III. الضفـة المظلمة
لكنه لم يتوصل إلى النوم. ولسبب غير مفهوم، صارت لياليه منذ ذلك اليوم تنقضي فـي انتظار غير مجدٍ للنوم، فـي حالة سبات تسمح له، مع ذلك، أن يسمع بدقة مغيظة كل أنواع الضجيج: تنفس زوجته، كلمات غير مفهومة يتلفظ بها الطفلان النائمان، طقطقة الجدران، غرغرة الماء فـي الأنابيب، وقع خطوات أحد العابرين، انزلاق السيارات على الشارع؛ أو أن يشعر، بخوف، بكل هزّة أرضية خفـيفة من تلك التي ما كان يمكن لها أن توقظه فـي العادة. وبينما هو يسمع أصوات المواء، والنباح، وتحليق الطائرات الأجش، ومحادثة مشوشة تقترب وتبتعد فـي ما وراء النافذة، كان يلمح المرور البطيء لكل دقيقة من دقائق الليل غير المتناهية.
ــ كان جندياً يبحث عن موقع كنوز كثيرة يسمونه إلدورادو، وكان فـي بحثه ذاك يجتاز سهوباً وغابات وأنهاراً. وأخيراً، ضاع مع جماعته فـي الصحراء. لم يكن لديهم ما يأكلونه، ولم يكن لديهم خيول، ولا عربات، ولا خدم، يقال إنهم جميعهم راحوا يموتون شيئاً فشيئاً، وبسبب الجوع الذي كابدوه، اضطرّوا إلى أن يأكل البعض منهم الآخرين.
لم تكن ثمة وسيلة تعيد إليه النوم، وكان ذلك الأرق يبقيه خلال النهار فـي حالة وهن تشبه تلك التي تسببها عملية تحول محمومة. كان يقوم بواجباته، ويقابل زبائنه وزملاءه كما لو أن ذلك كله يحدث فـي الجانب الآخر من زجاج يغطيه البخار، أو وراء غلالة شفافة تشوه الأشكال وتجعل الحركات غير محدّدة. وكان إحساسه بأنه يتولى بعض الوظائف بالنيابة عن شخص آخر يزداد حدّة، وجاءت مؤثرات جديدة من الإشارة نفسها لتزيد من ذهوله: هكذا بدا له، ذات صباح، أنه اكتشف أن ذلك الوجه الذي ينظر إليه من المرآة، على الرغم من شبهه الشديد بالوجه الذي يعكس حضوره عادة، له مع ذلك تفرد مفاجئ يميزه عن وجهه، بل إنه وصل حدّ الشك، ليس من دون خوف، فـي أن للوجه نوعاً من الاستقلالية، إذ خُيل إليه للحظة أنه يراه يحرك شفتيه ليقول شيئاً من خلال جملة غير مسموعة لم ينطق هو بها، لأن فمه مطبق وشبه مغطى بصابون الحلاقة.
عقّدت تلك الليالي الطويلة التي أمضاها دون نوم من بلبلة الزمان والمكان فـي ذهنه، وأضفت على مزاجه مظهر حزن وعدم اكتراث جعل منه محط تعليقات مشفقة. هجر عاداته القديمة فـي العزف على الجيتار أيام الآحاد، على الشرفة، بعد الغداء، بينما الطفلان يلعبان فـي الظل وامرأته تتأرجح فـي أرجوحة النوم؛ ولم يعد يخرج مع الأصدقاء ليتناول بعض الكؤوس أو لطقوس لقاء سري مع فتيات مرحات. وكان الأصدقاء يؤنبونه لابتعاده عنهم، وتسعى زوجه دون طائل لتمكينه من النوم، بوساطة مُغلى أعشاب، وأدعية وعُوذ. كما أن الأدوية الموصوفة لم تفـده فـي شيء.
ــ إلى أن ظل ذلك الجندي وحيداً، ممزق الثياب، حافـي القدمين، تغطي جسمه القروح. وكان يأكل كل ما يجده من أعشاب وذباب، وروث وبيوض. بل إنه أكل أفاعي وجرذاناً ونسور رخمة، وخفافـيش. إذا كانت الشمس حارقة، يحتمي فـي الظل. وإذا ما اشتد البرد، يحفر حفرة فـي الأرض ويتغطّى بالتراب. كان يتحمّل قسوة المناخ، ويتابع البحث عن طريق تعيده إلى بيته، إلى زوجه وأبنائه.
فـي دوران تلك الساعات البطيء، كان يتحقق من ذكرياته كلها مثلما يستعرض هواة جمع الأشياء طوابعهم، أو لصاقات ماركات السيجار، أو عملاتهم. وخلال تحققه كان يخفق فـيه الإحساس بأنه يراجع درساً محفوظاً، كما لو أن حياته لم تكن بالفعل تقديمه لدورٍ آخر لا يعنيه. وبطريقة ما، كان الأرق يظهر كأنه شيء منسي خفـي وغامض. وفـي شكوك هذا التناقض، كان يراجع حياته كما لو أنها لا تنتمي إليه حقاً، ويردد ذكرياته فـي الليل الصامت مثلما يكرر بنود عمله اليومي، محاولاً نبشها ليعرف بطلها الحقيقي، وليتعلّم فـي الوقت نفسه أن يكون ذلك البطل.
وهكذا راح يستعيد مئات المشاهد التي ظن أنها ضاعت إلى الأبد. وفـي مواجهة ظلمة حجرة النوم، كما لو أنه مشاهد وحيد فـي السواد الباهت لقاعة سينما، كان يتأمل فـي مخيلته أضواء الذاكرة وظلالها. روائح وطعوم، تمايل عربات واندفاعات براكين. كان يستعيد نفسه طفلاً، فـي المدرسة، ويُفهرس الألعاب، والدروس، والزملاء. ويذكر إيماءة خاصة من معلمة، أو أغنية تعلمها للاحتفال بمناسبة معينة. كان يتذكر زمن الدروس وزمن العطلة فـي بيت أم أمه، على الساحل الغربي، بين مزارع الموز المحيطة بشواطئ شديدة البياض من رمل مكون من مرجان وأصداف مفتته؛ بيت كبير أخضر، مبني من الأخشاب، فـيه دجاج وماعز وحصان. كان يتذكر مواقف، وملابس، وتكشيرات، وكلمات. يتذكر الضوء بين النخيل، والماء بين صخور الجانب الظليل، والنعاس اليابس للذرة المائلة، وحجرات تجفـيف الكاكاو الصغيرة كأنها بيوت أقزام. يتذكر أعشاش الطيور، والفراشات الكبيرة، والأعشاب التي تنغلق حين تحس أنها لُمست، والسرطانات الصغيرة البرتقالية التي تهرب لتختبئ فـي الأجمة الكثيفة.
ــ اجتاز صحارى جديدة، وأنهاراً جديدة، ثم غابات وقفاراً وسهوباً أخرى. وقع فـي أيدي متوحّشين، بعضهم عذبوه وآخرون عاملوه كمبعوث من السماء. وأخيراً، وجد لدى فتاة رباطَ حذاء يشير إلى قرب أبناء قومه. ولم يبق عليه سوى أن يجتاز أرض براكين.
فـي البدء كانت الذكريات تستقر فـي ذهنه مختلطة كأنها سرب نحل شره. لكن توالي أرقه المتواصل أتاح له تنظيمها وضبطها فـي ميقاتها الصحيح، إلى أن أعاد تركيب الأحداث من جديد فـي تواليها المضبوط الذي جرت فـيه كما يبدو له. راجع سنوات المدرسة، والعطل البعيدة، وأولى الميتات الأسرية، ومرحلة الصبا، والمعانقات التي دشنت معرفته بأجساد أخرى.
ومن أجل تأكيد بعض ذكرياته الليلية، بدأ البحث عن أشياء ومعطيات. كان هناك فـي عليّة صغيرة فـي البيت بعض العلب والصناديق وعلب القبّعات، حيث تُحفظ صور شخصية وبقايا من أزمنة أخرى. قدمت له بعض الصور صورته وهو طفل يغمض عينيه فـي مواجهة بريق الضوء، مع ظلال كبيرة تمتد تحت حاجبيه ووجنتيه. طفل عند حافة حقل ذرة، وصف أشجار نخيل تظهر على مسافة غير محددة. طفل إلى جانب أشجار جوز هندي كبيرة، ورأسه مغطى بقبّعة من القش: كان المطر قد هطل، والأرض مغمورة ببرك ماء.
ــ توغل فـي أمكنة موحشة، وفـي غابة طويلة حيث ترقد جذوع محروقة، وفـي وديان حرقها مهل البراكين الأسود، إلى جانب صخور شديدة الانحدار رمادية كأنها الرماد. فـي أحد الأيام، ومن فوق هضبة مكسوّة تقريباً بنباتات كثيفة، تأمل بناءًً من الحجر. نزل إلى المكان: كان معبداً مهجوراً.
كانت هناك صور تعود إلى ما بعد تلك السن، بعضها من أيام التخرج من المدرسة، وأخرى يظهر فـيها مرتدياً ثياب الراشدين فـي بعض أركان المدينة. وبعضها تشهد على طقوس واحتفالات أخرى. صور، كتابات متنوعة، مفكرات مضى عهدها دُونت فـيها ملاحظات لم يعد بالإمكان سبر غورها. وجوه مسنين ماتوا منذ زمن، وأشكال حيوانات اختفت بدورها أيضاً إلى الأبد. كل تلك المعطيات راحت تشكل جانباً من أحلامه الليلية مضفـية مزيداً من المصداقية على تلك الصور.
تفحص بعد ذلك علباً أخرى. الذكريات صارت هنا أقدم عهداً وشحت الصور إلى حد الاختفاء. وجد كتاب صلوات صغيراً، ووثائق تتضمن قوائم جرد قديمة، ورسائل ما عاد بالإمكان طيها دون أن تتفتت. لقد تراكمت فـي تلك العلب بقايا عدة أجيال سابقة على جيله. وكانت فوضاها بالذات هي التي حفظتها من الاندثار، لأن الخوف من إتلاف شيء ثمين قضى بحفظ تلك الأوراق، وتلك العلب الصفـيحية، والسكاكين الصغيرة الخاصة ببري الأقلام، والكشتبانات والشرائط، ربما بانتظار قرار بفرزها وتنظيمها بصورة نهائية. وهكذا انتقل من البحث فـي ذكرياته الخاصة ــ وكأنه يقف بالمرصاد لمصادفة، وسط رسوخ التواطؤ الجلي، تعلن أنها ذكريات خاصة به، وشديدة الاختلاف، وغير قابلة للتحوير ــ وتحول إلى الاهتمام بتلك البقايا التي لم تعد ذكرى لأحد. إنها أزهار جافة، وثائق تسجيل، نشرات هجاء سياسي، كتفـيات، وبدت تلك العاديات كأنها تقدم انعكاساً لمجد ضائع.
ومع مرور الوقت، راح واقع الساعات النهارية والتألق المستحضر فـي ساعات الليل يشكلان فـي ذهنه تعارضاً خيالياً يصعب فـيه الفصل بين ما كان يحدث فعلاً وما كان قد حدث منذ زمن بعيد جداً، وصار مجرد استذكار وحسب.
وذات ليلة، ضربت ريح قوية النافذة، وحين نهض لتثبيتها رأى كيف كانت عظاءة إيغوانا صغيرة تهرب على الجدار إلى أعلى. صورة الحيوان الزاحف المتهرب، والمضاء بنور القمر، ظلت ثابتة فـي شبكيّتي عينيه لبعض الوقت، وظل يراها فـي الظلمة بينما هو يتذكر، فجأة، نفسه فـي طفولته، حين صادف فـي أحد الأيام إيغوانا تقبع دون حراك تحت أجمة، ويتذكر فـي الوقت نفسه، بوضوح وكمال، إحدى القصص التي كانت الخالة مارثيلينا تقصها عليه فـي طفولته.
كانت الخالة مرثلينا تعيش مع الجدة على الساحل الغربي. وكانت نحيلة جداً، وهشة. لم تتزوج قط، ويقال إنها كانت مريضة. وكانت تتكلم بصوت خفـيض، فـيه عذوبة، وتعرف الكثير من القصص، بعضها سمعتها والأخرى قرأتها. وكان يحب بصورة خاصة تلك القصص عن الإسبان الذين وصلوا، منذ سنوات طويلة، ليكتشفوا ويفتحوا تلك الأراضي التي كانت لا تزال آنذاك غامضة ومعادية: ربابنة سفن، وبناة حصون، وقادة عسكريون، ورجال دين، وتجار، ورجال قضاء، وكانت الشخصيات تُستذكر بطريقة غامضة، وتكون مغامراتهم فـي العادة جذابة، على الرغم من نهاياتها المنطوية على أمثولة أو الممجدة للكتب التي دُونت فـيها. وفـي بعض الأحيان كانت قصة شخصية حقيقية تتقاطع، فـي رواية الخالة مارثلينا، وحادثة مفاجئة من إحدى قصص السكان الأصليين القديمة، متحولة بذلك إلى قصة خوف. وكانت هذه القصص التي تغمره بمخاوف ممتعة هي المفضلة لديه.
ظل هناك، إلى جانب النافذة، مستغرقاً فـي ذكرياته إلى حدّ لم يشعر معه بماء الزجاجة الذي دلقه على قدميه عندما نهض. عاد إلى السرير وتخيل الخالة مارثلينا جالسةً إلى جانبه فـي السرير، تروي له حكاية بهمس خافت من صوتها الضعيف الناعم.
ــ كان معبد إله ضب، يظل تمثاله الحجري فـي الظلمة. وحين سمع اقتراب الجندي، استيقظ الإله الضب من نومه الطويل. كانت عبادته قد انقرضت منذ سنين بعيدة. فلم يعد هناك من يصلّي له، ولا من يقدم إليه القرابين. لم يعد هناك من يتذكره فـي العالم. وظن فـي البدء أن الجندي هو أحد المؤمنين به، وأن مجيئه سينهي تلك الوحدة الطويلة، وستُستأنف من جديد الاحتفالات وتقديم القرابين.
كان جانبٌ من جهاز التلفزيون، وظل الباب، والجزء الخلفـي من السرير تستنسخ بطريقة ما بقعة بدن الخالة مارثلينا. ولا بد أن يكون وجهها مرسوماً بخطوط خفـيفة على بياض الشاشة الصغيرة.
ــ وصل الجندي المنهوك إلى أسفل التمثال، وجلس ليستريح. كان قد جمع ثمار بعض الشجيرات، وراح يأكلها بلهفة. بعد ذلك غلبه النعاس. وأدرك الإله الضبُ، بعد أن تأمله طويلاً، أن ذلك الرجل ليس أياً من مؤمنيه، وأنه ليس عائداً إليه، وإنما هو عابر سبيل عارض، سرعان ما سيذهب إلى الأبد، ويتركه وحيداً من جديد.
كانت شفتا الخالة مارثلينا تكادان لا تتحركان: بدت كما لو أنها تصلي. ومع ذلك، كانت كلماتها تخرج واضحة، حاسمة، ومختلفة مثل حصى غُسلت للتو.
ــ عندئذ قرر الإله الضبّ أن يستبدل جسده بجسد الجندي النائم، وأن يستخدم جسد الجندي للبحث عن قرية يمكن له أن يجد فـيها مؤمنيه وطقوس عبادته. احتلّ جسدَ الجندي وخلفه متحولاً إلى ذلك التمثال الحجري، وغادر المعبد متوجهاً إلى القرية. وصل أخيراً إلى بيت الجندي، فاستقبلته الزوجة والأبناء ببهجة لرؤيته حياً بعد كل ذلك الزمن وكل تلك النكبات والمصاعب. لكن زوجته انتبهت سريعاً إلى أن ذلك الرجل، على الرغم من شبهه بزوجها، إلا أنه كائن آخر دون ريب. لأن عينيه ظلتا عيني ضبّ، وفـي عمق البؤبؤين، عندما يكون ذاهلاً ــ وهو ما يحدث له بكثرة ــ يُلمح بريق نيران ضاربة إلى الزرقة.
تتوقف الآن عن الكلام، وترفع يديها لحظة عن حضنها كأنها تريد أن تحمل بهما ثقل صمتها القصير، ثم تعيد تشابك اليدين مجدداً وتواصل الكلام.
ــ طلبت امرأة الجندي نصيحة عجوز صانعة حلوى تعرف فـي الرقى، فقالت هذه لها إنه لا بد أولاً من معرفة إلى أي من العناصر الأربعة ينتمي ذلك الكائن الذي يحتل جسد زوجها. ولهذا الغرض، أشارت عليها بوجوب أن تحيط المكان الذي ينام فـيه الرجل بالتراب، والرماد، والريش، والماء، على التوالي. وأن تخبرها بعد ذلك بما يحدث.
أغمض عينيه ليستحضر بقوة ذلك الصوت العذب، وتلك الخاتمة البطيئة للقصة. وكان من عادة الخالة مارثلينا أن تروي له حكاياتها عند موعد النوم، لا لتدفعه إلى النعاس، وإنما كلعبة أخرى فـي تلك الإجازات فـي بيت الجدّة التي كانت أفضل هديّة يتلقاها كل عام.
ــ فعلت المرأة ما طلبته منها العجوز، وعادت إليها بعد بعض الوقت لتخبرها بأن زوجها قد غضب كثيراً عندما استيقظ ووطأ بقدميه الحافـيتين التراب، ثم عندما داس على الريش فـي اليوم التالي، وعلى الرماد فـي اليوم الذي تلاه. ولكنه عندما داس على الماء الذي كانت قد سكبته مسبقاً، لم يُبد ما يشير إلى أنه أحسّ بالرطوبة.
وقد كانت تنتمي إلى العصر نفسه، دون شك، تلك الصورة المنبعثة فـي الذاكرة حين اكتشف جسم عظاءة الإيغوانا الصغيرة الهاربة. كان ينزل راكضاً على الدرب المؤدي إلى النهر، إلى القرية، وقد توقف فجأة: لمح بريقاً على الأرض، شيئاً يلمع تحت شمس الضحى. كان الحيوان يقبع ساكناً دون حراك إلى جانب بعض الشجيرات الملتفة، بزعنفته المتهدلة على ظهره الأخضر، وحلقه المرتعش بخفقان متواصل. كان رأسه مرفوعاً، كأنه يراقب شيئاً بثبات. فانحنى هو، ومدّ يده، وبسط أصابعه كمن يريد مداعبة ذلك الحلق الذهبي الذي ينبض بنعومة، وظل ساكناً دون حراك أيضاً.
ــ عندئذ تناولت العجوز قطعة قماش، وخاطتها على هيئة جراب صغير، همست فـيه بضع كلمات سرّية، ثم دست فـيه بعد ذلك حفنة حبوب وبذور، وأنهت خياطته وسلمته إلى المرأة طالبة منها أن تلقي به على زوجها حين تعبر معه مجرى مائياً.
كانت ليالي هانئة، هادئة، تكاد لا تعكرها إلا أصوات البرّية. وكانت الخالة مارثلينا تقص عليه حكاية كاملة أو جزءاً من حكاية. وكانت كلماتها تُختتم عندما تنتهي ضوضاء المطبخ.
ــ وفـي يوم كانت المرأة والرجل يجتازان النهر فـي زورق للذهاب إلى السوق، ألقت المرأة عليه ذلك الجراب السحري. وفـي الحال، تحوّل الرجل إلى ضبّ كبير، ألقى بنفسه فزِعاً إلى الماء وابتعد سابحاً نحو الضفة، إلى أن ظل ثابت الرأس ومفتوح الفم، كضب آخر من أبناء جنسه الثابتين على رمل الضفة.
كانت هذه الليلة هادئة أيضاً، ولم تكن هناك أدنى ضجة توحي أنه فـي الفراش، بجانب زوجته، يتداول الجدل مع نفسه فـي أرقه وهو مغمض العينين.
ــ وماذا حدث للجندي؟
ــ هس! ــ قالت الخالة مارثلينا وهي تضع إصبعاً على شفتيها ــ نم الآن، وإلا لن أقص عليك البقية غداً.
لم يفتح عينيه. وفكر فـي نفسه طفلاً، يتأمل الإيغوانا. تخيل أن ذلك السكونَ الكثيف يتزايد حوله مثل أجمة مكوّنة من نتف ضجيج دقيقة، من أصداء صغيرة جداً. فكر فـي أنه طفل يتأمّل كيف كان الانعكاس الشاحب لوجه الخالة مارثلينا يختفـي بفعل الظل، وكيف كانت الظلمة تلف المكان الذي يحتله جسدها. وفكر فـي الوقت نفسه فـي أنه راشد، يهيم على وجهه ضائعاً فـي الغابة، ويصل إلى معبد سري لإلهٍ ضبّ. الأحداث المفاجئة كلها: اللقاء الصغير تحت الشمس، والقصة المهموسة ليلاً، اختلطا فـي حدث واحد. وبينما كان يتخيل أنه هو نفسه من يؤدي دور البطولة، غلبه النعاس ونام أول مرة منذ زمن طويل.
* * *
فـي تلك الليلة، تمكن من النوم أخيراً. ورأى حلماً زخماً، بالغ الدقة فـي عناصر تصاعده ــ نهاية رحلة، ولقاء غريب ــ بدا له فصلاً جديداً من مغامرة أوسع بكثير، يحدس تتمتها المؤكدة، وإن كان غير قادر على تذكّرها. وعندما استيقظ، أبقته احتمالية الأوهام الحلمية قلقاً لوقت طويل، وكانت الصور القوية ومتعددة الألوان لا تزال مطبوعة فـي ذاكرته.
ولكن الأرق الطويل انتهى أخيراً كما يبدو. ففـي الليلة التالية، عاوده النوم بالقوة نفسها، وعاودته كذلك رؤيا أنه جزء من مغامرة فريدة، بلا نهاية، تبرز مجدداً عند تداخل النهار واليقظة، ممتلئة بذبذبة أصوات مؤكدة، وبتضوع روائح حيّ، وبريق أضواء. وامحى الآن تماماً استذكار الخالة مارثلينا، لكن جانباً من قصتها تلك تحول إلى الحدث فـي الحلم. وهكذا، فـي هذا اليوم أيضاً، وفـي الأيام التالية، بعد إطفاء النور، كان يستحضر دون رغبة منه تلك اللحظة التي وجد فـيها، وهو طفل، عظاءة إيغوانا صغيرة، وعندئذ يغفو على الفور. وإلى جانب رحلة الطفل القصيرة ولقيته المتواضعة ــ درب مقتضب، وحيوان صغير ــ كان يحلم بتلك الرحلة الأخرى التي فـي الحكاية، متحولاً هو نفسه إلى محارب ضائع يجد معبداً، وفـي داخله تمثال حجري لعظاءة فـي نحت بدائي.
وعلى الرغم من إلحاح حلمه، فإن واقع استعادته النوم بعد أرق بذلك الطول، أعاد إليه طمأنينة حياة تحددت فـيها مجدداً بوضوح الحدود بين النوم واليقظة.
وفـي أثناء ذلك، جاء زمن الإجازات. وامرأته التي عانت قلقاً شديداً وهي تشهد أرقه الطويل وتزايد حدة طبعه، اقترحت عليه أن يذهبا معاً لزيارة قنوات ساحل الأطلسي.
ــ أنت بحاجة للترويح عن نفسك. إنك تبدو شبه مكتئب.
فكان يسخر منها.
ــ أترغبين فـي معاناة الحر؟ وأن يلتهمنا ضب؟
وتلح هي. سيظل الطفلان عند أمها. كما أن الرحلة لن تتجاوز الأسبوع. ولم تكن ثمة ذريعة ممكنة.
ــ انظري، لا بد أن يكون ذلك مضجراً جداً. ولا تأملي بأن تجدي شيئاً آخر غير الزنوج والأفاعي. وهناك الوحل، وحل المستنقعات ذاك.
ومع ذلك، كانت تجتذبه هو أيضاً تلك المنطقة المدارية التي لم تُتح له قط فرصة معرفتها.
ــ يقال إنه على الرغم من أن المركب يبحر ببطء شديد، إلا أن نسيماً بالغ العذوبة يهب هناك.
ــ ألن يعذبنا البعوض وينغص علينا؟
هناك محاليل خاصة بذلك. وكانت كل حججه ضد الرحلة تفقد سندها فوراً. ولكنه على الرغم من الانجذاب الذي يشعر به، واصل تخيل موانع أخرى: الطفـيليات الجلدية، المياه الموبوء بكائنات وحيدة الخلية، القروح المشهورة. فإلى جانب اهتمامه بالتعرف على تلك المنطقة، كان يراوده هاجس مسبق غامض بسوء الطالع.
ــ الجميع عادوا من هناك سالمين. وسعداء جداً.
جميع من قاموا بتلك الرحلة يطرون على بهاء المناظر، وجودة طعام الفنادق، والأسعار غير المبالغ فـيها.
وأخيراً حسم أمره. انطلقا فـي ظهيرة يوم أربعاء، فـي شاحنة صغيرة شديدة الصخب يقودها رجل بدين يفتقد نصف إحدى أذنيه. وكان يشاطرهما السيارة رجل آخر متين البنية، له لحية ضخمة، يرتدي ثياباً طويلة، يحمل حقيبة ظهر منتفخة وأكورديوناً، ويغطي رأسه بقبعة من القش. وكان سيواصل الرحلة فـي ما بعد، كما يبدو، وحيداً إلى مكان من الأدغال. كان ذلك الرجل قد عُرف مؤخراً فـي المدينة بممارسة نوع من التسوّل الراقي، بتقديمه عروضاً أكروباتية متواضعة. وفـي الجزء الخلفـي من الشاحنة، وُضعت المأكولات وصفائح الوقود من أجل محرك المركب.
كان صباحاً تتداخل فـيه شمس وغيوم. وكانوا يهبطون من الوادي المركزي عبر الطريق الضيق والأفعواني، بجوار غابات تكسو السفوح الجبلية، ومزارع بنّ منتشرة فـي السفوح الظليلة ومشهد تهيمن عليه تدرجات الأخضر: الأخضر الفاتح، واللامع الذي يحدثه انعكاس الضوء على أوراق أشجار البنّ المحززة. تحولت تدرجات الأخضر المتتالية فـي آخر الأمر إلى زرقة تتزايد قتامتها، وتأخذ بالتفرق حتى الخضرة البعيدة، باتجاه أفق سلسلة الجبال، حيث تطل الغيوم الرمادية. وعلى جانبي الطريق تتراكم آجام شجيرات أزهار بنفسجية، زهرية، صفراء. والمدى البعيد الرمادي الضارب إلى الزرقة يتناقض وتعاقب الأراضي السوداء والحمراء. لقد خلّفوا وراءهم البيوت الخشبية الصغيرة شاحبة الألوان: خضراء، وردية، ضاربة إلى الصفرة، بسقوف من التوتياء الصدئ. وخلفوا وراءهم فلاحين يجزون الأعشاب الضارة، ممسكين منجل المتشيتي بيد والعصا باليد الأخرى. وكانت تتوالى معاصر قصب السكر، حيث ينتصب القصب سامقاً، أو مكوماً على الأرض ويابساً. وظهرت بعد ذلك أشجار النخيل الكبيرة ذات الأوراق القاتمة واللامعة، مع قنازع ضاربة إلى الحمرة تنبئ بفسائل جديدة.
ولكن، على الرغم من أن الوديان أخذت بالاتساع، بدا أن المسافات أنهت امتدادها، وصار بالإمكان رؤية القطار يمضي فـي اتجاه طريقهم نفسه، ويتقاطع معه فـي بعض المنعطفات الطريق، وهو ممتلئ حتى سطح عرباته بجموع من الركاب. غير إنه كان يفكر أحياناً فـي أنه لا يقوم برحلة، وأنه لا يتحرك وسط المشهد المتبدّل، وأنه لا يهبط من الهضبة، وإنما لا يزال هادئاً، مستقراً فـي مكان بلا أبعاد لا زمان، وأن تلك الحركة لا علاقة لها به: إنها حقيقية بالنسبة للآخرين، أما بالنسبة إليه فهي مجرّد وهم ينعكس حوله مثل حيلة متقنة لمجسم كوخ كبير فـي مهرجان.
ومع غروب الشمس، صار الساحل أمامهم. تلك المدينة الصغيرة المشهورة التي قال عنها أحد الشعراء إنها طائر كيتزال نائم، ستقدم لهما إمكانية الاستراحة الأخيرة المريحة قبل رحلتهما المائية الطويلة. نزلا فـي فندق تعبق غرفه برائحة خشب رطب، وتنفتح على شرفات طويلة تطل على الشارع الرئيسي. تحدث السائق بحماسة مع ربان المركب الذي سيقلّهما عبر القنوات بدءاً من صباح اليوم التالي. وكان الربان إسبانياً كما يبدو، ولا يزال شاباً جاد المظهر.
كان سواد الليل قد اندلق على الأشياء، وراح غبش خفـيف يطمس وميض النجوم. ومن البحر القريب الصاخب فـي العتمة، يصل نسيمٌ ساخن ورطب. كانت الشوارع خالية، غير أن نشاط المارة القليلين يوحي بأن الليلة ليلة عيد. فالنساء يرتدين ملابس ملونة، ويتجهن مع أزواجهن إلى أبواب معينة، لا إشارات تدل عليها فـي الخارج، إلا أنها تُصدر إلى الشارع جلبة حشود وإيقاعات ألحان.
المكان نفسه الذي تناولا فـيه العشاء كان يضم، فـي الجانب الآخر من حاجز ذي فتحات كبيرة لها شكل المعينات، قاعةً تعزف فـيها أوركسترا صغيرة، قبالة حلبة رقص بيضوية، موسيقى نشطة الإيقاع، يبرز فـيها قرع عدة آلات نقر يزداد صخبها أكثر فأكثر. وسرعان ما راحت الحلبة الخالية أمام الموسيقيين تمتلئ بالراقصين. ولم تكد تمضي ثلاثون دقيقة حتى صارا غير قادرين على رؤية الموسيقيين. ففـي الصالة المجاورة، فـي ذلك المكان شبه المظلم الذي جعله جو قاعة الطعام يتلألأ، بالرغم من أنه لم يكن مضاء إلا بمصابيح ضعيفة ملونة معلقة بالسقف على ارتفاع عالٍ، كانت كتلة أجساد بشرية مطموسة المعالم ترقص بصورة مجنونة، متابعة بدقة إيقاع اللحن الرجراج.
كان ذلك الرقص، وتلك الموسيقى أيضاً، مفتاح واقع يبدو منفصلاً وغريباً بالكامل، دون أن تكون هناك إمكانية للجمع بين الصخب والإحساس بالثبات والبعد الذي كثيراً ما يقلقه. خرجا للرقص، وظلا فـي الحلبة وقتاً طويلاً، مختلطَيْن بالحشد. وكانت زوجته سعيدة جداً.
ــ منذ متى لم نكن مثلما نحن الآن؟
ــ ولكننا رقصنا معاً منذ خمسة عشر يوماً ــ أجاب ــ فـي بيت آميليتا.
ــ ليس هذا ما أعنيه. لكننا لم نكن هكذا، أنت وأنا وحدنا، مثلما كنّا أيام الخطوبة. أتتذكّر؟
واستذكرت تلك الأزمنة عدة مرّات، فساءه ذلك الإلحاح على تذكر زمن ضائع. ذلك الإحساس بالغربة والغياب الذي شعر به على امتداد الرحلة تحول الآن إلى أسى خالص، فكان يسمع امرأته كأنها تحدثه عن زمن سعيد لم يكن هو موجوداً فـيه، وكأنه لم يعش معها كذلك فـي أزمنة أخرى أقل سعادة. لم يكن ذلك فقدان ذاكرة، وإنما الوعي بحيز كبير من الفراغ يقوم خلفه كما لو أنه لم يكن آنذاك كائناً من لحم وعظم وإنما فرقعة مقتضبة لمخيّلة غريبة. وفكر: «ربما أكون قد متّ منذ زمن بعيد». وربما لم يكن جسده ذلك الجسد الذي يتحرك من جانب إلى آخر متابعاً إيقاعات اللحن.
وأخيراً، حوّل الحر والدخان ذلك الحيز إلى مكان خانق. فأمسك ذراع زوجته وتوجها إلى الشارع بينما كانت أعداد أكبر من الناس، جلهم من الملونين، ينتظرون دورهم للدخول، وكانت فتاة شبّاك التذاكر، وقد نفدت البطاقات لديها، توثق دفع رسم الدخول بطبع خاتم محبّر بعناية على قفا يد كل زبون. كانت تطفو فـي الجو رائحة تبغ وعرق وكحول كأنها رائحة بخور معبد.
كانت أصداء الموسيقى تقطر فـي الليل. ليل شديد الظلمة الآن بفعل دثار غيوم كثيف يحجب النجوم، يعبق برائحة ثمار متعفنة وبول، حمل إليه مع ذلك ذكريات زخمة، وجعله يتعرّف بطريقة مباشرة على ليالٍ صيفـية أخرى تصطف فـي ذاكرته وتهزم بصلابة أفكار الخواء وعدم الوجود والموت السابقة. «إنني حي»، فكر. وكان ورنيش غير ملموس يساوي الأشياء كلها، وترد إلى ذهنه الآن تلك الأعياد الشعبية الأخرى، مع ما فـيها من موسيقى ورقص وشراب، وتندمج فـي حفلة اليوم بتناظر تام. وهكذا، بينما هو واقف فـي وسط الشارع المقفر، وزوجته تنظر إليه دون تعليق، مستمعاً إلى صدى قرع الطبول السريع ودوي الأبواق، فـي ضوء مصابيح قليلة تلطخ بضوئها الشاحب واجهات البيوت المتطاولة، تأملَ الظلمة الآخذة بالاشتداد فـي الأعالي كأنه يتأمل اللحظة نفسها من ليلة بعيدة. لقد عذّب نفسه وهو يفكر فـي عدم تماسكه، خائفاً ألا تدركه حركة الحياة، وبدا له الآن أنه كان مخطئاً: إنه وحده الواقعي، وكل ما يحيط به وهم، كل ما له مظهر ظرفـي مؤقّت، مثلما هو الليل الآن، والموسيقى، والماء.
ــ ألست على ما يرام؟
ــ الحر شديد.
بحثه اليائس عن الذكريات، وحتى عن الصور قريبة العهد للرقص الجنوني، والأطعمة والروائح، سيكون على هذه الحال مجرد خديعة يتورط فـيها تفكيره نفسه ليسلو بها وحدته. وعادت صورة الحلم الأولى تلك إلى فكره مجدداً. كان ينزل راكضاً، وجد الإيغوانا، توقف. تبادل هو والإيغوانا النظرات. ولم يكن هناك أحد سواهما فـي الضياء غير المتناهي. كانا متوقفـين، مثلما يقف تحت الليل الآن، فـي هذه المدينة المجهولة، حيث يخفق مع ذلك تحت الظلمة الضبابية ارتجاج قديم. يمكن لهذا المكان إذاً أن يكون المكان الوحيد: مكان محاط بفقاعة ظلام، يخترق الكون.
كان يخرج من البوّابات الإيقاع المجنون نفسه الذي تضبطه دقات الطبل المدوية، إنما كانت تُسمع أيضاً همهمة صوت معزول يترنم بأغنيات كئيبة، تساعده فـي ذلك أنغام جيتار. وعلى النواصي، مومسات متوحدات لهن وجوه سوداء جميلة يرافقن بتمايل أجسادهن، وبحركة أقل من أقدامهن، تلك الألحان المتعددة الكئيبة التي تأتي من كلّ الأركان.
مشيا ببطء حتى وصلا إلى نهاية الجادة. وفـي ما وراء مجموعة وافرة من جذوع الشجر الشبيهة بقوائم عالية جداً لحيوانات غامضة تتزاحم أجسادها هناك فـي الأعلى، كان البحر يتحطّم لاهثاً على الرصيف. وفـي سواد المياه، على الرغم من صخب حركتها التي لا تكل، كان هناك أيضاً بريق وحدة وفراغ شبيه بالبريق الذي يشع به سواد السماء الضبابي.
وفـي الجهة المقابلة للبحر، فـي الظلمة التي تحجبها كتل البيوت الرمادية، تمتد الغابة حيث تختفـي المعابد البدائية. وقد أدرك أن كل التضوعات متشابهة، وكأنها بدل أن تنبثق خارجه، تمضي فـي التشكل داخل ذاته تحديداً. وهكذا فإن هذا العالم، الآن وآنذاك، وصور الحلم، وهذه المدينة، والحر الذي يلف جسده مثل لعاب خفـيف دافئ، هو شيء يبدو أنه يحدث الآن، وكان آخذا بالحدوث، مع ذلك، فـي داخله منذ بدايات حياته البعيدة.
ــ أريد التكلم بجد ــ قالت ــ أراك مريضاً منذ زمن. إنك لا تبدو الشخص نفسه.
نظر إليها مرتبكاً. كانت قد تشبثت بذراعيه والتصقت به فـي تقرب عاطفـي.
ــ يخيفني أن تكون مريضاً.
ــ مريض؟ إنني بخير، بأحسن حال.
ــ علينا الذهاب إلى الدكتور. لا بد من إجراء فحص لك.
أحس فجأة بتكدر غريب، وكان تكدره يختلط بطعم مرارة، كما لو أن ذاكرته وإدراكه ــ وقد تحولا إلى شيء صلب، إلى المأكولات نفسها التي تناولها فـي قاعة الطعام الصاخبة تلك ــ لا يمكن لهما أن يُهضما فـي جسمه، وأن هذا الجسم يجاهد لتقيئهما خارجاً. ابتعد بضع خطوات وتقيّأ منحنياً باتجاه الجدار: تبعثرت ذاكرته وإدراكه على الأرض، وكانا لا يزالان يلتويان بين بقايا سوداء بيضاء من الرز والفاصولياء. أحس بعد ذلك أنه أحسن حالاً بكثير، وأنه جاهل تماماً كمن ولد للتو.
ــ لم يصبني شيء، يا آليثيا ــ هتف ــ إنه أرق الأيام الطويلة اللعين. لكنه انقضى الآن وانتهى.
* * *
كان اليوم التالي يشير إلى أنه سيكون مشرقاً أيضاً. وكانت نقطة الانطلاق هي مرسى صغير محاط بحشد مزدحم من بيوت صغيرة متسخة، كانت مطلية دون شك بألوان صارخة ومتعددة، لكنها توحّدت فـي لون رمادي شاحب يكاد لا يحتفظ بشيء من اللون الأصلي. وعلى الرغم من تلك الساعة المبكرة، كان هناك عدد كبير من الصبية العراة يلعبون ويتصايحون فـي مياه المرسى، وعلى مقربة منهم كانت طيور بجع من ذوات المنقار الضخم الأكرش تخفق بأجنحتها. وعلى الرصيف، كان رجال سود منهمكين فـي تكديس أقراط موز على أحزمة ناقلة بطيئة تنقلها إلى سطح مركب صدئ. وكان مظهر كل شيء ينضح بإعياء مضجر، والحر اللزج الذي أحاط بهما منذ وصولهما إلى شاطئ البحر، تحول إلى جلد لزج ملتصق بثبات بجلدهم الحقيقي.
كانت الرائحة كريهة، لكنه استنشقها بتلذذ غريب. فقد فاجأه أن يتداخل كل شيء مندغماً بتلك الدقة فـي تجاويف روحه السرية: الضوء المتلألئ الذي يضيء واجهات المساكن المتآكلة، والأفنية بما فـيها من شِباك وأدوات وحوائج، والمارة ذوي الملابس البائسة والملامح القاتمة. وعاد إلى الإحساس بأنه، بفعل اجتماع الضوء والحر وكثافة المكان، يدخل ذلك العالم بأمل قوي فـي التوصل إلى كشف ما.
وبينما هم يقتربون من المركب الكبير، كان الربان يراقبهم. وفجأة، تقدم بضع خطوات، وأخرج يديه من جيبه، ونظر بالتناوب إلى الرجل الملتحي، وإليه هو نفسه. بدا كمن هو على وشك أن يقول لهما شيئاً، لكنه احتفظ بالصمت. وكانت رصانة مفاجئة قد تجمدت فـي نظرته.
ــ أتبحث عن شيء؟ ــ سأله.
نفى الربّان بحركة من رأسه. والتفت بعد ذلك ببطء نحو المركب، وساعده فـي وضع الحزم تحت المقاعد. وكانت ثمة لحظة تقارب فـيها وجهيهما كثيراً، فكلمه الربان.
ــ المعذرة ــ قال ــ لقد خلطت للحظة بينكما وبين شخصين آخرين. وخاصة الراكب الآخر.
لم يجبه هو. كان يبتسم ببلاهة، كما لو أنه يسمع تفسيراً لأمر معروف ومفروغ منه.
ــ بدا لي أن صورتك مألوفة لي.
ساعد زوجته على اجتياز المسافة القصيرة التي تفصل سطح المركب عن الرصيف. كان الراكب الملتحي قد شغل مقعد الميمنة، فاحتلا هما مكاناً مناظراً على المقعد المقابل. وضع رجلُ اللحية والشعر الطويل الأكورديون بحرص بين أمتعته. وقدم له الربان سيجارة رفضها الآخر بإيماءة.
ــ ألم نلتقِِِِِِِِِِِ من قبل؟ــ سأله الربان.
أدار الرجل الملتحي وجهه. كان يضع نظارة كبيرة، قاتمة جداً، وذات عدستين مستديرتين. نفى برأسه وأصدر بعد ذلك صوتاً خشناً، بدا أنه تأكيد للنفـي. هزّ الربان كتفـيه. أنهى السيجارة وذهب بعد ذلك ليلفّ الحبال بحرص.
ــ أنتم تعلمون أنها رحلة طويلة ــ قال ــ. سنتوقف للغداء عند الظهر، فـي إحدى القرى. فـي السابق كان يجري تناول الطعام على متن المركب، لكن الزبائن يفضلون تحريك أرجلهم قليلاً كما يبدو.
كان قد شغّل المحرك الصاخب وراح المركب ينفصل ببطء عن الرصيف مخلّفاً وراءه الرجال المنهمكين فـي العمل والأطفال الصاخبين ومنظر البحر البعيد الذي تتوالى على سطحه الفسيح تشققات بيضاء يحدثها الهواء البحري.
شرع المركب المتأرجح بلطف بالتوغل فـي مياه القناة القاتمة، حيث تنتشر لطخات طويلة كامدة. وعلى جانبي المجرى البطيء، راحت تتوالى آخر الأكواخ الغارقة فـي الوحل الضارب إلى السواد، والمحاطة بكلاب هزيلة، ودخان متصاعد. ظهرت بعد ذلك مجموعة أبنية بيضاء، وسط مساحة خضراء فسيحة وبديعة.
ــ إنه فندق غرينغو ــ قال الربان ــ خاص بصيادي السمك.
وأخيراً اختفت المباني، وصارت أشجار الثيبا والنخيل أشد كثافة، والضفاف التي كانت خالية من النباتات من قبل، وتكشف دروب الوصول إلى الماء من الأكواخ والقرى، اكتست الآن بآجام متشابكة من النباتات.
ومع الصباح الوليد، تحت وميض بياض الشمس الأول، كانت الضفاف تمتد مكسوّة بنباتات تزداد تشابكاً. بدت امرأته مفتونة بتأمل المشهد. وبين الأغصان الكثيفة، كانت تختلط النباتات المتسلقة والمعرّشة. وفجأة، تنقطع النباتات الكثيفة لتظهر شواطئ صغيرة ذات رمال قاتمة. وكانت الشمس الساطعة تحتجب بين حين وآخر وراء مساحات طويلة غائمة بينما يوفر تقدّم المركب هبوب نسمات خفـيفة. كانت تطفو على الماء كتل نبات ذات أزهار بنفسجية، وكثيراً ما تحلق، قريباً من الضفة، طيور صفراء وزرقاء، أو تغطس التماسيح الصغيرة فـي الماء، بعد أن تصعد فجأة. كانت امرأته قد أمسكت إحدى يديه، وراحت تضغط عليها لتؤكد على تعليقاتها عن الطيور والأزهار، وعن الفراشات الملوّنة التي تحوم فوق المركب والماء. وكان الرجل الملتحي، وهو يمد ساقيه العريضتين، يتمتم أيضاً ببعض الكلمات. وكثيراً ما كانت تطل من الضفة بقايا جذوع أشجار محطمة وغارقة، تقف عليها، بذهول لا يمكن تحديده، سلاحف ذات دروع قاتمة. ومعلقة بسوقها، تنحني أوراق الموز فوق الماء مثل كوخ كبير. وفـي بعض الأحيان، تظهر فـي فسحات مفاجئة، دساكر صغيرة فـيها نساء وأطفال ودجاج.
التقى الزورق بمراكب أخرى مسودّة، مخلعة، محمّلة بحيوانات ورزم ورجال حفاة. دفعه مظهر أولئك الناس إلى التفكير فـي ذلك الساحل الوبيل، حيث بهاء منظر الطبيعة المبرقش يخفـي أخطاراً كثيرة: حشرات وثعابين ذات لسع ولدغ قاتل، وأمراض وبيلة، ويقدم إطاراً يشبه، على الرغم واقعيته الكاملة، بعض الكوابيس المفعمة بالألوان والمعقولية، والقادرة على بلبلة الحالم تحت مظهر حقيقة لا شك فـيه.
لكن المنظر الطبيعي لم يتوصل إلى السيطرة التامة على اهتمامه. فكثيراً ما وجد نفسه يصوب عينيه إلى مؤخرة رأس الربان، يرصده بصورة سرية، وهو لا يزال قلقاً من ذلك التعبير الأول عن معرفة غامضة يبدو أن فـيها خوفاً. ربما كان القلق مشتركاً، لأن نظرته التقت عدة مرات بنظرة الربان الذي كان يلتفت بين حين وآخر ليراقبهما، يراقبه ويراقب الراكب الملتحي، بطريقة متهربة.
توافقت الظهيرة مع أجواء شمس ساطعة. وكان البحر الذي يُلمح أحياناً فـي ما وراء الغابة، يتلألأ بانعكاسات ضاربة إلى الخضرة. توقفوا فـي إحدى قرى الضفة، الهامدة فـي خمود ساعة الظهيرة تلك. وخلال تناول الطعام، فـي ظل كوخ منتفخ السقف، بدا له أن الربان حاول التكلم معه عدة مرات، ولكن دون أن يحسم أمره فـي النهاية. وكان هو من جهته يشعر بقلق غامض، كما لو أن الربان ينوي إبلاغه خبراً كريهاً.
استأنفوا الرحلة من جديد. النسيم الخفـيف الذي أحدثته حركة المركب، وظل الخيمة كانا أشبه بمعجزة برودة تحت وطأة الحر اللزج. كانت كتل الغابة الضخمة، على الجانبين، تحدد المنظور الطويل للقناة العريضة اللامعة مثل مرآة. والربان الذي شرب الكثير من الروم أثناء الغداء، واصل سكب جرعات كبيرة فـي قدح من الصفـيح. وقد راح يترنم بصوت هامس. وأخيراً نظر إليه مباشرة وسأله رافعاً الزجاجة فـي يده.
ــ ألا تريد جرعة؟
ومع أنه فهمه جيداً، فقد تظاهر بالعكس، مبدياً طيبة سائح مطمئن.
ــ أسألُ إن كنت تريد جرعة ــ كرر الربان.
أدرك أن عليه أن يقترب، وكأنما قد أزفت لحظة إنجاز موعد. نهض مبتسماً. فابتسم الآخر أيضاً. لكن، ربما كانت ابتسامته، مثلما هو عرضه، لا يخفـيان سوى تمهيد بروتوكولي للقاءٍ غاياتُه أكثر تعقيداً من مجرد دعوة للشرب.
ــ سيكون ساخناً جداً ــ أجابه.
ــ ما زال هناك ثلج فـي المبرِّدة ــ قال الآخر.
مدّ هو كأسه وسكب فـيها الربان جرعة وافرة. كان ينتظر كلمات ذلك الرجل بفضول قدريّ.
ــ لا بد لنا من قتل الوقت ــ قال الربان أخيراً.
وكان ينظر إليه ثانية بإلحاح.
ــ لقد خلطتُ بينك وبين شخص لا أذكر من يكون. ربما كانت إيماءة، لا أدري. الحقيقة أنك لا تشبه أحداً أعرفه. بصحتك.
لم يشأ هو معرفة المزيد من تفاصيل تلك الإشارات الغامضة. شرب محتوى الكأس كله، رشفة بعد رشفة، ببطء، متلذذاً بمذاق الكحول البارد والحارق فـي الوقت نفسه.
ــ أما زال أمامنا الكثير ؟ــ سأل بعد قليل.
ــ ما زالت أمامنا ست ساعات. إذا سار كل شيء على ما يرام.
كانت امرأته والراكب الآخر جالسين على المقعدين الجانبيين يتأملان الماء. رؤيتهما من المقدمة، ثابتين، ومحيط جسميهما بارز على خلفـية الضياء الخارجي، تجعلهما أشبه بتمثالين جامدين، هيئتين متعددتي الألوان موضوعتين هناك لتزيين المركب والرحلة زينة مقنعة، كما لو أن المياه ليست حقيقية، وضجيج المحرك والتأرجح الخفـيف هي أمور مصطنعة أيضاً فـي سياق خدعة وهمية. وهكذا، كانت فكرة أن الحركة، واللون، وذلك الفضاء المضيء، غريبة عنه بالكامل وتحدُث فـي بُعد وزمن لا يمكن لها أن تؤثر عليه، عادت إليه بالحيوية نفسها التي كانت عليها أثناء سفره فـي اليوم السابق، فـي الشاحنة.
كان الربان الإسباني يتعرق. مال برأسه باتجاهه كأنه يريد أن يهمس شيئاً، ولكنه تكلم بعد ذلك بصوت عالٍ.
ــ يمكن للسائح أن يتسامح مع هذا المناخ ويحتمله. أما العمل هنا فقاسٍ جداً.
لا شك أنه فـي هذه البلاد منذ زمن قصير، فهو يلفظ بلهجة بلده الأصلي ذات الوقع الأجش.
ــ هل أنتم قادمون من الوادي المركزي؟ ــ سأله.
أكد هو ذلك بهز رأسه. كان قد سكب جرعة خمر أخرى، وراح يحرك الكأس كي يبرد الشراب. كان لحديث الربان، خلافاً لتوقعاته، صبغة عادية واضحة. فالربان يضجر ويرغب فـي أن يشاركه أحد شرابه وحديثه. وهو لم يدعُ الرجل الآخر، لأن الرجل كان يغفو كما تبين له بنظرة سريعة، وكان يسند رأسه إلى أحد أعمدة الظلة.
ــ نحن من هناك.
ــ ذلك المكان شيء آخر. إنه ربيع دائم. أنا لم أُخلق لمثل هذا الحرّ الخانق.
مسح العرق عن وجهه بمنديل مستخدم كثيراً.
ــ وأنا يروقني الهواء البارد، والماء البارد والثلج.
قال ذلك بنبرة خاصة، فتقلبت فـي ذهنه مجموعة صور جبلية بيضاء مختلطة، ربما رآها فـي التلفزيون أو السينما، أو فـي المجلات المصوّرة.
ــ تصوّر، الثلج ــ أجاب، ثم جلس ــ أنا لم أر الثلج على الطبيعة قطّ. وهل تعمل هنا منذ زمن طويل؟
نظر إليه الربان وفـي عينيه وميض شك، وعلى الفور وجد نفسه مضطراً إلى مداراة نظرته بعرض جرعة روم أخرى عليه.
ــ جرعة صغيرة فقط ــ قال وهو يلحّ فـي أن يسكب له. ثم وضع الزجاجة إلى جانبه.
ــ منذ وقت كاف ــ أضاف ــ بل طويل.
ــ ودائماً هنا؟
بدا الربان فخوراً جداً.
ــ هذا أول زورق سياحي جاب القنوات بانتظام. إنها فكرتي. فـي السابق كانت تُقدّم المشروبات فقط. أما الآن فأنا أتولى التجارتين كلتيهما.
أدار رأسه مرة أخرى.
ــ لكن، لا تظن أنني من يقوده. أنا أفعل ذلك هذه الأيام لأنهم أجروا عملية جراحية للشاب. أنا فـي الواقع مالك المركب.
ــ وهناك؟
نظر إليه عندئذ الرجل بعينين مكدرتين، كما لو أنه بدل أن يصوغ سؤالاً تلفظ بعبارة مشينة. احمرّت قرنية عينيه. فأدرك هو الآن أنه ينبغي لحذره أن يظل متيقظاً. فالمحادثة، بعيداً عن أن تكون تزجية للوقت، تخفـي مسوغات أخرى ربما لا تجد سبلاً للتقدم، فتُبقي فـي روح كل منهما توتراً مستتراً.
ــ هناك؟
ــ المعذرة، لم أشأ إزعاجك.
ــ أنت لا تزعجني. هناك، كنت أعمل مصوّراً صحفـياً.
قالها بالنبرة الفريدة نفسها التي حدثه فـيها من قبل عن بلده: لم يبدُ عليه أنه يُخبره، وإنما يذكره بشيء واضح، ينبغي لمحدثه أن يعرفه جيداً. لا ريب فـي أنه أصغر سناً مما يبدو عليه، لكن بدا أن لملامحه استعداداً مسبقاً لشيخوخة مبكرة.
ــ فـي العاصمة بالذات؟
نظر إليه الربان عندئذ بزخم جحظت له عيناه. وكان فـي تلك النظرة تعبير الاستغراب نفسه، كما لو أن أسئلته تربكه بسخفها وعدم جدواها. التفت ببصره بعد ذلك إلى الأمام، وترك قدح الصفـيح وأمسك مقود الدفة الصغير بكلتا يديه كأنه يثبت نفسه عليه.
ــ ألم تكن تعرف حضرتك؟ ــ تمتم ــ كل ذلك لم يعد له وجود.
ظلا صامتين لوقت طويل. وكان هو يُجهد نفسه للعثور بين ذكرياته على صدى ما لتلك الكلمات، لكن جهوده كلها كانت بلا جدوى.
ــ لقد اختفت تلك المدينة. أنا رأيتها. أنا كنت هناك.
لم يُنجز أي موعد، ولم يتحقق أي لقاء: لا بد أن فـي ذهن ذلك الرجل شيئاً من الانحراف بسبب عدم اعتياده على المناخ وإكثاره من الروم. ثم فكر بعد ذلك فـي أنه أحد أولئك المجانين القادرين، على الرغم من نزواتهم المتسلطة، على أن يعيشوا حياة عادية، وأن يسوقوا، وأن يتولوا أمورهم. وأخيراً وضع هو أيضاً كأسه على الرف، ونهض ليبتعد ويعود إلى جانب زوجه. لكن الإسباني نظر إليه مرة أخرى بالعينين المنفتحتين جداً.
ـ لا تذهب ــ قال متوسلاً ــ ألا تريد أن أخبرك بالقصة؟
تردد هو. وعاد يتولد فـيه القلق السابق، كما لو أن تهديداً محدداً ينتظره فـي مضمون ذلك الاعتراف. أمسك الربان بأحد ذراعيه وأجبره على الجلوس مجدداً.
ــ سأروي لك كل شيء ــ قال.
وبدأ بعد ذلك الكلام. أما هو، فقد اتكأ فـي البدء بخفة، مستعداًً لانتهاز أي توقف ليعود إلى مقعده، معتبراً بذلك أن المحادثة قد انتهت. لكن القصة كانت طويلة، وكان الراوي يتكلم دون توقف، مثبتاً عليه عينيه بتقطع لجوج، كما لو أنه يحتاط تحسباً لهربه. تكلم أولاً عن ملك، وعن احتفال بإحياء ذكرى، وعن مفاجأة. وراحت الرواية تتسع بعد ذلك كصوت آلي آخر، حتى بدت ضجة المحرك صدى دقيقاً، وإن يكن مشوهاً وغائماً، لكلماته. بل يمكن التفكير فـي أن ذلك الصوت هو القصة الحقيقية وكلمات الراوي هي جزء من أصدائها وحسب.
* * *
هذا الذي أقوله لك حدث فـي الساعات الأخيرة من يوم خريفـي. كان يوماً عادياً، حتى إنني لا أذكر شيئاً ذا مغزى قبل لحظة لقائي بهم. ومع أن اللقاء كان مفاجئاً، إلا أنه ما كان يمكن لأحد أن يفكر فـي أن المدينة ستختفـي بعد أربع ساعات. ولكني سأمضي بالتسلسل. فـي مساء ذلك اليوم، فـي حوالي الساعة الثامنة، كانت المسافة الفاصلة بيني وبين الملك حوالي ستة أمتار. كالمسافة من هنا حتى المحرّك تقريباً. كنتُ قد وصلت متأخراً، وأول شيء رأيته هو رأسه البارز وسط الناس. تحرك قليلاً، وأتاحت لي الحركة رؤية الخطيب بوضوح، وهو سيد أصلع له صوت واضح. انتهيتُ من إعداد الكاميرا، وتأهبت لالتقاط بعض الصور باتخاذي موضعاً. قلت لك إنني وصلت متأخراً: كنت لا أزال ألهث من جهد الركض، وكان أحد الزملاء يتذمر بصوت خافت من اقتحامي المكان، بينما كان الملك يتحرك ويتيح لي رؤية الخطيب. وفـي تلك اللحظة توقف الخطيب عن الكلام، رفع بصره، تأمل الملك والحضور، وتحرك قليلاً هو أيضاً، نصف خطوة إلى اليمين، كالمسافة التي تفصل بيني وبينك، ما يكفـي لرؤية جذع المحتفى به. كان عليّ أن ألتقط له صورتين دون أن أنتبه إلى من يكون. ولكني حين أزحتُ الكاميرا ورفعت بصري، صرت عاجزاً عن التقاط أية صورة أخرى. ظللت متجمداً كما يقال. لأن ذلك الرجل الذي سيسلمه الملك الجائزة لم يكن سوى بيدرو بالاث. الآن سأخبرك، الآن سأقول لك من هو. بما أنني كنت قد حضرت بسرعة كبيرة، وكان عليّ إجراء ريبورتاج آخر قبل انقضاء النهار، فإنني لم أكن أعرف شيئاً، ولا أعرف أي اسم: الشيء الوحيد الذي كنت أعرفه هو أن الملك سيمنح بعض الجوائز فـي ذلك اليوم نفسه، وفـي تلك الساعة وذلك المكان. وطبعاً، ظللت أنظر إليه بذهول. لأنني لم أستطع، على الرغم من انقضاء سنوات طويلة، نسيان هيئته: ذلك الوجه الشاحب، الشعر الأشهب المقصوص على مستوى الجمجمة تقريباً، الشارب الكبير الأسود مثل ريش غراب، وسواد الحاجبين اللذين كأنهما قوس بارز وعريض، يبرزان فوق الأنف المدبب الذي يمنحه هيئة بومة. لم أنس مظهره على الرغم من السنين التي انقضت مذ رأيته أول مرة، واقفاً أمام بيت تروباخو ذاك، وأمتعته عند قدميه، وكان مطمئناً كما لو كان بيته مدى الحياة. ومذ رأيته آخر مرة، مطروحاً بين الأصص، فـي ذلك الفناء الآخر، ذات فجر، بمظهر من هو ميت تماماً. وكنت أنظر إليه دون أن أرمش، وكنتُ ما أزال أواصل التحديق فـي وجهه عندما أنهى الخطيب كلامه، واقترب هو، وقد كان المحتفى به، إلى المستوى الأول ليتسلم العلبة التي قدمها إليه الملك، وتكلم بدوره بالصوت الأجش نفسه، بينما كان الزملاء يلتقطون الصور، وأنا جامد بلا حراك. تراجع هو إلى مكانه السابق، وقرأ الملك ورقة صغيرة، واكتشفتُ أن ذلك لم يكن المفاجأة الوحيدة، فبين الناس الذين يشكلون حلقة بعيدة قليلاً، كان هناك وجه لا يُنسى أيضاً، توّج ظهور بيدرو بالاث غير المعقول: كان هناك، يقطّب جبينه، وبشعر مشعث فوق الجبهة العريضة، مارثان ذاك، وسأخبرك من هو، إنه شخصية بديعة، شخص رأيت صورته الأخيرة وأنا متعلق بأعمدة درابزين سلّم، تصور، مازالت منقوشة أيضاً فـي ذاكرتي بطريقة رهيبة لا يمكن محوها. وهكذا عاد بحدّة إلى ذاكري زمن ماضٍ، غير منطقي، ككابوس يملؤني
لكنه لم يتوصل إلى النوم. ولسبب غير مفهوم، صارت لياليه منذ ذلك اليوم تنقضي فـي انتظار غير مجدٍ للنوم، فـي حالة سبات تسمح له، مع ذلك، أن يسمع بدقة مغيظة كل أنواع الضجيج: تنفس زوجته، كلمات غير مفهومة يتلفظ بها الطفلان النائمان، طقطقة الجدران، غرغرة الماء فـي الأنابيب، وقع خطوات أحد العابرين، انزلاق السيارات على الشارع؛ أو أن يشعر، بخوف، بكل هزّة أرضية خفـيفة من تلك التي ما كان يمكن لها أن توقظه فـي العادة. وبينما هو يسمع أصوات المواء، والنباح، وتحليق الطائرات الأجش، ومحادثة مشوشة تقترب وتبتعد فـي ما وراء النافذة، كان يلمح المرور البطيء لكل دقيقة من دقائق الليل غير المتناهية.
ــ كان جندياً يبحث عن موقع كنوز كثيرة يسمونه إلدورادو، وكان فـي بحثه ذاك يجتاز سهوباً وغابات وأنهاراً. وأخيراً، ضاع مع جماعته فـي الصحراء. لم يكن لديهم ما يأكلونه، ولم يكن لديهم خيول، ولا عربات، ولا خدم، يقال إنهم جميعهم راحوا يموتون شيئاً فشيئاً، وبسبب الجوع الذي كابدوه، اضطرّوا إلى أن يأكل البعض منهم الآخرين.
لم تكن ثمة وسيلة تعيد إليه النوم، وكان ذلك الأرق يبقيه خلال النهار فـي حالة وهن تشبه تلك التي تسببها عملية تحول محمومة. كان يقوم بواجباته، ويقابل زبائنه وزملاءه كما لو أن ذلك كله يحدث فـي الجانب الآخر من زجاج يغطيه البخار، أو وراء غلالة شفافة تشوه الأشكال وتجعل الحركات غير محدّدة. وكان إحساسه بأنه يتولى بعض الوظائف بالنيابة عن شخص آخر يزداد حدّة، وجاءت مؤثرات جديدة من الإشارة نفسها لتزيد من ذهوله: هكذا بدا له، ذات صباح، أنه اكتشف أن ذلك الوجه الذي ينظر إليه من المرآة، على الرغم من شبهه الشديد بالوجه الذي يعكس حضوره عادة، له مع ذلك تفرد مفاجئ يميزه عن وجهه، بل إنه وصل حدّ الشك، ليس من دون خوف، فـي أن للوجه نوعاً من الاستقلالية، إذ خُيل إليه للحظة أنه يراه يحرك شفتيه ليقول شيئاً من خلال جملة غير مسموعة لم ينطق هو بها، لأن فمه مطبق وشبه مغطى بصابون الحلاقة.
عقّدت تلك الليالي الطويلة التي أمضاها دون نوم من بلبلة الزمان والمكان فـي ذهنه، وأضفت على مزاجه مظهر حزن وعدم اكتراث جعل منه محط تعليقات مشفقة. هجر عاداته القديمة فـي العزف على الجيتار أيام الآحاد، على الشرفة، بعد الغداء، بينما الطفلان يلعبان فـي الظل وامرأته تتأرجح فـي أرجوحة النوم؛ ولم يعد يخرج مع الأصدقاء ليتناول بعض الكؤوس أو لطقوس لقاء سري مع فتيات مرحات. وكان الأصدقاء يؤنبونه لابتعاده عنهم، وتسعى زوجه دون طائل لتمكينه من النوم، بوساطة مُغلى أعشاب، وأدعية وعُوذ. كما أن الأدوية الموصوفة لم تفـده فـي شيء.
ــ إلى أن ظل ذلك الجندي وحيداً، ممزق الثياب، حافـي القدمين، تغطي جسمه القروح. وكان يأكل كل ما يجده من أعشاب وذباب، وروث وبيوض. بل إنه أكل أفاعي وجرذاناً ونسور رخمة، وخفافـيش. إذا كانت الشمس حارقة، يحتمي فـي الظل. وإذا ما اشتد البرد، يحفر حفرة فـي الأرض ويتغطّى بالتراب. كان يتحمّل قسوة المناخ، ويتابع البحث عن طريق تعيده إلى بيته، إلى زوجه وأبنائه.
فـي دوران تلك الساعات البطيء، كان يتحقق من ذكرياته كلها مثلما يستعرض هواة جمع الأشياء طوابعهم، أو لصاقات ماركات السيجار، أو عملاتهم. وخلال تحققه كان يخفق فـيه الإحساس بأنه يراجع درساً محفوظاً، كما لو أن حياته لم تكن بالفعل تقديمه لدورٍ آخر لا يعنيه. وبطريقة ما، كان الأرق يظهر كأنه شيء منسي خفـي وغامض. وفـي شكوك هذا التناقض، كان يراجع حياته كما لو أنها لا تنتمي إليه حقاً، ويردد ذكرياته فـي الليل الصامت مثلما يكرر بنود عمله اليومي، محاولاً نبشها ليعرف بطلها الحقيقي، وليتعلّم فـي الوقت نفسه أن يكون ذلك البطل.
وهكذا راح يستعيد مئات المشاهد التي ظن أنها ضاعت إلى الأبد. وفـي مواجهة ظلمة حجرة النوم، كما لو أنه مشاهد وحيد فـي السواد الباهت لقاعة سينما، كان يتأمل فـي مخيلته أضواء الذاكرة وظلالها. روائح وطعوم، تمايل عربات واندفاعات براكين. كان يستعيد نفسه طفلاً، فـي المدرسة، ويُفهرس الألعاب، والدروس، والزملاء. ويذكر إيماءة خاصة من معلمة، أو أغنية تعلمها للاحتفال بمناسبة معينة. كان يتذكر زمن الدروس وزمن العطلة فـي بيت أم أمه، على الساحل الغربي، بين مزارع الموز المحيطة بشواطئ شديدة البياض من رمل مكون من مرجان وأصداف مفتته؛ بيت كبير أخضر، مبني من الأخشاب، فـيه دجاج وماعز وحصان. كان يتذكر مواقف، وملابس، وتكشيرات، وكلمات. يتذكر الضوء بين النخيل، والماء بين صخور الجانب الظليل، والنعاس اليابس للذرة المائلة، وحجرات تجفـيف الكاكاو الصغيرة كأنها بيوت أقزام. يتذكر أعشاش الطيور، والفراشات الكبيرة، والأعشاب التي تنغلق حين تحس أنها لُمست، والسرطانات الصغيرة البرتقالية التي تهرب لتختبئ فـي الأجمة الكثيفة.
ــ اجتاز صحارى جديدة، وأنهاراً جديدة، ثم غابات وقفاراً وسهوباً أخرى. وقع فـي أيدي متوحّشين، بعضهم عذبوه وآخرون عاملوه كمبعوث من السماء. وأخيراً، وجد لدى فتاة رباطَ حذاء يشير إلى قرب أبناء قومه. ولم يبق عليه سوى أن يجتاز أرض براكين.
فـي البدء كانت الذكريات تستقر فـي ذهنه مختلطة كأنها سرب نحل شره. لكن توالي أرقه المتواصل أتاح له تنظيمها وضبطها فـي ميقاتها الصحيح، إلى أن أعاد تركيب الأحداث من جديد فـي تواليها المضبوط الذي جرت فـيه كما يبدو له. راجع سنوات المدرسة، والعطل البعيدة، وأولى الميتات الأسرية، ومرحلة الصبا، والمعانقات التي دشنت معرفته بأجساد أخرى.
ومن أجل تأكيد بعض ذكرياته الليلية، بدأ البحث عن أشياء ومعطيات. كان هناك فـي عليّة صغيرة فـي البيت بعض العلب والصناديق وعلب القبّعات، حيث تُحفظ صور شخصية وبقايا من أزمنة أخرى. قدمت له بعض الصور صورته وهو طفل يغمض عينيه فـي مواجهة بريق الضوء، مع ظلال كبيرة تمتد تحت حاجبيه ووجنتيه. طفل عند حافة حقل ذرة، وصف أشجار نخيل تظهر على مسافة غير محددة. طفل إلى جانب أشجار جوز هندي كبيرة، ورأسه مغطى بقبّعة من القش: كان المطر قد هطل، والأرض مغمورة ببرك ماء.
ــ توغل فـي أمكنة موحشة، وفـي غابة طويلة حيث ترقد جذوع محروقة، وفـي وديان حرقها مهل البراكين الأسود، إلى جانب صخور شديدة الانحدار رمادية كأنها الرماد. فـي أحد الأيام، ومن فوق هضبة مكسوّة تقريباً بنباتات كثيفة، تأمل بناءًً من الحجر. نزل إلى المكان: كان معبداً مهجوراً.
كانت هناك صور تعود إلى ما بعد تلك السن، بعضها من أيام التخرج من المدرسة، وأخرى يظهر فـيها مرتدياً ثياب الراشدين فـي بعض أركان المدينة. وبعضها تشهد على طقوس واحتفالات أخرى. صور، كتابات متنوعة، مفكرات مضى عهدها دُونت فـيها ملاحظات لم يعد بالإمكان سبر غورها. وجوه مسنين ماتوا منذ زمن، وأشكال حيوانات اختفت بدورها أيضاً إلى الأبد. كل تلك المعطيات راحت تشكل جانباً من أحلامه الليلية مضفـية مزيداً من المصداقية على تلك الصور.
تفحص بعد ذلك علباً أخرى. الذكريات صارت هنا أقدم عهداً وشحت الصور إلى حد الاختفاء. وجد كتاب صلوات صغيراً، ووثائق تتضمن قوائم جرد قديمة، ورسائل ما عاد بالإمكان طيها دون أن تتفتت. لقد تراكمت فـي تلك العلب بقايا عدة أجيال سابقة على جيله. وكانت فوضاها بالذات هي التي حفظتها من الاندثار، لأن الخوف من إتلاف شيء ثمين قضى بحفظ تلك الأوراق، وتلك العلب الصفـيحية، والسكاكين الصغيرة الخاصة ببري الأقلام، والكشتبانات والشرائط، ربما بانتظار قرار بفرزها وتنظيمها بصورة نهائية. وهكذا انتقل من البحث فـي ذكرياته الخاصة ــ وكأنه يقف بالمرصاد لمصادفة، وسط رسوخ التواطؤ الجلي، تعلن أنها ذكريات خاصة به، وشديدة الاختلاف، وغير قابلة للتحوير ــ وتحول إلى الاهتمام بتلك البقايا التي لم تعد ذكرى لأحد. إنها أزهار جافة، وثائق تسجيل، نشرات هجاء سياسي، كتفـيات، وبدت تلك العاديات كأنها تقدم انعكاساً لمجد ضائع.
ومع مرور الوقت، راح واقع الساعات النهارية والتألق المستحضر فـي ساعات الليل يشكلان فـي ذهنه تعارضاً خيالياً يصعب فـيه الفصل بين ما كان يحدث فعلاً وما كان قد حدث منذ زمن بعيد جداً، وصار مجرد استذكار وحسب.
وذات ليلة، ضربت ريح قوية النافذة، وحين نهض لتثبيتها رأى كيف كانت عظاءة إيغوانا صغيرة تهرب على الجدار إلى أعلى. صورة الحيوان الزاحف المتهرب، والمضاء بنور القمر، ظلت ثابتة فـي شبكيّتي عينيه لبعض الوقت، وظل يراها فـي الظلمة بينما هو يتذكر، فجأة، نفسه فـي طفولته، حين صادف فـي أحد الأيام إيغوانا تقبع دون حراك تحت أجمة، ويتذكر فـي الوقت نفسه، بوضوح وكمال، إحدى القصص التي كانت الخالة مارثيلينا تقصها عليه فـي طفولته.
كانت الخالة مرثلينا تعيش مع الجدة على الساحل الغربي. وكانت نحيلة جداً، وهشة. لم تتزوج قط، ويقال إنها كانت مريضة. وكانت تتكلم بصوت خفـيض، فـيه عذوبة، وتعرف الكثير من القصص، بعضها سمعتها والأخرى قرأتها. وكان يحب بصورة خاصة تلك القصص عن الإسبان الذين وصلوا، منذ سنوات طويلة، ليكتشفوا ويفتحوا تلك الأراضي التي كانت لا تزال آنذاك غامضة ومعادية: ربابنة سفن، وبناة حصون، وقادة عسكريون، ورجال دين، وتجار، ورجال قضاء، وكانت الشخصيات تُستذكر بطريقة غامضة، وتكون مغامراتهم فـي العادة جذابة، على الرغم من نهاياتها المنطوية على أمثولة أو الممجدة للكتب التي دُونت فـيها. وفـي بعض الأحيان كانت قصة شخصية حقيقية تتقاطع، فـي رواية الخالة مارثلينا، وحادثة مفاجئة من إحدى قصص السكان الأصليين القديمة، متحولة بذلك إلى قصة خوف. وكانت هذه القصص التي تغمره بمخاوف ممتعة هي المفضلة لديه.
ظل هناك، إلى جانب النافذة، مستغرقاً فـي ذكرياته إلى حدّ لم يشعر معه بماء الزجاجة الذي دلقه على قدميه عندما نهض. عاد إلى السرير وتخيل الخالة مارثلينا جالسةً إلى جانبه فـي السرير، تروي له حكاية بهمس خافت من صوتها الضعيف الناعم.
ــ كان معبد إله ضب، يظل تمثاله الحجري فـي الظلمة. وحين سمع اقتراب الجندي، استيقظ الإله الضب من نومه الطويل. كانت عبادته قد انقرضت منذ سنين بعيدة. فلم يعد هناك من يصلّي له، ولا من يقدم إليه القرابين. لم يعد هناك من يتذكره فـي العالم. وظن فـي البدء أن الجندي هو أحد المؤمنين به، وأن مجيئه سينهي تلك الوحدة الطويلة، وستُستأنف من جديد الاحتفالات وتقديم القرابين.
كان جانبٌ من جهاز التلفزيون، وظل الباب، والجزء الخلفـي من السرير تستنسخ بطريقة ما بقعة بدن الخالة مارثلينا. ولا بد أن يكون وجهها مرسوماً بخطوط خفـيفة على بياض الشاشة الصغيرة.
ــ وصل الجندي المنهوك إلى أسفل التمثال، وجلس ليستريح. كان قد جمع ثمار بعض الشجيرات، وراح يأكلها بلهفة. بعد ذلك غلبه النعاس. وأدرك الإله الضبُ، بعد أن تأمله طويلاً، أن ذلك الرجل ليس أياً من مؤمنيه، وأنه ليس عائداً إليه، وإنما هو عابر سبيل عارض، سرعان ما سيذهب إلى الأبد، ويتركه وحيداً من جديد.
كانت شفتا الخالة مارثلينا تكادان لا تتحركان: بدت كما لو أنها تصلي. ومع ذلك، كانت كلماتها تخرج واضحة، حاسمة، ومختلفة مثل حصى غُسلت للتو.
ــ عندئذ قرر الإله الضبّ أن يستبدل جسده بجسد الجندي النائم، وأن يستخدم جسد الجندي للبحث عن قرية يمكن له أن يجد فـيها مؤمنيه وطقوس عبادته. احتلّ جسدَ الجندي وخلفه متحولاً إلى ذلك التمثال الحجري، وغادر المعبد متوجهاً إلى القرية. وصل أخيراً إلى بيت الجندي، فاستقبلته الزوجة والأبناء ببهجة لرؤيته حياً بعد كل ذلك الزمن وكل تلك النكبات والمصاعب. لكن زوجته انتبهت سريعاً إلى أن ذلك الرجل، على الرغم من شبهه بزوجها، إلا أنه كائن آخر دون ريب. لأن عينيه ظلتا عيني ضبّ، وفـي عمق البؤبؤين، عندما يكون ذاهلاً ــ وهو ما يحدث له بكثرة ــ يُلمح بريق نيران ضاربة إلى الزرقة.
تتوقف الآن عن الكلام، وترفع يديها لحظة عن حضنها كأنها تريد أن تحمل بهما ثقل صمتها القصير، ثم تعيد تشابك اليدين مجدداً وتواصل الكلام.
ــ طلبت امرأة الجندي نصيحة عجوز صانعة حلوى تعرف فـي الرقى، فقالت هذه لها إنه لا بد أولاً من معرفة إلى أي من العناصر الأربعة ينتمي ذلك الكائن الذي يحتل جسد زوجها. ولهذا الغرض، أشارت عليها بوجوب أن تحيط المكان الذي ينام فـيه الرجل بالتراب، والرماد، والريش، والماء، على التوالي. وأن تخبرها بعد ذلك بما يحدث.
أغمض عينيه ليستحضر بقوة ذلك الصوت العذب، وتلك الخاتمة البطيئة للقصة. وكان من عادة الخالة مارثلينا أن تروي له حكاياتها عند موعد النوم، لا لتدفعه إلى النعاس، وإنما كلعبة أخرى فـي تلك الإجازات فـي بيت الجدّة التي كانت أفضل هديّة يتلقاها كل عام.
ــ فعلت المرأة ما طلبته منها العجوز، وعادت إليها بعد بعض الوقت لتخبرها بأن زوجها قد غضب كثيراً عندما استيقظ ووطأ بقدميه الحافـيتين التراب، ثم عندما داس على الريش فـي اليوم التالي، وعلى الرماد فـي اليوم الذي تلاه. ولكنه عندما داس على الماء الذي كانت قد سكبته مسبقاً، لم يُبد ما يشير إلى أنه أحسّ بالرطوبة.
وقد كانت تنتمي إلى العصر نفسه، دون شك، تلك الصورة المنبعثة فـي الذاكرة حين اكتشف جسم عظاءة الإيغوانا الصغيرة الهاربة. كان ينزل راكضاً على الدرب المؤدي إلى النهر، إلى القرية، وقد توقف فجأة: لمح بريقاً على الأرض، شيئاً يلمع تحت شمس الضحى. كان الحيوان يقبع ساكناً دون حراك إلى جانب بعض الشجيرات الملتفة، بزعنفته المتهدلة على ظهره الأخضر، وحلقه المرتعش بخفقان متواصل. كان رأسه مرفوعاً، كأنه يراقب شيئاً بثبات. فانحنى هو، ومدّ يده، وبسط أصابعه كمن يريد مداعبة ذلك الحلق الذهبي الذي ينبض بنعومة، وظل ساكناً دون حراك أيضاً.
ــ عندئذ تناولت العجوز قطعة قماش، وخاطتها على هيئة جراب صغير، همست فـيه بضع كلمات سرّية، ثم دست فـيه بعد ذلك حفنة حبوب وبذور، وأنهت خياطته وسلمته إلى المرأة طالبة منها أن تلقي به على زوجها حين تعبر معه مجرى مائياً.
كانت ليالي هانئة، هادئة، تكاد لا تعكرها إلا أصوات البرّية. وكانت الخالة مارثلينا تقص عليه حكاية كاملة أو جزءاً من حكاية. وكانت كلماتها تُختتم عندما تنتهي ضوضاء المطبخ.
ــ وفـي يوم كانت المرأة والرجل يجتازان النهر فـي زورق للذهاب إلى السوق، ألقت المرأة عليه ذلك الجراب السحري. وفـي الحال، تحوّل الرجل إلى ضبّ كبير، ألقى بنفسه فزِعاً إلى الماء وابتعد سابحاً نحو الضفة، إلى أن ظل ثابت الرأس ومفتوح الفم، كضب آخر من أبناء جنسه الثابتين على رمل الضفة.
كانت هذه الليلة هادئة أيضاً، ولم تكن هناك أدنى ضجة توحي أنه فـي الفراش، بجانب زوجته، يتداول الجدل مع نفسه فـي أرقه وهو مغمض العينين.
ــ وماذا حدث للجندي؟
ــ هس! ــ قالت الخالة مارثلينا وهي تضع إصبعاً على شفتيها ــ نم الآن، وإلا لن أقص عليك البقية غداً.
لم يفتح عينيه. وفكر فـي نفسه طفلاً، يتأمل الإيغوانا. تخيل أن ذلك السكونَ الكثيف يتزايد حوله مثل أجمة مكوّنة من نتف ضجيج دقيقة، من أصداء صغيرة جداً. فكر فـي أنه طفل يتأمّل كيف كان الانعكاس الشاحب لوجه الخالة مارثلينا يختفـي بفعل الظل، وكيف كانت الظلمة تلف المكان الذي يحتله جسدها. وفكر فـي الوقت نفسه فـي أنه راشد، يهيم على وجهه ضائعاً فـي الغابة، ويصل إلى معبد سري لإلهٍ ضبّ. الأحداث المفاجئة كلها: اللقاء الصغير تحت الشمس، والقصة المهموسة ليلاً، اختلطا فـي حدث واحد. وبينما كان يتخيل أنه هو نفسه من يؤدي دور البطولة، غلبه النعاس ونام أول مرة منذ زمن طويل.
* * *
فـي تلك الليلة، تمكن من النوم أخيراً. ورأى حلماً زخماً، بالغ الدقة فـي عناصر تصاعده ــ نهاية رحلة، ولقاء غريب ــ بدا له فصلاً جديداً من مغامرة أوسع بكثير، يحدس تتمتها المؤكدة، وإن كان غير قادر على تذكّرها. وعندما استيقظ، أبقته احتمالية الأوهام الحلمية قلقاً لوقت طويل، وكانت الصور القوية ومتعددة الألوان لا تزال مطبوعة فـي ذاكرته.
ولكن الأرق الطويل انتهى أخيراً كما يبدو. ففـي الليلة التالية، عاوده النوم بالقوة نفسها، وعاودته كذلك رؤيا أنه جزء من مغامرة فريدة، بلا نهاية، تبرز مجدداً عند تداخل النهار واليقظة، ممتلئة بذبذبة أصوات مؤكدة، وبتضوع روائح حيّ، وبريق أضواء. وامحى الآن تماماً استذكار الخالة مارثلينا، لكن جانباً من قصتها تلك تحول إلى الحدث فـي الحلم. وهكذا، فـي هذا اليوم أيضاً، وفـي الأيام التالية، بعد إطفاء النور، كان يستحضر دون رغبة منه تلك اللحظة التي وجد فـيها، وهو طفل، عظاءة إيغوانا صغيرة، وعندئذ يغفو على الفور. وإلى جانب رحلة الطفل القصيرة ولقيته المتواضعة ــ درب مقتضب، وحيوان صغير ــ كان يحلم بتلك الرحلة الأخرى التي فـي الحكاية، متحولاً هو نفسه إلى محارب ضائع يجد معبداً، وفـي داخله تمثال حجري لعظاءة فـي نحت بدائي.
وعلى الرغم من إلحاح حلمه، فإن واقع استعادته النوم بعد أرق بذلك الطول، أعاد إليه طمأنينة حياة تحددت فـيها مجدداً بوضوح الحدود بين النوم واليقظة.
وفـي أثناء ذلك، جاء زمن الإجازات. وامرأته التي عانت قلقاً شديداً وهي تشهد أرقه الطويل وتزايد حدة طبعه، اقترحت عليه أن يذهبا معاً لزيارة قنوات ساحل الأطلسي.
ــ أنت بحاجة للترويح عن نفسك. إنك تبدو شبه مكتئب.
فكان يسخر منها.
ــ أترغبين فـي معاناة الحر؟ وأن يلتهمنا ضب؟
وتلح هي. سيظل الطفلان عند أمها. كما أن الرحلة لن تتجاوز الأسبوع. ولم تكن ثمة ذريعة ممكنة.
ــ انظري، لا بد أن يكون ذلك مضجراً جداً. ولا تأملي بأن تجدي شيئاً آخر غير الزنوج والأفاعي. وهناك الوحل، وحل المستنقعات ذاك.
ومع ذلك، كانت تجتذبه هو أيضاً تلك المنطقة المدارية التي لم تُتح له قط فرصة معرفتها.
ــ يقال إنه على الرغم من أن المركب يبحر ببطء شديد، إلا أن نسيماً بالغ العذوبة يهب هناك.
ــ ألن يعذبنا البعوض وينغص علينا؟
هناك محاليل خاصة بذلك. وكانت كل حججه ضد الرحلة تفقد سندها فوراً. ولكنه على الرغم من الانجذاب الذي يشعر به، واصل تخيل موانع أخرى: الطفـيليات الجلدية، المياه الموبوء بكائنات وحيدة الخلية، القروح المشهورة. فإلى جانب اهتمامه بالتعرف على تلك المنطقة، كان يراوده هاجس مسبق غامض بسوء الطالع.
ــ الجميع عادوا من هناك سالمين. وسعداء جداً.
جميع من قاموا بتلك الرحلة يطرون على بهاء المناظر، وجودة طعام الفنادق، والأسعار غير المبالغ فـيها.
وأخيراً حسم أمره. انطلقا فـي ظهيرة يوم أربعاء، فـي شاحنة صغيرة شديدة الصخب يقودها رجل بدين يفتقد نصف إحدى أذنيه. وكان يشاطرهما السيارة رجل آخر متين البنية، له لحية ضخمة، يرتدي ثياباً طويلة، يحمل حقيبة ظهر منتفخة وأكورديوناً، ويغطي رأسه بقبعة من القش. وكان سيواصل الرحلة فـي ما بعد، كما يبدو، وحيداً إلى مكان من الأدغال. كان ذلك الرجل قد عُرف مؤخراً فـي المدينة بممارسة نوع من التسوّل الراقي، بتقديمه عروضاً أكروباتية متواضعة. وفـي الجزء الخلفـي من الشاحنة، وُضعت المأكولات وصفائح الوقود من أجل محرك المركب.
كان صباحاً تتداخل فـيه شمس وغيوم. وكانوا يهبطون من الوادي المركزي عبر الطريق الضيق والأفعواني، بجوار غابات تكسو السفوح الجبلية، ومزارع بنّ منتشرة فـي السفوح الظليلة ومشهد تهيمن عليه تدرجات الأخضر: الأخضر الفاتح، واللامع الذي يحدثه انعكاس الضوء على أوراق أشجار البنّ المحززة. تحولت تدرجات الأخضر المتتالية فـي آخر الأمر إلى زرقة تتزايد قتامتها، وتأخذ بالتفرق حتى الخضرة البعيدة، باتجاه أفق سلسلة الجبال، حيث تطل الغيوم الرمادية. وعلى جانبي الطريق تتراكم آجام شجيرات أزهار بنفسجية، زهرية، صفراء. والمدى البعيد الرمادي الضارب إلى الزرقة يتناقض وتعاقب الأراضي السوداء والحمراء. لقد خلّفوا وراءهم البيوت الخشبية الصغيرة شاحبة الألوان: خضراء، وردية، ضاربة إلى الصفرة، بسقوف من التوتياء الصدئ. وخلفوا وراءهم فلاحين يجزون الأعشاب الضارة، ممسكين منجل المتشيتي بيد والعصا باليد الأخرى. وكانت تتوالى معاصر قصب السكر، حيث ينتصب القصب سامقاً، أو مكوماً على الأرض ويابساً. وظهرت بعد ذلك أشجار النخيل الكبيرة ذات الأوراق القاتمة واللامعة، مع قنازع ضاربة إلى الحمرة تنبئ بفسائل جديدة.
ولكن، على الرغم من أن الوديان أخذت بالاتساع، بدا أن المسافات أنهت امتدادها، وصار بالإمكان رؤية القطار يمضي فـي اتجاه طريقهم نفسه، ويتقاطع معه فـي بعض المنعطفات الطريق، وهو ممتلئ حتى سطح عرباته بجموع من الركاب. غير إنه كان يفكر أحياناً فـي أنه لا يقوم برحلة، وأنه لا يتحرك وسط المشهد المتبدّل، وأنه لا يهبط من الهضبة، وإنما لا يزال هادئاً، مستقراً فـي مكان بلا أبعاد لا زمان، وأن تلك الحركة لا علاقة لها به: إنها حقيقية بالنسبة للآخرين، أما بالنسبة إليه فهي مجرّد وهم ينعكس حوله مثل حيلة متقنة لمجسم كوخ كبير فـي مهرجان.
ومع غروب الشمس، صار الساحل أمامهم. تلك المدينة الصغيرة المشهورة التي قال عنها أحد الشعراء إنها طائر كيتزال نائم، ستقدم لهما إمكانية الاستراحة الأخيرة المريحة قبل رحلتهما المائية الطويلة. نزلا فـي فندق تعبق غرفه برائحة خشب رطب، وتنفتح على شرفات طويلة تطل على الشارع الرئيسي. تحدث السائق بحماسة مع ربان المركب الذي سيقلّهما عبر القنوات بدءاً من صباح اليوم التالي. وكان الربان إسبانياً كما يبدو، ولا يزال شاباً جاد المظهر.
كان سواد الليل قد اندلق على الأشياء، وراح غبش خفـيف يطمس وميض النجوم. ومن البحر القريب الصاخب فـي العتمة، يصل نسيمٌ ساخن ورطب. كانت الشوارع خالية، غير أن نشاط المارة القليلين يوحي بأن الليلة ليلة عيد. فالنساء يرتدين ملابس ملونة، ويتجهن مع أزواجهن إلى أبواب معينة، لا إشارات تدل عليها فـي الخارج، إلا أنها تُصدر إلى الشارع جلبة حشود وإيقاعات ألحان.
المكان نفسه الذي تناولا فـيه العشاء كان يضم، فـي الجانب الآخر من حاجز ذي فتحات كبيرة لها شكل المعينات، قاعةً تعزف فـيها أوركسترا صغيرة، قبالة حلبة رقص بيضوية، موسيقى نشطة الإيقاع، يبرز فـيها قرع عدة آلات نقر يزداد صخبها أكثر فأكثر. وسرعان ما راحت الحلبة الخالية أمام الموسيقيين تمتلئ بالراقصين. ولم تكد تمضي ثلاثون دقيقة حتى صارا غير قادرين على رؤية الموسيقيين. ففـي الصالة المجاورة، فـي ذلك المكان شبه المظلم الذي جعله جو قاعة الطعام يتلألأ، بالرغم من أنه لم يكن مضاء إلا بمصابيح ضعيفة ملونة معلقة بالسقف على ارتفاع عالٍ، كانت كتلة أجساد بشرية مطموسة المعالم ترقص بصورة مجنونة، متابعة بدقة إيقاع اللحن الرجراج.
كان ذلك الرقص، وتلك الموسيقى أيضاً، مفتاح واقع يبدو منفصلاً وغريباً بالكامل، دون أن تكون هناك إمكانية للجمع بين الصخب والإحساس بالثبات والبعد الذي كثيراً ما يقلقه. خرجا للرقص، وظلا فـي الحلبة وقتاً طويلاً، مختلطَيْن بالحشد. وكانت زوجته سعيدة جداً.
ــ منذ متى لم نكن مثلما نحن الآن؟
ــ ولكننا رقصنا معاً منذ خمسة عشر يوماً ــ أجاب ــ فـي بيت آميليتا.
ــ ليس هذا ما أعنيه. لكننا لم نكن هكذا، أنت وأنا وحدنا، مثلما كنّا أيام الخطوبة. أتتذكّر؟
واستذكرت تلك الأزمنة عدة مرّات، فساءه ذلك الإلحاح على تذكر زمن ضائع. ذلك الإحساس بالغربة والغياب الذي شعر به على امتداد الرحلة تحول الآن إلى أسى خالص، فكان يسمع امرأته كأنها تحدثه عن زمن سعيد لم يكن هو موجوداً فـيه، وكأنه لم يعش معها كذلك فـي أزمنة أخرى أقل سعادة. لم يكن ذلك فقدان ذاكرة، وإنما الوعي بحيز كبير من الفراغ يقوم خلفه كما لو أنه لم يكن آنذاك كائناً من لحم وعظم وإنما فرقعة مقتضبة لمخيّلة غريبة. وفكر: «ربما أكون قد متّ منذ زمن بعيد». وربما لم يكن جسده ذلك الجسد الذي يتحرك من جانب إلى آخر متابعاً إيقاعات اللحن.
وأخيراً، حوّل الحر والدخان ذلك الحيز إلى مكان خانق. فأمسك ذراع زوجته وتوجها إلى الشارع بينما كانت أعداد أكبر من الناس، جلهم من الملونين، ينتظرون دورهم للدخول، وكانت فتاة شبّاك التذاكر، وقد نفدت البطاقات لديها، توثق دفع رسم الدخول بطبع خاتم محبّر بعناية على قفا يد كل زبون. كانت تطفو فـي الجو رائحة تبغ وعرق وكحول كأنها رائحة بخور معبد.
كانت أصداء الموسيقى تقطر فـي الليل. ليل شديد الظلمة الآن بفعل دثار غيوم كثيف يحجب النجوم، يعبق برائحة ثمار متعفنة وبول، حمل إليه مع ذلك ذكريات زخمة، وجعله يتعرّف بطريقة مباشرة على ليالٍ صيفـية أخرى تصطف فـي ذاكرته وتهزم بصلابة أفكار الخواء وعدم الوجود والموت السابقة. «إنني حي»، فكر. وكان ورنيش غير ملموس يساوي الأشياء كلها، وترد إلى ذهنه الآن تلك الأعياد الشعبية الأخرى، مع ما فـيها من موسيقى ورقص وشراب، وتندمج فـي حفلة اليوم بتناظر تام. وهكذا، بينما هو واقف فـي وسط الشارع المقفر، وزوجته تنظر إليه دون تعليق، مستمعاً إلى صدى قرع الطبول السريع ودوي الأبواق، فـي ضوء مصابيح قليلة تلطخ بضوئها الشاحب واجهات البيوت المتطاولة، تأملَ الظلمة الآخذة بالاشتداد فـي الأعالي كأنه يتأمل اللحظة نفسها من ليلة بعيدة. لقد عذّب نفسه وهو يفكر فـي عدم تماسكه، خائفاً ألا تدركه حركة الحياة، وبدا له الآن أنه كان مخطئاً: إنه وحده الواقعي، وكل ما يحيط به وهم، كل ما له مظهر ظرفـي مؤقّت، مثلما هو الليل الآن، والموسيقى، والماء.
ــ ألست على ما يرام؟
ــ الحر شديد.
بحثه اليائس عن الذكريات، وحتى عن الصور قريبة العهد للرقص الجنوني، والأطعمة والروائح، سيكون على هذه الحال مجرد خديعة يتورط فـيها تفكيره نفسه ليسلو بها وحدته. وعادت صورة الحلم الأولى تلك إلى فكره مجدداً. كان ينزل راكضاً، وجد الإيغوانا، توقف. تبادل هو والإيغوانا النظرات. ولم يكن هناك أحد سواهما فـي الضياء غير المتناهي. كانا متوقفـين، مثلما يقف تحت الليل الآن، فـي هذه المدينة المجهولة، حيث يخفق مع ذلك تحت الظلمة الضبابية ارتجاج قديم. يمكن لهذا المكان إذاً أن يكون المكان الوحيد: مكان محاط بفقاعة ظلام، يخترق الكون.
كان يخرج من البوّابات الإيقاع المجنون نفسه الذي تضبطه دقات الطبل المدوية، إنما كانت تُسمع أيضاً همهمة صوت معزول يترنم بأغنيات كئيبة، تساعده فـي ذلك أنغام جيتار. وعلى النواصي، مومسات متوحدات لهن وجوه سوداء جميلة يرافقن بتمايل أجسادهن، وبحركة أقل من أقدامهن، تلك الألحان المتعددة الكئيبة التي تأتي من كلّ الأركان.
مشيا ببطء حتى وصلا إلى نهاية الجادة. وفـي ما وراء مجموعة وافرة من جذوع الشجر الشبيهة بقوائم عالية جداً لحيوانات غامضة تتزاحم أجسادها هناك فـي الأعلى، كان البحر يتحطّم لاهثاً على الرصيف. وفـي سواد المياه، على الرغم من صخب حركتها التي لا تكل، كان هناك أيضاً بريق وحدة وفراغ شبيه بالبريق الذي يشع به سواد السماء الضبابي.
وفـي الجهة المقابلة للبحر، فـي الظلمة التي تحجبها كتل البيوت الرمادية، تمتد الغابة حيث تختفـي المعابد البدائية. وقد أدرك أن كل التضوعات متشابهة، وكأنها بدل أن تنبثق خارجه، تمضي فـي التشكل داخل ذاته تحديداً. وهكذا فإن هذا العالم، الآن وآنذاك، وصور الحلم، وهذه المدينة، والحر الذي يلف جسده مثل لعاب خفـيف دافئ، هو شيء يبدو أنه يحدث الآن، وكان آخذا بالحدوث، مع ذلك، فـي داخله منذ بدايات حياته البعيدة.
ــ أريد التكلم بجد ــ قالت ــ أراك مريضاً منذ زمن. إنك لا تبدو الشخص نفسه.
نظر إليها مرتبكاً. كانت قد تشبثت بذراعيه والتصقت به فـي تقرب عاطفـي.
ــ يخيفني أن تكون مريضاً.
ــ مريض؟ إنني بخير، بأحسن حال.
ــ علينا الذهاب إلى الدكتور. لا بد من إجراء فحص لك.
أحس فجأة بتكدر غريب، وكان تكدره يختلط بطعم مرارة، كما لو أن ذاكرته وإدراكه ــ وقد تحولا إلى شيء صلب، إلى المأكولات نفسها التي تناولها فـي قاعة الطعام الصاخبة تلك ــ لا يمكن لهما أن يُهضما فـي جسمه، وأن هذا الجسم يجاهد لتقيئهما خارجاً. ابتعد بضع خطوات وتقيّأ منحنياً باتجاه الجدار: تبعثرت ذاكرته وإدراكه على الأرض، وكانا لا يزالان يلتويان بين بقايا سوداء بيضاء من الرز والفاصولياء. أحس بعد ذلك أنه أحسن حالاً بكثير، وأنه جاهل تماماً كمن ولد للتو.
ــ لم يصبني شيء، يا آليثيا ــ هتف ــ إنه أرق الأيام الطويلة اللعين. لكنه انقضى الآن وانتهى.
* * *
كان اليوم التالي يشير إلى أنه سيكون مشرقاً أيضاً. وكانت نقطة الانطلاق هي مرسى صغير محاط بحشد مزدحم من بيوت صغيرة متسخة، كانت مطلية دون شك بألوان صارخة ومتعددة، لكنها توحّدت فـي لون رمادي شاحب يكاد لا يحتفظ بشيء من اللون الأصلي. وعلى الرغم من تلك الساعة المبكرة، كان هناك عدد كبير من الصبية العراة يلعبون ويتصايحون فـي مياه المرسى، وعلى مقربة منهم كانت طيور بجع من ذوات المنقار الضخم الأكرش تخفق بأجنحتها. وعلى الرصيف، كان رجال سود منهمكين فـي تكديس أقراط موز على أحزمة ناقلة بطيئة تنقلها إلى سطح مركب صدئ. وكان مظهر كل شيء ينضح بإعياء مضجر، والحر اللزج الذي أحاط بهما منذ وصولهما إلى شاطئ البحر، تحول إلى جلد لزج ملتصق بثبات بجلدهم الحقيقي.
كانت الرائحة كريهة، لكنه استنشقها بتلذذ غريب. فقد فاجأه أن يتداخل كل شيء مندغماً بتلك الدقة فـي تجاويف روحه السرية: الضوء المتلألئ الذي يضيء واجهات المساكن المتآكلة، والأفنية بما فـيها من شِباك وأدوات وحوائج، والمارة ذوي الملابس البائسة والملامح القاتمة. وعاد إلى الإحساس بأنه، بفعل اجتماع الضوء والحر وكثافة المكان، يدخل ذلك العالم بأمل قوي فـي التوصل إلى كشف ما.
وبينما هم يقتربون من المركب الكبير، كان الربان يراقبهم. وفجأة، تقدم بضع خطوات، وأخرج يديه من جيبه، ونظر بالتناوب إلى الرجل الملتحي، وإليه هو نفسه. بدا كمن هو على وشك أن يقول لهما شيئاً، لكنه احتفظ بالصمت. وكانت رصانة مفاجئة قد تجمدت فـي نظرته.
ــ أتبحث عن شيء؟ ــ سأله.
نفى الربّان بحركة من رأسه. والتفت بعد ذلك ببطء نحو المركب، وساعده فـي وضع الحزم تحت المقاعد. وكانت ثمة لحظة تقارب فـيها وجهيهما كثيراً، فكلمه الربان.
ــ المعذرة ــ قال ــ لقد خلطت للحظة بينكما وبين شخصين آخرين. وخاصة الراكب الآخر.
لم يجبه هو. كان يبتسم ببلاهة، كما لو أنه يسمع تفسيراً لأمر معروف ومفروغ منه.
ــ بدا لي أن صورتك مألوفة لي.
ساعد زوجته على اجتياز المسافة القصيرة التي تفصل سطح المركب عن الرصيف. كان الراكب الملتحي قد شغل مقعد الميمنة، فاحتلا هما مكاناً مناظراً على المقعد المقابل. وضع رجلُ اللحية والشعر الطويل الأكورديون بحرص بين أمتعته. وقدم له الربان سيجارة رفضها الآخر بإيماءة.
ــ ألم نلتقِِِِِِِِِِِ من قبل؟ــ سأله الربان.
أدار الرجل الملتحي وجهه. كان يضع نظارة كبيرة، قاتمة جداً، وذات عدستين مستديرتين. نفى برأسه وأصدر بعد ذلك صوتاً خشناً، بدا أنه تأكيد للنفـي. هزّ الربان كتفـيه. أنهى السيجارة وذهب بعد ذلك ليلفّ الحبال بحرص.
ــ أنتم تعلمون أنها رحلة طويلة ــ قال ــ. سنتوقف للغداء عند الظهر، فـي إحدى القرى. فـي السابق كان يجري تناول الطعام على متن المركب، لكن الزبائن يفضلون تحريك أرجلهم قليلاً كما يبدو.
كان قد شغّل المحرك الصاخب وراح المركب ينفصل ببطء عن الرصيف مخلّفاً وراءه الرجال المنهمكين فـي العمل والأطفال الصاخبين ومنظر البحر البعيد الذي تتوالى على سطحه الفسيح تشققات بيضاء يحدثها الهواء البحري.
شرع المركب المتأرجح بلطف بالتوغل فـي مياه القناة القاتمة، حيث تنتشر لطخات طويلة كامدة. وعلى جانبي المجرى البطيء، راحت تتوالى آخر الأكواخ الغارقة فـي الوحل الضارب إلى السواد، والمحاطة بكلاب هزيلة، ودخان متصاعد. ظهرت بعد ذلك مجموعة أبنية بيضاء، وسط مساحة خضراء فسيحة وبديعة.
ــ إنه فندق غرينغو ــ قال الربان ــ خاص بصيادي السمك.
وأخيراً اختفت المباني، وصارت أشجار الثيبا والنخيل أشد كثافة، والضفاف التي كانت خالية من النباتات من قبل، وتكشف دروب الوصول إلى الماء من الأكواخ والقرى، اكتست الآن بآجام متشابكة من النباتات.
ومع الصباح الوليد، تحت وميض بياض الشمس الأول، كانت الضفاف تمتد مكسوّة بنباتات تزداد تشابكاً. بدت امرأته مفتونة بتأمل المشهد. وبين الأغصان الكثيفة، كانت تختلط النباتات المتسلقة والمعرّشة. وفجأة، تنقطع النباتات الكثيفة لتظهر شواطئ صغيرة ذات رمال قاتمة. وكانت الشمس الساطعة تحتجب بين حين وآخر وراء مساحات طويلة غائمة بينما يوفر تقدّم المركب هبوب نسمات خفـيفة. كانت تطفو على الماء كتل نبات ذات أزهار بنفسجية، وكثيراً ما تحلق، قريباً من الضفة، طيور صفراء وزرقاء، أو تغطس التماسيح الصغيرة فـي الماء، بعد أن تصعد فجأة. كانت امرأته قد أمسكت إحدى يديه، وراحت تضغط عليها لتؤكد على تعليقاتها عن الطيور والأزهار، وعن الفراشات الملوّنة التي تحوم فوق المركب والماء. وكان الرجل الملتحي، وهو يمد ساقيه العريضتين، يتمتم أيضاً ببعض الكلمات. وكثيراً ما كانت تطل من الضفة بقايا جذوع أشجار محطمة وغارقة، تقف عليها، بذهول لا يمكن تحديده، سلاحف ذات دروع قاتمة. ومعلقة بسوقها، تنحني أوراق الموز فوق الماء مثل كوخ كبير. وفـي بعض الأحيان، تظهر فـي فسحات مفاجئة، دساكر صغيرة فـيها نساء وأطفال ودجاج.
التقى الزورق بمراكب أخرى مسودّة، مخلعة، محمّلة بحيوانات ورزم ورجال حفاة. دفعه مظهر أولئك الناس إلى التفكير فـي ذلك الساحل الوبيل، حيث بهاء منظر الطبيعة المبرقش يخفـي أخطاراً كثيرة: حشرات وثعابين ذات لسع ولدغ قاتل، وأمراض وبيلة، ويقدم إطاراً يشبه، على الرغم واقعيته الكاملة، بعض الكوابيس المفعمة بالألوان والمعقولية، والقادرة على بلبلة الحالم تحت مظهر حقيقة لا شك فـيه.
لكن المنظر الطبيعي لم يتوصل إلى السيطرة التامة على اهتمامه. فكثيراً ما وجد نفسه يصوب عينيه إلى مؤخرة رأس الربان، يرصده بصورة سرية، وهو لا يزال قلقاً من ذلك التعبير الأول عن معرفة غامضة يبدو أن فـيها خوفاً. ربما كان القلق مشتركاً، لأن نظرته التقت عدة مرات بنظرة الربان الذي كان يلتفت بين حين وآخر ليراقبهما، يراقبه ويراقب الراكب الملتحي، بطريقة متهربة.
توافقت الظهيرة مع أجواء شمس ساطعة. وكان البحر الذي يُلمح أحياناً فـي ما وراء الغابة، يتلألأ بانعكاسات ضاربة إلى الخضرة. توقفوا فـي إحدى قرى الضفة، الهامدة فـي خمود ساعة الظهيرة تلك. وخلال تناول الطعام، فـي ظل كوخ منتفخ السقف، بدا له أن الربان حاول التكلم معه عدة مرات، ولكن دون أن يحسم أمره فـي النهاية. وكان هو من جهته يشعر بقلق غامض، كما لو أن الربان ينوي إبلاغه خبراً كريهاً.
استأنفوا الرحلة من جديد. النسيم الخفـيف الذي أحدثته حركة المركب، وظل الخيمة كانا أشبه بمعجزة برودة تحت وطأة الحر اللزج. كانت كتل الغابة الضخمة، على الجانبين، تحدد المنظور الطويل للقناة العريضة اللامعة مثل مرآة. والربان الذي شرب الكثير من الروم أثناء الغداء، واصل سكب جرعات كبيرة فـي قدح من الصفـيح. وقد راح يترنم بصوت هامس. وأخيراً نظر إليه مباشرة وسأله رافعاً الزجاجة فـي يده.
ــ ألا تريد جرعة؟
ومع أنه فهمه جيداً، فقد تظاهر بالعكس، مبدياً طيبة سائح مطمئن.
ــ أسألُ إن كنت تريد جرعة ــ كرر الربان.
أدرك أن عليه أن يقترب، وكأنما قد أزفت لحظة إنجاز موعد. نهض مبتسماً. فابتسم الآخر أيضاً. لكن، ربما كانت ابتسامته، مثلما هو عرضه، لا يخفـيان سوى تمهيد بروتوكولي للقاءٍ غاياتُه أكثر تعقيداً من مجرد دعوة للشرب.
ــ سيكون ساخناً جداً ــ أجابه.
ــ ما زال هناك ثلج فـي المبرِّدة ــ قال الآخر.
مدّ هو كأسه وسكب فـيها الربان جرعة وافرة. كان ينتظر كلمات ذلك الرجل بفضول قدريّ.
ــ لا بد لنا من قتل الوقت ــ قال الربان أخيراً.
وكان ينظر إليه ثانية بإلحاح.
ــ لقد خلطتُ بينك وبين شخص لا أذكر من يكون. ربما كانت إيماءة، لا أدري. الحقيقة أنك لا تشبه أحداً أعرفه. بصحتك.
لم يشأ هو معرفة المزيد من تفاصيل تلك الإشارات الغامضة. شرب محتوى الكأس كله، رشفة بعد رشفة، ببطء، متلذذاً بمذاق الكحول البارد والحارق فـي الوقت نفسه.
ــ أما زال أمامنا الكثير ؟ــ سأل بعد قليل.
ــ ما زالت أمامنا ست ساعات. إذا سار كل شيء على ما يرام.
كانت امرأته والراكب الآخر جالسين على المقعدين الجانبيين يتأملان الماء. رؤيتهما من المقدمة، ثابتين، ومحيط جسميهما بارز على خلفـية الضياء الخارجي، تجعلهما أشبه بتمثالين جامدين، هيئتين متعددتي الألوان موضوعتين هناك لتزيين المركب والرحلة زينة مقنعة، كما لو أن المياه ليست حقيقية، وضجيج المحرك والتأرجح الخفـيف هي أمور مصطنعة أيضاً فـي سياق خدعة وهمية. وهكذا، كانت فكرة أن الحركة، واللون، وذلك الفضاء المضيء، غريبة عنه بالكامل وتحدُث فـي بُعد وزمن لا يمكن لها أن تؤثر عليه، عادت إليه بالحيوية نفسها التي كانت عليها أثناء سفره فـي اليوم السابق، فـي الشاحنة.
كان الربان الإسباني يتعرق. مال برأسه باتجاهه كأنه يريد أن يهمس شيئاً، ولكنه تكلم بعد ذلك بصوت عالٍ.
ــ يمكن للسائح أن يتسامح مع هذا المناخ ويحتمله. أما العمل هنا فقاسٍ جداً.
لا شك أنه فـي هذه البلاد منذ زمن قصير، فهو يلفظ بلهجة بلده الأصلي ذات الوقع الأجش.
ــ هل أنتم قادمون من الوادي المركزي؟ ــ سأله.
أكد هو ذلك بهز رأسه. كان قد سكب جرعة خمر أخرى، وراح يحرك الكأس كي يبرد الشراب. كان لحديث الربان، خلافاً لتوقعاته، صبغة عادية واضحة. فالربان يضجر ويرغب فـي أن يشاركه أحد شرابه وحديثه. وهو لم يدعُ الرجل الآخر، لأن الرجل كان يغفو كما تبين له بنظرة سريعة، وكان يسند رأسه إلى أحد أعمدة الظلة.
ــ نحن من هناك.
ــ ذلك المكان شيء آخر. إنه ربيع دائم. أنا لم أُخلق لمثل هذا الحرّ الخانق.
مسح العرق عن وجهه بمنديل مستخدم كثيراً.
ــ وأنا يروقني الهواء البارد، والماء البارد والثلج.
قال ذلك بنبرة خاصة، فتقلبت فـي ذهنه مجموعة صور جبلية بيضاء مختلطة، ربما رآها فـي التلفزيون أو السينما، أو فـي المجلات المصوّرة.
ــ تصوّر، الثلج ــ أجاب، ثم جلس ــ أنا لم أر الثلج على الطبيعة قطّ. وهل تعمل هنا منذ زمن طويل؟
نظر إليه الربان وفـي عينيه وميض شك، وعلى الفور وجد نفسه مضطراً إلى مداراة نظرته بعرض جرعة روم أخرى عليه.
ــ جرعة صغيرة فقط ــ قال وهو يلحّ فـي أن يسكب له. ثم وضع الزجاجة إلى جانبه.
ــ منذ وقت كاف ــ أضاف ــ بل طويل.
ــ ودائماً هنا؟
بدا الربان فخوراً جداً.
ــ هذا أول زورق سياحي جاب القنوات بانتظام. إنها فكرتي. فـي السابق كانت تُقدّم المشروبات فقط. أما الآن فأنا أتولى التجارتين كلتيهما.
أدار رأسه مرة أخرى.
ــ لكن، لا تظن أنني من يقوده. أنا أفعل ذلك هذه الأيام لأنهم أجروا عملية جراحية للشاب. أنا فـي الواقع مالك المركب.
ــ وهناك؟
نظر إليه عندئذ الرجل بعينين مكدرتين، كما لو أنه بدل أن يصوغ سؤالاً تلفظ بعبارة مشينة. احمرّت قرنية عينيه. فأدرك هو الآن أنه ينبغي لحذره أن يظل متيقظاً. فالمحادثة، بعيداً عن أن تكون تزجية للوقت، تخفـي مسوغات أخرى ربما لا تجد سبلاً للتقدم، فتُبقي فـي روح كل منهما توتراً مستتراً.
ــ هناك؟
ــ المعذرة، لم أشأ إزعاجك.
ــ أنت لا تزعجني. هناك، كنت أعمل مصوّراً صحفـياً.
قالها بالنبرة الفريدة نفسها التي حدثه فـيها من قبل عن بلده: لم يبدُ عليه أنه يُخبره، وإنما يذكره بشيء واضح، ينبغي لمحدثه أن يعرفه جيداً. لا ريب فـي أنه أصغر سناً مما يبدو عليه، لكن بدا أن لملامحه استعداداً مسبقاً لشيخوخة مبكرة.
ــ فـي العاصمة بالذات؟
نظر إليه الربان عندئذ بزخم جحظت له عيناه. وكان فـي تلك النظرة تعبير الاستغراب نفسه، كما لو أن أسئلته تربكه بسخفها وعدم جدواها. التفت ببصره بعد ذلك إلى الأمام، وترك قدح الصفـيح وأمسك مقود الدفة الصغير بكلتا يديه كأنه يثبت نفسه عليه.
ــ ألم تكن تعرف حضرتك؟ ــ تمتم ــ كل ذلك لم يعد له وجود.
ظلا صامتين لوقت طويل. وكان هو يُجهد نفسه للعثور بين ذكرياته على صدى ما لتلك الكلمات، لكن جهوده كلها كانت بلا جدوى.
ــ لقد اختفت تلك المدينة. أنا رأيتها. أنا كنت هناك.
لم يُنجز أي موعد، ولم يتحقق أي لقاء: لا بد أن فـي ذهن ذلك الرجل شيئاً من الانحراف بسبب عدم اعتياده على المناخ وإكثاره من الروم. ثم فكر بعد ذلك فـي أنه أحد أولئك المجانين القادرين، على الرغم من نزواتهم المتسلطة، على أن يعيشوا حياة عادية، وأن يسوقوا، وأن يتولوا أمورهم. وأخيراً وضع هو أيضاً كأسه على الرف، ونهض ليبتعد ويعود إلى جانب زوجه. لكن الإسباني نظر إليه مرة أخرى بالعينين المنفتحتين جداً.
ـ لا تذهب ــ قال متوسلاً ــ ألا تريد أن أخبرك بالقصة؟
تردد هو. وعاد يتولد فـيه القلق السابق، كما لو أن تهديداً محدداً ينتظره فـي مضمون ذلك الاعتراف. أمسك الربان بأحد ذراعيه وأجبره على الجلوس مجدداً.
ــ سأروي لك كل شيء ــ قال.
وبدأ بعد ذلك الكلام. أما هو، فقد اتكأ فـي البدء بخفة، مستعداًً لانتهاز أي توقف ليعود إلى مقعده، معتبراً بذلك أن المحادثة قد انتهت. لكن القصة كانت طويلة، وكان الراوي يتكلم دون توقف، مثبتاً عليه عينيه بتقطع لجوج، كما لو أنه يحتاط تحسباً لهربه. تكلم أولاً عن ملك، وعن احتفال بإحياء ذكرى، وعن مفاجأة. وراحت الرواية تتسع بعد ذلك كصوت آلي آخر، حتى بدت ضجة المحرك صدى دقيقاً، وإن يكن مشوهاً وغائماً، لكلماته. بل يمكن التفكير فـي أن ذلك الصوت هو القصة الحقيقية وكلمات الراوي هي جزء من أصدائها وحسب.
* * *
هذا الذي أقوله لك حدث فـي الساعات الأخيرة من يوم خريفـي. كان يوماً عادياً، حتى إنني لا أذكر شيئاً ذا مغزى قبل لحظة لقائي بهم. ومع أن اللقاء كان مفاجئاً، إلا أنه ما كان يمكن لأحد أن يفكر فـي أن المدينة ستختفـي بعد أربع ساعات. ولكني سأمضي بالتسلسل. فـي مساء ذلك اليوم، فـي حوالي الساعة الثامنة، كانت المسافة الفاصلة بيني وبين الملك حوالي ستة أمتار. كالمسافة من هنا حتى المحرّك تقريباً. كنتُ قد وصلت متأخراً، وأول شيء رأيته هو رأسه البارز وسط الناس. تحرك قليلاً، وأتاحت لي الحركة رؤية الخطيب بوضوح، وهو سيد أصلع له صوت واضح. انتهيتُ من إعداد الكاميرا، وتأهبت لالتقاط بعض الصور باتخاذي موضعاً. قلت لك إنني وصلت متأخراً: كنت لا أزال ألهث من جهد الركض، وكان أحد الزملاء يتذمر بصوت خافت من اقتحامي المكان، بينما كان الملك يتحرك ويتيح لي رؤية الخطيب. وفـي تلك اللحظة توقف الخطيب عن الكلام، رفع بصره، تأمل الملك والحضور، وتحرك قليلاً هو أيضاً، نصف خطوة إلى اليمين، كالمسافة التي تفصل بيني وبينك، ما يكفـي لرؤية جذع المحتفى به. كان عليّ أن ألتقط له صورتين دون أن أنتبه إلى من يكون. ولكني حين أزحتُ الكاميرا ورفعت بصري، صرت عاجزاً عن التقاط أية صورة أخرى. ظللت متجمداً كما يقال. لأن ذلك الرجل الذي سيسلمه الملك الجائزة لم يكن سوى بيدرو بالاث. الآن سأخبرك، الآن سأقول لك من هو. بما أنني كنت قد حضرت بسرعة كبيرة، وكان عليّ إجراء ريبورتاج آخر قبل انقضاء النهار، فإنني لم أكن أعرف شيئاً، ولا أعرف أي اسم: الشيء الوحيد الذي كنت أعرفه هو أن الملك سيمنح بعض الجوائز فـي ذلك اليوم نفسه، وفـي تلك الساعة وذلك المكان. وطبعاً، ظللت أنظر إليه بذهول. لأنني لم أستطع، على الرغم من انقضاء سنوات طويلة، نسيان هيئته: ذلك الوجه الشاحب، الشعر الأشهب المقصوص على مستوى الجمجمة تقريباً، الشارب الكبير الأسود مثل ريش غراب، وسواد الحاجبين اللذين كأنهما قوس بارز وعريض، يبرزان فوق الأنف المدبب الذي يمنحه هيئة بومة. لم أنس مظهره على الرغم من السنين التي انقضت مذ رأيته أول مرة، واقفاً أمام بيت تروباخو ذاك، وأمتعته عند قدميه، وكان مطمئناً كما لو كان بيته مدى الحياة. ومذ رأيته آخر مرة، مطروحاً بين الأصص، فـي ذلك الفناء الآخر، ذات فجر، بمظهر من هو ميت تماماً. وكنت أنظر إليه دون أن أرمش، وكنتُ ما أزال أواصل التحديق فـي وجهه عندما أنهى الخطيب كلامه، واقترب هو، وقد كان المحتفى به، إلى المستوى الأول ليتسلم العلبة التي قدمها إليه الملك، وتكلم بدوره بالصوت الأجش نفسه، بينما كان الزملاء يلتقطون الصور، وأنا جامد بلا حراك. تراجع هو إلى مكانه السابق، وقرأ الملك ورقة صغيرة، واكتشفتُ أن ذلك لم يكن المفاجأة الوحيدة، فبين الناس الذين يشكلون حلقة بعيدة قليلاً، كان هناك وجه لا يُنسى أيضاً، توّج ظهور بيدرو بالاث غير المعقول: كان هناك، يقطّب جبينه، وبشعر مشعث فوق الجبهة العريضة، مارثان ذاك، وسأخبرك من هو، إنه شخصية بديعة، شخص رأيت صورته الأخيرة وأنا متعلق بأعمدة درابزين سلّم، تصور، مازالت منقوشة أيضاً فـي ذاكرتي بطريقة رهيبة لا يمكن محوها. وهكذا عاد بحدّة إلى ذاكري زمن ماضٍ، غير منطقي، ككابوس يملؤني
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:48 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية5
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:46 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية4
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:45 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية3
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:44 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية2
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:42 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:41 pm من طرف Admin
» نموذج من بناء الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:39 pm من طرف Admin
» كيف تنشأ الرواية أو المسرحية؟
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:38 pm من طرف Admin
» رواية جديدة
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:26 pm من طرف Admin