منتدي جمال عزوز

أهلا بكم في المنتدى

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي جمال عزوز

أهلا بكم في المنتدى

منتدي جمال عزوز

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدي جمال عزوز

منتدي الادب والفنون والكتابات النثرية والقصة القصيرة

المواضيع الأخيرة

» من كتاب الشخصية6
الضفة المظلمة 4 Emptyالإثنين ديسمبر 09, 2013 5:48 pm من طرف Admin

» من كتاب الشخصية5
الضفة المظلمة 4 Emptyالإثنين ديسمبر 09, 2013 5:46 pm من طرف Admin

» من كتاب الشخصية4
الضفة المظلمة 4 Emptyالإثنين ديسمبر 09, 2013 5:45 pm من طرف Admin

» من كتاب الشخصية3
الضفة المظلمة 4 Emptyالإثنين ديسمبر 09, 2013 5:44 pm من طرف Admin

» من كتاب الشخصية2
الضفة المظلمة 4 Emptyالإثنين ديسمبر 09, 2013 5:42 pm من طرف Admin

» من كتاب الشخصية
الضفة المظلمة 4 Emptyالإثنين ديسمبر 09, 2013 5:41 pm من طرف Admin

» نموذج من بناء الشخصية
الضفة المظلمة 4 Emptyالإثنين ديسمبر 09, 2013 5:39 pm من طرف Admin

» كيف تنشأ الرواية أو المسرحية؟
الضفة المظلمة 4 Emptyالإثنين ديسمبر 09, 2013 5:38 pm من طرف Admin

» رواية جديدة
الضفة المظلمة 4 Emptyالإثنين ديسمبر 09, 2013 5:26 pm من طرف Admin

التبادل الاعلاني

احداث منتدى مجاني

نوفمبر 2024

الإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبتالأحد
    123
45678910
11121314151617
18192021222324
252627282930 

اليومية اليومية

تصويت

تدفق ال RSS


Yahoo! 
MSN 
AOL 
Netvibes 
Bloglines 

احصائيات

أعضاؤنا قدموا 254 مساهمة في هذا المنتدى في 142 موضوع

هذا المنتدى يتوفر على 35 عُضو.

آخر عُضو مُسجل هو sansharw فمرحباً به.

سحابة الكلمات الدلالية


2 مشترك

    الضفة المظلمة 4

    avatar
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 150
    نقاط : 444
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/10/2009
    العمر : 50

    الضفة المظلمة 4 Empty الضفة المظلمة 4

    مُساهمة  Admin الإثنين ديسمبر 14, 2009 3:37 pm

    IV. رواية الربان
    عندما أحاول التفكير فـي ما حدث قبل ذلك اليوم، يتجمع كل شيء فـي ذاكرتي مثل ركام مختلط من إيماءات ووجوه وأمكنة ــ دون أحداث ولا أشكال ولا منظور ــ يصعب فـيه تحديد التلونات وتمييزها. لستُ أشير إلى يوم الملك، حين عدت للقاء بالاث ومارثان، نونيا وسوسانا، اليوم الذي اختفت فـيه مدريد، وإنما إلى يوم آخر سابق جداً. إنه قبل ذلك اليوم الأول الذي أقول لك إن كل شيء يختلط فـيه، ويبدو أن الأشياء تخلو من تجانس الأحداث المعيشة حقاً: فقد كانت تتراكم هناك بصورة مفاجئة مجموعة عناصر مشتتة، كما لو كانت سقط متاع تافه، هذه التي تسمى عندكم ترهات، عناصر مبعثرة ومفككة، وليست إحالات من ذاكرتي بالذات. الحقيقة أني كنت آنذاك صبياً تقريباً، أكملت السابعة عشرة من عمري فـي ذلك الشهر بالذات، كنت صبياً على الرغم من أنني كنت أجد نفسي فـي تلك الأيام ممتلئاً بعاطفة أحسبها ناضجة. فقد كتبتُ رواية، وقد كتبتها بسيولة وثقة أذهلتاني عندما تبين بجلاء أن كتابتها ستظل أمراً معزولا واستثنائياً فـي حياتي. لقد أنجزت تلك الرواية دفعة واحدة، وكأنني ممسوس بضرورة مجنونة، ولم أتوقفت إلا عند الانتهاء، بعد أن كتبت قرابة ثلاثمئة صفحة، توقفت عندما انتبهت إلى إمكانية نهايات بديلة، وحتى متناقضة. ومع ذلك، فإن كل ماضيّ السابق على ذلك اليوم، وصياغة تلك الرواية نفسها، قد ضاع فـي الذاكرة، ولم أعد أتوصل إلا إلى تخيله بصورة مشوشة، بصورة مقتضبة، مثل واحدة من هذه الخلاصات الموجزة التي تسبق كل حدث من الأحداث المتعاقبة فـي قصة، أو قصة رسوم متسلسلة. هذا يعني، أني إذا ما بذلت الجهد فـي نظرة استردادية، فإنني لا أرى نفسي بوضوح إلا فـي الرسم الأول من أحد أحداث قصة الرسوم المتسلسلة، وإن كنت أشتبه بأن أحداثاً أخرى مماثلة قد تطورت سابقاً. فـي هذه الحادثة من ذاكرتي، والتي تبدأ تحديداً فـي ذلك اليوم الذي أكلمك عنه، أظهر فـي مركز الصورة وأنا أمدّ يدي. وأحد الأصدقاء يسلمني عدة أوراق. وفـي الخلفـية تمتد الرفوف المثقلة بالزجاجات، فـي بار كاستريّو. أما بروفـيل صاحب البار، وهو رجل بدين يدعى تيودوميرو، فـيغلق الصورة من الجهة اليسرى، فوق منضدة الكونتوار. سلمني صديقي الأوراق بورع، كمن يقدم وثائق مقدسة.
    ــ سترى حين تقرؤها ــ قال.
    كانت عدة قصاصات كبيرة من صحيفة مدريدية، محفوظة جيداً. تضم مقالين وسيرة شخصية. كانت السيرة مرفقة برسم توضيحي دقيق جداً بكل تأكيد فـي أصله، وإن كانت ذبذبات الطباعة قد شوهت خطوطه مثلما تركت لطخات فـي المساحات البيضاء. ويمثل الرسم رأس رجل ضخم الرقبة، بعينين ثابتتين جداً وشعر كفرشاة. وفوق التوقيع كتب بوضوح: إلى بالاث! أتذكر ذلك بدقة، وأتذكر تاريخاً قريب العهد. وكان المقالان مطبوعين بصورة مكثفة جداً: يشغلان نصف صفحة تقريباً، على خمسة أعمدة.
    ــ ومن هو هذا؟ ــ سألت.
    ــ إنه شخص من فاسغار! ــ هتف صديقي بابتهاج.
    وهكذا، فـي ذلك اليوم، وفـي تلك اللحظة بالذات التي أرى انطلاقاً منها ــ أكرر ــ أحداث حياتي بوضوح، بعد أن كانت قبلها مجرد ظل ضبابي، علمتُ بوجود بيدور بالاث. إنه أحد أبناء البلد، عمل منذ عدة سنوات سابقة أستاذاً للأدب فـي الخارج. عوقب فـي زمن الهياج الطلابي، وكان قد غادر البلد، وعاش فـي العام 1968 عملية احتلال المدرسة الإسبانية فـي باريس. وبعد علاقة عارضة كأستاذ مساعد فـي إحدى الجامعات الأمريكية الشمالية، استقر بصفة دائمة فـي قسم لغات الرومانس فـي تلك الجامعة. وكانت قائمة مؤلفاته كبيرة بصورة استثنائية بالقياس إلى عمره. فالصحيفة تقول إنه مؤلف دراسات فـي مواضيع أدبية متنوعة، ولديه اهتمام خاص بالتوفـيق بين الثقافـي والشعبي، وبين الأدبين المتوسطيّ والأطلنطي، بين أدب شبه الجزيرة وأدب ما وراء البحار. كما أنه كتب بعض النصوص التخييلية، منها رواية وكتاب قصص تبرزهما الملاحظة بالإطراء عليهما. أخذتُ تلك القصاصات، ومسَّدتها بيدي، وبدأت قراءتها أخيراً: المقال الأول قرأته فـي بار كاستريّو نفسه وأنا جالس على مقعد. وستعذرني إذا ما أسهبتُ قليلاً. فذلك المقال يتناول الحكاية الشفوية ويسعى إلى استرداد ذلك العالم السردي إلى الأدب، وهو عالم مجهول عموماً لدى من يمارسون نوعاً من الأستاذية الأدبية، وقد لاذ أخيراً، وهو يحتضر، بأجواء المطابخ الريفـية المتواضعة، حول النار وعلى المقعد، متطوراً على بريق آخر جمرات آخذة بالانطفاء، فـي تلك السهرات المسائية التي يجتمع فـيها الجيران. ويستذكر بدرو بالاث فـي المقال هذا الوقت المنتزع من الغروب، مع الشتاء المتربص فـي الخارج، والمزمجر فـي الريح العاصفة، وهو شيء لا يمكن تخيله هنا؛ ويستحضر تلك الساعات المكرسة للقص، مشدداً على حيوية وغنى هذه الأشكال السردية التي تبدو، فـي نظر الاختصاصيين، حصراً على البدائية الساذجة فـي الأزمنة الماضية. ويشير بالاث إلى بعض نقاط السهرات تلك. فعدت أرى نفسي، لاحظ ذلك، فـي بيت جديّ من خلال شرخ مفاجئ فـي ضباب ماضيّ الكثيف ذاك الذي بلا ذاكرة، متكوراً بجانب المقعد، ومستمعاً إلى أخبار الوقائع، كما لو أنها تشكل التاريخ الحقيقي للعالم، حيث الأحداث أكثر تحديداً. فـيها أمور عن الحروب، وحكايات عن الذئاب، وقصص حسد، وثروات، وكنوز، وغراميات تعيسة، وحوادث وكوارث. ورحت أدرك فجأة الجوهر الحقيقي لتلك القصص التي كانت تسحرني وأنا طفل، والتي لم تكن، كما يبدو، مجرد عادة ريفـية وحسب، ففـيها حفاظ على الجوهر الذي كسا فـي النهاية، كما هو معروف، تقنية الكتب، وشكّل منشأ الأدب.
    ــ أرأيت؟ أرأيت؟ ــ كان يقول صديقي.
    وهكذا انطلقت إلى البيت حاملاً تلك القصاصات كأنها زاد رحلة. وبعد العشاء، واصلتُ قراءتها فـي الفراش. كان المقال الآخر تأملاً حول التداخل المتبادل بين الأدب والحياة. ويشير بيدرو بالاث إلى أن حياته الحقيقية كلها كانت ملحقة بحيواتٍ قرأها، ويصف كيف أن العوالم التي عرفها فـي التخييل القصصي تتداخل مع مشاهد عالمه، وروائحه، وظلاله، ومع عالم حياته الواقعي، العالم الذي من لحم وعظم. وهكذا فإن ذاكرته، المتحولة فـي نهاية الأمر إلى حياته نفسها، مكوَّنة من مزيج حميم من المعيش والمقروء، ويرى أنه صار عاجزاً عن الفصل بينهما ووضع ما هو واقعي فـي جانب وما هو تخيلي فـي الجانب الآخر. أتذكر بصفاءٍ كامل مقطعاً يعرض فـيه فكرته ــ بغض النظر عن شيء من الكره للنساء ــ بفعالية عالية. يقول إن الحياة لم تُتح له التعرف على نساء لهن من الجمال أو العذوبة، من المكر أو السذاجة، من الشيطنة أو السمو، أكثر مما لدى بطلات الكثير من التخيلات الأدبية. وأنا القارئ الورع ودون تمييز منذ طفولتي، أحسست بنفسي منعكساً فـي تلك التقديرات بصورة مباشرة، كما لو أن الكاتب كان يفكر فـيَّ وهو يكتبها. لأنني عرفت من خلال الروايات عصف الريح بالأشرعة، وقلب الأدغال المتشابكة والرطبة، والتيارات المخادعة فـي الأنهار العملاقة، بالطريقة نفسها التي عرفت بها روائح جزر الجنوب، عندما تشرق الشمس وتمتلئ القبة النباتية بغناء الطيور. كانت كل المناظر محفورة فـي ذهني بدقة بصرية. وعندما رحت أكبر، تعرفت من خلال التخييل الأدبي على أشكال الغروب فـي عواصم العالم الكبرى، وعشت قسوة السجون السيبيرية أو عاطفة الفاتحين المتأججة. بل إنني تعرفت على ديكورات كريهة تصلح لأن تكون خلفـية قصص كوابيس تفوق فـي دقتها أي حلم، وتحولات مسوخ قريبة من المعقول كانت قراءتها أشبه بأن تعيشها حقاً. لكنني قد أكون استفضت كثيراً فـي عرض مضمون المقالين. المسألة هي أنني، بعد الإضاءة الأولى، أعدت قراءة المقالين بحماس متزايد وأحسست بالتحرر من الغموض الذي يختلط دوماً بما يستهويني. سأحاول الشرح: أدركت أني كنت يتيماً، ولم أعد كذلك فـي الوقت نفسه. أقول إنني لم أعد يتيماً أدبياً، عندما اكتشفت، بالرغم من البعاد الواضح، معاصراً بارزاً من أبناء بلدي، حساسيته تجاه جانب كبير من الأمور والبشر والأحداث تتغذى من مصادر يمكن التعرف عليها مباشرة. لهذا، كان لا بد لبيدرو بالاث من أن يصير معلمي منذ تلك اللحظة. وستصل بعد ذلك إلى يديّ، إلى أيدينا، مقالات جديدة، يبدو أن بالاث كان يواظب منذ عدة شهور على الكتابة فـي الصفحات الأدبية بتلك الجريدة، وكانت النصوص الجديدة تعزز، بل تزيد من تقديري الأولي له: لم تكن تلك الحساسية الأخوية تقتصر على الجانب الكتبي وحده، بل تستند إلى معرفة واسعة ودقيقة بالأرض والبشر والعواطف. وأؤكد لك أنني كنت أشعر بأني أسيرُ ورعِ مهتدٍ متحمس. وبالطريقة نفسها التي حدثت بها الأمور قبل ذلك اليوم فـي بار كاستريّو، كان يحتشد فـي الذاكرة مزيج مختلط من وجوه وأضواء وأشياء، ومنذ ذلك الحين أتذكر كل شيء بدقة يمكن أن تبدو مبالغاً فـيها، وكأني لم أعشه بنفسي وإنما هو مؤول من نص كتب إيماءة فإيماءة وكلمة فكلمة، بصورة غير قابلة للتبديل أو الزوال. وأحد الأشياء التي أتذكرها بهذه الدقة هي الرواية تحديداً، وأعني رواية بالاث. لقد حصلنا عليها أخيراً. وأظن أن ذلك حدث فـي الخريف. هناك توجد فصول، مناخات مختلفة على امتداد السنة. وفـي الخريف، تأخذ الأشجار بفقدان لونها الأخضر، فتصير بعض الأوراق صفراء كأنها من الذهب، ويصير بعضها الآخر ضارباً إلى الحمرة كالنحاس. كانت بعض الأمطار قد بدأت بالهطول، واخضرت المروج فـي الجبل ولمعت الألوان كلها كأنها طليت حديثاً. بعد ذلك، تبدأ الأوراق التي يبست بالسقوط، وتصبح الأغصان عارية، هاجعة، تنتظر الانبعاث الربيعي. أتذكر تماماً صورة الغلاف البارزة على خلفـية الأوراق الجافة المبعثرة على الأرض، ونحن جلوس على مقعد، ربما فـي «بابالاغيتدا» بينما نحن ندخن سيجارة. هكذا كان الغلاف: شبح أسود لشخص عابر مطأطئ الرأس على خلفـية أفق غير محدد، تحت ضوء القمر. بدأت أنا قراءتها فـي ذلك اليوم بالذات، وواصلت القراءة فـي السرير أيضاً، بافتتان متزايد. كانت ليلة هادئة، مع أنها باردة جداً. ولكنه برد حقيقي، يشبه هذا الذي تُحدثه المكيفات هنا. كانت الرواية غريبة جداً؛ سأقصها عليك لأني أظن أنها ستنال اهتمامك. فهي تصف وصفاً بالغ التفصيل ثلاثة أيام من حياة رجل كان قد هاجر إلى هذه القارة منذ زمن بعيد، ولم يحصل بعد على المال اللازم لعودته إلى أرض موطنه الأصلي وتحقيق مشاريعه القديمة فـي الرفاهية والتحسُّن. كان قد هاجر وهو فتي، وسعى جاهداً للحصول على الثروة التي تتيح له العودة كإنديانو، مثلما كان يرجع الكثيرون، بساعة ذهبية وحلية ماسية، وسيارة فارهة ومحفظة مترعة بالنقود، أو أن يأتي معه بأمه التي قد يكون ترمّلٌ مبكر قد اضطرها إلى عيش حياة عمل وفقر. ومع ذلك، فقد جافت الأمورُ الرجلَ منذ اللحظة الأولى. وفـي هذه الفترة من حياته، كان يعيش حياة بؤس كمشرف على بار يملكه ألماني. وفـي كل يوم، حين يُفقده السكر وعيه، يضطر صاحب البار إلى اقتياده حتى الفراش، فـي حجرة خلفـية، بعد أن يُبعده بمشقة عن صندوق النقود، إذ كان يحتضنه بقوة ردّ فعل محض عندما ينومه التسمم الكحولي. كان قد كفّ منذ سنوات عن الكتابة إلى بيته، كما أن سنوات طويلة قد انقضت دون أن يتلقى أخباراً من هناك. لقد قرر ألا يكون ذكرى دائمة لهم، وألا يظلوا هم ضمن ذكرياته. وهكذا انتهى به الأمر إلى عدم معرفة ما كان يحدث فـي الجانب الآخر من المحيط. لم يكن يعلم إذا ما كانت أمه لا تزال على قيد الحياة، أو إذا كانت قد توفـيت. وقد أجبر نفسه على التفكير، حتى اعتاد، فـي أن ذلك كله غير موجود ولم يوجد قط، وأنه مجرد حلم ظل عالقاً فـي ذاكرته، متنكراً على شكل ذكرى حقيقية. وفـي المدينة، بالقرب من الكوخ الذي يعيش فـيه، كانت هناك رابية، وكان شكل انحدار أحد سفوحها للوصول إلى درب يمضي أسفلها، قبالة دغل كثيف، وارتسامها على الأفق بطريقة خاصة، يذكره بالضبط ببقعة محددة من قريته. يذكره بها لأنه نقل مادي، واقعي، لا لبس فـيه، لمنظر عند مخرج القرية، فـي مواجهة الطريق العام، يستبق، عند تجاوز منعطف الدرب المحاذي لسفح الرابية، رؤية بيت أمه المتوحد والمعزول قبل بلوغ الجسر القديم. وكثيراً ما كان يقترب من ذلك المكان، وقد سيطر عليه هاجس أنه ما إن يجتاز المنعطف حتى يرى البيت العائلي. ولكنه لم يكن يتجرأ على الوصول إلى النهاية. كان يتراجع فـي كل مرة، ويتابع طريقه مقتنعاً بأن تلك الرابية لا تخفـي وراءها منظر طفولته وصباه، وإنما هي تصب فـي مكان آخر يتلاشى فـيه، فجأة، كل شبه بمكان الذكرى، وأن حقل ذرة، أو «ميلبا» كما يسمون حقل الذرة هنا، هو ما يحتل مكان البيت والجسر والنهر. لقد تقبل ذلك الإنكار مئات، بل آلاف المرات، حتى أدرك أن المنظر الوحيد هو هذا المنظر الذي يجوبه، منظر الرابية وبقع النبات وأكوام التراب القاتم، وهو منظر يتكرر تماماً دون ريب فـي الجانب الآخر من الرابية، متصلاً مع حقل الذرة الذي يهبط السفح. وأن البيت قرب الجسر لم يوجد قط إلا فـي حلم تميز بزخم خاص، لكنه يخلو من أي احتمال حقيقي. فـي بعض الأحيان، وهي قليلة جداً، يأتي مسافرون من هناك، فـيشعر هو بضيق شديد، بارتباك لا يمكن تجنبه. ارتباك يؤلمه. ولكنه يدرك بعد ذلك أن ذلك البلد الأصلي ليس إلا مجرد حلم آخر، ومرجعية غير واقعية وبلا أي دليل. وفـي النهاية، كان الجميع يذهبون، ويظل هو من جديد مع الواقع الوحيد، واقع حياته فـي عالم مفرط، حار، معتل؛ حياة مغمورة حُكم عليه أن يعيشها إلى الأبد. إلى أن جاء يوم، لدى خروجه من البيت عند الفجر، امتلكت فـيه صورة الرابية قوة استذكار انهزم أمامها تردده باتخاذ القرار، فصعد السفح ليرى الجانب الآخر. وتصل الرواية عندئذ إلى أبعاد غير متوقعة: فالذكريات، والشكوك، والحقائق اليقينية، تختلط كلها فجأة لتشكل هيكلاً مختلفاً، ويشتبك الحدث بصورة دائرية. لا أدري كيف أشرح لك الأمر: هنا بالتحديد تظهر براعة الراوي، فـي هذه النهاية التي تختم الحبكة، وتترك مع ذلك الاحتمال مفتوحاً لأن يكون للأمرين كليهما، الحلم واليقظة، القوام نفسه، ويحتلان المجال نفسه بوئام. وفـي غموضها، كانت النهاية مركّبة بطريقة بدا لي معها، وأنا أسمع دقات الساعة الخامسة فـي غرفة الطعام، أنني فهمت أن هناك فـي حل الحبكة رسالة مخصصة لي بطريقة ما، يمكن لها أن تساعدني فـي حل النهاية الخاصة لروايتي تلك، الرواية التي سأقصها عليك فـي ما بعد إذا لم يضجرك ذلك، لأن أمامنا فـي الحقيقة متسعاً من الوقت، فأنا فـي هذا العمل منذ ما يزيد على ثلاث سنوات، ويمكن لك أن تتصور مدى معرفتي بالقنوات، وكيف ينقضي الوقت فـيها. وهكذا أطفأتُ الضوء وتدثرت بين ملاءات الفراش، متنبهاً إلى أن اهتمامي بكتاب بالاث جعلني أفقد الإحساس بالبرد ومرور الساعات على السواء. لقد كانت تلك القراءة المتحمسة ذروة إحساسي بالاستقرار والثبات. لأن ذلك اليتم الذي حدثتك عنه، اليتم الأدبي ــ وإن كنت أنا أيضاً يتيماً تقريباً، تولت أمر رعايتي عمة لي لأني فقدت أمي عند ولادتي وكان أبي مقعداً ــ كان لذلك اليتم الأدبي سببه تحديداَ فـي الإحساس بالانتماء إلى مكان أبكم، بلا صوت. ما أريد قوله هو أن كل من يمارسون دور المعلمين فـي عالم الأدب، تتحدر أصولهم من أطر بعيدة عن عالمي المألوف والقريب. كنا نعرف من الكتب، ومن تعليقات الأساتذة، أنه هناك فـي مسامرات بعيدة وأسطورية، وفي أماكن مهيبة الأصداء، كان كتاب العصر يحتلون مكانتهم دون تردد، كما لو أنه لا توجد إمكانية لمغامرة أدبية أخرى مختلفة عن مغامرتهم المرسومة بالرعب مما هو محليّ والتوجه إلى كوسموبوليتية حاسمة، وإن كانوا يغلفون أنفسهم فـي أحيان كثيرة، كما فـي براقع سحرية، بالإشارة إلى أصولهم، ليُظهروا بذلك، وسط الممارسة المعهودة لكل ذلك السمو، نقاءً أصيلاً، جذرياً، يمنحهم، مثل هدية حوريات طيبات، فضيلة مكتسبة بالولادة. إنهم يتحدرون من كل الأنحاء ويتقاسمون المواهب بتوازن مميز. وهكذا كان الشماليون هم المؤتمنين على الحس الجمالي، مثلما هم كتاب أقصى الشمال الشرقي حفظة الخيال الفوار؛ ويتباهى الشماليون بفن المفارقة، مثلما يتباهى الجنوبيون بالغنائية، العذبة منها والقاسية؛ وفـي الشرق ولد سحرة الأجواء بارعة التلونات. وكأنهم دكاكين أدوات خياطة صغيرة متخصصة، لكل منهم، بالتوافق مع بلدة، الحق الحصري بنوع محدد من الدبابيس، بهذا النوع أو ذاك من الأزرار والشرائط الملونة. أما نحن مع ذلك، فلا ننتمي إلى أي من تلك الأمكنة، ومئة وخمسة أسماء من مدينتنا وقرانا لا تظهر أبداً فـي كتاباتهم. وإذا ما أقدموا على ذكرها، فإنما يفعلون ذلك بذريعة أنهم يعنون منطقة متخيلة. ومن أجل العثور على علم بارز من مواطنينا فـي دنيا الأدب، كان علينا الرجوع بعيداً إلى أسماء منسية، يعلوها الغبار، ليس لأي منها اعتبار خاص. لهذا أقول لك إن إحساسي بتوصلي إلى حياة مختلفة منذ ذلك اليوم الذي قُدمت إليّ فـيه مقالات بالاث، حياة حقيقية وواضحة، غير مكونة من فتات الذاكرة فقط، بل أضيف إليها هذه الحياة الأخرى بعثوري على مُعَلِّم. كنت أفكر فـي أنه يمكن لاتصالي بعمله أن يكون حاسماً لعملي، وإن يكن بفضل براعة ذلك السحر المعدي الذي لا بد أنه ينبعث من واقع أننا ولدنا بين الأنهار نفسها، وعند أقدام الجبال نفسها. كنت قد خرجت للتو من بار كاستريّو ذات غروب، يلفني الدخان وقرقعة أحجار الدومينو، وكانت المدينة كلها مزينة بمتدليات جليدية طويلة، بيضاء فـي الظلمة كأنها أسنان فك هائل، زينة شتاء لا يمكن تصوره هنا، بل يبدو مستحيلاً، عندئذ فكرتُ فـي الاتصال به، وطلب نصيحته لوضع حل لروايتي، ولأتلقى رأياً صائباً يوضح علاقتي الحميمة بالأدب، وبهذه المهمة الغريبة التي هي سرد القص، حيث لا يُعرف أبداً أين ينتهي التفريج عن النفس ويبدأ الإبداع؛ وليقول لي إذا ما كان التخييل الذي أكتبه، والذي يبدو أنه يكتبُ نفسه بنفسه، خارجاً من ظلمة لستُ فـيها سوى مجرد ناقل بسيط، ونابعاً من أرض تصبح مرئية شيئاً فشيئاً، وفق غرضه المنطقي الخاص ليصير حقاً، أمام دهشتي، رواية قادرة على إثارة اهتمام يتجاوز بلاهتي. ولكن، على الرغم من إنني حاولت تحديد مكان بالاث فـي البيت الذي يقال إن أبويه يعيشان فـيه، إلا أني لم أستطع العثور عليه قط. وبعد أن أرسلتُ عدة رسائل طالباً عنوانه، رسالتين منها إلى دار النشر، وأكثر من ثلاث إلى الصحيفة، لم أحصل على جواب، ولم يهتم بطلبي أحد. إلا أنه كان عليّ أن أقول لك إن ذلك الصمت لم يخمد ورعي تجاهه، فكنت أفكر وأعيد التفكير فـي حل عقدة روايته على أنه نموذج تنبؤيّ لإنهاء حل روايتي: نهاية، دون أن تكون رمزاً لأي شيء، ينبغي لها مع ذلك أن تمضي إلى ما هو أبعد من مجرد تبدلات هلوسة، وتتحول إلى طور آخر، بعيد الغور وغامض ولكنه مقنع، من بحث يكفّ، عندئذ تحديداً، عن أن تكون كذلك، ليتحول إلى الواقع الوحيد. آه، أجل، أؤكد لك أنني كنت آنذاك ما أزال فتياً جداً وأفكر، بعاطفة شديدة الزخم بقدر ما هي عابرة، فـي أنه يمكن لي أن أتوصل ذات يوم لأن أكون كاتباً.
    * * *
    ألا أُتعبك؟ لقد قلت لك، على أي حال، إنه مازالت أمامنا ساعات طويلة. لدينا الشراب والحديث، وليس بالإمكان عمل شيء آخر هنا. الثلج مازال محفوظاً بحالة جيدة، أكاد لا أصدق ذلك. سأوضح لك إذاً من هي سوسانا. عرفتُ سوسانا بطريقة غريبة جداً: يمكن التفكير فـي أن قدراً محتوماً، وإنجاز دور محدد هو ما جعلني أجتاز ساحة الكاتدرائية فـي ذلك اليوم من تشرين الثاني، إذ ما الذي يمكن لي أنا أن أذهب لأفعله هناك فوق فـي الساعة الرابعة مساء، وأراها ممسكة بعنان بغلتها قرب الرأس، وهي تحاول إجبارها على الشدّ بقوة أكبر وإخراج عجلتي العربة من بركة الوحل التي علقت فـيها. وعندما نظرتُ بعد ذلك إلى ما فـي داخل العربة، أدركتُ سبب ثقلها الكبير. فقد حمّلت سوسانا داخلها كمية من الأشياء، بعضها كبير الحجم جداً. مدفأة حديدية، وعدة تيجان أعمدة قديمة، وخزانة قاتمة ذات أدراج، وحتى تمثال نصفـي حجري يمثل شخصاً متوجاً. ساعدتها على دفع العربة إلى أن تمكنا من إخراجها من الوحل. بدأ المطر يهطل مرة أخرى، وقادت هي البهيمة حتى المدخل المقنطر. وظلت وقتاً طويلاً تنظر إلى مدخل الكاتدرائية، وكأنها نسيت وجودي. نظرت أولاً إلى الأبراج والسقف الجملوني. ثم نزلت ببصرها ونظرت إلى الأبواب. بدت كأنها تبحث عن شيء. وأخيراً بدأت المشي، اجتازت البوابة الحديدية واقتربت من تمثال لابلانكا، وظلت ساهمة أمامه. وأنا أيضاً تأملتُ برهة ابتسامة الحجر تلك. وبعد ذلك، عندما هممتُ بالانصراف، التفتت سوسانا إليّ وشكرتني بتفخيم. كانت بشرتها وردية وعيناها لامعتان، لهما لون الطحلب. وكانت تضع منديلاً كبيراً مثبتاً على رأسها بمظهر هو مزيج من مظهر بنات البلد الغجريات. قلت لها أن تأتي لتناول فنجان قهوة معي، وذهبنا إلى بار قريب هناك. أخبرتني أنها فـي رحلة حجّ إلى سانتياغو، لكنها تنوي البقاء لبعض الوقت فـي المدينة التي وصلتها للتو. إنها ترسم. هذا ما قالته، إنها ترسم، لكن تبين لي بعد ذلك أنها موسيقية كذلك، وهاوية جمع تحف قديمة. حدثتني عن رحلتها بطريقة مشوشة جداً، وبدا لي أنني فهمت، وإن يكن بصورة غير واضحة، أنها تنتظر شخصاً، أحد مواطني بلدها، يقوم بالرحلة نفسها، وقد انفصلت عنه فـي إحدى لحظات طريق الحج. بينما هي تتكلم، تناولت دون تردد كأسين من تفل عصير العنب. الحقيقة أني لا أعلم كم هو عمرها، لكني أظن أنها لم تكن قد تجاوزت الثلاثين آنذاك. كانت فرنسية، وتجوب طريق الحج فـي تلك العربة، ترسم المناظر والكنائس والناس. تحفظ بين أمتعتها دفاتر كثيرة وبعض الرسوم. وكانت تتكلم لغتنا بدقة نحوية نادرة ومفردات ضئيلة، تحجب معناها لهجتُها المشدّدة بحدة. اقتضاب جملها وخلوها من المرونة يضفي على أقوالها وقعاً غريباً كأنه صادر عن غراموفون. لنرَ إن كنت تفهمني: إنها رنَّة معدنية، رنَّة صوت مستنسخ. وسأعود لرؤيتها بعد يومين من ذلك، أمام البلدية. صوتها ذاك ناداني بقوة، ورأيتها تقبل وسط جلبة حمائم، بينما هي تجتاز الشارع بخطى واسعة. عانقتني كما لو كنا صديقين حميمين لم نلتق منذ زمن بعيد، تشبثت بذراعي وبدأت تتمشى معي من جانب إلى آخر فـي الساحة الصغيرة. كانت أطول قامة مني قليلاً. وقالت لي إنها استقرت فـي مكان، فوق الكروثيرو. وإنها بدأت ترسم لوحة كبيرة. وإن المدينة تروقها. والحقيقة أنها مدينة جميلة، ولكنك ستقول: ماذا عساي أقول غير ذلك، وأنا من هناك. المسألة أنني، فـي ذلك المساء، كنتُ مستعجلاً جداً وانصرفت فـي الحال. وبعد ذلك انقضى الشتاء ولم أعد لرؤيتها. وعلى الرغم من أن هذه واحدة من فجوات ذاكرتي، إلا أنني أظن أني قد نسيتها تماماً. ولكني لا أستطيع تأكيد ذلك، ولنقل إن الزمن مضى، ولا بد أنه كان أواخر شهر شباط عندما التقينا من جديد، ولست أتذكر أيضاً ما الذي كنت أفعله فـي ساحة الكاتدرائية فـي ذلك الوقت من الصباح. عانقتني مرة أخرى. أسندت رأسها إلى رأسي فـي إشارة إلى ثقة حانية بلبلتني، وكما لو أننا كنا قد التقينا فـي اليوم السابق، راحت تتوسع بالمعلومات التي قدمتها لي قبل شهور. لقد استقرت فـي مكان إقامة. وتقول إنه مكان فسيح جداً. وتقول إنها ترسم لوحة كبيرة، وإنها تقدمت فـيها كثيراً. وتوصلت كذلك إلى الحصول على فرصة إعطاء بعض دروس العزف على البيانو واللغة الفرنسية، كي تساعدها فـي موازنة حساباتها. وكان أن فهمت عندئذ أنها أستاذة نونيا. سأشرح لك جيداً فـي ما بعد من هي نونيا، تلك الفتاة التي عدت للقاء بها بعد سنوات طويلة. والمسألة أنني لم أقل شيئاً آنذاك. كنتُ أتأمل وجه الصبية الكبيرة، وشفتيها الممتلئتين، وقد تشققتا قليلاً من البرد، وتجعدات جبهتها الدقيقة، وعينيها اللتين بلون عشب قاتم. لم تكن تضع منديلاً وكان شعرها يلتف فـي موجات كبيرة سميكة. وبالحميمية نفسها التي حيّتني بها، دعتني للتعرف على مسكنها الجديد فـي ذلك المساء. وقد ذهبت. صعدت حين كان الوقت نهاراً، حوالي الساعة الخامسة، تحت شمس شاحبة لم تستطع إذابة الجليد. كان البيت بعيداً جداً عن كروثيرو، بعد مطعم البرايسو، فـي وسط تروباخو. لم تكن هناك غُرف، وإنما هي أقرب إلى سلسلة حجرات بلا أبواب، وبأرضية تكسر استواءها درجات مفاجئة. وفـي الحجرة الخلفـية، وضعت سوسانا البغلة. كانت رائحة الإسطبل، وكومة التبن الكبيرة على البلاط، وذلك المغسل الحجري الذي يستعمل كمعلف أحياناً، تضفـي على الحجرة مظهراً فريداً، فـي توليفة شاذة. وكانت الحجرة تؤدي إلى باحة ضيقة، فـي جدارها الخلفـي باب كبير. كانت سوسانا تشغل الحجرة الأمامية. ولا بد أن البيت كان فـي السابق مخبزاً، إذ كان هناك فـي الجدار المقابل لبوابة المدخل فرن كبير، حين فتحت بابه هبّ منه هواء بارد، ورائحة سِناج عفن. وكانت سوسانا قد بعثرت أمتعتها فـي الحجرة. وفـي منتصفها بدت المدفأة معلّقة بأنبوب الدخان الأسود المثبت بصورة سيئة بحبال وأسلاك، ليخرج طرفه إلى الشارع من إحدى الفتحات العليا فـي النافذة التي استُبدل زجاجها بكرة من الخيش. كان الفحم يتأجج فـي المدفأة، وفوقها إناء فـيه ماء يغلي. وإلى أحد جانبي الفرن، سرير صغير مغطى بأقمشة وأغطية. وفـي الجانب الآخر، ركّبت سوسانا من دفة الفرن وقائمتين خشبيتين كبيرتين حاملاً للوحات استقرت فوقه قطعة قماش كبيرة مشدودة على إطار، تُلطَّخ سطحها الأبيض خطوط أولية ناعمة وغير مفهومة. تلك هي، كما يبدو، اللوحة التي تتحدث عنها بسعادة. أرتني بعد ذلك أعمالها: إنها تحتفظ فـي الدفاتر وفـي محافظ كبيرة برسوم أولية عديدة لكنائس، ومذابح، وأعمدة، وأبراج أجراس، وعربات، وجسور، وبيوت ريفـية، وهيئات ووجوه بشرية. رسوم مشغولة ببراعة، وإن كان فـيها جميعاً خلل ضئيل فـي النسب، وخراقة غريبة تحني السقوف، وتقوض المنظور، وتشوه حجوم الأبنية، وتتلاعب بتوازن ملامح الوجوه. وكانت الرسوم الزيتية القليلة تمثّل مناظر طبيعية، لكن ألوانها باهتة جداً، شبه رمادية، تستوحي عزلات ضبابية. جلسنا على السرير وبدأنا نأكل جوزاً. كان لدى سوسانا، معلقاً على رف، زق جلدي كبير مملوء بنبيذ الهضاب. فكنا نكسر الجوز على الأرض، ونشرب النبيذ دون أن نتكلم، بحركات متزامنة ومتماثلة. انفجرت هي فـي الضحك.
    ــ يا لنا من أبكمين.
    هذا ما قالته. ولا بد أنها أرادت أن تقول: يا لنا من صامتين، أو شيئاً من هذا القبيل. كانت أصابعها مصبوغة بحبر صيني، بقع قديمة منه تظهر بوضوح على بياض البشرة. كان الوقت قد صار ليلاً، ولكننا واصلنا الشرب. وكنا قد فتحنا لفافة لحم مقدد جلبتها معي، وصارت أمامنا فـي نصفـين. سألتها عن صديقها الذي يبدو أنها بانتظاره، وأدركتُ بشيء من المهانة، أجل، وبقليل من الضيق، ذلك أن تحفُّظها مؤشر إلى سرّ لا تريد نقله إليّ، ولم أكن بدوري مهتماً بكشفه، أقسم على ذلك، فما الذي كان تعنيني آنذاك حياتها، لاسيما وأن معلوماتها لي مذ تعارفنا، وهي الأساس الوحيد لأسئلتي، لم تكن أكثر من عناصر حديث عابر، كإشاراتها إلى بلدها الأصلي، أو إلى مهنتها، أو الوجهة النهائية لرحلتها، أو طبيعة الرحلة نفسها، أو اسم بغلتها. وبالتالي، انحرفت بأسئلتي إلى اتجاهات أخرى، وأبديت اهتمامي برسومها. عندئذ قالت لي إنها وصلت إلى الرسم متأخرة؛ وأن تكوينها الفني الحقيقي كان موسيقياً منذ الطفولة. ونهضت من فورها وأخرجت من خُرج آلة ثامبونيا، وهي أداة موسيقية قديمة، تشبه كماناً غريب الشكل، ولها ذراع تدوير، وصلت إليها توارثاً من بيت أسلافها، وبدأت تعزف لحناً له مذاق قديم وتدندن بأغنية مفعمة بالأسى. ووسط فرقعة النار فـي المدفأة، والظلال التي تتكاثف وراء الأشياء المتنافرة فـي أركان وزوايا تلك الحجرة غير المتناسقة، أثر خفـيف من دخان يساعد على إخفاء كل شيء بضباب كثيف. وقد فكرت فـي أنه يبدو طافـياً فـي نظرتي نفسها: كما لو أن ذلك كله، ونحن نفسينا، لسنا سوى صورة فـي ذهنٍ آخر، وأن الموسيقى والأغنية مجبران على التواجد أيضاً فـي مخيلة غريبة، كي يكتسب كل شيء ــ ولستُ أدري إذا ما كنت تفهمني ــ بُعداً من النأي والضياع. وحين أنهت الأغنية، اقترحتُ أن نزيح عن نفسينا الكآبة المتنامية، وتمكنتُ أخيراً من استعادة هناء الساعات الأولى الحميم. الحقيقة أننا شربنا كثيراً، ولم أكن معتاداً على الشرب بكثرة. عندما دوى صفـير قطار أستورياس السريع، كنا متعانقين ونتبادل القبلات. أقول لك هذا بكل هدوء. وبعد قليل، ملأتُ المدفأة فحماً، واندسسنا عاريين معاً تحت اللحاف. قد تتساءل لماذا أقول لك كل هذا، سأخبرك بذلك: لسوسانا جسد طويل وأبيض، وكتفان يغطيهما نمش دقيق جداً، وكثيف مثل شال رقيق، ولنهديها حلمتان كبيرتان كأنهما حبتا كرز، وعلى عانتها شعر غزير بلون شجر الماهاغوني. وعندما نامت، ظللتُ أتأمل وجهها باستمتاع. كان بريق المدفأة يجعل شعرها ذهبياً، ويبسط على خديها تموجات برتقالية متوالية. ولكنها لم تكن نائمة. وبدأت تتكلم بصوت غير مفهوم تقريباً، بصوت بدا فـي البدء كأنه آت من بعيد، من خارج الحجرة. كانت تتكلم عن مدن بعيدة دون أن تذكر اسمها، تحددها من خلال لون بعض الجدران، وانعكاس ضوء المساء على الزجاج، وانكسار شارع منحدر، وبريق الحجارة المرصوفة. كانت تعدد كنائس ومباني عامة، وقلاعاً، ودور بلديات. وتذكر وجوهاً قابلتها، وأيدياي تحيي عند المرور، وخسارة رفاق سفر. كانت قد اجتازت عواصف وأيام شمس مشرقة، وثلوجاً وبَرَداً، وضباباً من كل الأنواع. وكأن رحلات حجها قد بدأت قبل زمن طويل، فـي ماض ناءٍ غير محدد لشدة قِدمه، وقد اندمج فـي جوهر الأيام المتوالية التي راحت تذوب فـيه حتى شكلت مشهداً لا زمنياً، يُعرض بنعومة اللامبالاة نفسها والتلون الباهت للسجاجيد العتيقة. كنتُ أستمع إليها مذهولاً، يملؤني تراخي الخمول. عندئذ اشتعل فـي الحائط المقابل ضوء أبيض ودائري، كأن نافذة مستديرة أخرى، كأن كوة مفاجئة قد انفتحت فـي الجدار. صمتت سوسانا ورحنا نتأملها بصمت.
    ــ إنه القمر ــ دمدمت ــ إنه يرتفع فوق القفر، خلف الفناء.
    لاحظ كيف ذلك: انعكاس القمر الوليد فـي مرآة الجدار كان نتيجة مصادفة ثغرات واصطفاف عرضي مثيرة، مجرد وهم، أحدثته آلية ما. وحضرتك تدرك أن تلك الليلة كانت بالنسبة إليّ أشبه بسفر فـي فضاءات لا يمكن لمداها وأبعادها أن تقتصر على حسابات الساعة أو التقويم. تلك المدن المستحضر ذكرها، وتلك الأزقة التي تصب فـي ساحة مضاءة أو تصل إلى ضفة تيار قاتم، والوجوه التي تراقب من شقّ ستارة، ومفترقات الدروب وذرى الجبال الموصوفة فـي ذلك الخليط، لا يمكن لها كلها أن تكون قد تواجدت معاً بهذه الطريقة فـي حياة فردية. لقد كان لكلمات سوسانا تلك صدى شهادة تشمل مئات السنين. ففـي لحظات معينة، تذكرت جثثاً محاطة بطيور العقعق، ويوماً ضبابياً فـي فناء قلعة محترقة. وتحدثت عن رماح وسيوف ونبال.
    ــ لكن، متى كان ذاك، عمَّ تتكلمين؟ ــ سألتها.
    لمع فـي عينيها الخضراوين بريق المدفأة. وارتعشت كأنها أُصيبت بقشعريرة، وتنهدت.
    ــ من يدري ــ أجابت.
    وفـي أثناء ذلك كان القمر قد اجتاز المرآة ببطء، إلى أن اختفى. وكان فحم المدفأة قد استُنفد تقريباً، ولم يعد بإمكان وميض الجمر الضعيف الوصول إلى أبعد من عشه، كان يزداد خفوتاً بفعل الظلام. ظللنا مستيقظين، دون كلام، بقية الليل. وعلى الرغم من اللحاف، كان البرد يشتد، وكنتُ أتحمله على جسدي مثلما نتقبل مداعبة حزينة. ومع الفجر، عندما بدأت ضجة الشوارع، نهضتُ وارتديت ملابسي دون أن أنظر إليها. وكنت أمضي باتجاه الكروثيرو ويداي فـي جيبي، خائفاً، بمحاذاة صف أشجار الحور الأسود العارية، بينما أنا أفكر فـيها بمزيج من الرغبة والخوف، وصممتُ على أمرين بالإصرار نفسه: أن أبتعد عنها نهائياً، وأن أعود لرؤيتها فـي تلك الليلة بالذات. ألم يحدث لكَ شيء مماثل؟ أما بشأن نونيا، فلم أبحث عنها، ولم أعد أتصل بها منذ ذلك الحين. وأعترفُ بأني أسأت التصرف معها. انقضت أيام كثيرة، وأرغمت نفسي على حفظ ذكراها فـي أحد أدراج الوعي المغلقة. ولهذا كنت بحاجة إلى أن أكلمها، بعد انقضاء كل تلك السنوات الطويلة. ولكنني لا أريد أن أستبق الأحداث. الواقع أن تلك الفرنسية فتنتني، لا أعرف إن كنتَ تفهمني، لقد سحرتني كما يقال.
    * * *
    ذكرياتي عنها دقيقة جداً. وتحضرني الآن بالذات ذكرى أخرى، وهي صورة أيضاً قبل أي شيء، زخرفة صغيرة، أو صورة مسطحة؛ مثل رسم قصة مصورة: سوسانا عند النافذة، واقفة أمام حامل اللوحات، توجه ضربات فرشاة إلى اللوحة القماشية، وأنا جالس على كرسي صغير، عند عتبة الباب المفتوح بالضبط، أراجع دروسي. إنها عشيّة امتحان، واليوم مشرق فـي أوائل حزيران. وفجأة أخرج من دراستي، وأصوغ تأكيداً يرتبط بتأكيد آخر صغته منذ قليل، أو أمس، أو قبل أيام عدة: إنني أشير بكل تأكيد إلى روايتي التي لم تقرأها، فهي تقول إنها لا تستطيع فهم هذه اللغة عند قراءتها، لكني رويتها لها بكل تفصيل، دون أن يبدو عليها كبير اهتمام. تدير وجهها نحوي، وتسألني بصعوبة، كما لو أنها تلفظ كلمات عصية على النطق:
    ــ أهي منظور رباعي الوجوه؟
    عليَّ أن ألح على أني كنت فتياً جداً، ولهذا كنت مفعماً بجهل ساذج وجريء فـي الوقت نفسه، بحيث إني لم أكتب رواية وحسب، بل كانت لدي نظرية حولها أيضاً. كنت قد أنهيت فـي العام السابق قراءة كتّاب القرن التاسع عشر الطبيعيين فـي المكتبة العامة المحلية، وقد أعطوني روايتين أو ثلاث روايات غريبة، تعتمد آلية شديدة التداخل، معقدة، كثيرة المسننات المتشابكة، كما لو أنها تزعم العمل بصورة آلية. وأردت أن أضبط روايتي وفق تلك التقنيات، وأن أصوغ نظرية. وحسب تلك النظرية، كان كتابي يتوافق مع مخطط رباعي الوجوه. وأنا أيضاً يتلعثم لساني حين أقول: رباعي الوجوه. لابد أن السبب هو هذا الحر الذي يورِّم لساني. سأشرح لك الأمر، وسأروي لك فـي أثناء ذلك حبكة الرواية. وإن يكن بصورة عامة فقط. أحد جوانب رباعي الوجوه، وهو الذي يشكل القاعدة تحديداً، هو مكان وقوع الأحداث، حيث أنشأتُ مجالاً جغرافـياً هو فـي الواقع وادي أجدادي، بالرغم من أنني زينته بكل أنواع المباني الغامضة، وبقلاع، وأنهار عريضة، ونصب، وغابات من اختراعي. هذه ستكون قاعدة رباعي الوجوه: مكان وقع فـيه غزو ذات مرة. وقد كانت مسألة الغزو تلك بالغة الأهمية فـي رأيي، مع أنها لم تكن واضحة، بل إنني تجنبت توضيح إذا ما كان الغزو بشرياً أو حيوانياً، وهل هو جائحة حشرات أو تعاظم كثافة نباتية منفلتة، لأني أنا نفسي لم أكن أعرف ذلك؛ ربما كان غزواً بشرياً بالفعل، هزيمة ما، الذكريات الغائمة مقنّعه بقناع كارثة، بقضاء وقدر أرضي. وعلى كل حال، كان ذلك المكان الذي أعلم أنا وحدي أنه تعرض للغزو، يشكل مسرح الأحداث، وأحد جوانب رباعي الوجوه. أما الوجوه الثلاثة الأخرى فـيشكلها ثلاثة أشخاص: مسافر عائد إلى بيته وهو لا يعلم بالغزو، وشخص ينتظر وصولاً، أو يخشى مغادرة، وثالث يحاول الهرب من الأراضي المغزوّة. إنها فـي الواقع ثلاث قصص مستقلة وغريبة كل منها عن الأخريين فـي الظاهر، لكني حاولت أن أوجد فـي ما بينها صلة دنيا، غير أنها علاقة لا غنى عنها، بالطريقة نفسها التي ترتبط بها سطوح رباعي الوجوه عند تقاطعها فـي زواياه، مع أن كل منها يواجه توجهاً مختلفاً بحيث لا يمكن لأي من الثلاثة أن يعكس المشهد نفسه، إذا كانت من مادة يمكن لها أن تعكس ما حولها، أن تعكس عالم عرضها الخاص. لكن القصص الثلاث المختلفة تلتقي فـي النهاية، كما لو أن الشخصيات تصل إلى زاوية التطابق، والجوانب الأربعة، وقد تفكك المجسم، تنبسط فـي مستوى وحيد مثلما كانت فـي قطعة الكرتون التي تشكلها قبل قصها ولصق طياتها الصغيرة لمنحها شكلها وحجمها. بهذه العناصر كلّها تتطور الرواية، إلى أن يكون هناك غزو جديد، يحدث دون شك ــ وإن بدا أنه الغزو نفسه يُعاش من جديد ولا يعلم به إلا المؤلف وحده ــ، ويُغلق الدائرة ليكون المسافر الذي يعود هو المسافر الذي يهرب مذعوراً، والمسافر الذي يهرب هو المسافر الذي يعود إلى البيت مفعماً بالأمل، والشخص الذي يبقى، لا ينتظر ولا يتذكر. لكن، لا تقلق، فأنا أتخلى عن شرح ذلك، مثلما تخليت عنه مع سوسانا. وقلت لها أيضاً إنه مجرد تفسير شخصي جداً، وليس له أية أهمية. فقد كان المهم فـي نظري هو كيف يتوحد سلوك الشخصيات. ولم تُبدِ هي فـي الحقيقة أي اعتراض، لكنها لم تسألني عن أي شيء أيضاً. مدّت ضربة فرشاة طويلة، وبعد أن رفعت بصرها ولاقته بعيني الثابتتين على وجهها، كلمتني ببطء أيضاً:
    ــ ركّز. ادرس. وإلا سقَّطوك.
    كنا هناك نسمي الرسوب، عدم النجاح، سقوطاً. ويا للوضوح الذي أعود الآن لرؤيتها به: هي واقفة قرب النافذة، وأنا جالس فـي العتبة. فـي مساء صيفـي. ومع ذلك، بدلاً من الاستمتاع بذلك الهدوء وتلك السعادة، كنت أتلهف بقوة آنذاك إلى محاورٍ قادر على فهم روايتي حقاً، ويمكن له مساعدتي فـي التوصل إلى حل لها: كنت أفكر فـي بالاث. وبالرغم من أن الزمن قد اختلط كثيراً، بحيث لم أعد أعرف إذا ما كانت لدي أخبار عن بالاث قبل التعرف على سوسانا، أو أن الأمرين حدثا فـي يومين متتاليين ــ فـي ذلك الحين، فلنر، كنت أحمل القصاصات فـي جيبي بينما أنا أساعدها فـي دفع العربة ــ لقد كانت لدي آنذاك، على ما أظن، معرفة طويلة ببالاث. كنت أعرف مقالاته عن ظهر قلب، وكنت قد قرأت روايته مرتين، بل إنني كنت قد فقدت أي أمل فـي أن تردّ الصحيفة ودار النشر على رسائلي تلك التي طلبت فـيها عنوانه. كنت أفكر فـي بالاث وأحدث سوسانا عنه. وكانت سوسانا أيضاً تبدي اهتماماً ببيدرو بالاث. وكانت ترى أنه لا يمكن إلا فـي بلد مثل هذا أن يكون هناك رجل معروف فـي الخارج بينما هو مجهول لدى مواطنيه. وعندما علمت برغبتي فـي الاتصال به، وأنني أنتظر دون طائل الحصول على عنوانه، نظرت إليّ باستغراب، بعينين مذهولتين، بريئتين. هكذا:
    ــ ألم يردوا عليك؟ لماذا؟
    لابد أنني هززت كتفـي. لقد ذهبت عدة مرات إلى البيت الذي يقال إن أبويه يعيشان فـيه، بل إنني تركت له رسالة، لكن أصحاب البيت كانوا غائبين دائماً. أما الصحيفة ودار النشر فقد التزمتا الصمت المطبق. كانت معظم الامتحانات قد انتهت. وكان مساء يوم آخر، وكانت طيور الخطف توشي الشارع بزعيقها الحاد، بعد صخبها تحت أفاريز البناء حيث تصطف أعشاشها فـي صفوف مزدحمة. يمكن لي أن أقول أي شيء، لكن سوسانا أكدت أنه عليها الذهاب إلى مدريد لمقابلة بعض تجار الأثاث والأشياء القديمة. وأنها تريد التعرف أيضاً على العاصمة. وستكون فرصة ملائمة لأقوم مباشرة بتحرياتي عن بالاث، بعد أن أنهي امتحاناتي. وأقول بثقة تامة، وبصورة حاسمة، أنني حصلت قبل ظهور النتائج على بعض المال وعلى إذنٍ من عمي، وذهبت معها إلى مدريد. خرجنا فـي فجر يوم من أيام أول أسبوع فـي تموز. لقد غامت ذكرى الرحلة أيضاً من ذاكرتي بعد وميض مفاجئ من توليفة، فورية، تراكبت فـيها غابات أشجار حور أسود وتلال، سهول مغرة طويلة، قعقعة القطار الإيقاعية، البواشق المحومة فـي الظهيرة تحت سماء مفعمة بالضوء، نتف صور، بقايا معطيات بيانية، ذاكرة غير مترابطة، وأول الصور المدريدية، تظهر وتتلاشى كذلك بصورة مفاجئة: غير أنني أرى وراء هذه الذكريات المختلطة، بالوضوح الذي أرى فـيه وجهك، وجه الشاب الذي يضع نظارة مدورة ويرتدي قميصاً صارخ اللون، وعلى الرغم من أنه فـي مثل سني، إلا أنه عاملنا بحذر متحسب، وقد قدم لنا، فـي دار النشر، أول الأخبار عن بالاث. كنا قد ذهبنا كذلك إلى الصحيفة التي يبدو أن اليوم الصيفـي الحار قد أبقاها فـي حالة شلل خاص، ولم يستطع أحد فـيها إفادتنا: فمسؤول الصفحات الأدبية لم يكن موجوداً، وكذلك رئيس التحرير. وكان رجل يضع مئزراً رمادياً، له صوت خفـيف ذو رنة غريبة، قد حاول أن يجردنا شيئاً فشيئاً من أي أمل. لكن ذلك الشاب كان مختلفاً.
    ــ بيدرو بالاث؟ ــ سأل؟
    ــ أجل ــ أجبته، وناولته الكتاب.
    تصفح الكتاب دون رغبة.
    ــ انتظر قليلاً.
    نهض واختفى وراء الباب الزجاجي. كانت النافذة تطل على فناء مجاور، تنساب منه بعض البرودة. وكانت هناك امرأة تغني ملء رئتيها، ومع أن غناءها لم يكن جيدا، إلا أن الأغنية كانت تعانق هواء الصباح المضيء، مُدخلة نوعاً من التفاؤل. عاد الشاب ذو القميص الأحمر بعد قليل وفـي يده ورقة.
    ــ لماذا تهتمان به هذا الاهتمام؟
    خجلتُ من الشرح له، لكن سوسانا تدخّلت، مشيرة إليّ، وقالت بنبرة صوتها المعدنية إنني أنوي كتابة دراسة. جلس الشاب ثانية. وكانت تطل من جيب قميصه الأعلى جوزة غليون تشوه قماش القميص.
    ــ دراسة؟
    كان يتكلم بصوت واضح الشرود. لكنه أضاف على الفور إنهم لا يعرفون عنوان بيدرو بالاث.
    ــ تحدثا إلى ابن عمه. إنه ممثله الشخصي. سجلا عنوانه.
    عندما خرجنا من دار النشر، كان موعد الغداء قد حل، فذهبنا إلى مكان رخيص. كانت الشمس تسطع فـي الجانب الآخر من زجاج المحل، فـي الشارع المقفر. وبعد حديث طويل عقب تناول الطعام، ودّعتُ سوسانا التي مازال عليها القيام ببعض الزيارات، وبحثتُ عن ذلك العنوان. كان ابن عم بالاث يدعى أناستاسيو مارثان.
    * * *
    كان مارثان يعيش فـي بيت كبير وقديم، على مقربة من الساحة الكبرى. هرّ أسود، له وبر لامع وعينان صفراويان، كان يتفحصني من أحد الأركان، بينما الخادمة التي فتحت الباب بزيها الرسمي، وبعد أن عرفت ما أريده، ابتعدت بصمت وتركتني وحيداً فـي تلك الردهة. كانت هناك فوق خزانة مكتبة، ساعة كبيرة تمثل ملائكة يتشبثون بوبر تيس وتطلق تكتكة متعجلة. دمدمة همسات ووقع خطوات خفـيفة سبقت دخول مارثان. كان رجلاً طويلاً، بشعر قاتم وشارب كبير شائك كنبتة عليق. له عينان صافـيتان ونظرة زائغة قليلاً، وسط تكشيرة لا يُعرف إن كانت ضحكاً أم دهشة. أدخلني إلى قاعة فـيها كثير من الكتب واللوحات، ودعاني إلى فنجان قهوة. وقبالة النافذة، كان يلمع سطح بيانو أسود ضخم. وبصوته المعتدل، تحدث مارثان كثيراً عن نفسه طوال المساء. وقد بالغ فـي ذلك حتى بدا لي أخيراً أن تلك المعلومات ليست مجرد إضافة عفوية على لطفه، وإنما اعتذار ذكي عن عيب خفـي. وهكذا علمت أنه محامٍ، لكنه لا يمارس المهنة. وأنه مولع جداً بالموسيقى، ويعزف على عدة آلات موسيقية. وأنه استقر فـي مدريد بعد سنوات طويلة من التجوال فـي العالم.
    ــ فـي بعض الأحيان، وحتى الآن، أترك كل شيء وأمضي لأجوب الدروب، حاملاً جعبتي وسكيني متعدد الاستعمالات. ولا فرق فـي أن أجد نفسي فـي أومانويلا أو فـي نيبال.
    يبدو أن لديه، منذ سنوات، إيراداً يتيح له أن يعيش براحة. ويعتبر نفسه مرتبطاً جداً بمسقط رأسه الذي يرجع إليه بصورة دورية. كان الوقت قد صار عصراً عندما قال لي متلعثماً، بطريقة غامضة، وبخجل تقريباً،إنه هو أيضاً خاض مغامرات أدبية: نشر كتاب أشعار وكتاب قصص، وعدة مقالات أدبية فـي الصحافة. غير أن تصريحاته لم تظهر إلا فـي الساعات الأخيرة. لكني لن أستبق هذه المفاجأة. اصبر حضرتك، وسترى.
    ــ أما نحن، هناك، فملأنا بالكبرياء.
    هذا ما كنت أقوله تقريباً، موضحاً له حماستي كباحث عن بيدرو بالاث. وكنت أؤكدّ له أن خبر وجوده كان بالنسبة إلي كشفاً، وحافزاً. كنت أشكو عدم اهتمام الصحفـيين والناشرين الذين تجاهلوا رسائلي. وكان مارثان يستمع إليّ بلطف، لكني رحت أدرك على امتداد المساء أنه غير مهتم بالحديث عن بيدرو بالاث. بل كان طوال الوقت، بكثير من التكتم فـي البدء، وبصورة سافرة بعد ذلك، يوجه الحديث نحو موضوعات أخرى: موطننا المشترك، ميولي الأدبية، حياته الخاصة. وكان ذلك يثير فـي نفسي، أول الأمر، تقديراً خاصاً نحوه، لما اعتبرته بساطة خاصة فـي طبعه ــ نوع من تجنب الزهو بعدم الإثقال عليّ بكشف علاقته الحميمة بالمعلم ــ وقد بدا لي ذلك فـي نهاية الأمر مبالغاً فـيه، بل مثيراً للريبة أيضاً.
    ــ وماذا عن بالاث: هل هو متزوج؟ هل لديه رفـيقة؟ هل هو متوحد؟ بدا أن فـي طبعه كرهاً للنساء ــ ربما قلتُ ذلك.
    ــ أنا مثلاً، عازب متوحد، ومع ذلك لا وجود فـي شخصيتي لذرة واحدة من كراهية النساء ــ ردّ عليّ.
    وكما يمكن لحضرتك أن ترى، كان يتجنب الحديث فـي موضوعات اهتمامي بصورة صريحة ومباشرة. ولكنك سترى إلى أين انتهى الأمر. دعاني لتناول وجبة خفـيفة عند العصر، وجلس إلى البيانو وعزف هنيهة بتفخيم كبير. كانت هناك على الرفوف مئات الكتب. ثم واصل بعد ذلك البوح لي بمناجاة التي لم أدرك الهدف منها. كان قد جمع معلومات كثيرة عن نهاية مهنة البغّالين من أجل أطروحة لم يبدأها قط. فعندما ورث بعض الأراضي، اختار أن يبيعها ويستثمر ثمنها فـي قطاع الأغذية والنقل. كان يحب الأدب والموسيقى والرسم. والتمكن من الاستمتاع بهدوء بهذه المتع هو كل ما يأمله من الحياة. كان يفتح عينيه قليلاً ويقول جملة وقورة، ذات وقع مضحك بعض ا
    avatar
    hazem


    عدد المساهمات : 13
    نقاط : 13
    السٌّمعَة : 5
    تاريخ التسجيل : 15/12/2009

    الضفة المظلمة 4 Empty رد: الضفة المظلمة 4

    مُساهمة  hazem الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 10:04 am

    انا شاكرررررررررررررررررررررررررررررررررررر

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة نوفمبر 22, 2024 1:48 pm