[size=24]حمل إلى الطاولة الصغيرة في الصالة دفترا من ورق مسطر، وريشة ومحبرة وورقة نشاف، وترك الباب المؤدي إلى الغرفة مفتوحا حتى يستطيع استشارة زوجته إذا ما لزم الأمر. بينما كانت هي تصلي صلاة المساء.
سألها:
ـ في أي يوم نحن
27 أكتوبر (تشرين الأول).
بدأ يكتب متخذا وضعية مدروسة، فاليد التي تحمل الريشة موضوعة فوق ورقة النشاف، والعمود الفقري عمودي لتسهيل التنفس، كما علموه في المدرسة. أصبح الحر لا يطاق في الصالة المغلقة. وانزلقت منه قطرة عرق على الرسالة. فالتقطها الكولونيل بورقة النشاف. حاول بعد ذلك أن يحكٌ الكلمات التي تحلل حبرها، ولكنه أحدث لطخة. لم ييأس كتب نداء ودوٌن في الهامش: 'الحقوق محفوظة'. ثم قرأ الفقرة بكاملها.
ـ في أي يوم ادخلوا اسمي في قائمة قدماء المحاربين. لم تقطع المرأة صلاتها لتفكر، بل قالت:
ـ في 21 أغسطس (آب) .1949
بعد لحظات بدأ المطر يهطل. ملأ الكولونيل صفحة كاملة بخط كبير مشوش وطفولي بعض الشيء، كما علموه في المدرسة العامة في 'ماناوري'. ثم ملأ صفحة أخرى حتى منتصفها، ووضع توقيعه.
قرأ الرسالة على زوجته. ووافقت هي على كل جملة بحركة من رأسها. وعندما انتهي من القراءة أغلق المظروف وأطفأ المصباح.
ـ يمكنك أن تطلب من احدهم أن ينسخها لك على آلة كاتبة.
ـ لا، لقد تعبت وأنا اطلب المعروف من الآخرين. أجابها الكولونيل.
ولمدة نصف ساعة، أحس بالمطر الذي يتساقط على سفح السطح. وغرقت القرية كلها بالوابل. وبعد نفير منع التجول بدأت قطرات المطر تنزلق من مكان ما من البيت.
ـ كان يجب إصلاح هذا منذ زمن طويل قالت المرأة، ثم أردفت:
ـ من الأفضل دائما أن نفهم الأمور في حينها.
قال الكولونيل، مشيرا إلى الماء المتسرب:
ـ لاشيء متأخرا أبدا. يمكن أن تحل جميع هذه الأمور عندما ينتهي رهن البيت.
ـ بقيت سنتان.
أشعل المصباح ليحدد مكان الثقب الذي في سقف الصالة. ثم وضع تحته علبة الصفيح التي يشرب منها الديك وعاد إلى غرفة النوم تلحقه الفرقعة المعدنية التي يحدثها الماء. عند اصطدامه بالعلبة الفارغة.
ـ ربما فكوا الرهن قبل كانون الثاني (يناير) ساعين لكسب النقود قال، وأقنع نفسه بذلك، ثم تابع:
ـ عندها تكون قد انقضت سنة على وفاة اغوستين ونستطيع الذهاب إلى السينما.
ضحكت هي بصوت خافت وقالت: 'حتى إني ما عدت اذكر صورا مشوشة منها'. حاول الكولونيل رؤيتها من خلال الكلة:
ـ متى ذهبت إلى السينما لآخر مرة؟
فقالت:
ـ سنة .1931 وكان يعرضون يومها فيلم 'إرادة الميت'.
ـ وهل كان به رعب.
ـ لم يعرف ذلك أبدا. فقد انقطع وابل المطر عندما كان الشبح يحاول سرقة العقد من الفتاة.
هسسة المطر جعلتهما يغفوان. شعر الكولونيل بألم خفيف في أمعائه، ولكنه لم يفزع. كان على وشك أن يجتاز أكتوبر آخر وهو حي. لف نفسه ببطانية صوفية وأحس للحظة بتنفس المرأة المتقطع أحسه نائيا وهي تبحر في حلم آخر. عندئذ تكلم، وهو واع تماما.
استيقظت المرأة:
ـ مع من تتكلم
فرد الكولونيل:
ـ ليس مع احد. كنت أفكر بأننا كنا محقين عندما قلنا للكولونيل اوريليانو جوينديا، في اجتماع ماكوندو بأن لا يستلم. فهذا هو السبب في ضياع الجميع.
أمطرت طوال الأسبوع. وفي اليوم الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) وضد مشيئة الكولونيل - أخذت المرأة زهورا إلى قبر اوغستين. وعند عودتها من المقبرة، كانت مصابة بنوبة ربو جديدة. كان أسبوعا قاسيا.. أكثر قسوة من أسابيع أكتوبر الأربعة التي اعتقد الكولونيل انه لن يجتازها حيا.
حضر الطبيب لعيادة المريضة وخرج من الغرفة صارخا: 'بربو كهذا، سأكون مستعدا لدفن القرية بكاملها'. ولكنه تحدث مع الكولونيل على انفراد ووصف للمريضة علاجا يعتمد نظاما خاصا.
عاني الكولونيل أيضا من نكسة صحية. واحتضر لساعات طويلة في المرحاض، وتعرق ثلجا، وهو يحس بنباتات أحشائه تتعفن وتسقط متفتتة إلى قطع صغيرة. 'انه الشتاء'، كرر دون يأس. 'كل شيء سيكون مختلفا عندما تنتهي الأمطار'. واقتنع بذلك فعلا، متأكدا انه سيكون على قيد الحياة عندما ستصله الرسالة.
لقد أصبح من واجبه هذه المرة أن يعني بترقيع الاقتصاد المنزلي. وكان عليه أن يضغط على أسنانه مرات ومرات وهو يطلب الاستدانة من الدكاكين المجاورة. 'حتى الأسبوع القادم فقط'، كان يقول لهم، دون أن يكون متأكدا هو نفسه بأن هذا صحيح. 'ثمة' نقود كان يجب أن تصلني منذ يوم الجمعة'. وعندما خرجت المرأة من أزمتها تعرفت عليه مذهولة:
ـ لقد صرت عظما اجرد.
فقال لها الكولونيل:
ـ إنني اعتني بنفسي لأكون صالحا للبيع. وقد بعت نفسي لمصنع يصنع المزامير.
ولكنه في الواقع بالكاد كان يقف مستندا على أمل الرسالة. وبسبب إرهاقه، وبسبب عظامه التي سحقها الإجهاد، فانه لم يستطع أن يعتني بحاجاته وحاجات الديك الضرورية في الوقت ذاته. في النصف الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) رأي أن الديك سيموت بعد أن أمضي يومين بلا ذرة. عندئذ تذكر حفنة من اللوبيا كان قد علقها في شهر يوليو (تموز) فوق الموقد. فتح الكيس الذي يحتوي على اللوبيا ووضع أمام الديك علبة ممتلئة بالحبوب الجافة.
فقالت له:
ـ تعال هنا.
أجابها الكولونيل:
ـ سآتيك حالا
ثم قال لنفسه وهو يراقب ردة فعل الديك:
ـ عند الجوع لا يوجد خبز سيء.
وجد زوجته تحاول الاعتدال في السرير. ومن الجسد التالف كانت تصدر روائح إعشاب طيبة. تلفظت بالكلمات، كلمة كلمة، بتدقيق محسوب:
ـ اخرج بهذا الديك حالا من هنا.
كان الكولونيل قد أعد نفسه لهذه اللحظة. كان ينتظرها منذ الأمسية التي قتل بها ابنه وقرر هو الاحتفاظ بالديك. لذلك كان لديه وقت طويل ليفكر.
قال:
ـ لم يعد الأمر يستحق ذلك، فخلال ثلاثة شهور ستجري مباراة مصارعة الديكة وعندها نستطيع أن نبيعه بأغلى الأسعار.
فقالت المرأة:
ـ القضية ليست قضية نقود. عندما يأتي الشباب قل لهم أن يأخذوه وليفعلوا به ما يرغبون.
قال لها الكولونيل مستخدما حجة محضرة مسبقا:
ـ إني احتفظ به من أجل أغوستين... تصوري وجهه لو انه اتى يومها ليخبرنا بفوز الديك.
صرخت المرأة وقد فكرت فعلا بابنها:
'لقد كانت هذه الديكة اللعينة هي سبب ضياعه. فلو انه بقي في البيت يوم الثالث من يناير (كانون الثاني) ذاك، لما كانت فاجأته ساعة الشر'. ثم وجهت سبابتها الضامرة نحو الباب وهتفت:
ـ يبدو لي وكأني كنت أري ما سيجري عندما خرج حاملا الديك تحت ذراعيه. لقد حذرته بألا يذهب بحثا عن موته في ملعب مصارعة الديوك، ولكنه كشر عن أسنانه وقال لي: 'اصمتي، فهذا المساء سنتعفن من كثرة النقود'.
سقطت منهكة دفعها برفق الكولونيل نحو الوسادة. واصطدمت عيناه بعينين مشابهتين تماما لعينيه. 'حاولي ألا تتحركي'، قال لها وهو يحس بالصفير وكأنه في رئتيه هو. راحت المرأة في غيبوبة قصيرة. أطبقت عينيها. وعندما فتحتهما من جديد كان تنفسها يبدو أكثر انتظاما.
قالت:
ـ أن هذا بسبب الحالة التي أصبحنا بها. فمن الكفر اقتطاع الخبز عن أفواهنا وإعطاؤه للديك.
جفف لها الكولونيل جبهتها بشرشف السرير.
ـ لا أحد يموت في ثلاثة شهور.
ـ وماذا سنأكل خلال هذا الوقت
تساءلت المرأة.
فقال الكولونيل:
ـ لست أدري ولكن لو إننا سنموت من الجوع لكنا قد متنا منذ زمن.
كان الديك يقف الآن بكامل حيويته أمام العلبة الفارغة. وعندما رأي الكولونيل أطلق صوتا حلقيا، شبه إنساني، وقذف رأسه إلى الوراء. فبادله الكولونيل ابتسامة شريك في الجريمة، وقال:
ـ إن الحياة قاسية أيها الرفيق.
خرج إلى الشارع. وتسكع في القرية التي تنام القيلولة دون أن يفكر بشيء، وحتى دون أن يحاول إقناع نفسه بان مشكلته ليس لها من حلٌ. سار في شوارع مقفرة إلى أن وجد نفسه منهكا. عندها رجع إلى البيت. أحست المرأة بدخوله ونادته إلى الغرفة.
ـ ماذا تريدين؟
فأجابت دون أن تنظر إليه:
ـ يمكننا أن نبيع الساعة.
كان الكولونيل قد فكر بهذا. قالت المرأة: 'إني متأكدة بان ألفارو سيعطيك أربعين بيزو في الحال.. تصور بأية سهولة اشتري منا قبلا ماكينة الخياطة'.
أنها تتكلم عن الخياط الذي كان اغوستين يعمل عنده.
ـ يمكنني أن أحدثه في الصباح بهذا الخصوص - قال الكولونيل بضيق.
فقالت هي بصراحة:
ـ لاشيء للكلام في الصباح. خذ الساعة إليه الآن، وضعها أمامه على الطاولة وقل له: 'يا الفارو، لقد أحضرت لك هذه الساعة لتشتريها مني'. وسيفهم هو في الحال.
شعر الكولونيل بالتعاسة، وقال معترضا:
ـ أن حملها سيكون كمن يحمل لحدا. ولو رآني الناس في الشارع حاملا هذه الواجهة فإنهم سيؤلفون عني أغنية من أغاني رافائيل اسكالونا.
ولكن زوجته أقنعته هذه المرة أيضا. ونزعت بنفسها الساعة عن الجدار، لفتها بورق الصحف ووضعتها بين يديه قائلة: 'لن ترجع إلى هنا دون الأربعين بيزو'.
اتجه الكولونيل إلى دكان الخياط حاملا اللفافة تحت ذراعه. ووجد أصدقاء أغوستين يجلسون أمام الباب.
قدم إليه أحدهم مقعدا. 'شكرا'، قال الكولونيل وقد تبلبلت أفكاره، ثم أردف: 'لقد كنت مارا من هنا بالصدفة'.
خرج الفارو من الدكان حاملا قطعة قماش قطني مبللة بالماء وعلقها في الممر على سلك ممتد بين دعامتين. كان شابا، له تركيب قاس كثير النتوءات وعينان ذاهلتان. وقد دعاه هو أيضا للجلوس. أحس الكولونيل بالانتعاش. أسند الكرسي الذي بلا مسند إلى إطار الباب وجلس ينتظر ريثما يبقي الفارو وحيدا ليعرض عليه الصفقة. وفجأة أحس بأنه محاط بوجوه مقطبة.
قال:
ـ ألا أزعجكم.
اعترضوا جميعهم على هذا. وانحني أحدهم نحوه وقال بصوت لا يكاد يسمع:
ـ لقد كتب أغوستين.
راقب الكولونيل الشارع المقفر، وسأل:
ـ ماذا يقول؟
ما يقوله دائما.
أعطوه المنشور السري، فأخفاه الكولونيل في جيب البنطال. وبقي صامتا ينقر بأصابعه على الساعة المغطاة حتى انتبه إلى أن هناك من يكلمه. فتوقف عن النقر حائرا.
ـ ماذا تحمل معك أيها الكولونيل؟
تفادي الكولونيل عيني خيرمان الخضراوين النافذتين. وقال كاذبا:
ـ لا شيء. إني أحمل الساعة إلى الألماني ليصلحها لي.
ـ 'لا تكن أحمق أيها الكولونيل. انتظر، وسأفحصها لك'، قال خيرمان وهو يحاول انتزاع الساعة منه.
قاوم. لم يقل شيئا ولكن رموشه أصبحت شهباء. فأصر الآخرون:
ـ أعطه الساعة أيها الكولونيل، فهو يفهم في الآلات.
ـ إنني لا أريد إزعاجه.
فرد عليه خيرمان، وهو يأخذ الساعة منه:
ـ أي إزعاج هذا. أن الألماني سينتزع منك عشرة بيزوات ويترك الساعة على حالها.
دخل خيرمان إلى الدكان حاملا الساعة. كان الفارو يعمل وراء ماكينة الخياطة. و في آخر الدكان، تحت غيتار. معلق بمسمار، كانت تجلس فتاة تقوم بتثبيت الأزرار. وفوق الغيتار لوحة كتب عليها: 'ممنوع التكلم بالسياسة'.
أحس الكولونيل بأن جسده أصبح أثقل. فأسند أقدامه على عارضة الكرسي.
ـ خراء، أيها الكولونيل.
فوجىء الكولونيل لهذه العبارة، وقال: 'بدون كلمات نابية'.
ثبت الفونسو النظارات على أنفه ليتفحص بشكل أفضل حذاء الكولونيل ذا الكعب العالي، ثم قال:
ـ إني أتكلم عن الحذاء. فأنت تلبس حذاء مريعا.
ـ ولكنك تستطيع قول ذلك دون كلمات نابية قال الكولونيل، وعرض عليه نعل الحذاء قائلا:
ـ لقد أصبح عمر هذا الحذاء الفظيع أربعين عاما، وها هو يسمع الآن لأول مرة كلمة نابية.
ـ 'قضي الأمر'، صرخ خيرمان من الداخل في نفس الوقت الذي انطلقت به دقات الساعة. وفي البيت المجاور، ضربت امرأة على الجدار الفاصل، وصرخت:
ـ دعوا هذا الغيتار جانبا، فلم تمض سنة بعد على موت اغوستين.
انفجرت قهقهة عالية.
أنها الساعة.
خرج خيرمان حاملا الساعة الملفوفة، وقال:
ـ لم يكن بها شيء، إذا أردت فسأصطحبك إلى البيت لأعلقها مكانها.
رفض الكولونيل العرض.
ـ بكم أنا مدين لك؟
ـ لا تهتم بهذا أيها الكولونيل، فالديك سيدفع في كانون الثاني (يناير). رد عليه خيرمان وهو يحتل مكانه بين المجموعة.
عندها وجد الكولونيل أن الفرصة مواتية، فقال له:
ـ إني أعرض عليك شيئا.
ـ ما هو؟
ـ أهديك الديك. ثم تفحص الوجوه المحيطة به وقال:
ـ إني أهدي الديك لكم جميعا.
تطلع إليه خيرمان حائرا.
ـ 'لقد أصبحت عجوزا على هذه الأمور'، تابع الكولونيل كلامه وقد هيمنت على صوته صرامة مقنعة.
ـ 'انه مسئولية كبيرة بالنسبة لي. ومنذ أيام وأنا أشعر بأن الحيوان يموت شيئا فشيئا'.
قال ألفونسو:
ـ لا تهتم لهذا أيها الكولونيل، كل ما في الأمر أن الديك يبدل ريشه في هذه الفترة، ولذا فإن منابت الريش تكون ملتهبة.
وقال خيرمان مؤكدا:
ـ في الشهر القادم سيكون في حالة جيدة.
ـ على كل حال أنا لا أريده. قال الكولونيل.
اخترقه خيرمان بنظرات حدقتيه، وقال بإصرار:
ـ تذكر أيها الكولونيل أن الأمر المهم، هو أن تكون أنت من يضع ديك اغوستين في حلبة الصراع يوم المباراة.
فكر الكولونيل بهذا، وقال: 'إني مدرك للأمر. ولهذا السبب احتفظ بالديك حتى الآن'. ضغط على أسنانه وأحس بقوة تجعله يتقدم:
ـ ولكن السيئ في الأمر هو مازال أمامنا ثلاثة شهور. كان خيرمان أول من فهمه، فقال:
ـ إذا لم يكن هناك شيء آخر سوي هذا الأمر فليس من مشكلة.
ثم اقترح حله للمسألة.. ووافق الآخرون. وفي أوائل الليل، عندما دخل إلى البيت واللفافة تحت ذراعه، شعرت امرأته بالإحباط، وسألته:
ـ لا شيء.
ـ لا شيء أجابها الكولونيل، ثم أردف:
ـ ولكن الأمر ليس مهما الآن، فالشباب سيؤمنون الغذاء للديك.
ـ انتظر وسأعيرك مظلة أيها الصديق.
فتح دون ساباس خزانة مركبة في جدار المكتب. وكشف عن محتوياتها المكركبة، منها جزم متلبدة لركوب الخيل، وحلقات ركائب، وأحزمة وسيور جلدية وإناء من الألمنيوم مليء بالمهاميز التي يستخدمها الخيالة. وفي القسم العلوي من الخزانة توجد نصف دزينة من المظلات المعلقة إلى جانب قبعة نسائية.
ـ 'شكرا يا صديقي'. قالها الكولونيل وهو يستند بمرفقيه إلى النافذة، 'أفضل الانتظار حتى يتوقف المطر'.
لم يغلق دون ساباس الخزانة. وجلس وراء المكتب ضمن مجال المروحة الكهربائية. ثم أخرج من الدرج حقنة ملفوفة بالقطن، وأخذ الكولونيل يتأمل أشجار اللوز الرصاصية من خلال المطر. لقد كان مساء مقفرا.
قال:
ـ أن المطر مختلف من خلال هذه النافذة، فهو يبدو كأنه يهطل في قرية أخرى.
ـ المطر هو المطر من أية زاوية نظرت إليه. رد دون ساباس، وهو يضع الحقنة ليغليها على اللوح الزجاجي الذي يغطي المكتب، ثم أردف:
ـ ما هذه القرية سوي براز.
هز الكولونيل كتفيه. وسار إلى وسط المكتب: صالة واسعة بلاطها أخضر وبها قطع موبيليا مغطاة بقماش ألوانه حيوية. وفي طرفه أكياس ملح، وخوابي عسل، وسروج خيل مكومة بفوضى. تابعه دون ساباس بنظرة فارغة تماما.
ـ لو كنت مكانك لما فكرت هكذا قال الكولونيل. جلس مقاطعا ساقيه، وثبت نظرته الهادئة على الرجل المنحني فوق المكتب. كان رجلا قصيرا، ضخما ولكن لحمه مترهل، وفي عينيه حزن ضفدع حديثة الولادة.
قال دون ساباس:
ـ اعرض نفسك على طبيب أيها الصديق. فأنت تبدو جنائزيا بعض الشيء منذ يوم الدفن.
رفع الكولونيل رأسه، وقال:
ـ إنني في حالة جيدة.
انتظر دون ساباس حتى تغلي الحقنة. وقال متأسفا: 'لو إني أستطيع أن أقول هذا! كم أنت محظوظ! فأنت قادر على أكل ركاب نحاسي'. تأمل ظاهر كفه ذات الشعر الغزير والمليئة بالنمش البني. كان يضع خاتما به فص أسود فوق خاتم الزواج.
ـ هذا صحيح قال الكولونيل موافقا.
نادي دون ساباس زوجته من خلال الباب الذي يصل ما بين المكتب وبقية البيت. ثم بدأ بشرح مؤلم للنظام الغذائي الذي يتبعه. تناول زجاجة دواء صغيرة من جيب قميصه ووضع فوق المكتب قرص دواء أبيض بحجم حبة لوبيا، وقال:
ـ انه تعذيب أن أحمل هذا معي في كل مكان أذهب إليه. انه كمن يحمل الموت في جيبه.
اقترب الكولونيل من المكتب. وتفحص قرص الدواء في كف يده إلى أن دعاه دون ساباس لتذوقه. ثم قال له شارحا:
ـ انه لتحلية القهوة. أي، سكر ولكن بدون سكر.
فقال الكولونيل، ولعابه مضمخ بطعم الحلاوة الحزين:
ـ فعلا، انه شيء يشبه قرع الأجراس ولكن دون أجراس. اتكأ دون ساباس على المكتب بمرفقيه ووجهه بين يديه بعد أن زرقته زوجته بالحقنة. لم يعد الكولونيل يعرف ما يفعله بجسده. أطفأت المروحة الكهربائية، ووضعتها فوق الصندوق المصفح ثم اتجهت نحو الخزانة قائلة:
ـ أن للمظلات علاقة ما بالموت.
لم يعرها الكولونيل اهتماما. كان قد خرج من بيته في الساعة الرابعة وغرضه انتظار البريد، ولكن المطر اضطره إلى أن يلتجىء إلى مكتب دون ساباس. وعندما صفرت المراكب كان المطر ما يزال يهطل.
ـ 'الجميع يقولون بأن الموت هو امرأة'، تابعت المرأة حديثها. لقد كانت بدينة وأطول من زوجها، ولها تؤلول مغطي بالشعر على شفتها العليا. تذكر طريقتها في الحديث بأزيز المروحة الكهربائية. 'ولكني لا أعتقد بأنه امرأة'، قالت. ثم أغلقت الخزانة والتفتت وكأنها تستشير عيني الكولونيل:
ـ إني اعتقد بأن الموت هو حيوان بأظلاف.
فقال لها الكولونيل موافقا:
ـ ربما. فأحيانا تحدث أمور غريبة جدا.
فكر بموظف البريد وتخيله وهو يقفز إلى المركب مرتديا ممطرا من المشمع. لقد انقضي شهر على استبداله المحامي. وله الحق الآن بانتظار الرد. وتابعت زوجة دون ساباس الحديث عن الموت إلى أن انتبهت لتعابير الذهول التي تلف الكولونيل. فقالت:
ـ لابد أن هنالك ما يشغل تفكيرك أيها الصديق.
استعاد الكولونيل وعيه، وقال كاذبا:
ـ أجل أيتها الصديقة. إني أفكر بأن الساعة قد تجاوزت الخامسة ولم أعط الحقنة للديك بعد.
وقفت مشدوهة، ثم هتفت:
ـ حقنة لديك وكأنه كائن بشري. أن هذا دنس.
لم يعد بامكان دون ساباس احتمالها. فرفع وجهه المحتقن، وأمر زوجته:
ـ أغلقي فمك للحظة.
وفعلا رفعت يديها إلى فهمها. فتابع هو:
ـ منذ نصف ساعة وأنت تزعجين صديقي بحماقاتك.
ـ لا، أبدا قال الكولونيل معترضا.
صفقت المرأة الباب. وجفف دون ساباس رقبته بمنديل مضمخ بالخزامى.
اقترب الكولونيل من النافذة. كان المطر يهطل دون توقف. ودجاجة لها قوائم صفراء طويلة تعبر الساحة المقفرة.
ـ هل صحيح أنكم تحقنون الديك؟
ـ أجل صحيح. فالتمرينات ستبدأ في الأسبوع القادم قال الكولونيل.
فقال دون ساباس:
ـ أن هذا تهور. فأنت لست مهيئا لهذه الأعمال.
قال الكولونيل:
ـ أجل، ولكن هذا ليس سببا للوي عنق الديك.
ـ 'أنها مجازفة حمقاء' قال دون ساباس وهو يتجه إلى النافذة. أخذ الكولونيل نفسا ككير حداد. وعينا صديقه جعلته يشعر بالشفقة على نفسه.
قال دون ساباس:
ـ خذ نصيحتي أيها الصديق. خير لك أن تبيع هذا الديك قبل أن يصبح الوقت متأخرا.
ـ ليس ثمة ما يؤسف عليه أبدا.
فقال دون ساباس بإصرار:
ـ لا تكن واهما. أن هذا الديك صفقة بحدين: فمن ناحية سترفع عن كاهلك وجع الرأس، ومن ناحية أخرى ستضع في جيبك مبلغ تسعمائة بيزو.
ـ تسعمائة بيزو هتف الكولونيل.
ـ أجل، تسعمائة بيزو.
ـ أتعتقد بأنهم يدفعون هذا الثمن مقابل الديك؟
أجابه دون ساباس:
ـ ليس الأمر اعتقادا. إني متأكد من هذا.
كان هذا الرقم هو أعلى رقم دخل رأس الكولونيل منذ سلم ميزانية الثورة. وعندما خرج من مكتب دون ساباس أحس بأحشائه تتلوي، ولكنه كان على يقين هذه المرة بأن الألم لم يكن بسبب الطقس. وفي مكتب البريد اتجه مباشرة إلى الموظف، وقال:
ـ إني انتظر رسالة مستعجلة. ستصل بالطائرة.
بحث الموظف في الكوى المصنفة وعندما انتهي من القراءة وضع الرسائل حسب الحروف المطابقة لها ولكنه لم يقل شيئا. نفض راحتيه ووجه إلى الكولونيل نظرة ذات مغزى.
ـ كان يجب أن تصلني اليوم بكل تأكيد قال الكولونيل.
هز الموظف كتفيه. وقال
ـ الشيء الوحيد الذي يصل بكل تأكيد هو الموت أيها الكولونيل.
استقبلته زوجته بطبق من عصيدة 'ماثامورا' الذرة. أكله صامتا، وكان يتوقف طويلا ليفكر ما بين ملعقة وأخرى. خمنت امرأته التي كانت تجلس مقابله بأن ثمة أمرا قد تغير في البيت، فسألته:
ـ ماذا جري لك؟
قال الكولونيل كاذبا:
ـ إني أفكر بالموظف المسئول عن التقاعد. فخلال خمسين عاما سنكون تحت التراب مطمئنين. بينما هذا الرجل المسكين سيحتضر كل يوم جمعة وهو ينتظر راتبه التقاعدي.
ـ 'أنها بادرة سيئة.. فهذا يعني انك بدأت تخضع للقدر'. قالت المرأة، وتابعت تناول العصيدة. ولكنها انتبهت بعد برهة إلى أن زوجها مازال غائبا.
ـ أن ما عليك عمله الآن هو أن تلتهم هذه العصيدة. فقال الكولونيل:
ـ أنها لذيذة جدا. من أين طلعت بها؟
أجابت المرأة:
ـ من الديك. فقد أحضر له الشبان كثيرا من الذرة، وقرر هو أن يقاسمنا إياها.. هكذا هي الحياة.
تنهد الكولونيل:
ـ نعم هكذا. أن الحياة هي أفضل شيء تم اختراعه.
نظر إلى الديك المربوط بدعامة الموقد وبدا له هذه المرة حيوانا مختلفا. ونظرت المرأة إليه أيضا، وقالت:
ـ هذا المساء اضطررت لإخراج الصبيان بالعصا. فقد أحضروا دجاجة هرمة ليجامعوها مع الديك.
قال الكولونيل:
ـ ليست المرة الأولي التي يحدث هذا. فهكذا كانوا يفعلون في القرى مع الكولونيل أوربليانو بوينديا. إذا كانوا يحضرون له الصبايا ليضاجعهن.
أعجبت هي بالمقارنة الطريفة. وأصدر الديك صوتا من حلقه وصل إلى الممر كصوت إنساني مكتوم. ـ 'أحس أحيانا وكأن هذا الحيوان سينطلق متكلما' قالت المرأة. وعاد الكولونيل لينظر إليه، وقال:
ـ انه ديك حاك وصائح.
ثم أجري بذهنه عمليات حسابية بينما كان يتناول ملعقة من العصيدة، وقال:
ـ انه يكفي لإطعامنا ثلاث سنوات.
ـ الأحلام لا تؤكل قالت المرأة.
ـ لا تؤكل، ولكنها تغذي رد الكولونيل، ثم تابع: أنها شبيهة بعض الشيء بالحبوب العجيبة التي يتناولها صديقي دون ساباس.
نام نوما سيئا هذه الليلة وهو يحاول أن يمحو أرقاما من رأسه. في اليوم التالي عند الغداء قدمت المرأة صحنين من عصيدة الذرة، والتهمت طبقها ورأسها منحنيا، دون أن تتلفظ بكلمة واحدة. أحس الكولونيل وكأنه مصاب بعدوي تعكر المزاج.
ـ بماذا تفكرين؟
ـ لا شيء قالت المرأة.
سيطر عليه انطباع بأن دور زوجته في الكذب قد جاء هذه المرة. حاول أن يجرها للكلام. ولكن المرأة أصرت:
ـ لست أفكر بشيء غريب. إني أفكر بأن قرابة شهرين قد انقضيا على رحيل الميت ولم أذهب لأعزي حتى الآن.
وهكذا ذهبت لتقديم العزاء هذه الليلة. اصطحبها الكولونيل حتى بيت الميت ثم توجه إلى صالة السينما تجذبه الموسيقي المنبعثة من مكبرات الصوت. كان الأب أنخل يجلس على باب مكتبه مراقبا مدخل السينما ليعرف الذين يحضرون العرض بالرغم من تحذيراته الإثني عشر. تموجات الضوء، والموسيقي الصاخبة وصرخات الأطفال فرضت مقاومة طبيعية في الحي. هدد أحد الأطفال الكولونيل ببندقية خشبية وقال له بصوت متسلط فوقي:
ـ ما هي أخبار الديك أيها الكولونيل.
رفع الكولونيل يديه.
ـ ها هو الديك.
كان ثمة ملصق بأربعة ألوان يحتل واجهة الصالة بكاملها كتب عليها (عذراء منتصف الليل). وعليه رسم امرأة ترتدي ملابس الرقص وإحدى ساقيها عارية حتى الفخذ. تابع الكولونيل التسكع في المكان إلى أن انفجرت رعود وبروق بعيدة. وعندما عاد إلى حيث ذهبت زوجته، لم يجدها في بيت الميت، ولا في بيتها وقدر الكولونيل بأنه لم يبق وقت قصير على بدء منع التجول، ولكن الساعة كانت متوقفة، انتظر، وهو يشعر بالعاصفة تقترب من القرية. وعندما تأهب ليخرج من جديد دخلت زوجته إلى البيت.
حمل الديك إلى غرفة النوم. وأبدلت هي ثيابها ثم مضت لتشرب ماء من الصالة في الوقت الذي كان به الكولونيل قد انتهي من ملء الساعة وجلس ينتظر إشارة منع التجول ليضبط الساعة.
سألها الكولونيل:
ـ أين كنت؟
ـ 'هنا'، أجابت المرأة. ووضعت الكأس على الخابية دون أن تنظر إلى زوجها وعادت إلى غرفة النوم، وقالت: 'لم يكن أحد يصدق بأنها ستمطر بهذه السرعة'. لم يعلق الكولونيل بشيء. وعندما دقت إشارة منع التجول ضبط الساعة على الحادية عشرة، ثم أغلق الزجاج وأعاد الكرسي إلى وضعه. وجد زوجته تصلي صلاة المساء.
ـ لم تجيبي على سؤالي قال لها الكولونيل.
ـ أي سؤال.
ـ أين كنت؟
فقالت هي:
ـ لقد كنت أتحدث مع الناس. فمنذ زمن طويل لم أخرج إلى الشارع.
علق الكولونيل سرير نومه. وأغلق باب البيت ورش الغرفة بالمبيدات. بعد ذلك وضع المصباح على الأرض واستلقي في السرير. ثم قال بأسي:
ـ إني أفهمك. فأسوأ ما في حالات الشدة هو أنها تجبر المرء على الكذب.
نفثت هي زفرة طويلة، وقالت:
ـ لقد ذهبت إلى الأب أنجل. ذهبت لأطلب منه قرضا مقابل خاتمي الزواج.
ـ وماذا قال لك؟
قال: إن المتاجرة بالأغراض المقدسة، خطيئة.
وتابعت من وراء الكلة: 'منذ يومين حاولت أن أبيع الساعة. ولكن لم يقبل شراءها أحد، لأنهم يبيعون الآن بالتقسيط ساعات حديثة لها أرقام مضيئة، يمكن رؤية الوقت بها في الظلام'. تحقق الكولونيل من أن أربعين سنة من الحياة المشتركة ، ومن الجوع المشترك، والمقاساة المشتركة، لم تكن كافية ليتعرف على زوجته. وأحس بأن شيئا قد شاخ في الحب أيضا.
قالت هي:
ـ ولم يقبل أحد شراء اللوحة. فالجميع تقريبا لديهم نفس اللوحة.. حتى إنني ذهبت إلى منطقة الأتراك.
شعر الكولونيل بالمرارة:
ـ وبهذا أصبح الجميع الآن يعرفون بأننا نموت جوعا.
فقالت المرأة:
ـ لقد تعبت. فأنتم معشر الرجال لا تنتبهون إلى مشاكل البيت. لقد وضعت عدة مرات حجارة في القدر وغليتها كي لا يعرف الجيران بأنه ليس لدينا ما نملأ به القدر.
شعر الكولونيل بالاستفزاز، فقال:
ـ أن هذا الذي فعلته هو المسكنة الحقيقية.
غادرت المرأة الكلة واتجهت نحو السرير المعلق قائلة: 'إني مستعدة لأقضي على التصنع والأوهام في هذا البيت'.. بدأ صوتها يكفهر غضبا: 'لقد طفح كيلي من الصبر والوقار'.
لم يحرك الكولونيل عضلة واحدة في جسده.
وتابعت هي:
ـ عشرون سنة وأنا أنتظر العصافير الملونة التي يعدونك بها بعد كل انتخابات، ومن كل هذا الانتظار بقي لنا ابن ميت.. لا شيء سوي ابن ميت.
قال الكولونيل الذي كان معتادا على هذا النوع من المهاترات:
ـ لقد قمنا بواجبنا.
فردت المرأة:
ـ وهم قاموا بكسب ألف بيزو شهريا في مجلس النواب طوال عشرين سنة. فهذا صديقنا دون ساباس وبيته ذو الطبقتين الذي لا يتسع لأمواله. لقد أتي إلى القرية كبائع أدوية يعلق أفعى حول عنقه.
ـ ولكنه يموت شيئا فشيئا بالسكري قال الكولونيل. فردت المرأة:
ـ وأنت تموت جوعا. كل هذا لتتأكد أن الوقار لا يؤكل.
قطع البرق عليها حديثها، ثم انفجر الرعد في الخارج، ودخل إلى غرفة النوم ومرق إلى ما تحت السرير مثل سيل من الحجارة. قفزت المرأة بحثا عن مسبحتها.
ابتسم الكولونيل وقال:
ـ أن هذا يصيبك لأنك لا تكبحين لسانك. لقد قلت لك دائما أن الرب عضو في حزبنا.
ولكنه في الواقع كان يشعر بالمرارة. بعد لحظات أطفأ المصباح وغرق في التفكير وسط ظلام يشقه البرق. تذكر ماكوندو، لقد انتظر الكولونيل عشر سنوات حتى تتحقق مواثيق ميرلانديا. وفي غيبوبة قيظ الظهيرة رأي قطارا أصفر يصل معفرا بالغبار ومحملا بالرجال والنساء والحيوانات الذين سحق الحر أنفاسهم، وهم مكدسون في كل مكان، وحتى على سطح العربات. تلك الفترة كانت فترة حمي الموز.
وخلال أربع وعشرين ساعة عمروا القرية. عندها قال الكولونيل: 'إني ذاهب، فرائحة الموز تعفن أمعائي' وغادر ماكوندو في قطار العودة، يوم الأربعاء السابع والعشرين من يوليو (تموز) سنة ألف وتسعمائة وست، في الساعة الثانية وثماني عشرة دقيقة بعد الظهر. لقد احتاج لنصف قرن بعدها ليكتشف. انه لم ينعم بدقيقة راحة بعد الاستسلام في نيرلانديا.
فتح عينيه، وقال:
ـ إذن يجب ألا نفكر في الأمر بعد الآن.
ـ ماذا؟
قال الكولونيل:
ـ أعني مسألة الديك.. غدا بالذات سأبيعه إلى صديقي ساباس بمبلغ تسعمائة بيزو.
******
نفذ إلى المكتب، من خلال النافذة، أنين الحيوانات المخصية مختلطا بصرخات دون ساباس. 'إذا لم يأت خلال عشر دقائق فسوف اذهب'، هكذا عاهد الكولونيل نفسه بعد أن أمضي ساعتين في الانتظار، ولكنه انتظر عشرين دقيقة أخرى. وكان يتهيأ للخروج عندما دخل دون ساباس إلى المكتب تتبعه مجموعة من العمال المساعدين. مر دون ساباس عدة مرات أمام الكولونيل دون أن يلتفت إليه. وانتبه لوجوده عندما خرج العمال فقط.
ـ هل تنتظرني أيها الصديق؟
قال الكولونيل:
ـ أجل يا صديقي. ولكن إذا كنت مشغولا فسأعود فيما بعد.
لم يسمعه دون ساباس لأنه أصبح في الناحية الأخرى من الباب ولكنه قال له وهو يخرج:
ـ سأعود حالا.
كانت ظهيرة متقدة. والمكتب يلتهب بالحر المنعكس إليه من الشارع. أغمض الكولونيل، الذي خدره الحر، عينيه رغم أرادته. وفي الحال بدأ يحلم بزوجته.
دخلت زوجة دون ساباس على رؤوس أصابعها وقالت له:
ـ لا تستيقظ أيها الصديق، سأغلق الأباجور فقط، لأن المكتب صار جهنما.
لاحقها الكولونيل بنظرة غائبة عن الوعي تماما. قالت وهي في الظل بعد أن أغلقت الأباجور:
ـ هل تحلم كثيرا في نومك؟
شعر الكولونيل بالخجل لأنه نام، وأجابها :
ـ أحيانا وأري نفسي في جميع أحلامي تقريبا وأنا أتخبط في شبكة عنكبوت.
قالت المرأة:
ـ أنا أعاني من الكوابيس كل ليلة. ولكني بدأت أعرف الآن من هم هؤلاء الناس المجهولون الذين يظهرون لنا في الأحلام.
أدارت المروحة الكهربائية، وقالت: 'في الأسبوع الماضي ظهرت لي في الحلم امرأة وقفت على رأس سريري. وقد وجدت الشجاعة لأسألها من تكون، فأجابتني قائلة: أنا المرأة التي ماتت في هذه الغرفة منذ اثنتي عشرة سنة'.
فقال الكولونيل:
ـ ولكن لم تكد تمضي سنتان بعد على بناء هذا البيت.
ـ نعم. وهذا يعني أن الأموات يخطئون أيضا.
جعل أزيز المروحة الكهربائية البرودة أكثر رسوخا. وشعر الكولونيل بفقدان الصبر والاضطراب بسبب النعاس الذي غلبه وبسبب هذه المرأة البدينة التي انتقلت فورا من الحديث عن الأحلام إلى تجسد الموتى وعودتهم ثانية إلى الحياة. وكان ينتظر فرصة تتوقف فيها عن الحديث لينصرف عندما دخل ساباس إلى المكتب مع رئيس عماله. فقالت له المرأة:
ـ لقد سخنت لك الحساء أربع مرات حتى الآن.
قال دون ساباس:
ـ سخنيه عشر مرات إذا شئت. ولكن لا تثيري أعصابي وتجعليني أفقد صبري الآن.
فتح صندوق السيولة النقدية وسلم لرئيس عماله رزمة من الأوراق المالية ومعها قائمة تعليمات. فتح رئيس العمال الأباجورات ليعد النقود. لمح دون ساباس بالكولونيل في طرف المكتب ولكنه لم يبد أي تأثر، بل تابع حديثه مع رئيس عماله. نهض الكولونيل في اللحظة التي كان الرجلان يستعدان بها لمغادرة المكتب من جديد. فتوقف دون ساباس قبل أن يفتح الباب، وقال:
ـ ماذا أستطيع أن أقدم لك أيها الصديق؟
انتبه الكولونيل إلى رئيس العمال ينظر إليه، فقال:
ـ لا شيء يا صديقي، كنت أود التحدث إليك. فقال دون ساباس:
ـ مهما كان الأمر، يمكنك قوله الآن حالا. لأني لا أستطيع إضاعة دقيقة واحدة.
وظل واقفا ويده ممسكة بقبضة الباب الكروية. شعر الكولونيل بانقضاء أطول خمس ثوان في حياته، فضغط على أسنانه ودمدم:
ـ إن الأمر يتعلق بمسألة الديك.
عندها كان دون ساباس قد انتهي من فتح الباب. 'مسألة الديك'، كرر مبتسما، وقاد رئيس عماله نحو الممر 'إن العالم يهوي بينما صديقي مشغول بهذا الديك'. ثم قال موجها حديثه إلى الكولونيل:
ـ حسنا جدا أيها الصديق، سأعود حالا.
وقف الكولونيل وسط المكتب بلا حراك حتى تلاشي وقع خطوات الرجلين في آخر الممر. وخرج بعد ذلك ليسير في شوارع القرية المشلولة في قيلولة الأحد. لم يجد أحدا في دكان الخياط. وعيادة الطبيب كانت مغلقة. ولم يكن هناك من يحرس البضائع المعروضة في متاجر السوريين. كان النهر كصفحة من الرصاص. وثمة رجل نائم على أربعة براميل بترول في الميناء، يقي وجهه من الشمس بقبعة. اتجه الكولونيل إلى بيته متيقنا بأنه المكان الوحيد الحيوي في القرية. كانت زوجته تنتظره وقد أعدت وجبة غداء كاملة.
قالت مفسرة:
ـ لقد استدنت ووعدت أن أدفع غدا صباحا.
خلال تناول الغداء روي لها الكولونيل أحداث الساعات الثلاث الأخيرة. واستمعت إليه جزعة، ثم قالت عندما انتهي:
ـ كل ما في الأمر انك لا تملك شخصية قوية. فأنت تذهب وكأنك ذاهب لطلب صدقة بينما يجب عليك أن تدخل مرفوع الرأس وتنادي صديقك جانبا وتقول له: 'أيها الصديق، لقد قررت أن أبيعك الديك'.
فقال الكولونيل:
ـ هكذا هي الحياة، أنها نفحة.
كانت تسيطر عليها حالة من الحماس. فقد رتبت البيت صباح هذا اليوم وارتدت ملابسها بطريقة غير مألوفة، إذ لبست حذاء زوجها القديم، ومريلة من المشمع، وربطت على رأسها مزقة من القماش معقودة بعقدتين عند الأذنين. قالت له: 'ليس لديك أدني حس تجاري. فمن يذهب ليبيع شيئا ما يجب أن يتخذ نفس هيئة من يذهب ليشتري'.
لاحظ الكولونيل بعض الطرافة في شكلها. فقاطعها ضاحكا:
ـ ابق هكذا كما أنت الآن، لأن تشبهين الرجل القصير بائع الجلبان.
نزعت مزقة القماش عن رأسها، وقالت:
ـ إني أكلمك بجدية.. سآخذ الديك حالا إلى صديقنا وأراهنك على ما تشاء بأني سأعود خلال نصف ساعة ومعي تسعمائة بيزو.
قال لها الكولونيل:
ـ لقد أدارت الأرقام رأسك. وها قد بدأت تلعبين بثمن الديك.
لقد كلفه كثيرا إقناعها بالعدول عن رأيها. إذ أنها بدأت منذ الصباح بتنظيم برنامج في ذهنها. للسنوات الثلاث القادمة التي سيمضيانها دون احتضار أيام الجمعة في انتظار البريد. وأعدت البيت لاستقبال التسعمائة بيزو، فنظمت لائحة بالأشياء الأساسية التي لا يملكانها، دون أن تنسي تسجيل حذاء جديد للكولونيل. وأفسحت مكانا في حجرة النوم للمرآة. إن هذه الضربة المفاجئة لجميع مشاريعها جعلتها تضطرم بإحساس من الخجل والحقد.
نامت قيلولة قصيرة. وعندما استيقظت كان الكولونيل جالسا في البهو.
ـ وماذا ستفعل الآن؟ سألته هي:
فقال الكولونيل:
ـ إني أفكر.
ـ إذن، فقد حلت المشكلة: سنحصل على تلك النقود خلال خمسين سنة.
ولكن الكولونيل كان قد قرر. في الواقع، أن يبيع الديك مساء هذا اليوم بالذات. فكر بدون ساباس، وتخيله وحيدا في مكتبه، يتهيأ أمام المروحة الكهربائية لأخذ حقنة الأنسولين اليومية. كان قد أعد ما سيقوله.
خذ الديك معك. فرؤية وجه القديس تصنع المعجزات قالت له زوجته وهو خارج.
رفض الكولونيل ذلك. ولكنها تبعته حتى الباب الخارجي بقلق يائس، وقالت:
ـ ليس مهما أن يكون هناك فيلق من الناس، خذه من ذراعه وتنح به جانبا ولا تدعه يتحرك قبل أن يعطيك التسعمائة بيزو.
ـ سيظنون إننا نعد الانقلاب.
لم تهتم هي بهذا. وقالت بإصرار:
ـ تذكر أنك أنت صاحب الديك. وتذكر أنك أنت الذي ستقدم له معروفا ببيعه الديك.
ـ حسنا.
كان دون ساباس في غرفة نومه مع الطبيب. فقالت زوجته للكولونيل: 'انتهز الفرصة الآن أيها الصديق. إن الطبيب يفحصه لأنه سيذهب إلى المزرعة ولن يعود حتى يوم الخميس'.
درس الكولونيل الأمر وهو بين قوتين متعارضتين تتجاذبانه فرغم قراره الحاسم ببيع الديك. رغب لو أنه وصل بعد ساعة حتى لا يجد دون ساباس.
ـ أستطيع أن أنتظر. قال لها.
ولكن زوجة دون ساباس أصرت عليه. وقادته إلى غرفة النوم حيث كان زوجها جالسا بسرواله الداخلي على سرير كالعرش، بينما ثبت على الطبيب عينيه اللتين بلا بريق. وانتظر الكولونيل حتى انتهي الطبيب من تسخين أنبوب زجاجي به عينه من بول المريض، ثم شم البخار المتصاعد منه وأشار إلى دون ساباس إشارة النجاح.
قال الطبيب متوجها إلى الكولونيل:
ـ يجب رميه بالرصاص. فالسكري يتباطأ كثيرا بالقضاء على الأغنياء.
'لقد فعلت أنت كل ما تستطيع لذلك بواسطة حقن الأنسولين اللعينة التي أعطيتني إياها'. قال دون ساباس وهو يربت على اليتيه المترهلتين، وتابع: 'ولكني مسمار قاس على الأكل'. بعدها اتجه نحو الكولونيل قائلا:
ـ اقترب أيها الصديق.. عندما خرجت في الظهيرة بحثا عنك لم أجد حتى ولا قبعتك.
ـ لا أستخدم قبعة كي لا أضطر لرفعها أمام أحد.
بدأ دون ساباس بارتداء ملابسه. ودس الطبيب في جيب سترته انبوبا زجاجيا به عينة من الدم. ثم رتب محتويات حقيبته. وظن الكولونيل بأن الطبيب يستعد للذهاب، فقال له:
ـ لو كنت مكانك يا دكتور لقدمت لصديقنا قائمة حساب بمئة ألف بيزو. فهكذا ستصبح همومه أقل.
قال الطبيب:
ـ لقد عرضت عليه هذه الصفقة، ولكني طلبت مليونا. فالفقر هو أفضل علاج للسكري.
ـ 'شكرا لهذه الوصفة'، قال دون ساباس وهو يحاول أن يحشر كرشه الضخم في البنطال الخاص بركوب الخيل، ثم أردف 'ولكني لن أقبل بها لأحول دون أن تصبح أنت غنيا وتصاب بالمرض'.
رأي الطبيب أسنانه التي انعكست على غطاء حقيبته المعدني. ثم نظر إلى ساعته دون أن يبدو عليه الاستعجال. وعندما بدأ دون ساباس بلبس جزمته اتجه نحو الكولونيل الذي أتي في وقت غير مناسب.
ـ حسنا أيها الصديق، ما الذي حصل للديك.
وانتبه الكولونيل إلى أن الطبيب أيضا سيسمع جوابه. فضغط على أسنانه ودمدم:
ـ لا شيء أيها الصديق. أني آت لأبيعك إياه.
انتهي دون ساباس من لبس الجزمة، وقال دون تأثر:
ـ حسنا أيها الصديق.. أنها أعقل فكرة خطرت لك.
وأمام تعابير عدم الفهم التي ظهرت على وجه الطبيب، قدم الكولونيل تبريره قائلا:
ـ لقد أصبحت كبيرا على هذه الأمور. ولو أن عمري أقل بعشرين سنة مما أنا عليه لكان الأمر مختلفا.
فرد الطبيب: أنت دائما أصغر من عمرك بعشرين سنة.
استرد الكولونيل أنفاسه. وانتظر من دون ساباس أن يقول له شيئا، ولكنه لم يفعل، وإنما ارتدي سترة جلدية لها سحاب وتأهب للخروج من غرفة النوم فقال الكولونيل:
ـ يمكننا أن نتحدث بهذا الأمر في الأسبوع القادم إذا شئت.
ـ هذا ما كنت سأقوله لك قال دون ساباس، ثم أردف:
ـ لدي زبون قد يدفع لك أربعمائة بيزو ثمنا للديك.
ـ ولكن يجب الانتظار حتى يوم الخميس.
ـ كم؟ تساءل الطبيب.
ـ أربعمائة بيزو.
فقال الطبيب:
ـ لقد سمعت بأنه يساوي أكثر من هذا المبلغ بكثير.
استغل الكولونيل استغراب الطبيب ليقول لصديقه:
ـ كنت قد حدثتني عن تسعمائة بيزو.. إنه أفضل ديك في الناحية كلها.
رد دون ساباس على الطبيب شارحا:
ـ 'في وقت سابق كان يمكن لأي كان أن يدفع ألف بيزو ثمنا له. أما الآن فليس هناك من يتجرأ على إطلاق ديك جيد. فثمة خطر دائما في أن يخرج من حلقة المصارعة صريعا بالرصاص'.
ثم التفت نحو الكولونيل بحزن مفتعل بإتقان وقال:
ـ هذا ما كنت أنوي قوله لك أيها الصديق.
أشار الكولونيل برأسه موافقا، وقال:
ـ حسنا.
تبعهما في الممر وهما خارجان. ولكن الطبيب ظل في الصالة بدعوة من زوجة دون ساباس التي طلبت منه علاجا 'لتلك الأشياء التي تصيب المرأة فجأة ولا أحد يعرف ما هي'. انتظر الكولونيل في المكتب. بينما فتح دون ساباس صندوق الخزنة، ودس نقودا في جميع جيوبه ثم مد إلى الكولونيل أربع أوراق نقدية. وقال:
ـ هذا ستون بيزو أيها الصديق. وعندما يباع الديك نصفي الحساب.
سار الكولونيل برفقه الطبيب عبر متاجر شارع الميناء وقد أنعشتهما برودة المساء، بينما كان مركب شحن محمل بقصب السكر ينزلق مع تيار الماء البارد. لاحظ الكولونيل احتقانا في وجه الطبيب:
ـ وأنت كيف حالك أيها الدكتور؟
هز الطبيب كتفيه وقال:
ـ لا بأس. ولكني أعتقد بأني محتاج لاستشارة طبيب فقال الكولونيل:
ـ إنه الشتاء، فهو يجعل أمعائي تتعفن.
تأمله الطبيب بنظرة خالية تماما من أي اهتمام مهني. وحيا السوريين الجالسين أمام أبواب متاجرهم واحدا واحدا. وأمام العيادة عرض الكولونيل موقفه في صفقة بيع الديك، إذ قال مفسرا:
ـ لم أعد قادرا على عمل شيء آخر. لقد أصبح الحيوان يتغذى باللحم البشري.
قال الطبيب:
ـ إن الحيوان الوحيد الذي يتغذى باللحم البشري هو دون ساباس.. إني متأكد انه سيبيع الديك بتسعمائة بيزو.
ـ أتعتقد ذلك؟
ـ إني متأكد.. فهذه صفقة تجارية مكشوفة مثلها كمثل صفقة التحالف الوطني مع العمدة.
رفض الكولونيل تصديق ذلك، وقال: 'لقد قام صديقي بذلك التحالف مع العمدة لكي ينقذ جلده. وهكذا استطاع البقاء في القرية'.
فرد الطبيب:
ـ 'وهكذا استطاع أيضا شراء أملاك أعضاء حزبه الذين طردهم العمدة من القرية بنصف ثمنها'. ثم دق على باب العيادة لأنه لم يجد المفتاح في جيوبه. والتفت بعد ذلك ليلتقي بوجه الكولونيل الذي لم يصدق كلامه، وقال:
ـ لا تكن ساذجا. فصديق دون ساباس يهتم بالمال أكثر بكثير مما يهتم بجلده.
خرجت زوجة الكولونيل في هذه الليلة للتسوق. وقد رافقها زوجها حتى متاجر السوريين وهو يجتر في تأملاته ما قاله الطبيب.
قالت له زوجته:
ـ أبحث حالا عن الشباب وأخبرهم بأنك قد بعت الديك.. يجب ألا تبقيهم على الأمل.
أجابها الكولونيل:
ـ لا يمكن اعتبار الديك مباعا إلى أن يعود صديقي ساباس.
عندما ترك زوجته ذهب إلى صالة البلياردو وهناك وجد ألفارو وهو يلعب الروليت. كان المحل يعج بالناس ليلة الأحد. والحر يبدو أكثر كثافة بسبب جهاز الراديو الذي يبث بأعلى صوته. سرح الكولونيل في الأرقام ذات الألوان الحيوية المكتوبة على بساط مائدة الروليت الذي من الشمع الأسود،و المضاءة بمصباح بترولي موضوع على صندوق وسط الطاولة. كان الفارو وكأنه يصر على الخسارة يكرر المراهنة على الرقم ثلاثة وعشرين. وبينما كان الكولونيل يتابع اللعب من فوق كتف الفارو لاحظ أن الرقم أحد عشر قد كسب أربع مرات من أصل تسع. فهمس في أذن الفارو:
ـ راهن على الأحد عشر، فهو الذي يكسب أكثر من غيره.
تفحص الفارو البساط. ولم يراهن في الدورة التالية. وإنما أخرج نقودا من جيب بنطاله، وبين النقود كانت توجد ورقة مطوية، قدمها إلى الكولونيل من تحت الطاولة، وقال:
ـ أنها من اغوستين.
أخفي الكولونيل الورقة السرية في جيبه، وراهن الفارو على الرقم أحد عشر بنقود كثيرة. فقال له الكولونيل:
ـ ابدأ بالقليل.
ـ 'ربما تكون إصابة جيدة'، رد عليه الفارو. سحبت مجموعة من اللاعبين على الرقم أحد عشر بنقود كثيرة. فقال له الكولونيل:
ـ ابدأ بالقليل.
ـ 'ربما تكون إصابة جيدة'، رد عليه ألفارو. سحبت مجموعة من اللاعبين على الرقم أحد عشر عندما بدأت العجلة الكبيرة الملونة بالدوران. شعر الكولونيل بالتململ، فهو يجرب للمرة الأولى فتنة،و ذعر، وقلق الحظ.
كسب الرقم خمسة فقال الكولونيل خجلا:
ـ إني آسف أشد الأسف.
ثم تابع بعينيه الذراع الخشبية وهي تسحب نقود الفارو، وقد سيطر عليه إحساس لا يقاوم بالشعور بالذنب، وقال:
ـ أن هذا يصيبني لأني أحشر نفسي فيما لا يخصني. ابتسم الفارو دون أن ينظر إليه، وقال:
ـ لا تهتم أيها الكولونيل. جرب حظك في الحب.
وفجأة قاطع الجميع نفير أبواق. فتفرق اللاعبون وقد رفعوا أيديهم إلى الأعلى. شعر الكولونيل بالصرير الجاف والبارد لأقسام بندقية تتهيأ من ورائه ففهم انه قد وقع وقعة مشئومة في مصيدة للشرطة وهو يحمل المنشور السري في جيبه. دار نصف دورة دون أن يرفع يديه. وعندها رأي بالقرب منه، ولأول مرة في حياته، الرجل الذي أطلق النار على ابنه. كان يقف مقابله وفوهة بندقيته مصوبة نحو بطنه. كان صغيرا، قصير الشعر، ويعبق برائحة طفولية. ضغط الكولونيل على أسنانه وأبعد عنه برفق وبأطراف أصابعه ماسورة البندقية، وقال:
ـ بعد إذنك.
فواجهته عينان صغيرتان ودائريتان كعيني خفاش. وأحسٌّ لبرهة بأن هاتين العينين قد ابتلعتاه. ومضغتاه وهضمتاه، ثم لفظتاه مباشرة:
ـ تفضل بالذهاب أيها الكولونيل.
****
لم يكن بحاجة إلى فتح النافذة ليتأكد من أن كانون الأول 'ديسمبر' قد حل. فقد اكتشف ذلك في عظامه ذاتها عندما كان يقطع الفواكه من أجل إفطار الديك في المطبخ. بعد ذلك فتح الباب ورأي البهو فتأكد إحساسه. كان البهو بديعا، تغطيه الإعشاب والأشجار، أما المرحاض فكان يطفو في الضوء، على ارتفاع ميليمتر عن الأرض.
بقيت زوجته في الفراش حتى الساعة التاسعة. وعندما ظهرت في المطبخ كان زوجها قد انتهي من ترتيب البيت، ووقف يتحدث مع الصبيان عن الديك. واضطرت هي أن تقوم بالالتفاف من حولهم لتصل إلى الموقد. فصرخت بهم:
ـ ابتعدوا من طريقي ثم وجهت نظرة عابسة إلى الديك وقالت:
ـ لا أصدق تلك اللحظة التي سيخرج بها طير الشؤم هذا من البيت.
تفحص الكولونيل، من خلال الديك، مزاج زوجته. فلم يجد في الحيوان شيئا يدعو إلى التهجم. بل رآه مستعدا لبدء التدريب. كان عنق الحيوان وقوائمه وعرفه المخطط قد اتخذت صورة تامة، وزهوا لا يقاوم.
قال لها الكولونيل بعد ذهاب الصبيان:
ـ أطلي من النافذة وانسي الديك. فالمرء يشعر في صباح كهذا برغبة لأخذ صورة.
أطلت هي من النافذة، ولكن وجهها لم يعكس أي تعبير.
ـ 'أرغب بزرع الأزهار' قالت وهي تعود إلى جانب الموقد. علق الكولونيل المرآة على الدعامة ليحلق ذقنه، وقال:
ـ إذا كنت ترغبين بزراعة الأزهار، فازرعها.
ـ حاول أن يتذكر حركاته من خلال حركات صورته المنطبعة في المرآة.
قالت:
ـ ولكن الخنازير ستأكلها!
فقال الكولونيل:
ـ هذا أفضل. إذ لابد أن الخنازير المعلوفة بالأزهار ستكون لذيذة جدا.
تطلع من خلال المرآة إلى المرأة ولاحظ أنها مازالت تحمل نفس التعابير. وعلى بريق النار كان وجهها يبدو وكأنه مصاغ من مادة الموقد. ودون أن ينتبه إلى نفسه، وبينما عيناه معلقتان بزوجته، تابع الكولونيل حلاقة ذقنه باللمس كما فعل طوال سنوات كثيرة. فكرت المرأة خلال صمتها الطويل، ثم قالت:
ـ ولكني لا أريد أن ازرع أزهارا.
فقال الكولونيل:
ـ حسنا إذن لا تزرعيها.
شعر بأنه قد تحسٌن. فقد أذبل كانون الأول 'ديسمبر' مملكة النباتات التي في أحشائه. لقد لاقي صعوبة وهو يحاول لبس الحذاء الجديد هذا الصباح، وبعد أن حاول ذلك عدة مرات تأكد بأن جهده يذهب سدي، فعاد يلبس الجزمة ذات الكعب العالي. ولاحظت زوجته التغيير، فقالت:
ـ إذا أنت لم تلبس الحذاء الجديد فانه لن يتروض على قدميك أبدا.
فقال الكولونيل معترضا:
ـ إنه كأحذية المشلولين. واعتقد بأن على بائعي الأحذية أن يبيعوها بعد شهر من استخدامها.
خرج إلى الشارع يدفعه هاجس بأن الرسالة ستصله هذا المساء. وبما أن موعد المراكب لم ي
سألها:
ـ في أي يوم نحن
27 أكتوبر (تشرين الأول).
بدأ يكتب متخذا وضعية مدروسة، فاليد التي تحمل الريشة موضوعة فوق ورقة النشاف، والعمود الفقري عمودي لتسهيل التنفس، كما علموه في المدرسة. أصبح الحر لا يطاق في الصالة المغلقة. وانزلقت منه قطرة عرق على الرسالة. فالتقطها الكولونيل بورقة النشاف. حاول بعد ذلك أن يحكٌ الكلمات التي تحلل حبرها، ولكنه أحدث لطخة. لم ييأس كتب نداء ودوٌن في الهامش: 'الحقوق محفوظة'. ثم قرأ الفقرة بكاملها.
ـ في أي يوم ادخلوا اسمي في قائمة قدماء المحاربين. لم تقطع المرأة صلاتها لتفكر، بل قالت:
ـ في 21 أغسطس (آب) .1949
بعد لحظات بدأ المطر يهطل. ملأ الكولونيل صفحة كاملة بخط كبير مشوش وطفولي بعض الشيء، كما علموه في المدرسة العامة في 'ماناوري'. ثم ملأ صفحة أخرى حتى منتصفها، ووضع توقيعه.
قرأ الرسالة على زوجته. ووافقت هي على كل جملة بحركة من رأسها. وعندما انتهي من القراءة أغلق المظروف وأطفأ المصباح.
ـ يمكنك أن تطلب من احدهم أن ينسخها لك على آلة كاتبة.
ـ لا، لقد تعبت وأنا اطلب المعروف من الآخرين. أجابها الكولونيل.
ولمدة نصف ساعة، أحس بالمطر الذي يتساقط على سفح السطح. وغرقت القرية كلها بالوابل. وبعد نفير منع التجول بدأت قطرات المطر تنزلق من مكان ما من البيت.
ـ كان يجب إصلاح هذا منذ زمن طويل قالت المرأة، ثم أردفت:
ـ من الأفضل دائما أن نفهم الأمور في حينها.
قال الكولونيل، مشيرا إلى الماء المتسرب:
ـ لاشيء متأخرا أبدا. يمكن أن تحل جميع هذه الأمور عندما ينتهي رهن البيت.
ـ بقيت سنتان.
أشعل المصباح ليحدد مكان الثقب الذي في سقف الصالة. ثم وضع تحته علبة الصفيح التي يشرب منها الديك وعاد إلى غرفة النوم تلحقه الفرقعة المعدنية التي يحدثها الماء. عند اصطدامه بالعلبة الفارغة.
ـ ربما فكوا الرهن قبل كانون الثاني (يناير) ساعين لكسب النقود قال، وأقنع نفسه بذلك، ثم تابع:
ـ عندها تكون قد انقضت سنة على وفاة اغوستين ونستطيع الذهاب إلى السينما.
ضحكت هي بصوت خافت وقالت: 'حتى إني ما عدت اذكر صورا مشوشة منها'. حاول الكولونيل رؤيتها من خلال الكلة:
ـ متى ذهبت إلى السينما لآخر مرة؟
فقالت:
ـ سنة .1931 وكان يعرضون يومها فيلم 'إرادة الميت'.
ـ وهل كان به رعب.
ـ لم يعرف ذلك أبدا. فقد انقطع وابل المطر عندما كان الشبح يحاول سرقة العقد من الفتاة.
هسسة المطر جعلتهما يغفوان. شعر الكولونيل بألم خفيف في أمعائه، ولكنه لم يفزع. كان على وشك أن يجتاز أكتوبر آخر وهو حي. لف نفسه ببطانية صوفية وأحس للحظة بتنفس المرأة المتقطع أحسه نائيا وهي تبحر في حلم آخر. عندئذ تكلم، وهو واع تماما.
استيقظت المرأة:
ـ مع من تتكلم
فرد الكولونيل:
ـ ليس مع احد. كنت أفكر بأننا كنا محقين عندما قلنا للكولونيل اوريليانو جوينديا، في اجتماع ماكوندو بأن لا يستلم. فهذا هو السبب في ضياع الجميع.
أمطرت طوال الأسبوع. وفي اليوم الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) وضد مشيئة الكولونيل - أخذت المرأة زهورا إلى قبر اوغستين. وعند عودتها من المقبرة، كانت مصابة بنوبة ربو جديدة. كان أسبوعا قاسيا.. أكثر قسوة من أسابيع أكتوبر الأربعة التي اعتقد الكولونيل انه لن يجتازها حيا.
حضر الطبيب لعيادة المريضة وخرج من الغرفة صارخا: 'بربو كهذا، سأكون مستعدا لدفن القرية بكاملها'. ولكنه تحدث مع الكولونيل على انفراد ووصف للمريضة علاجا يعتمد نظاما خاصا.
عاني الكولونيل أيضا من نكسة صحية. واحتضر لساعات طويلة في المرحاض، وتعرق ثلجا، وهو يحس بنباتات أحشائه تتعفن وتسقط متفتتة إلى قطع صغيرة. 'انه الشتاء'، كرر دون يأس. 'كل شيء سيكون مختلفا عندما تنتهي الأمطار'. واقتنع بذلك فعلا، متأكدا انه سيكون على قيد الحياة عندما ستصله الرسالة.
لقد أصبح من واجبه هذه المرة أن يعني بترقيع الاقتصاد المنزلي. وكان عليه أن يضغط على أسنانه مرات ومرات وهو يطلب الاستدانة من الدكاكين المجاورة. 'حتى الأسبوع القادم فقط'، كان يقول لهم، دون أن يكون متأكدا هو نفسه بأن هذا صحيح. 'ثمة' نقود كان يجب أن تصلني منذ يوم الجمعة'. وعندما خرجت المرأة من أزمتها تعرفت عليه مذهولة:
ـ لقد صرت عظما اجرد.
فقال لها الكولونيل:
ـ إنني اعتني بنفسي لأكون صالحا للبيع. وقد بعت نفسي لمصنع يصنع المزامير.
ولكنه في الواقع بالكاد كان يقف مستندا على أمل الرسالة. وبسبب إرهاقه، وبسبب عظامه التي سحقها الإجهاد، فانه لم يستطع أن يعتني بحاجاته وحاجات الديك الضرورية في الوقت ذاته. في النصف الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) رأي أن الديك سيموت بعد أن أمضي يومين بلا ذرة. عندئذ تذكر حفنة من اللوبيا كان قد علقها في شهر يوليو (تموز) فوق الموقد. فتح الكيس الذي يحتوي على اللوبيا ووضع أمام الديك علبة ممتلئة بالحبوب الجافة.
فقالت له:
ـ تعال هنا.
أجابها الكولونيل:
ـ سآتيك حالا
ثم قال لنفسه وهو يراقب ردة فعل الديك:
ـ عند الجوع لا يوجد خبز سيء.
وجد زوجته تحاول الاعتدال في السرير. ومن الجسد التالف كانت تصدر روائح إعشاب طيبة. تلفظت بالكلمات، كلمة كلمة، بتدقيق محسوب:
ـ اخرج بهذا الديك حالا من هنا.
كان الكولونيل قد أعد نفسه لهذه اللحظة. كان ينتظرها منذ الأمسية التي قتل بها ابنه وقرر هو الاحتفاظ بالديك. لذلك كان لديه وقت طويل ليفكر.
قال:
ـ لم يعد الأمر يستحق ذلك، فخلال ثلاثة شهور ستجري مباراة مصارعة الديكة وعندها نستطيع أن نبيعه بأغلى الأسعار.
فقالت المرأة:
ـ القضية ليست قضية نقود. عندما يأتي الشباب قل لهم أن يأخذوه وليفعلوا به ما يرغبون.
قال لها الكولونيل مستخدما حجة محضرة مسبقا:
ـ إني احتفظ به من أجل أغوستين... تصوري وجهه لو انه اتى يومها ليخبرنا بفوز الديك.
صرخت المرأة وقد فكرت فعلا بابنها:
'لقد كانت هذه الديكة اللعينة هي سبب ضياعه. فلو انه بقي في البيت يوم الثالث من يناير (كانون الثاني) ذاك، لما كانت فاجأته ساعة الشر'. ثم وجهت سبابتها الضامرة نحو الباب وهتفت:
ـ يبدو لي وكأني كنت أري ما سيجري عندما خرج حاملا الديك تحت ذراعيه. لقد حذرته بألا يذهب بحثا عن موته في ملعب مصارعة الديوك، ولكنه كشر عن أسنانه وقال لي: 'اصمتي، فهذا المساء سنتعفن من كثرة النقود'.
سقطت منهكة دفعها برفق الكولونيل نحو الوسادة. واصطدمت عيناه بعينين مشابهتين تماما لعينيه. 'حاولي ألا تتحركي'، قال لها وهو يحس بالصفير وكأنه في رئتيه هو. راحت المرأة في غيبوبة قصيرة. أطبقت عينيها. وعندما فتحتهما من جديد كان تنفسها يبدو أكثر انتظاما.
قالت:
ـ أن هذا بسبب الحالة التي أصبحنا بها. فمن الكفر اقتطاع الخبز عن أفواهنا وإعطاؤه للديك.
جفف لها الكولونيل جبهتها بشرشف السرير.
ـ لا أحد يموت في ثلاثة شهور.
ـ وماذا سنأكل خلال هذا الوقت
تساءلت المرأة.
فقال الكولونيل:
ـ لست أدري ولكن لو إننا سنموت من الجوع لكنا قد متنا منذ زمن.
كان الديك يقف الآن بكامل حيويته أمام العلبة الفارغة. وعندما رأي الكولونيل أطلق صوتا حلقيا، شبه إنساني، وقذف رأسه إلى الوراء. فبادله الكولونيل ابتسامة شريك في الجريمة، وقال:
ـ إن الحياة قاسية أيها الرفيق.
خرج إلى الشارع. وتسكع في القرية التي تنام القيلولة دون أن يفكر بشيء، وحتى دون أن يحاول إقناع نفسه بان مشكلته ليس لها من حلٌ. سار في شوارع مقفرة إلى أن وجد نفسه منهكا. عندها رجع إلى البيت. أحست المرأة بدخوله ونادته إلى الغرفة.
ـ ماذا تريدين؟
فأجابت دون أن تنظر إليه:
ـ يمكننا أن نبيع الساعة.
كان الكولونيل قد فكر بهذا. قالت المرأة: 'إني متأكدة بان ألفارو سيعطيك أربعين بيزو في الحال.. تصور بأية سهولة اشتري منا قبلا ماكينة الخياطة'.
أنها تتكلم عن الخياط الذي كان اغوستين يعمل عنده.
ـ يمكنني أن أحدثه في الصباح بهذا الخصوص - قال الكولونيل بضيق.
فقالت هي بصراحة:
ـ لاشيء للكلام في الصباح. خذ الساعة إليه الآن، وضعها أمامه على الطاولة وقل له: 'يا الفارو، لقد أحضرت لك هذه الساعة لتشتريها مني'. وسيفهم هو في الحال.
شعر الكولونيل بالتعاسة، وقال معترضا:
ـ أن حملها سيكون كمن يحمل لحدا. ولو رآني الناس في الشارع حاملا هذه الواجهة فإنهم سيؤلفون عني أغنية من أغاني رافائيل اسكالونا.
ولكن زوجته أقنعته هذه المرة أيضا. ونزعت بنفسها الساعة عن الجدار، لفتها بورق الصحف ووضعتها بين يديه قائلة: 'لن ترجع إلى هنا دون الأربعين بيزو'.
اتجه الكولونيل إلى دكان الخياط حاملا اللفافة تحت ذراعه. ووجد أصدقاء أغوستين يجلسون أمام الباب.
قدم إليه أحدهم مقعدا. 'شكرا'، قال الكولونيل وقد تبلبلت أفكاره، ثم أردف: 'لقد كنت مارا من هنا بالصدفة'.
خرج الفارو من الدكان حاملا قطعة قماش قطني مبللة بالماء وعلقها في الممر على سلك ممتد بين دعامتين. كان شابا، له تركيب قاس كثير النتوءات وعينان ذاهلتان. وقد دعاه هو أيضا للجلوس. أحس الكولونيل بالانتعاش. أسند الكرسي الذي بلا مسند إلى إطار الباب وجلس ينتظر ريثما يبقي الفارو وحيدا ليعرض عليه الصفقة. وفجأة أحس بأنه محاط بوجوه مقطبة.
قال:
ـ ألا أزعجكم.
اعترضوا جميعهم على هذا. وانحني أحدهم نحوه وقال بصوت لا يكاد يسمع:
ـ لقد كتب أغوستين.
راقب الكولونيل الشارع المقفر، وسأل:
ـ ماذا يقول؟
ما يقوله دائما.
أعطوه المنشور السري، فأخفاه الكولونيل في جيب البنطال. وبقي صامتا ينقر بأصابعه على الساعة المغطاة حتى انتبه إلى أن هناك من يكلمه. فتوقف عن النقر حائرا.
ـ ماذا تحمل معك أيها الكولونيل؟
تفادي الكولونيل عيني خيرمان الخضراوين النافذتين. وقال كاذبا:
ـ لا شيء. إني أحمل الساعة إلى الألماني ليصلحها لي.
ـ 'لا تكن أحمق أيها الكولونيل. انتظر، وسأفحصها لك'، قال خيرمان وهو يحاول انتزاع الساعة منه.
قاوم. لم يقل شيئا ولكن رموشه أصبحت شهباء. فأصر الآخرون:
ـ أعطه الساعة أيها الكولونيل، فهو يفهم في الآلات.
ـ إنني لا أريد إزعاجه.
فرد عليه خيرمان، وهو يأخذ الساعة منه:
ـ أي إزعاج هذا. أن الألماني سينتزع منك عشرة بيزوات ويترك الساعة على حالها.
دخل خيرمان إلى الدكان حاملا الساعة. كان الفارو يعمل وراء ماكينة الخياطة. و في آخر الدكان، تحت غيتار. معلق بمسمار، كانت تجلس فتاة تقوم بتثبيت الأزرار. وفوق الغيتار لوحة كتب عليها: 'ممنوع التكلم بالسياسة'.
أحس الكولونيل بأن جسده أصبح أثقل. فأسند أقدامه على عارضة الكرسي.
ـ خراء، أيها الكولونيل.
فوجىء الكولونيل لهذه العبارة، وقال: 'بدون كلمات نابية'.
ثبت الفونسو النظارات على أنفه ليتفحص بشكل أفضل حذاء الكولونيل ذا الكعب العالي، ثم قال:
ـ إني أتكلم عن الحذاء. فأنت تلبس حذاء مريعا.
ـ ولكنك تستطيع قول ذلك دون كلمات نابية قال الكولونيل، وعرض عليه نعل الحذاء قائلا:
ـ لقد أصبح عمر هذا الحذاء الفظيع أربعين عاما، وها هو يسمع الآن لأول مرة كلمة نابية.
ـ 'قضي الأمر'، صرخ خيرمان من الداخل في نفس الوقت الذي انطلقت به دقات الساعة. وفي البيت المجاور، ضربت امرأة على الجدار الفاصل، وصرخت:
ـ دعوا هذا الغيتار جانبا، فلم تمض سنة بعد على موت اغوستين.
انفجرت قهقهة عالية.
أنها الساعة.
خرج خيرمان حاملا الساعة الملفوفة، وقال:
ـ لم يكن بها شيء، إذا أردت فسأصطحبك إلى البيت لأعلقها مكانها.
رفض الكولونيل العرض.
ـ بكم أنا مدين لك؟
ـ لا تهتم بهذا أيها الكولونيل، فالديك سيدفع في كانون الثاني (يناير). رد عليه خيرمان وهو يحتل مكانه بين المجموعة.
عندها وجد الكولونيل أن الفرصة مواتية، فقال له:
ـ إني أعرض عليك شيئا.
ـ ما هو؟
ـ أهديك الديك. ثم تفحص الوجوه المحيطة به وقال:
ـ إني أهدي الديك لكم جميعا.
تطلع إليه خيرمان حائرا.
ـ 'لقد أصبحت عجوزا على هذه الأمور'، تابع الكولونيل كلامه وقد هيمنت على صوته صرامة مقنعة.
ـ 'انه مسئولية كبيرة بالنسبة لي. ومنذ أيام وأنا أشعر بأن الحيوان يموت شيئا فشيئا'.
قال ألفونسو:
ـ لا تهتم لهذا أيها الكولونيل، كل ما في الأمر أن الديك يبدل ريشه في هذه الفترة، ولذا فإن منابت الريش تكون ملتهبة.
وقال خيرمان مؤكدا:
ـ في الشهر القادم سيكون في حالة جيدة.
ـ على كل حال أنا لا أريده. قال الكولونيل.
اخترقه خيرمان بنظرات حدقتيه، وقال بإصرار:
ـ تذكر أيها الكولونيل أن الأمر المهم، هو أن تكون أنت من يضع ديك اغوستين في حلبة الصراع يوم المباراة.
فكر الكولونيل بهذا، وقال: 'إني مدرك للأمر. ولهذا السبب احتفظ بالديك حتى الآن'. ضغط على أسنانه وأحس بقوة تجعله يتقدم:
ـ ولكن السيئ في الأمر هو مازال أمامنا ثلاثة شهور. كان خيرمان أول من فهمه، فقال:
ـ إذا لم يكن هناك شيء آخر سوي هذا الأمر فليس من مشكلة.
ثم اقترح حله للمسألة.. ووافق الآخرون. وفي أوائل الليل، عندما دخل إلى البيت واللفافة تحت ذراعه، شعرت امرأته بالإحباط، وسألته:
ـ لا شيء.
ـ لا شيء أجابها الكولونيل، ثم أردف:
ـ ولكن الأمر ليس مهما الآن، فالشباب سيؤمنون الغذاء للديك.
ـ انتظر وسأعيرك مظلة أيها الصديق.
فتح دون ساباس خزانة مركبة في جدار المكتب. وكشف عن محتوياتها المكركبة، منها جزم متلبدة لركوب الخيل، وحلقات ركائب، وأحزمة وسيور جلدية وإناء من الألمنيوم مليء بالمهاميز التي يستخدمها الخيالة. وفي القسم العلوي من الخزانة توجد نصف دزينة من المظلات المعلقة إلى جانب قبعة نسائية.
ـ 'شكرا يا صديقي'. قالها الكولونيل وهو يستند بمرفقيه إلى النافذة، 'أفضل الانتظار حتى يتوقف المطر'.
لم يغلق دون ساباس الخزانة. وجلس وراء المكتب ضمن مجال المروحة الكهربائية. ثم أخرج من الدرج حقنة ملفوفة بالقطن، وأخذ الكولونيل يتأمل أشجار اللوز الرصاصية من خلال المطر. لقد كان مساء مقفرا.
قال:
ـ أن المطر مختلف من خلال هذه النافذة، فهو يبدو كأنه يهطل في قرية أخرى.
ـ المطر هو المطر من أية زاوية نظرت إليه. رد دون ساباس، وهو يضع الحقنة ليغليها على اللوح الزجاجي الذي يغطي المكتب، ثم أردف:
ـ ما هذه القرية سوي براز.
هز الكولونيل كتفيه. وسار إلى وسط المكتب: صالة واسعة بلاطها أخضر وبها قطع موبيليا مغطاة بقماش ألوانه حيوية. وفي طرفه أكياس ملح، وخوابي عسل، وسروج خيل مكومة بفوضى. تابعه دون ساباس بنظرة فارغة تماما.
ـ لو كنت مكانك لما فكرت هكذا قال الكولونيل. جلس مقاطعا ساقيه، وثبت نظرته الهادئة على الرجل المنحني فوق المكتب. كان رجلا قصيرا، ضخما ولكن لحمه مترهل، وفي عينيه حزن ضفدع حديثة الولادة.
قال دون ساباس:
ـ اعرض نفسك على طبيب أيها الصديق. فأنت تبدو جنائزيا بعض الشيء منذ يوم الدفن.
رفع الكولونيل رأسه، وقال:
ـ إنني في حالة جيدة.
انتظر دون ساباس حتى تغلي الحقنة. وقال متأسفا: 'لو إني أستطيع أن أقول هذا! كم أنت محظوظ! فأنت قادر على أكل ركاب نحاسي'. تأمل ظاهر كفه ذات الشعر الغزير والمليئة بالنمش البني. كان يضع خاتما به فص أسود فوق خاتم الزواج.
ـ هذا صحيح قال الكولونيل موافقا.
نادي دون ساباس زوجته من خلال الباب الذي يصل ما بين المكتب وبقية البيت. ثم بدأ بشرح مؤلم للنظام الغذائي الذي يتبعه. تناول زجاجة دواء صغيرة من جيب قميصه ووضع فوق المكتب قرص دواء أبيض بحجم حبة لوبيا، وقال:
ـ انه تعذيب أن أحمل هذا معي في كل مكان أذهب إليه. انه كمن يحمل الموت في جيبه.
اقترب الكولونيل من المكتب. وتفحص قرص الدواء في كف يده إلى أن دعاه دون ساباس لتذوقه. ثم قال له شارحا:
ـ انه لتحلية القهوة. أي، سكر ولكن بدون سكر.
فقال الكولونيل، ولعابه مضمخ بطعم الحلاوة الحزين:
ـ فعلا، انه شيء يشبه قرع الأجراس ولكن دون أجراس. اتكأ دون ساباس على المكتب بمرفقيه ووجهه بين يديه بعد أن زرقته زوجته بالحقنة. لم يعد الكولونيل يعرف ما يفعله بجسده. أطفأت المروحة الكهربائية، ووضعتها فوق الصندوق المصفح ثم اتجهت نحو الخزانة قائلة:
ـ أن للمظلات علاقة ما بالموت.
لم يعرها الكولونيل اهتماما. كان قد خرج من بيته في الساعة الرابعة وغرضه انتظار البريد، ولكن المطر اضطره إلى أن يلتجىء إلى مكتب دون ساباس. وعندما صفرت المراكب كان المطر ما يزال يهطل.
ـ 'الجميع يقولون بأن الموت هو امرأة'، تابعت المرأة حديثها. لقد كانت بدينة وأطول من زوجها، ولها تؤلول مغطي بالشعر على شفتها العليا. تذكر طريقتها في الحديث بأزيز المروحة الكهربائية. 'ولكني لا أعتقد بأنه امرأة'، قالت. ثم أغلقت الخزانة والتفتت وكأنها تستشير عيني الكولونيل:
ـ إني اعتقد بأن الموت هو حيوان بأظلاف.
فقال لها الكولونيل موافقا:
ـ ربما. فأحيانا تحدث أمور غريبة جدا.
فكر بموظف البريد وتخيله وهو يقفز إلى المركب مرتديا ممطرا من المشمع. لقد انقضي شهر على استبداله المحامي. وله الحق الآن بانتظار الرد. وتابعت زوجة دون ساباس الحديث عن الموت إلى أن انتبهت لتعابير الذهول التي تلف الكولونيل. فقالت:
ـ لابد أن هنالك ما يشغل تفكيرك أيها الصديق.
استعاد الكولونيل وعيه، وقال كاذبا:
ـ أجل أيتها الصديقة. إني أفكر بأن الساعة قد تجاوزت الخامسة ولم أعط الحقنة للديك بعد.
وقفت مشدوهة، ثم هتفت:
ـ حقنة لديك وكأنه كائن بشري. أن هذا دنس.
لم يعد بامكان دون ساباس احتمالها. فرفع وجهه المحتقن، وأمر زوجته:
ـ أغلقي فمك للحظة.
وفعلا رفعت يديها إلى فهمها. فتابع هو:
ـ منذ نصف ساعة وأنت تزعجين صديقي بحماقاتك.
ـ لا، أبدا قال الكولونيل معترضا.
صفقت المرأة الباب. وجفف دون ساباس رقبته بمنديل مضمخ بالخزامى.
اقترب الكولونيل من النافذة. كان المطر يهطل دون توقف. ودجاجة لها قوائم صفراء طويلة تعبر الساحة المقفرة.
ـ هل صحيح أنكم تحقنون الديك؟
ـ أجل صحيح. فالتمرينات ستبدأ في الأسبوع القادم قال الكولونيل.
فقال دون ساباس:
ـ أن هذا تهور. فأنت لست مهيئا لهذه الأعمال.
قال الكولونيل:
ـ أجل، ولكن هذا ليس سببا للوي عنق الديك.
ـ 'أنها مجازفة حمقاء' قال دون ساباس وهو يتجه إلى النافذة. أخذ الكولونيل نفسا ككير حداد. وعينا صديقه جعلته يشعر بالشفقة على نفسه.
قال دون ساباس:
ـ خذ نصيحتي أيها الصديق. خير لك أن تبيع هذا الديك قبل أن يصبح الوقت متأخرا.
ـ ليس ثمة ما يؤسف عليه أبدا.
فقال دون ساباس بإصرار:
ـ لا تكن واهما. أن هذا الديك صفقة بحدين: فمن ناحية سترفع عن كاهلك وجع الرأس، ومن ناحية أخرى ستضع في جيبك مبلغ تسعمائة بيزو.
ـ تسعمائة بيزو هتف الكولونيل.
ـ أجل، تسعمائة بيزو.
ـ أتعتقد بأنهم يدفعون هذا الثمن مقابل الديك؟
أجابه دون ساباس:
ـ ليس الأمر اعتقادا. إني متأكد من هذا.
كان هذا الرقم هو أعلى رقم دخل رأس الكولونيل منذ سلم ميزانية الثورة. وعندما خرج من مكتب دون ساباس أحس بأحشائه تتلوي، ولكنه كان على يقين هذه المرة بأن الألم لم يكن بسبب الطقس. وفي مكتب البريد اتجه مباشرة إلى الموظف، وقال:
ـ إني انتظر رسالة مستعجلة. ستصل بالطائرة.
بحث الموظف في الكوى المصنفة وعندما انتهي من القراءة وضع الرسائل حسب الحروف المطابقة لها ولكنه لم يقل شيئا. نفض راحتيه ووجه إلى الكولونيل نظرة ذات مغزى.
ـ كان يجب أن تصلني اليوم بكل تأكيد قال الكولونيل.
هز الموظف كتفيه. وقال
ـ الشيء الوحيد الذي يصل بكل تأكيد هو الموت أيها الكولونيل.
استقبلته زوجته بطبق من عصيدة 'ماثامورا' الذرة. أكله صامتا، وكان يتوقف طويلا ليفكر ما بين ملعقة وأخرى. خمنت امرأته التي كانت تجلس مقابله بأن ثمة أمرا قد تغير في البيت، فسألته:
ـ ماذا جري لك؟
قال الكولونيل كاذبا:
ـ إني أفكر بالموظف المسئول عن التقاعد. فخلال خمسين عاما سنكون تحت التراب مطمئنين. بينما هذا الرجل المسكين سيحتضر كل يوم جمعة وهو ينتظر راتبه التقاعدي.
ـ 'أنها بادرة سيئة.. فهذا يعني انك بدأت تخضع للقدر'. قالت المرأة، وتابعت تناول العصيدة. ولكنها انتبهت بعد برهة إلى أن زوجها مازال غائبا.
ـ أن ما عليك عمله الآن هو أن تلتهم هذه العصيدة. فقال الكولونيل:
ـ أنها لذيذة جدا. من أين طلعت بها؟
أجابت المرأة:
ـ من الديك. فقد أحضر له الشبان كثيرا من الذرة، وقرر هو أن يقاسمنا إياها.. هكذا هي الحياة.
تنهد الكولونيل:
ـ نعم هكذا. أن الحياة هي أفضل شيء تم اختراعه.
نظر إلى الديك المربوط بدعامة الموقد وبدا له هذه المرة حيوانا مختلفا. ونظرت المرأة إليه أيضا، وقالت:
ـ هذا المساء اضطررت لإخراج الصبيان بالعصا. فقد أحضروا دجاجة هرمة ليجامعوها مع الديك.
قال الكولونيل:
ـ ليست المرة الأولي التي يحدث هذا. فهكذا كانوا يفعلون في القرى مع الكولونيل أوربليانو بوينديا. إذا كانوا يحضرون له الصبايا ليضاجعهن.
أعجبت هي بالمقارنة الطريفة. وأصدر الديك صوتا من حلقه وصل إلى الممر كصوت إنساني مكتوم. ـ 'أحس أحيانا وكأن هذا الحيوان سينطلق متكلما' قالت المرأة. وعاد الكولونيل لينظر إليه، وقال:
ـ انه ديك حاك وصائح.
ثم أجري بذهنه عمليات حسابية بينما كان يتناول ملعقة من العصيدة، وقال:
ـ انه يكفي لإطعامنا ثلاث سنوات.
ـ الأحلام لا تؤكل قالت المرأة.
ـ لا تؤكل، ولكنها تغذي رد الكولونيل، ثم تابع: أنها شبيهة بعض الشيء بالحبوب العجيبة التي يتناولها صديقي دون ساباس.
نام نوما سيئا هذه الليلة وهو يحاول أن يمحو أرقاما من رأسه. في اليوم التالي عند الغداء قدمت المرأة صحنين من عصيدة الذرة، والتهمت طبقها ورأسها منحنيا، دون أن تتلفظ بكلمة واحدة. أحس الكولونيل وكأنه مصاب بعدوي تعكر المزاج.
ـ بماذا تفكرين؟
ـ لا شيء قالت المرأة.
سيطر عليه انطباع بأن دور زوجته في الكذب قد جاء هذه المرة. حاول أن يجرها للكلام. ولكن المرأة أصرت:
ـ لست أفكر بشيء غريب. إني أفكر بأن قرابة شهرين قد انقضيا على رحيل الميت ولم أذهب لأعزي حتى الآن.
وهكذا ذهبت لتقديم العزاء هذه الليلة. اصطحبها الكولونيل حتى بيت الميت ثم توجه إلى صالة السينما تجذبه الموسيقي المنبعثة من مكبرات الصوت. كان الأب أنخل يجلس على باب مكتبه مراقبا مدخل السينما ليعرف الذين يحضرون العرض بالرغم من تحذيراته الإثني عشر. تموجات الضوء، والموسيقي الصاخبة وصرخات الأطفال فرضت مقاومة طبيعية في الحي. هدد أحد الأطفال الكولونيل ببندقية خشبية وقال له بصوت متسلط فوقي:
ـ ما هي أخبار الديك أيها الكولونيل.
رفع الكولونيل يديه.
ـ ها هو الديك.
كان ثمة ملصق بأربعة ألوان يحتل واجهة الصالة بكاملها كتب عليها (عذراء منتصف الليل). وعليه رسم امرأة ترتدي ملابس الرقص وإحدى ساقيها عارية حتى الفخذ. تابع الكولونيل التسكع في المكان إلى أن انفجرت رعود وبروق بعيدة. وعندما عاد إلى حيث ذهبت زوجته، لم يجدها في بيت الميت، ولا في بيتها وقدر الكولونيل بأنه لم يبق وقت قصير على بدء منع التجول، ولكن الساعة كانت متوقفة، انتظر، وهو يشعر بالعاصفة تقترب من القرية. وعندما تأهب ليخرج من جديد دخلت زوجته إلى البيت.
حمل الديك إلى غرفة النوم. وأبدلت هي ثيابها ثم مضت لتشرب ماء من الصالة في الوقت الذي كان به الكولونيل قد انتهي من ملء الساعة وجلس ينتظر إشارة منع التجول ليضبط الساعة.
سألها الكولونيل:
ـ أين كنت؟
ـ 'هنا'، أجابت المرأة. ووضعت الكأس على الخابية دون أن تنظر إلى زوجها وعادت إلى غرفة النوم، وقالت: 'لم يكن أحد يصدق بأنها ستمطر بهذه السرعة'. لم يعلق الكولونيل بشيء. وعندما دقت إشارة منع التجول ضبط الساعة على الحادية عشرة، ثم أغلق الزجاج وأعاد الكرسي إلى وضعه. وجد زوجته تصلي صلاة المساء.
ـ لم تجيبي على سؤالي قال لها الكولونيل.
ـ أي سؤال.
ـ أين كنت؟
فقالت هي:
ـ لقد كنت أتحدث مع الناس. فمنذ زمن طويل لم أخرج إلى الشارع.
علق الكولونيل سرير نومه. وأغلق باب البيت ورش الغرفة بالمبيدات. بعد ذلك وضع المصباح على الأرض واستلقي في السرير. ثم قال بأسي:
ـ إني أفهمك. فأسوأ ما في حالات الشدة هو أنها تجبر المرء على الكذب.
نفثت هي زفرة طويلة، وقالت:
ـ لقد ذهبت إلى الأب أنجل. ذهبت لأطلب منه قرضا مقابل خاتمي الزواج.
ـ وماذا قال لك؟
قال: إن المتاجرة بالأغراض المقدسة، خطيئة.
وتابعت من وراء الكلة: 'منذ يومين حاولت أن أبيع الساعة. ولكن لم يقبل شراءها أحد، لأنهم يبيعون الآن بالتقسيط ساعات حديثة لها أرقام مضيئة، يمكن رؤية الوقت بها في الظلام'. تحقق الكولونيل من أن أربعين سنة من الحياة المشتركة ، ومن الجوع المشترك، والمقاساة المشتركة، لم تكن كافية ليتعرف على زوجته. وأحس بأن شيئا قد شاخ في الحب أيضا.
قالت هي:
ـ ولم يقبل أحد شراء اللوحة. فالجميع تقريبا لديهم نفس اللوحة.. حتى إنني ذهبت إلى منطقة الأتراك.
شعر الكولونيل بالمرارة:
ـ وبهذا أصبح الجميع الآن يعرفون بأننا نموت جوعا.
فقالت المرأة:
ـ لقد تعبت. فأنتم معشر الرجال لا تنتبهون إلى مشاكل البيت. لقد وضعت عدة مرات حجارة في القدر وغليتها كي لا يعرف الجيران بأنه ليس لدينا ما نملأ به القدر.
شعر الكولونيل بالاستفزاز، فقال:
ـ أن هذا الذي فعلته هو المسكنة الحقيقية.
غادرت المرأة الكلة واتجهت نحو السرير المعلق قائلة: 'إني مستعدة لأقضي على التصنع والأوهام في هذا البيت'.. بدأ صوتها يكفهر غضبا: 'لقد طفح كيلي من الصبر والوقار'.
لم يحرك الكولونيل عضلة واحدة في جسده.
وتابعت هي:
ـ عشرون سنة وأنا أنتظر العصافير الملونة التي يعدونك بها بعد كل انتخابات، ومن كل هذا الانتظار بقي لنا ابن ميت.. لا شيء سوي ابن ميت.
قال الكولونيل الذي كان معتادا على هذا النوع من المهاترات:
ـ لقد قمنا بواجبنا.
فردت المرأة:
ـ وهم قاموا بكسب ألف بيزو شهريا في مجلس النواب طوال عشرين سنة. فهذا صديقنا دون ساباس وبيته ذو الطبقتين الذي لا يتسع لأمواله. لقد أتي إلى القرية كبائع أدوية يعلق أفعى حول عنقه.
ـ ولكنه يموت شيئا فشيئا بالسكري قال الكولونيل. فردت المرأة:
ـ وأنت تموت جوعا. كل هذا لتتأكد أن الوقار لا يؤكل.
قطع البرق عليها حديثها، ثم انفجر الرعد في الخارج، ودخل إلى غرفة النوم ومرق إلى ما تحت السرير مثل سيل من الحجارة. قفزت المرأة بحثا عن مسبحتها.
ابتسم الكولونيل وقال:
ـ أن هذا يصيبك لأنك لا تكبحين لسانك. لقد قلت لك دائما أن الرب عضو في حزبنا.
ولكنه في الواقع كان يشعر بالمرارة. بعد لحظات أطفأ المصباح وغرق في التفكير وسط ظلام يشقه البرق. تذكر ماكوندو، لقد انتظر الكولونيل عشر سنوات حتى تتحقق مواثيق ميرلانديا. وفي غيبوبة قيظ الظهيرة رأي قطارا أصفر يصل معفرا بالغبار ومحملا بالرجال والنساء والحيوانات الذين سحق الحر أنفاسهم، وهم مكدسون في كل مكان، وحتى على سطح العربات. تلك الفترة كانت فترة حمي الموز.
وخلال أربع وعشرين ساعة عمروا القرية. عندها قال الكولونيل: 'إني ذاهب، فرائحة الموز تعفن أمعائي' وغادر ماكوندو في قطار العودة، يوم الأربعاء السابع والعشرين من يوليو (تموز) سنة ألف وتسعمائة وست، في الساعة الثانية وثماني عشرة دقيقة بعد الظهر. لقد احتاج لنصف قرن بعدها ليكتشف. انه لم ينعم بدقيقة راحة بعد الاستسلام في نيرلانديا.
فتح عينيه، وقال:
ـ إذن يجب ألا نفكر في الأمر بعد الآن.
ـ ماذا؟
قال الكولونيل:
ـ أعني مسألة الديك.. غدا بالذات سأبيعه إلى صديقي ساباس بمبلغ تسعمائة بيزو.
******
نفذ إلى المكتب، من خلال النافذة، أنين الحيوانات المخصية مختلطا بصرخات دون ساباس. 'إذا لم يأت خلال عشر دقائق فسوف اذهب'، هكذا عاهد الكولونيل نفسه بعد أن أمضي ساعتين في الانتظار، ولكنه انتظر عشرين دقيقة أخرى. وكان يتهيأ للخروج عندما دخل دون ساباس إلى المكتب تتبعه مجموعة من العمال المساعدين. مر دون ساباس عدة مرات أمام الكولونيل دون أن يلتفت إليه. وانتبه لوجوده عندما خرج العمال فقط.
ـ هل تنتظرني أيها الصديق؟
قال الكولونيل:
ـ أجل يا صديقي. ولكن إذا كنت مشغولا فسأعود فيما بعد.
لم يسمعه دون ساباس لأنه أصبح في الناحية الأخرى من الباب ولكنه قال له وهو يخرج:
ـ سأعود حالا.
كانت ظهيرة متقدة. والمكتب يلتهب بالحر المنعكس إليه من الشارع. أغمض الكولونيل، الذي خدره الحر، عينيه رغم أرادته. وفي الحال بدأ يحلم بزوجته.
دخلت زوجة دون ساباس على رؤوس أصابعها وقالت له:
ـ لا تستيقظ أيها الصديق، سأغلق الأباجور فقط، لأن المكتب صار جهنما.
لاحقها الكولونيل بنظرة غائبة عن الوعي تماما. قالت وهي في الظل بعد أن أغلقت الأباجور:
ـ هل تحلم كثيرا في نومك؟
شعر الكولونيل بالخجل لأنه نام، وأجابها :
ـ أحيانا وأري نفسي في جميع أحلامي تقريبا وأنا أتخبط في شبكة عنكبوت.
قالت المرأة:
ـ أنا أعاني من الكوابيس كل ليلة. ولكني بدأت أعرف الآن من هم هؤلاء الناس المجهولون الذين يظهرون لنا في الأحلام.
أدارت المروحة الكهربائية، وقالت: 'في الأسبوع الماضي ظهرت لي في الحلم امرأة وقفت على رأس سريري. وقد وجدت الشجاعة لأسألها من تكون، فأجابتني قائلة: أنا المرأة التي ماتت في هذه الغرفة منذ اثنتي عشرة سنة'.
فقال الكولونيل:
ـ ولكن لم تكد تمضي سنتان بعد على بناء هذا البيت.
ـ نعم. وهذا يعني أن الأموات يخطئون أيضا.
جعل أزيز المروحة الكهربائية البرودة أكثر رسوخا. وشعر الكولونيل بفقدان الصبر والاضطراب بسبب النعاس الذي غلبه وبسبب هذه المرأة البدينة التي انتقلت فورا من الحديث عن الأحلام إلى تجسد الموتى وعودتهم ثانية إلى الحياة. وكان ينتظر فرصة تتوقف فيها عن الحديث لينصرف عندما دخل ساباس إلى المكتب مع رئيس عماله. فقالت له المرأة:
ـ لقد سخنت لك الحساء أربع مرات حتى الآن.
قال دون ساباس:
ـ سخنيه عشر مرات إذا شئت. ولكن لا تثيري أعصابي وتجعليني أفقد صبري الآن.
فتح صندوق السيولة النقدية وسلم لرئيس عماله رزمة من الأوراق المالية ومعها قائمة تعليمات. فتح رئيس العمال الأباجورات ليعد النقود. لمح دون ساباس بالكولونيل في طرف المكتب ولكنه لم يبد أي تأثر، بل تابع حديثه مع رئيس عماله. نهض الكولونيل في اللحظة التي كان الرجلان يستعدان بها لمغادرة المكتب من جديد. فتوقف دون ساباس قبل أن يفتح الباب، وقال:
ـ ماذا أستطيع أن أقدم لك أيها الصديق؟
انتبه الكولونيل إلى رئيس العمال ينظر إليه، فقال:
ـ لا شيء يا صديقي، كنت أود التحدث إليك. فقال دون ساباس:
ـ مهما كان الأمر، يمكنك قوله الآن حالا. لأني لا أستطيع إضاعة دقيقة واحدة.
وظل واقفا ويده ممسكة بقبضة الباب الكروية. شعر الكولونيل بانقضاء أطول خمس ثوان في حياته، فضغط على أسنانه ودمدم:
ـ إن الأمر يتعلق بمسألة الديك.
عندها كان دون ساباس قد انتهي من فتح الباب. 'مسألة الديك'، كرر مبتسما، وقاد رئيس عماله نحو الممر 'إن العالم يهوي بينما صديقي مشغول بهذا الديك'. ثم قال موجها حديثه إلى الكولونيل:
ـ حسنا جدا أيها الصديق، سأعود حالا.
وقف الكولونيل وسط المكتب بلا حراك حتى تلاشي وقع خطوات الرجلين في آخر الممر. وخرج بعد ذلك ليسير في شوارع القرية المشلولة في قيلولة الأحد. لم يجد أحدا في دكان الخياط. وعيادة الطبيب كانت مغلقة. ولم يكن هناك من يحرس البضائع المعروضة في متاجر السوريين. كان النهر كصفحة من الرصاص. وثمة رجل نائم على أربعة براميل بترول في الميناء، يقي وجهه من الشمس بقبعة. اتجه الكولونيل إلى بيته متيقنا بأنه المكان الوحيد الحيوي في القرية. كانت زوجته تنتظره وقد أعدت وجبة غداء كاملة.
قالت مفسرة:
ـ لقد استدنت ووعدت أن أدفع غدا صباحا.
خلال تناول الغداء روي لها الكولونيل أحداث الساعات الثلاث الأخيرة. واستمعت إليه جزعة، ثم قالت عندما انتهي:
ـ كل ما في الأمر انك لا تملك شخصية قوية. فأنت تذهب وكأنك ذاهب لطلب صدقة بينما يجب عليك أن تدخل مرفوع الرأس وتنادي صديقك جانبا وتقول له: 'أيها الصديق، لقد قررت أن أبيعك الديك'.
فقال الكولونيل:
ـ هكذا هي الحياة، أنها نفحة.
كانت تسيطر عليها حالة من الحماس. فقد رتبت البيت صباح هذا اليوم وارتدت ملابسها بطريقة غير مألوفة، إذ لبست حذاء زوجها القديم، ومريلة من المشمع، وربطت على رأسها مزقة من القماش معقودة بعقدتين عند الأذنين. قالت له: 'ليس لديك أدني حس تجاري. فمن يذهب ليبيع شيئا ما يجب أن يتخذ نفس هيئة من يذهب ليشتري'.
لاحظ الكولونيل بعض الطرافة في شكلها. فقاطعها ضاحكا:
ـ ابق هكذا كما أنت الآن، لأن تشبهين الرجل القصير بائع الجلبان.
نزعت مزقة القماش عن رأسها، وقالت:
ـ إني أكلمك بجدية.. سآخذ الديك حالا إلى صديقنا وأراهنك على ما تشاء بأني سأعود خلال نصف ساعة ومعي تسعمائة بيزو.
قال لها الكولونيل:
ـ لقد أدارت الأرقام رأسك. وها قد بدأت تلعبين بثمن الديك.
لقد كلفه كثيرا إقناعها بالعدول عن رأيها. إذ أنها بدأت منذ الصباح بتنظيم برنامج في ذهنها. للسنوات الثلاث القادمة التي سيمضيانها دون احتضار أيام الجمعة في انتظار البريد. وأعدت البيت لاستقبال التسعمائة بيزو، فنظمت لائحة بالأشياء الأساسية التي لا يملكانها، دون أن تنسي تسجيل حذاء جديد للكولونيل. وأفسحت مكانا في حجرة النوم للمرآة. إن هذه الضربة المفاجئة لجميع مشاريعها جعلتها تضطرم بإحساس من الخجل والحقد.
نامت قيلولة قصيرة. وعندما استيقظت كان الكولونيل جالسا في البهو.
ـ وماذا ستفعل الآن؟ سألته هي:
فقال الكولونيل:
ـ إني أفكر.
ـ إذن، فقد حلت المشكلة: سنحصل على تلك النقود خلال خمسين سنة.
ولكن الكولونيل كان قد قرر. في الواقع، أن يبيع الديك مساء هذا اليوم بالذات. فكر بدون ساباس، وتخيله وحيدا في مكتبه، يتهيأ أمام المروحة الكهربائية لأخذ حقنة الأنسولين اليومية. كان قد أعد ما سيقوله.
خذ الديك معك. فرؤية وجه القديس تصنع المعجزات قالت له زوجته وهو خارج.
رفض الكولونيل ذلك. ولكنها تبعته حتى الباب الخارجي بقلق يائس، وقالت:
ـ ليس مهما أن يكون هناك فيلق من الناس، خذه من ذراعه وتنح به جانبا ولا تدعه يتحرك قبل أن يعطيك التسعمائة بيزو.
ـ سيظنون إننا نعد الانقلاب.
لم تهتم هي بهذا. وقالت بإصرار:
ـ تذكر أنك أنت صاحب الديك. وتذكر أنك أنت الذي ستقدم له معروفا ببيعه الديك.
ـ حسنا.
كان دون ساباس في غرفة نومه مع الطبيب. فقالت زوجته للكولونيل: 'انتهز الفرصة الآن أيها الصديق. إن الطبيب يفحصه لأنه سيذهب إلى المزرعة ولن يعود حتى يوم الخميس'.
درس الكولونيل الأمر وهو بين قوتين متعارضتين تتجاذبانه فرغم قراره الحاسم ببيع الديك. رغب لو أنه وصل بعد ساعة حتى لا يجد دون ساباس.
ـ أستطيع أن أنتظر. قال لها.
ولكن زوجة دون ساباس أصرت عليه. وقادته إلى غرفة النوم حيث كان زوجها جالسا بسرواله الداخلي على سرير كالعرش، بينما ثبت على الطبيب عينيه اللتين بلا بريق. وانتظر الكولونيل حتى انتهي الطبيب من تسخين أنبوب زجاجي به عينه من بول المريض، ثم شم البخار المتصاعد منه وأشار إلى دون ساباس إشارة النجاح.
قال الطبيب متوجها إلى الكولونيل:
ـ يجب رميه بالرصاص. فالسكري يتباطأ كثيرا بالقضاء على الأغنياء.
'لقد فعلت أنت كل ما تستطيع لذلك بواسطة حقن الأنسولين اللعينة التي أعطيتني إياها'. قال دون ساباس وهو يربت على اليتيه المترهلتين، وتابع: 'ولكني مسمار قاس على الأكل'. بعدها اتجه نحو الكولونيل قائلا:
ـ اقترب أيها الصديق.. عندما خرجت في الظهيرة بحثا عنك لم أجد حتى ولا قبعتك.
ـ لا أستخدم قبعة كي لا أضطر لرفعها أمام أحد.
بدأ دون ساباس بارتداء ملابسه. ودس الطبيب في جيب سترته انبوبا زجاجيا به عينة من الدم. ثم رتب محتويات حقيبته. وظن الكولونيل بأن الطبيب يستعد للذهاب، فقال له:
ـ لو كنت مكانك يا دكتور لقدمت لصديقنا قائمة حساب بمئة ألف بيزو. فهكذا ستصبح همومه أقل.
قال الطبيب:
ـ لقد عرضت عليه هذه الصفقة، ولكني طلبت مليونا. فالفقر هو أفضل علاج للسكري.
ـ 'شكرا لهذه الوصفة'، قال دون ساباس وهو يحاول أن يحشر كرشه الضخم في البنطال الخاص بركوب الخيل، ثم أردف 'ولكني لن أقبل بها لأحول دون أن تصبح أنت غنيا وتصاب بالمرض'.
رأي الطبيب أسنانه التي انعكست على غطاء حقيبته المعدني. ثم نظر إلى ساعته دون أن يبدو عليه الاستعجال. وعندما بدأ دون ساباس بلبس جزمته اتجه نحو الكولونيل الذي أتي في وقت غير مناسب.
ـ حسنا أيها الصديق، ما الذي حصل للديك.
وانتبه الكولونيل إلى أن الطبيب أيضا سيسمع جوابه. فضغط على أسنانه ودمدم:
ـ لا شيء أيها الصديق. أني آت لأبيعك إياه.
انتهي دون ساباس من لبس الجزمة، وقال دون تأثر:
ـ حسنا أيها الصديق.. أنها أعقل فكرة خطرت لك.
وأمام تعابير عدم الفهم التي ظهرت على وجه الطبيب، قدم الكولونيل تبريره قائلا:
ـ لقد أصبحت كبيرا على هذه الأمور. ولو أن عمري أقل بعشرين سنة مما أنا عليه لكان الأمر مختلفا.
فرد الطبيب: أنت دائما أصغر من عمرك بعشرين سنة.
استرد الكولونيل أنفاسه. وانتظر من دون ساباس أن يقول له شيئا، ولكنه لم يفعل، وإنما ارتدي سترة جلدية لها سحاب وتأهب للخروج من غرفة النوم فقال الكولونيل:
ـ يمكننا أن نتحدث بهذا الأمر في الأسبوع القادم إذا شئت.
ـ هذا ما كنت سأقوله لك قال دون ساباس، ثم أردف:
ـ لدي زبون قد يدفع لك أربعمائة بيزو ثمنا للديك.
ـ ولكن يجب الانتظار حتى يوم الخميس.
ـ كم؟ تساءل الطبيب.
ـ أربعمائة بيزو.
فقال الطبيب:
ـ لقد سمعت بأنه يساوي أكثر من هذا المبلغ بكثير.
استغل الكولونيل استغراب الطبيب ليقول لصديقه:
ـ كنت قد حدثتني عن تسعمائة بيزو.. إنه أفضل ديك في الناحية كلها.
رد دون ساباس على الطبيب شارحا:
ـ 'في وقت سابق كان يمكن لأي كان أن يدفع ألف بيزو ثمنا له. أما الآن فليس هناك من يتجرأ على إطلاق ديك جيد. فثمة خطر دائما في أن يخرج من حلقة المصارعة صريعا بالرصاص'.
ثم التفت نحو الكولونيل بحزن مفتعل بإتقان وقال:
ـ هذا ما كنت أنوي قوله لك أيها الصديق.
أشار الكولونيل برأسه موافقا، وقال:
ـ حسنا.
تبعهما في الممر وهما خارجان. ولكن الطبيب ظل في الصالة بدعوة من زوجة دون ساباس التي طلبت منه علاجا 'لتلك الأشياء التي تصيب المرأة فجأة ولا أحد يعرف ما هي'. انتظر الكولونيل في المكتب. بينما فتح دون ساباس صندوق الخزنة، ودس نقودا في جميع جيوبه ثم مد إلى الكولونيل أربع أوراق نقدية. وقال:
ـ هذا ستون بيزو أيها الصديق. وعندما يباع الديك نصفي الحساب.
سار الكولونيل برفقه الطبيب عبر متاجر شارع الميناء وقد أنعشتهما برودة المساء، بينما كان مركب شحن محمل بقصب السكر ينزلق مع تيار الماء البارد. لاحظ الكولونيل احتقانا في وجه الطبيب:
ـ وأنت كيف حالك أيها الدكتور؟
هز الطبيب كتفيه وقال:
ـ لا بأس. ولكني أعتقد بأني محتاج لاستشارة طبيب فقال الكولونيل:
ـ إنه الشتاء، فهو يجعل أمعائي تتعفن.
تأمله الطبيب بنظرة خالية تماما من أي اهتمام مهني. وحيا السوريين الجالسين أمام أبواب متاجرهم واحدا واحدا. وأمام العيادة عرض الكولونيل موقفه في صفقة بيع الديك، إذ قال مفسرا:
ـ لم أعد قادرا على عمل شيء آخر. لقد أصبح الحيوان يتغذى باللحم البشري.
قال الطبيب:
ـ إن الحيوان الوحيد الذي يتغذى باللحم البشري هو دون ساباس.. إني متأكد انه سيبيع الديك بتسعمائة بيزو.
ـ أتعتقد ذلك؟
ـ إني متأكد.. فهذه صفقة تجارية مكشوفة مثلها كمثل صفقة التحالف الوطني مع العمدة.
رفض الكولونيل تصديق ذلك، وقال: 'لقد قام صديقي بذلك التحالف مع العمدة لكي ينقذ جلده. وهكذا استطاع البقاء في القرية'.
فرد الطبيب:
ـ 'وهكذا استطاع أيضا شراء أملاك أعضاء حزبه الذين طردهم العمدة من القرية بنصف ثمنها'. ثم دق على باب العيادة لأنه لم يجد المفتاح في جيوبه. والتفت بعد ذلك ليلتقي بوجه الكولونيل الذي لم يصدق كلامه، وقال:
ـ لا تكن ساذجا. فصديق دون ساباس يهتم بالمال أكثر بكثير مما يهتم بجلده.
خرجت زوجة الكولونيل في هذه الليلة للتسوق. وقد رافقها زوجها حتى متاجر السوريين وهو يجتر في تأملاته ما قاله الطبيب.
قالت له زوجته:
ـ أبحث حالا عن الشباب وأخبرهم بأنك قد بعت الديك.. يجب ألا تبقيهم على الأمل.
أجابها الكولونيل:
ـ لا يمكن اعتبار الديك مباعا إلى أن يعود صديقي ساباس.
عندما ترك زوجته ذهب إلى صالة البلياردو وهناك وجد ألفارو وهو يلعب الروليت. كان المحل يعج بالناس ليلة الأحد. والحر يبدو أكثر كثافة بسبب جهاز الراديو الذي يبث بأعلى صوته. سرح الكولونيل في الأرقام ذات الألوان الحيوية المكتوبة على بساط مائدة الروليت الذي من الشمع الأسود،و المضاءة بمصباح بترولي موضوع على صندوق وسط الطاولة. كان الفارو وكأنه يصر على الخسارة يكرر المراهنة على الرقم ثلاثة وعشرين. وبينما كان الكولونيل يتابع اللعب من فوق كتف الفارو لاحظ أن الرقم أحد عشر قد كسب أربع مرات من أصل تسع. فهمس في أذن الفارو:
ـ راهن على الأحد عشر، فهو الذي يكسب أكثر من غيره.
تفحص الفارو البساط. ولم يراهن في الدورة التالية. وإنما أخرج نقودا من جيب بنطاله، وبين النقود كانت توجد ورقة مطوية، قدمها إلى الكولونيل من تحت الطاولة، وقال:
ـ أنها من اغوستين.
أخفي الكولونيل الورقة السرية في جيبه، وراهن الفارو على الرقم أحد عشر بنقود كثيرة. فقال له الكولونيل:
ـ ابدأ بالقليل.
ـ 'ربما تكون إصابة جيدة'، رد عليه الفارو. سحبت مجموعة من اللاعبين على الرقم أحد عشر بنقود كثيرة. فقال له الكولونيل:
ـ ابدأ بالقليل.
ـ 'ربما تكون إصابة جيدة'، رد عليه ألفارو. سحبت مجموعة من اللاعبين على الرقم أحد عشر عندما بدأت العجلة الكبيرة الملونة بالدوران. شعر الكولونيل بالتململ، فهو يجرب للمرة الأولى فتنة،و ذعر، وقلق الحظ.
كسب الرقم خمسة فقال الكولونيل خجلا:
ـ إني آسف أشد الأسف.
ثم تابع بعينيه الذراع الخشبية وهي تسحب نقود الفارو، وقد سيطر عليه إحساس لا يقاوم بالشعور بالذنب، وقال:
ـ أن هذا يصيبني لأني أحشر نفسي فيما لا يخصني. ابتسم الفارو دون أن ينظر إليه، وقال:
ـ لا تهتم أيها الكولونيل. جرب حظك في الحب.
وفجأة قاطع الجميع نفير أبواق. فتفرق اللاعبون وقد رفعوا أيديهم إلى الأعلى. شعر الكولونيل بالصرير الجاف والبارد لأقسام بندقية تتهيأ من ورائه ففهم انه قد وقع وقعة مشئومة في مصيدة للشرطة وهو يحمل المنشور السري في جيبه. دار نصف دورة دون أن يرفع يديه. وعندها رأي بالقرب منه، ولأول مرة في حياته، الرجل الذي أطلق النار على ابنه. كان يقف مقابله وفوهة بندقيته مصوبة نحو بطنه. كان صغيرا، قصير الشعر، ويعبق برائحة طفولية. ضغط الكولونيل على أسنانه وأبعد عنه برفق وبأطراف أصابعه ماسورة البندقية، وقال:
ـ بعد إذنك.
فواجهته عينان صغيرتان ودائريتان كعيني خفاش. وأحسٌّ لبرهة بأن هاتين العينين قد ابتلعتاه. ومضغتاه وهضمتاه، ثم لفظتاه مباشرة:
ـ تفضل بالذهاب أيها الكولونيل.
****
لم يكن بحاجة إلى فتح النافذة ليتأكد من أن كانون الأول 'ديسمبر' قد حل. فقد اكتشف ذلك في عظامه ذاتها عندما كان يقطع الفواكه من أجل إفطار الديك في المطبخ. بعد ذلك فتح الباب ورأي البهو فتأكد إحساسه. كان البهو بديعا، تغطيه الإعشاب والأشجار، أما المرحاض فكان يطفو في الضوء، على ارتفاع ميليمتر عن الأرض.
بقيت زوجته في الفراش حتى الساعة التاسعة. وعندما ظهرت في المطبخ كان زوجها قد انتهي من ترتيب البيت، ووقف يتحدث مع الصبيان عن الديك. واضطرت هي أن تقوم بالالتفاف من حولهم لتصل إلى الموقد. فصرخت بهم:
ـ ابتعدوا من طريقي ثم وجهت نظرة عابسة إلى الديك وقالت:
ـ لا أصدق تلك اللحظة التي سيخرج بها طير الشؤم هذا من البيت.
تفحص الكولونيل، من خلال الديك، مزاج زوجته. فلم يجد في الحيوان شيئا يدعو إلى التهجم. بل رآه مستعدا لبدء التدريب. كان عنق الحيوان وقوائمه وعرفه المخطط قد اتخذت صورة تامة، وزهوا لا يقاوم.
قال لها الكولونيل بعد ذهاب الصبيان:
ـ أطلي من النافذة وانسي الديك. فالمرء يشعر في صباح كهذا برغبة لأخذ صورة.
أطلت هي من النافذة، ولكن وجهها لم يعكس أي تعبير.
ـ 'أرغب بزرع الأزهار' قالت وهي تعود إلى جانب الموقد. علق الكولونيل المرآة على الدعامة ليحلق ذقنه، وقال:
ـ إذا كنت ترغبين بزراعة الأزهار، فازرعها.
ـ حاول أن يتذكر حركاته من خلال حركات صورته المنطبعة في المرآة.
قالت:
ـ ولكن الخنازير ستأكلها!
فقال الكولونيل:
ـ هذا أفضل. إذ لابد أن الخنازير المعلوفة بالأزهار ستكون لذيذة جدا.
تطلع من خلال المرآة إلى المرأة ولاحظ أنها مازالت تحمل نفس التعابير. وعلى بريق النار كان وجهها يبدو وكأنه مصاغ من مادة الموقد. ودون أن ينتبه إلى نفسه، وبينما عيناه معلقتان بزوجته، تابع الكولونيل حلاقة ذقنه باللمس كما فعل طوال سنوات كثيرة. فكرت المرأة خلال صمتها الطويل، ثم قالت:
ـ ولكني لا أريد أن ازرع أزهارا.
فقال الكولونيل:
ـ حسنا إذن لا تزرعيها.
شعر بأنه قد تحسٌن. فقد أذبل كانون الأول 'ديسمبر' مملكة النباتات التي في أحشائه. لقد لاقي صعوبة وهو يحاول لبس الحذاء الجديد هذا الصباح، وبعد أن حاول ذلك عدة مرات تأكد بأن جهده يذهب سدي، فعاد يلبس الجزمة ذات الكعب العالي. ولاحظت زوجته التغيير، فقالت:
ـ إذا أنت لم تلبس الحذاء الجديد فانه لن يتروض على قدميك أبدا.
فقال الكولونيل معترضا:
ـ إنه كأحذية المشلولين. واعتقد بأن على بائعي الأحذية أن يبيعوها بعد شهر من استخدامها.
خرج إلى الشارع يدفعه هاجس بأن الرسالة ستصله هذا المساء. وبما أن موعد المراكب لم ي
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:48 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية5
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:46 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية4
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:45 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية3
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:44 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية2
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:42 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:41 pm من طرف Admin
» نموذج من بناء الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:39 pm من طرف Admin
» كيف تنشأ الرواية أو المسرحية؟
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:38 pm من طرف Admin
» رواية جديدة
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:26 pm من طرف Admin