما إذا كنا قد ألقينا عليه ماء ساخنا في هذا البيت.
    كانا يعيشان في طرف القرية، في بيت سقفه من السعف وجدرانه مطلية يكلس قد تقشر. وكانت الرطوبة ما تزال منتشرة ولكن المطر كفّ عن الهطول، فهبط الكولونيل باتجاه الساحة عبر زقاق يفصل بيوتا متلاصقة. وعند وصوله إلى الشارع الرئيسي شعر برجفة، فإلى أبعد مدي يبلغه بصره كانت القرية مفروشة بالزهور. بينما جلست النساء أمام أبواب البيوت بانتظار الجنازة وقد ارتدين السواد.
    عندما وصل إلى الساحة أخذ مطر ناعم يهطل من جديد. ورأي صاحب صالة البيليار الكولونيل وهو أمام محله فصرخ له وقد فتح ذراعيه:
    ـ أيها الكولونيل، انتظر وسأعيرك مظلة.
    فأجابة الكولونيل دون أن يلتفت:
    ـ شكرا، فالحال حسنة هكذا.
    لم تكن الجنازة قد خرجت بعد. وكان الرجال وهم يرتدون ملابس بيضاء وربطات عنق سوداء يتبادلون الحديث أمام بيت الميت تحت مظلاتهم. ورأي أحدهم الكولونيل وهو يقفز فوق برك الماء في الساحة فصرخ:
    ـ تعال وانضم إلى أيها الصديق.
    وأفسح له مكانا تحت مظلته.
    قال الكولونيل:
    ـ شكرا أيها الصديق.
    لكنه لم يقبل الدعوة، بل دخل من فوره إلى البيت ليعزي والدة المتوفي. كان أول ما أحس به هو رائحة زهور كثيرة متنوعة. وبعد ذلك شعر بالحر. وحاول أن يشق طريقه وسط الحشد المجتمع في غرفة النوم. ولكن أحدهم وضع يده على ظهره، ودفعه نحو عمق الغرفة عبر دهليز من الوجوه الحائرة إلى حيث توجد واسعتين وعميقتين فتحتا أنف الميت.
    هناك كانت الأم تهش الذباب عن التابوت بمذبة من السعف المجدول. ووقفت نساء أخريات يرتدين السواد ويتأملن الجثة وعلى وجوههن تعبير من يتأمل تدفق الماء في نهر. وفجأة انبعث صوت من آخر الغرفة. فمال الكولونيل مجانبا امرأة، ووجد نفسه بمحاذاة وجه أم الميت، فوضع احدي يديه على كتفها وضغط على أسنانه وقال:
    ـ تعازي ومشاعري.
    لم تلتفت إليه. فتحت فمها وأطلقت نباحا حادا. فذعر الكولونيل. وشعر بأنه مدفوع نحو الجثة بحركات الحشد المضطرب الذي انفجر يهتز من حوله. فبحث بيده عن شيء يستند إليه ولكنه لم يجد الجدار. فقد كانت أجساد أخرى مكانه. همس أحدهم في أذنه بصوت ناعم جدا: 'انتبه، أيها الكولونيل'. أدار رأسه فوجد أمامه الميت. ولكنه لم يتعرف عليه فقد كان قاسيا وديناميكيا، وتبدو عليه الحيرة مثله، وهو مغطي بخرق بيضاء والبوق بين يديه. وعندما رفع رأسه فوق الصرخات بحثا عن الهواء، ورأي التابوت المغطي وهو يهتز متقدما باتجاه الباب وعليه إكليل من زهور تتفتت وهي تصطدم بالجدران. تعرّق.
    وشعر بألم في مفاصله. وبعد برهة عرف أنه أصبح في الشارع لأن قطرات المطر الخفيف أصابت رموشه، شدّه أحدهم من ذراعه وقال له:
    ـ تعال أيها الصديق، لقد كنت أنتظرك.
    كان هذا دون ساباس عراب ابنه الميت، والوحيد بين زعماء حزبه الذي استطاع الإفلات من الاضطهاد السياسي وبقي يعيش في القرية بعد ذلك. 'شكرا أيها الصديق'، قال الكولونيل، وسار بجانبه صامتا تحت المظلة. بدأت الفرقة الموسيقية تعزف اللحن الجنائزي. وأحس الكولونيل بأن ثمة آلة نحاسية ناقصة، وللمرة الأولي تأكد بأن المتوفي قد مات، فدمدم:
    ـ يا للمسكين.
    تنحنح دون ساباس. وكان يحمل المظلة بيده السري، وكانت قبضتها في مستوي رأسه تقريبا، إذ كان أقصر بكثير من الكولونيل. وعندما خرج الموكب من الساحة أخذ الرجال يتناقشون. حينئذ التفت دون ساباس نحو الكولونيل بوجهه المكتئب، وقال:
    ـ ما هي أخبار الديك أيها الصديق.
    ـ انه هناك أجاب الكولونيل.
    وفي هذه اللحظة سمعت صرخة متسائلة:
    ـ إلى أين تذهبون بهذا الميت؟
    رفع الكولونيل نظره، فرأي العمدة يقف على شرفة المركز وقفة خطابية. كان يرتدي سروالا داخليا وفانلٌة، وأحد خديه متورم وغير حليق. أوقف الموسيقيون عزفهم للّحن الجنائزي.
    وبعد لحظات تعرف الكولونيل على صوت الأب أنخل وهو يصرخ متحاورا مع العمدة. وفك رموز الحوار من خلال فرقعة قطرات المطر على المظلات.
    ـ وماذا الآن؟ تساءل دون ساباس.
    فأجاب الكولونيل:
    ـ لاشيء، ولكن لا يمكن للجنازة أن تمر من أمام مركز الشرطة.
    فهتف دون ساباس:
    ـ لقد نسيت هذا. إنني انسي دائما أننا في حالة طوارىء.
    قال الكولونيل:
    ـ ولكن هذا ليس تمردا. أنها جنازة موسيقيٌ ميت مسكين. غيرٌ الموكب اتجاهه. وعند مروره في الأحياء الواطئة تطلعت إليه النسوة وهن يقضمن أظافرهن بصمت. ولكنهن خرجن بعد ذلك إلى منتصف الشارع وأطلقن صرخات الإطراء، والامتنان والوداع، وكأنهن يعتقدن بأن الميت يسمعهن وهو في تابوته. شعر الكولونيل بالتوعك وهو في المقبرة. وعندما دفعه دون ساباس نحو الجدار ليفسح الطريق أمام الرجال الذين يحملون النعش، التفت إليه مبتسما، ولكنه التقي بوجه قاس.
    سأله:
    ـ ماذا جري لك أيها الصديق.
    فتنهد الكولونيل:
    ـ انه أكتوبر يا صديقي.
    رجعا من نفس الشارع. كان المطر قد انقطع. وأصبحت السماء أعمق، وأشد زرقة. وفكر الكولونيل: 'لن تمطر أكثر'، وشعر بأن حالته تتحسن، ولكنه استمر في ذهوله. وأيقظه دون ساباس:
    ـ أيها الصديق، عليك أن تعرض نفسك على طبيب.
    فقال الكولونيل:
    ـ لست مريضا. كل ما في الأمر إنني أشعر في أكتوبر وكأن ثمة حيوانات في أحشائي.
    'آه!'، قال دون ساباس. ثم ودعه أمام باب منزله، وهو بناء جديد، من طبقتين، بنوافذ من حديد مزخرفة. واتجه الكولونيل إلى منزله قانطا ليخلع بذلة المناسبات. ثم عاد وخرج من جديد بعد لحظات ليشتري من الدكان الذي على الناصية علبة قهوة ونصف رطل من الذرة للديك.
    ****
    شغل الكولونيل نفسه بالعناية بالديك رغم انه كان يفضل قضاء يوم الخميس في سريره. لم ينقطع المطر طوال أيام. وخلال الأسبوع انبجست نباتات أحشائه. وأمضي عدة ليال في سهر متواصل، يتعذب بصفير رئتي المريضة بالربو. ولكن أكتوبر منحه هدنة مساء يوم الجمعة. وقد استغل أصدقاء اغوستين وهم معلمو خياطة مثلما كان هو، ومتعصبون لمصارعة الديكة استغلوا الفرصة ليتفحصوا الديك. فوجدوا انه في وضع جيد.
    وعاد الكولونيل إلى الغرفة عندما ذهبوا وظل وحيدا مع زوجته التي بدت منفعلة. سألته:
    ـ ما رأيهم.
    أنهم متحمسون. وجميعهم يدخرون المال ليراهنوا على الديك.
    فقالت المرأة:
    ـ لست أدري ما الذي رأوه في هذا الديك القبيح. انه يبدو لي كظاهرة غريبة، فرأسه صغير جدا بالنسبة لقائمتيه.
    أجابها الكولونيل:
    ـ أنهم يقولون بأنه أفضل ديك في المنطقة. ويساوي حوالي خمسين بيزو.
    كان متيقنا انه بهذه الوسيلة سيبرر قراره بالاحتفاظ بالديك، الموروث عن ابنه الذي مات مطعونا قبل تسعة شهور في حلبة مصارعة الديكة، لأنه كان يوزع منشورات سرية. قالت المرأة: 'أن ما تقوله حلم يكلف غاليا. فعندما تنتهي الذرة سيكون علينا أن نغذيه بأكبادنا'. فكر الكولونيل طوال الوقت الذي كان يبحث فيه عن بنطاله القطني في صندوق الملابس، وقال:
    ـ سيكون هذا لبضعة شهور فقط. فقد أصبح معروفا، بشكل مؤكد أن مصارعة للديوك ستجري في كانون الثاني (يناير) وبعد ذلك نستطيع بيعه بسعر أفضل.
    كان البنطال دون كي. فمسدته المرأة فوق فتحة الموقد على صفيحتين من الحديد المحمي على الفحم.
    سألته:
    ـ ما هي ضرورة خروجك إلى الشارع؟
    ـ البريد.
    'لقد نسيت أن اليوم هو الجمعة'، علقت وهي عائدة إلى الغرفة. كان الكولونيل قد ارتدي ملابسه كاملة ما عدا البنطال. ولاحظت هي حذاءه، فقالت:
    ـ هذا الحذاء للرمي. داوم على لبس الجزمة اللامعة ذات الكعب.
    أحس الكولونيل بالكدر. وقال معترضا:
    ـ أنها تبدو كأحذية الأيتام. وكلما لبستها أشعر وكأني هارب من مأوي للأيتام.
    ـ نحن أيتام من ابننا قالت المرأة.
    لقد أفحمته هذه المرة أيضا. اتجه الكولونيل إلى الميناء النهري قبل أن تصفر المراكب. كان يلبس جزمة لامعة، وبنطالا أبيض دون حزام، وقميصا دون ياقة عنق مغلقا في أعلاه بزر نحاسي. وراقب مناورة المراكب وهي تحاول الدخول إلى الميناء بينما كان يقف في متجر موسي السوري نزل المسافرون منهكين بعد ثماني ساعات لم يغيروا خلالها من وضعياتهم. لقد كانوا المسافرين أنفسهم الذين يأتون دائما: باعة متجولين، وبعض أهل القرية الذين سافروا في الأسبوع الماضي وعادوا كالمعتاد.
    المركب الأخير كان مركب البريد. وقد نظر إليه الكولونيل وهو يرسو بجزع قلق. واكتشف كيس البريد على السطح، معلقا بأنابيب البخار ومغطي بقطعة قماش مغلقة. فقد شحذ حسه خمسة عشر عاما من الانتظار. كما شحذ الديك أشواقه. ومنذ اللحظة التي صعد بها موظف البريد إلى المركب، وفك الكيس وألقي به على ظهره، كان الكولونيل يراقبه بنظراته.
    وتابعه عبر الشارع الموازي للميناء، حيث تمتد متاهة من المخازن والباركات التي تعج ببضائع ذات ألوان استعراضية في كل مرة كان الكولونيل يفعل هذا، وكان دوما يحس بقلق مختلف ولكنه كالرعب، باعث على الترقب المتوتر.
    كان الطبيب ينتظر في مكتب البريد ليستلم الصحف. فقال له الكولونيل:
    ـ زوجتي تسألك عما إذا كان أحد ألقي عليك ماء ساخنا في بيتنا.
    كان الطبيب شابا جمجمته مغطاة بشعر مجعد مطلي بمادة براقة. وكان ثمة شيء لا يصدق في دقة ترتيب أسنانه. وقد أبدي اهتماما بصحة المريضة بالربو. وزوده الكولونيل بمعلومات مفصلة عن حالتها دون أن يتوقف عن مراقبة حركات موظف البريد الذي كان يفرز الرسائل مصنفا إياها كلا في كوة خاصة. وقد أغاظت الكولونيل طريقته المتثاقلة في العمل.
    استلم الطبيب رسائله الخاصة مع رزمة الصحف. ووضع جانبا النشرات الدعائية الطبية. ثم تصفح الرسائل الخاصة. وفي أثناء ذلك، قام الموظف بتوزيع الرسائل على أصحابها الموجودين. تطلع الكولونيل إلى الكوة الخاصة به في اللائحة الأبجدية. بينما كانت في يد الموظف رسالة مرسلة بالطائرة حوافيها زرقاء ضاعفت من توتر أعصابه.
    نزع الطبيب مغلف الصحف. وقرأ الأخبار البارزة، بينما كان الكولونيل الذي يثبت نظره على كوته ينتظر من موظف البريد أن يتوقف أمامها. ولكنه لم يفعل ذلك. قطع الطبيب قراءته للصحف. ونظر إلى الكولونيل. ثم نظر إلى الموظف الذي جلس أمام جهاز البرق وعاد ينظر مرة أخرى إلى الكولونيل، وقال:
    ـ فلنذهب.
    قال الموظف الذي لم يرفع رأسه:
    ـ لاشيء للكولونيل.
    فأحس الكولونيل بالخجل، وقال كاذبا:
    ـ لم أكن أنتظر شيئا والتفت نحو الطبيب بنظرة طفولية تماما، وتابع:
    ـ ليس لي من يكاتبني.
    رجعا صامتين. الطبيب مركزا اهتمامه في الصحف. والكولونيل بطريقته المعتادة في المشي التي تبدو كمشية رجل يذرع الشارع بحثا عن قطعة نقود ضائعة. كان مساء ساطعا. وأشجار اللوز في الساحة تلقي آخر أوراقها المتعفنة. وعندما وصلوا إلى باب العيادة كان الليل قد بدأ يخيم.
    ـ ما هي الأخبار سأله الكولونيل.
    فقدم إليه الطبيب عدة صحف، وقال:
    ـ لست أدري... فمن الصعب قراءة ما بين السطور التي تسمح الرقابة بنشرها.
    قرأ الكولونيل العناوين البارزة. كلها أخبار عالمية. في أعلى الصفحة، وعلى أربعة أعمدة، تقرير حول تأميم قناة السويس. الصفحة الأولي كانت ممتلئة كلها تقريبا بالنعوات.
    ـ لا أمل في إجراء انتخابات قال الكولونيل.
    فقال له الطبيب:
    ـ لا تكن ساذجا أيها الكولونيل. فقد أصبحنا كبارا على انتظار المسيح المخلص.
    حاول الكولونيل أن يعيد إليه الصحف، ولكن الطبيب اعترض قائلا:
    ـ خذها معك إلى البيت.. اقرأها هذه الليلة وأعدها لي غدا.
    بعد الساعة السادسة بقليل قرعت في برج الكنيسة أجراس الرقابة السينمائية. إذ أن الأب أنخل يستخدم هذه الوسيلة ليشير إلى النوعية الأخلاقية للفيلم استنادا إلى قائمة التصنيف التي يتلقاها بالبريد كل شهر. عدت زوجة الكولونيل دقات الناقوس، فكانت دقتين.
    ـ انه فيلم سيء لجميع الأعمار... منذ سنة تقريبا وجميع الأفلام سيئة لجميع الأعمار.
    أسدلت ستارة الكلة ودمدمت: 'لقد فسد العالم'. أما الكولونيل فلم يعلق بشيء. وقبل أن ينام ربط الديك إلى قائمة السرير. ثم أغلق البيت ورش مبيد الحشرات في الغرفة. وضع بعدها المصباح على الأرض، وعلق سرير نومه واستلقي ليقرأ الصحف.
    قرأها جميعا حسب تسلسل تواريخها ومن الصفحة الأولي حتى الأخيرة، بما في ذلك الإعلانات. في الحادية عشرة تعالى صوت نفير منع التجول. وختم الكولونيل القراءة بعد نصف ساعة من ذلك. فتح باب البهو باتجاه الليل القاتم، وبال على دعامة السقف الخشبية، التي تعج بالبعوض.. وعندما رجع إلى الغرفة كانت زوجته مستيقظة. سألته:
    ـ أليس في الصحف شيء عن قدماء المحاربين.
    ـ لا شيء.
    قالها الكولونيل ثم أطفأ المصباح قبل أن يدس نفسه في السرير، ثم أردف:
    ـ لقد كانوا سابقا ينشرون على الأقل قائمة بأسماء المحالين الجدد على التقاعد. ولكنهم منذ حوالي خمس سنوات تقريبا لا يذكرون شيئا.
    أمطرت بعد منتصف الليل. واستجاب الكولونيل للنعاس ولكنه استيقظ بعد لحظة مذعورا بسبب أمعائه. وانتبه لوجود ثقب في السقف يتسرب منه الماء إلى مكان ما من البيت. فنهض وقد لف نفسه ببطانية صوفية حتى رأسه وحاول تحديد مكان الثقب في الظلام. انزلق خيط من العرق البارد على عموده الفقري. فأدرك انه مصاب بحمي. وأحسٌ بأنه يطفو في دوائر ذات مركز واحد ضمن بركة من الهلام.
    تكلم احدهم. فرد عليه الكولونيل من سريره المعلق الذي كان يستخدمه وهو ثائر.
    سألته زوجته:
    ـ مع من تتكلم.
    ـ مع الإنجليزي المتنكر كنمر، الذي ظهر في معسكر الكولونيل اوربليانو بوينديا أجابها الكولونيل. ثم استدار في السرير، وهو يتقد بالحمى، وتابع:
    ـ لقد كان دوق مارلبورو.
    استيقظ في غاية الإنهاك. وعندما دق ناقوس الصلاة للمرة الثانية قفز من سريره المعلق وانتصب في واقع من الاضطراب والضوضاء التي كان يسببها صراخ الديك. كان رأسه ما يزال يلف في دوائر ذات مركز واحد. أحس بالغثيان. فخرج إلى البهو واتجه نحو المرحاض عبر الحفيف الناعم وروائح الشتاء المكفهرة. حجرة المرحاض الصغيرة المصنوعة من الأخشاب والمغطاة بسقف من التوتياء كانت تعبق بأبخرة الامونياك المنطلق من المبولة. وعندما رفع الكولونيل الغطاء انطلقت من الفتحة سحابة من الذباب.
    لقد كان ذعرا مزيفا. فعندما اتخذ وضع القرفصاء على الأرضية المصنوعة من خشب لم تصقله فارة النجارة، أحسن بتفاهة رغبته الخائبة. فقد شعر بدل الغثيان بألم ثقيل في الجهاز الهضمي. 'لاشك في هذا' تمتم الكولونيل 'فدائما يحدث لي نفس الشيء في أكتوبر'. وظهرت عليه سيماء الواثق البريء الآمل إلى أن خمد الفطر الذي في أحشائه. عندئذ عاد إلى الغرفة ليري الديك.
    قالت له زوجته:
    ـ لقد كنت تهذي من الحمي في الليل.
    كانت قد بدأت بترتيب الغرفة التي لم تنظم طوال أسبوع الأزمة، وحاول الكولونيل جاهدا أن يتذكر. ثم قال كاذبا:
    ـ لم تكن الحمي، وإنما هو حلم العناكب من جديد.
    وكما يحدث دائما، خرجت المرأة من الأزمة بحماسة شديدة. ففي فترة الصباح قلبت البيت رأسا على عقب. وأبدلت مكان كل الأشياء ما عدا الساعة ولوحة حورية البحيرات. لقد كانت ضئيلة ومرنة لدرجة أنها عندما كانت تتنقل بخفها الذي صنع من القطيفة وثوبها الأسود المغلق بكامله، تبدو وكأنها تملك خاصية المقدرة على اختراق الجدران. ولكن قبل أن تصل الساعة إلى الثانية عشرة كانت قد استعادت كثافتها، وثقلها الإنساني. لقد كانت في السرير فراغا. أما الآن، وهي تتحرك بين أصص السرخس والبيجونيا، فإن و جودها يملأ البيت. 'لو أن سنة مضت على وفاة أغوستين لكنت غنيت' قالت، وهي تحرك القدر الذي يغلي على الموقد والذي يحتوي على جميع أصناف نباتات الأكل التي بامكان أرض الاستواء إنتاجها، مقطعة إلى قطع متشابهة.
    قال لها الكولونيل:
    ـ إذا كنت تشعرين برغبة في الغناء غني. فهذا مفيد من أجل الغدة الصفراء.
    بعد الغداء حضر الطبيب. كان الكولونيل وزوجته يتناولان القهوة في المطبخ عندما دفع الباب المؤدي إلى الشارع وهتف:
    ـ لقد مات المرضي.
    نهض الكولونيل لاستقباله، وقال وهو يقوده إلى الصالة:
    ـ أن الأمر كذلك أيها الدكتور. ودائما كنت أقول لك أن ساعتك تمضي مع ساعة الدجاجات.
    ذهبت المرأة إلى الغرفة لتعد نفسها للفحص. وبقي الطبيب في الصالة مع الكولونيل. ورغم الحر، فإن بدلته المصنوعة من الكتان السادة كانت تطلق نفحة من البرودة. وعندما أعلنت المرأة أنها مستعدة، قدم الطبيب إلى الكولونيل ثلاث رزم من الورق ضمن مغلف. وقال: 'هذا هو ما لم تقله صحف الأمس'. ثم دخل إلى الغرفة.
    لقد خمن الكولونيل ذلك. فقد كانت تلك الأوراق تحتوي أهم آخر الأحداث على المستوي الوطني مطبوعة على آلة سحب، للتداول السري، وتقريرا عن وضع المقاومة المسلحة داخل البلاد. أحس بالانهيار. فعشر سنوات من الإعلام السري لم تعلمه بأنه ليس هناك أي خبر أكثر مفاجأة من أخبار الشهر القادم. كان قد انتهي من القراءة عندما رجع الطبيب إلى الصالة وقال:
    ـ إن هذه المريضة في حالة أحسن من حالتي. فبإصابة بالربو كهذه سأكون قادرا على العيش مائة سنة.
    نظر إليه الكولونيل بتجهم. وأعاد إليه المغلف دون أن يتفوه بكلمة واحدة، ولكن الطبيب رده قائلا بصوت خافت:
    ـ أطلع عليه آخرين.
    وضع الكولونيل المغلف في جيب بنطاله. خرجت المرأة من الغرفة قائلة: 'في يوم قريب سأموت وسأحملك معي إلى الجحيم أيها الدكتور'. رد الطبيب صامتا بإظهار ميناء أسنانه المرتبة. ثم أدار كرسيا نحو الطاولة الصغيرة وتناول من حقيبته عدة زجاجات من أدوية العينات المجانية. مضت المرأة مسرعة نحو المطبخ:
    ـ انتظر ريثما أسخن لك القهوة.
    ـ لا، شكرا جزيلا قال لها الطبيب وهو يكتب مقدار الجرعة على ورقة من الأوراق المرفقة بالزجاجات والتي تحتوي تركيب الدواء، وتابع:
    ـ إني ارفض رفضا قاطعا منحك الفرصة لتسميمي.
    ضحكت وهي في المطبخ. وعندما انتهي الطبيب من الكتابة، قرأ ما كتبه بصوت عال، إذ كان يعرف أن أحدا لا يستطيع حل رموز كتابته. حاول الكولونيل أن يركز انتباهه. وعندما رجعت المرأة من المطبخ لاحظت على وجهه الآم الليلة الماضية، فقالت للطبيب وهي تشير إلى زوجها:
    ـ لقد عاني لليلة من الحمي. وأمضي حوالي ساعتين وهو يهذي بهراء عن الحرب الأهلية.
    ذعر الكولونيل، وقال بإصرار:
    'لم تكن حمي'، ثم تابع وهو يستعيد رصانته: 'وفوق ذلك، في اليوم الذي سأشعر فيه بأني مريض فاني لن أضع نفسي بين يدي احد. وإنما سألقي بنفسي إلى صندوق القمامة'.
    ذهب إلى الغرفة لإحضار الصحف.
    ـ شكرا أيها الزهرة قال الطبيب.
    سارا معا نحو الساحة. كان الهواء جافا. وإسفلت الشارع بدأ يذوب بسبب الحر. وعندما ودعه الطبيب، سأله الكولونيل بصوت خافت، وقد ضغط على أسنانه:
    ـ بكم نحن مدينون لك أيها الدكتور.
    قال الطبيب:
    ـ لاشيء في الوقت الحاضر ثم ربت على ظهره قائلا:
    ـ سآتيك بلائحة ديون سمينة عندما يكسب الديك.
    اتجه الكولونيل إلى دكان الخياط ليعطي الرسالة السرية لأصدقاء أغوستين. لقد كان هذا المحل هو مأواه الوحيد منذ أخذ رفاقه في الحزب يموتون أو يطردون من القرية، وتحول هو إلى مجرد رجل وحيد لا اهتمامات لديه سوي انتظار البريد كل يوم جمعة.
    دفء الأصيل أثار ديناميكية المرأة. وبينما هي جالسة إلى جانب أزهار البيجونيا التي في الممر وبجانبها صندوق ملابس قديمة لا نفع منها، مرة أخرى المعجزة الخارقة بصنع ملابس جديدة من لاشيء. فقد صنعت أطواقا للمعاصم، وياقة من نسيج ظهر رداء مهترىء ثم جمعت قصاصات مربعة، ومنتظمة، من أجزاء قماشية مختلفة الألوان. أطلق صرار لصفيره العنان في البهو. والشمس مالت للمغيب. ولكن المرأة لم تنتبه إليها وهي تحتضر فوق أزهار البيجونيا. ورفعت رأسها عندما خيم الليل فقط لدي عودة الكولونيل إلى البيت. عندئذ ضغطت الياقة بيديها الاثنتين ودعكت أماكن الوصل إلى القماش، وقالت: 'لقد صار دماغي جامدا مثل هراوة'.
    فقال لها الكولونيل:
    ـ لقد كان هكذا دائما.
    ولكنه انتبه بعد ذلك إلى جسد المرأة المغطي بقطع القماش الملونة، فقال:
    ـ انك تبدين كعصفور نجار.
    ـ يجب أن أكون نصف نجارة لأستطيع تأمين الملابس لك قالت ومدت إليه قميصا مصنوعا من أنسجة ذات ثلاثة ألوان مختلفة، باستثناء الياقة والمعصمين إذ كانت بلون موحد، ثم أردفت المرأة:
    ـ يكفي أن تخلع الجاكيت فقط في الكرنفال.
    قاطعتها أجراس الساعة السادسة. 'أن ملاك الحرب ينادي للصلاة'، صلٌت بصوت عال، وهي تتجه إلى غرفة النوم حاملة الملابس، تبادل الكولونيل الحوار مع الصبيان الذين حضروا بعد خروجهم من المدرسة للتفرج على الديك. ثم تذكر أنه لم تعد لديهم ذرة تكفي الديك لليوم التالي فدخل إلى غرفة النوم ليطلب نقودا من امرأته.
    ـ أعتقد أن لم يعد لدينا سوي خمسين سنتا قالت.
    كانت تخفي النقود تحت حصيرة الفراش، وقد ربطت عليها عدة عقد في طرف منديل. كانت تلك النقود ثمن ماكينة الخياطة التي كان يملكها أغوستين. لقد أنفقوا خلال تسعة شهور تلك النقود سنتا بعد سنت، مقسمين إياها ما بين ضرورياتهم وضروريات الديك. ولم يبق منها الآن سوي قطعتين من فئة العشرين وقطعة من فئة العشرة سنتات.
    قالت المرأة:
    ـ اشتر رطلا من الذرة. واشتر بالباقي بنا لقهوة الصباح وأربع اونصات من الجبن.
    ـ وفيلاّ مذهبا لنعلقه على الباب تابع الكولونيل مقلدا إياها، ثم قال:
    ـ أن الذرة وحدها تساوي اثنين وأربعين سنتا.
    فكرا لبرهة. 'أن الديك حيوان، وسواء لديه أن انتظر بلا طعام'، قالت المرأة مبدئيا. ولكن تعابير وجه زوجها أجبرتها على إعادة النظر، جلس الكولونيل على السرير، وأسند مرفقيه إلى ركبتيه، بينما كانت قطع النقود المعدنية ترن بين يديه. ثم قال بعد برهة: 'أنا لا أريد الديك لنفسي... لو أن الأمر متعلق بي لقمت هذه الليلة بالذات بإعداد وجبة من الديك. ولا شك أن تخمة من خمسين بيزو ستكون شيئا جيدا'.
    وتوقف قليلا ليسحق بعوضة على رقبته. ثم لاحق زوجته، بالنظر، وهي تمضي في أنحاء الغرفة. وقال:
    ـ أن ما يشغل تفكيري هو أن هؤلاء الشبان المساكين يدخرون النقود للرهان على الديك.
    عند ذلك بدأت هي بالتفكير. قامت بدورة كاملة في الغرفة وهي تحمل مضخة مبيد الحشرات. وأحس الكولونيل شيئا خرافيا في موقفها. شعر وكأنها تستدعي أرواح البيت لاستشارتها. وأخيرا وضعت المضخة على مذبح من الحجر المنقوش وثبتت عينيها اللتين بلون الرجبٌ، وقالت:
    ـ اشترِ الذرة. والله يعلم كيف سنتدبر نحن أمرنا.
    ******
    هذه هي معجزة تكثير الخبز'، هكذا كان الكولونيل يكرر كلما جلس إلى المائدة طوال الأسبوع التالي.
    وبمهارتها المذهلة في الإصلاح والرفأ والترقيع، كانت تبدو وكأنها اكتشفت لغز تدعيم الاقتصاد البيتي في الفراغ. وقد أطال أكتوبر استراحته. وحلت الرطوبة محلٌ الغيبوبة. وانعشتها الشمس النحاسية، فخصصت المرأة ثلاث ليال لتنهمك بتسريح شعرها. 'الآن بدأت الصلاة المغناة'، هكذا قال لها الكولونيل في الأمسية التي حلٌت بها فتائل شعرها الزرقاء بمشطي أسنانه متباعدة. في الأمسية التالية، وهي جالسة في البهو وشرشف أبيض على حضنها، استخدمت مشطا أكثر نعومة لتنزع القمل الذي تكاثر خلال الأزمة. وأخيرا غسلت شعرها بماء الخزامى، وانتظرت حتى جف، ثم عقصت الشعر على الرقبة في لفتين وثبتته بمشبك.
    استلقي الكولونيل في الليل مسهدا في سريره، لقد قاسي كثرا وهو يفكر بمصير الديك. ولكن عندما وزنوه يوم الأربعاء كان في حالة جيدة.
    في تلك الليلة ذاتها، وعندما غادر أصدقاء أغوستين البيت، وهم يضعون حساباتهم السعيدة عن فوز الديك، أحس الكولونيل أيضا بأنه في حالة جيدة. قصت امرأته له شعره. 'لقد رفعتِ عشرين سنة عن كاهلي' قال لها وهو يتلمس رأسه بيديه. ففكرت المرأة بان زوجها على حق، وقالت:
    ـ عندما أكون في حالة جيدة فاني قادرة على بعث ميت من موته.
    ولكن إيمانها هذا استمر لساعات قليلة فقط. إذ لم يبق في البيت شيء يستحق البيع، ما عدا الساعة واللوحة. وفي يوم الخميس ليلا، أبدت المرأة قلقها لهذا الوضع أمام نضوب آخر الموارد.
    فقال لها الكولونيل مواسيا:
    ـ لا تقلقي، فغدا يأتي البريد.
    في اليوم التالي، وبينما كان ينتظر مركب البريد أمام عيادة الطبيب، قال الكولونيل وعيناه معلقتان على كيس البريد:
    ـ أن الطائرة لشيء عظيم، فهم يقولون بأنها قادرة على الوصول إلى أوروبا في ليلة واحدة.
    'أجل، هذا صحيح' ـ، قال الطبيب وهو يهوي وجهه بمجلة مصورة. ورأي الكولونيل موظف البريد يقف بين مجموعة من الناس وهو ينتظر انتهاء المركب من مناورته ليقفز إليه. كان أول من قفز. وتسلم من الكابتن مظروفا ختم بالشمع الأحمر، ثم صعد إلى سطح المركب، حيث كان كيس البريد معلقا فوق برميلين للبترول.
    ـ ولكن رغم ذلك، فإن للطائرة مخاطرها قال الكولونيل. وأضاع نظره موظف البريد، ولكنه عثر عليه من جديد إلى جانب الزجاجات الملونة في عربة المرطبات. فتابع قائلا:
    ـ إن الإنسانية لا تتقدم مجانا.
    قال الطبيب:
    ـ أنها حاليا أكثر أمانا من السفينة. فعلى ارتفاع عشرين ألف قدم يكون الطيران فوق العواصف.
    ـ عشرون ألف قدم كرر الكولونيل وهو حائر، دون أن يستوعب الرقم تماما.
    اهتم الطبيب بالأمر، فشٌد المجلة بيديه الاثنتين إلى أن تمكن من تثبيتها بشكل كامل، وقال:
    ـ ثمة استقرار تام.
    ولكن الكولونيل كان يلاحق موظف البريد. رآه وهو يشرب مرطبا له رغوة وردية حاملا الكوب بيده اليسرى، بينما كان يمسك كيس البريد بيده اليمني.
    تابع الطبيب حديثه:
    ـ إضافة إلى هذا، توجد بواخر راسية في البحر وهي على اتصال دائم بالطائرات الليلية. وبهذه الاحتياطيات الكثيرة. فإن الطائرات أكثر أمانا من السفن'.
    نظر الكولونيل. إليه وقال:
    ـ بالتأكيد. لابد أنها مثل البساط.
    اتجه الموظف نحوهما مباشرة. مال الكولونيل برغبة لا تقاوم محاولا قراءة الاسم المكتوب على الظرف المختوم بالشمع الأحمر. فتح الموظف الكيس. وسلٌم الطبيب رزمة الصحف. ثم مزق طرف المظروف الذي يضم الرسائل الخاصة وتحقق من صحة جهة الإرسال، ثم قرأ عن الرسائل أسماء المرسل إليهم. فتح الطبيب الصحف وقال وهو يقرأ العناوين البارزة:
    ـ ما تزال قضية السويس مستمرة. إن الغرب يفقد مواقعه.
    قال الكولونيل الذي لم يقرأ العناوين، والذي قام بمجهود ليسيطر على آلام معدته: 'منذ فرضت الرقابة والصحف لا تتحدث إلا عن أوروبا.. من الأفضل أن يأتي الأوروبيون إلى هنا ونذهب نحن إلى أوروبا. وهكذا سيعرف كل منا ما الذي يجري في بلده'.
    فقال الطبيب ضاحكا، ودون أن يرفع نظره عن الصحف:
    ـ أن أمريكا الجنوبية بالنسبة للأوروبيين هي رجل له شارب، يحمل غيتارا ومسدسا... أنهم لا يفهمون مشاكلنا.
    ناوله موظف البريد رسائله، ودس الباقي في الكيس وعاد ليغلقه من جديد. استعد الطبيب ليقرأ رسائله الشخصية. ولكن قبل أن يشق مغلفاتها نظر إلى الكولونيل، ثم نظر إلى الموظف:
    ـ ألا يوجد شيء للكولونيل.
    أحس الكولونيل بالذعر. ألقي الموظف بالكيس على كتفه ونزل الرصيف وأجاب دون أن يدير رأسه:
    ـ ليس لدي الكولونيل من يكاتبه.
    على غير عادته، لم يذهب لتوه إلى بيته. تناول قهوة في محل الخياطة بينما كان أصدقاء اغوستين يتفحصون الصحف. أحس بأنه مغبون. وكان يفضل البقاء هناك حتى يوم الجمعة التالي كي لا يقف هذه الليلة أمام زوجته صفر اليدين. ولكن عندما أغلقوا المحل كان عليه أن يواجه الواقع. سألته المرأة التي كانت تنتظره:
    ـ لاشيء.
    ـ لاشيء أجابها الكولونيل.
    يوم الجمعة التالي ذهب إلى حيث المراكب. ومثل كل جمعة رجع إلى البيت دون الرسالة المنتظرة. قالت له زوجته هذه الليلة: 'لقد انتظرنا ما فيه الكفاية. يجب أن يكون للمرء صبر الجواميس مثلك لينتظر رسالة طوال خمس عشرة سنة'. فقال الكولونيل وهو يدس نفسه في السرير ليقرأ الصحف.
    ـ يجب أن ننتظر دورنا أن رقمنا هو ألف وثمانمائة وثلاثة وعشرون.
    ردت المرأة:
    ـ لقد كسب هذا الرقم مرتين في اليانصيب منذ بدأنا الانتظار.
    قرأ الكولونيل الصحف كالعادة، من الصفحة الأولي حتى الأخيرة، بما في ذلك الإعلانات. ولكنه لم يركز انتباهه هذه المرة. إذ كان يفكر خلال القراءة بمعاشه التقاعدي: قبل تسع عشرة سنة، عندما أصدر الكونجرس القانون، بدأت عملية مماطلة استمرت ثماني سنوات، وبعد ذلك احتاج لست سنوات أخرى حتى تمكن من ضم اسمه إلى قائمة قدماء المحاربين. وكانت تلك آخر رسالة يتلقاها الكولونيل.
    انتهي من القراءة بعد سماعه إشارة منع التجول. وعندما مضي ليطفىء المصباح تأكد اعتقاده بان زوجته مازالت مستيقظة:
    ـ أما زلت تحتفظين بتلك القصاصة
    فكرت المرأة، وقالت:
    ـ أجل، يجب أن تكون محفوظة مع الأوراق الأخرى.
    خرجت من تحت الكلٌة وأخرجت من الخزانة صندوقا خشبيا به حزمة من الرسائل المرتبة حسب تواريخها والمشدودة إلى بعضها برباط مطاطي. سحبت من بينها إعلانا من وكالة للمحاماة يعد بمتابعة فعالة لقضية رواتب المتقاعدين بعد الحرب.
    ـ لو أنك فعلت هذا منذ بدأت أحدثك بموضوع استبدال المحامي لكان لدينا متسع من الوقت حتى لإنفاق المال قالت المرأة وهي تسلم لزوجها قصاصة الجريدة، ثم أردفت:
    ـ إذا ما وضعوه لنا في صندوق كما يفعلون بالهنود.
    قرأ الكولونيل القصاصة التي تحمل تاريخا مضت عليه سنتان، ووضعها في جيب القميص المعلق وراء الباب.
    ـ السيئ في الأمر هو أن استبدال محام بآخر يتطلب نقودا.
    فقالت المرأة بتصميم:
    ـ لاشيء من هذا. اكتب لهم قائلا بان يحسموا المبلغ الذي يريدونه من الراتب التقاعدي نفسه عندما يحصلون عليه. أنها الطريقة الوحيدة لجعلهم يهتمون بالقضية.
    وهكذا ذهب الكولونيل مساء يوم السبت لزيارة محاميه فوجده مستلقيا على السرير المعلق دون هموم. كان رجلا اسود يشبه تمثالا ضخما، ليس له سوي نابين في فكه العلوي. دسٌ المحامي قدميه في خفٌ نعله من الخشب وفتح نافذة المكتب من فوق بيانو أوتوماتيكي يغطيه الغبار وعليه أوراق محشوة في فراغات لفافات اسطوانية وقصاصات من 'الجريدة الرسمية' ملصقة بالصمغ على دفاتر قديمة لمسك الحسابات، ومجموعة من نشرات المحاسبة للإطلاع. وكان البيانو الأوتوماتيكي الذي بلا مفاتيح يستخدم كطاولة للكتابة.
    بدأ الكولونيل بعرض ما يساوره من قلق قبل أن يعلن عن غرض زيارته.
    'لقد حذرتك من قبل بأن القضية لن تحل بين يوم وآخر'، قال المحامي مستغلا احدي وقفات الكولونيل عن الحديث. كان الحر يسحقه. فشّد إلى الوراء نوابض مسند الكرسي وحرك أما وجهه قطعة من الورق المقوي عليها كتابة دعائية مستخدما إياها كمروحة، وقال:
    ـ أن وكلائي كثيرا ما يكتبون إلى بأنه يجب ألا نيأس. فرد الكولونيل:
    ـ إني أسمع هذا الكلام ذاته منذ خمسة عشر عاما. لقد أصبح هذا الكلام مثل حكاية الديك المخصي.
    قدم المحامي شرحا بيانيا مسهبا للصعوبات الإدارية التي تعترضه. كان الكرسي ضيقا جدا بالنسبة لاليتيه الخريفتين.
    قال 'منذ خمس عشرة سنة كان الأمر أكثر سهولة، ففي ذلك الوقت كانت عناصر الجمعية البلدية لقدماء المحاربين مؤلفة من كلا الحزبين'. ملأ رئتيه بهواء حارق، ثم تلفظ بعبارة حكيمة وكأنه انتهي من اختراعها لتوه:
    ـ الاتحاد يصنع القوة.
    قال الكولونيل، وقد تنبه لأول مرة في حياته إلى عزلته:
    ـ ولكنه لم يفعل ذلك في قضيتنا. فجميع رفاقي ماتوا وهم ينتظرون البريد.
    لم يتأثر المحامي. وقال:
    ـ لقد صدر القانون متأخرا جدا. ولم يحظ الجميع بحظ مثل حظك فقد كنت كولونيلا في العشرين من العمر. وأضيفت بعد هذا مادة خاصة للقانون، ولهذا كان على الحكومة أن تقوم بترقيع في الميزانية.
    دائما نفس القصة. وفي كل مرة يسمعها الكولونيل يشعر بحقد أصم. 'أن ما اطلبه ليس صدقة. ليس قضية تقديم إحسان. لقد تمزقت جلودنا لننقذ الجمهورية'.
    فتح المحامي ذراعيه وقال:
    ـ نعم. الأمر هكذا أيها الكولونيل. ولكن الجحود البشري لا حدود له وهذه لقصة يعرفها أيضا الكولونيل. فقد بدأ يسمعها منذ اليوم التالي لاتفاقية 'نيرلانديا' عندما وعدت الحكومة بتقديم بدل سفر وتعويض لمائتين من ضباط الثورة. وعسكرت حول شجرة الثييبا العملاقة في نيرلانديا فرقة ثورية مؤلفة في غالبيتها من شبان يافعين هاربين من مدارسهم، وانتظرت الفرقة طوال شهور ثلاثة. رجع أفرادها بعد ذلك إلى بيوتهم على نفقتهم الخاصة وهناك تابعوا الانتظار. وبعد مرور ستين سنة تقريبا مازال الكولونيل ينتظر.
    وهاج الكولونيل بتأثير هذه الذكريات، فاتخذ وضعا خطيرا: اسند يده اليمني على عظم الفخذ، ودمدم:
    ـ لقد صممت على اتخاذ قرار.
    وقف المحامي حائرا:
    ـ ماذا تعني
    ـ استبدال المحامي.
    دخلت بطة يتبعها عدد من فراخها إلى المكتب. فنهض المحامي ليطردها خارجا، 'كما تشاء أيها الكولونيل'. قال وهو يهش تلك الحيوانات. 'سيكون لك ما تريد. ولو كنت قادرا على تحقيق المعجزات لما عشت في هذا القن'. وضع حاجزا خشبيا على باب البهو ثم عاد إلى مقعده.
    قال الكولونيل:
    ـ لقد اشتغل ابني طوال حياته، وبيتي مرهون.. لقد أصبح قانون التقاعد مصدر تقاعد للمحامين مدي الحياة.
    فاعترض المحامي:
    ـ ولكنه ليس كذلك بالنسبة لي. فقد أنفقت النقود حتى أخرها في تقديم الالتماسات.
    تألم الكولونيل لتفكيره بأنه وقع ضحية ظلم. فقال مصححا:
    هذا ما أردت قوله ثم جفف جبهته بكم قميصه، وتابع:
    ـ أن براغي الرأس قد صدئت بسبب هذا الحر.
    بعد لحظة، قلب المحامي المكتب بحثا عن التوكيل. وتقدمت الشمس نحو منتصف الغرفة الضيقة المشادة من أخشاب دون سحج. وبعد أن بحث في كل مكان دون فائدة، انحني على يديه ورجليه، وهو يزفر، وتناول لفافة أوراق من تحت البيانو الأوتوماتيكي:
    ـ هاهو.
    ثم قدم للكولونيل ورقة عليها عدة أختام، وأضاف: 'يجب أن اكتب إلى وكلائي لأتلاف النسخ التي لديهم'، نفض الكولونيل الغبار ووضع الورقة في جيب قميصه.
    ـ مزقها أنت بنفسك.
    'لا'، أجاب الكولونيل. 'أنها عشرون سنة من الذكريات'. وانتظر أن يتابع المحامي بحثه. ولكنه لم يفعل ذلك. مضي نحو السرير المعلق ليجفف العرق. ومن هناك نظر إلى الكولونيل من خلال الفراغ المتلالىء.
    ـ إنني بحاجة للوثائق أيضا قال الكولونيل.
    ـ أية وثائق.
    ـ الإثباتات.
    فتح المحامي ذراعيه قائلا:
    ـ سيكون هذا مستحيلا أيها الكولونيل.
    ذعر الكولونيل. لأنه عندما كان ضابطا ماليا للثورة في إقليم ماكوندو، قام برحلة شاقة استمرت ستة أيام وهو يحمل أرصدة وأموال الحرب الأهلية في صندوقين مربوطين على متن بغلة ليصل إلى معسكر نيرلانديا، وهو يجر البغلة التي قتلها الجوع. قبل نصف ساعة من توقيع الاتفاقية. وقد أعطاه الكولونيل اوريليانو بوينديا رئيس إدارة التموين العامة للقوات الثورية على شاطىء الأطلنطي إيصالا بالأموال وأدخل الصندوقين في قائمة الجرد الخاصة بالاستلام.
    قال الكولونيل:
    ـ أنها وثائق ذات قيمة لا تقدر. ويوجد بينها إيصال مكتوب بخط ويد الكولونيل اوريليانو بوينديا.
    قال المحامي:
    ـ أعرف ذلك. ولكن هذه الوثائق مرت على آلاف وآلاف الأيدي، وعلى آلاف وآلاف المكاتب حتى وصلت، من يدري، إلى أية دائرة في وزارة الحربية.
    ـ إن وثائق من هذا النوع لا يمكن أن تمر على أي موظف دون أن يوليها الأهمية. قال الكولونيل.
    فرد المحامي مدققا:
    ـ ولكن الموظفين تبدلوا عدة مرات خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة.. تذكر بأن ستة رؤساء قد تبادلوا السلطة وكل رئيس غير أعضاء حكومته عشر مرات على الأقل وكل وزير استبدل موظفيه مائة مرة على الأقل.
    قال الكولونيل :
    ـ ولكن لا يمكن لأي منهم أن يأخذ تلك الوثائق إلى بيته. ولا بد أن كل موظف كان يجد الأوراق في مكانها.
    يئس المحامي، فقال له:
    ـ وإضافة إلى هذا، فان هذه الأوراق إذا ما خرجت الآن من وزارة الحربية ستخضع للسير في الدور من جديد في جدول أقدمية المتقاعدين.
    ـ هذا لا يهمني قال الكولونيل.
    ـ ولكنها ستكون مسألة قرون من الزمن.
    ـ ليس مهما، فمن انتظر الكثير ينتظر القليل.
    *******
    مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

    لا يوجد حالياً أي تعليق


      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 9:52 pm