قال: فنظر إلي مخارق نظرا شزرا وعض شفته علي؛ فلما خرجنا من بين يدي الواثق قلت: يا أستاذ، لم نظرت إلي ذلك النظر? أ أنكرت علي شيئا أم أخطأت في غنائي? فقال لي: ويحك أتدري أي صوت غنيت إن إسحاق جعل صيحة هذا الصوت بمنزلة طريق ضيق وعر صعب المرتقى، أحد جانبي ذلك الطريق حرف الجبل، وعن جانبه الآخر الوادي؛ فإن مال مرتقيه عن محجته إلى جانب الوادي هوى، وإن مال إلى الجانب الآخر نطحه حرف الجبل فتكسر؛ صر إلي غدا حتى أصححه لك.
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدثت من غير وجه: أن إسحاق بات ليلة عند المعتصم وهو أمير، فسمع لحنا لعبد الوهاب المؤذن أذن به على باب المعتصم، فأصغى إليه فأعجبه، فأعاد المبيت ليلة أخرى عنده حتى استقام له اللحن؛ فبنى عليه لحنه:
هزئت أسماء منى وقالت أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي: أن إبراهيم بن المهدي فصد يوما، فكتب إليه إسحاق يتعرف خبره ويدعو له بالسلامة وحسن العقبى، وكتب إليه: إني سأهدي إليك هدية للفصد حسنة؛ فوجه إليه بديحا غلامه، فغناه لحنه في:
هزئت أسماء منى وقالت فاستحسنه إبراهيم وقال له: قد قبلنا الهدية، فإن كان أن لك في طرحه على الجواري فافعل؛ فقال له: بذلك أمرني، وقال لي: إنك ستقول لي هذا القول، فقال: إن قاله لك فقل له: لو لم آمرك بطرحه لم يكن هدية؛ فضحك إبراهيم، وألقاه بديح على جواريه. وقد ذكر علي بن محمد بن نصر هذا الخبر، فذكر أنه كتب إلى أبيه بهذه الهدية؛ وهذا خطأ، لأن الشعر في تهنئة المعتصم بالخلافة، وإبراهيم الموصلي مات في حياة الرشيد، فكيف يهدى إليه هذا الصوت.
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبي قال حدثني أحمد بن أبي العلاء قال: اندفع محمد بن الحارث بن بسخنر يوما يغني هذا الصوت؛ فالتفت إلينا مخارق فقال: خرج ابن الزانية.
حدثني عمي قال حدثني أبو جعفر محمد بن الدهقانة النديم قال حدثني أحمد بن يحيى المكي قال: دعاني الفضل بن الربيع ودعا علويه ومخارقا، وذلك في أيام المأمون بعد رجوعه ورضاه عنه إلا أن حاله كانت ناقصة متضعضعة؛ فلما اجتمعنا عنده كتب إلى إسحاق الموصلي يسأله أن يصير إليه ويعلمه الحال في اجتماعنا عنده؛ فكتب إليهم: لا تنتظروني بالأكل فقد أكلت، وأنا أصير إليكم بعد ساعة؛ فأكلنا وجلسنا نشرب حتى قرب العصر، ثم وافى إسحاق فجلس، وجاء غلامه بقطرميز نبيذ فوضعه ناحية، وأمر صاحب الشراب بإسقائه منه، وكان علويه يغني الفضل بن الربيع في لحن لسياط اقترحه الفضل عليه وأعجبه، وهو:
فإن تعجبي أو تبصري الدهر طمني بأحداثه طم المقصص بالـجـلـم
فقد أترك الأصياف تندى رحالهـم وأكرمهم بالمحض والتامك السنـم
صفحة : 576
ولحنه من الثقيل الثاني - فقال له إسحاق: أخطأت يا أبا الحسن في أداء هذا الصوت، وأنا أصلحه لك؛ فجن علويه واغتاظ وقامت قيامته؛ ثم أقبل على علويه فقال له: يا حبيبي، ما أردت الوضع منك بما قلته لك، وإنما أردت تهذيبك وتقويمك، لأنك منسوب الصواب والخطأ إلى أبي وإلي، فإن كرهت ذلك تركتك وقلت لك: أحسنت وأجملت؛ فقال له علويه: والله ما هذا أردت، ولا أردت إلا ما لا تتركه أبدا من سوء عشرتك أخبرني عنك حين تجيء هذا الوقت لما دعاك الأمير وعرفك أنه قد نشط للاصطباح: ما حملك على الترفع عن مباكرته وخدمته مع صنائعه عندك، وما كان ينبغي أن يشغلك عنه شيء إلا الخليفة ثم تجيئه ومعك قطرميز نبيل ترفعا عن شرابه كما ترفعت عن طعامه ومجالسته إلا كما تشتهي وحين تنشط، كما تفعل الأكفاء، بل تزيد على فعل الأكفاء؛ ثم تعمد إلى صوت قد اشتهاه واقترحه وسمعه جميع من حضر فما عابه منهم أحد فتعيبه ليتم تنغيصك إياه لذته؛ أما والله لو الفضل بن يحيى أو أخوه جعفر دعاك إلى مثل ما دعاك إليه الأمير، بل بعض أتباعهم، لبادرن وباكرت وما تأخرت ولا اعتذرت؛ قال: فأمسك الفضل عن الجواب إعجابا بما خاطب به علويه إسحاق؛ فقال له إسحاق: أما ما ذكرته من تأخري عنه إلى الوقت الذي حضرت فيه، فهو يعلم أني لا أتأخر عنه إلا بعائق قاطع، إن وثق بذلك مني وإلا ذكرت له الحجة سرا من حيث لا يكون لك ولا لغيرك فيه مدخل. وأما ترفعي عنه، فكيف أترفع عنه وأنا أنتسب إلى صنائعه وأستمنحه وأعيش من فضله مذ كنت، وهذا تضريب لا أبالي به منك. وأما حملي النبيذ معي، فإن لي في النبيذ شرطا من طعمه وريحه، وإن لم أجده لم أقدر على الشرب وتنغص علي يومئذ، وإنما حملته ليتم نشاطي وينتفع بي. وأما طعني على ما اختاره، فإني لم أطعن على اختياره، وإنما أردت تقويمك، ولست والله تراني متتبعا لك بعد هذا اليوم ولا مقوما شيئا من خطئك؛ وأنا أغني له - أعزه الله - هذا الصوت فيعلم وتعلم ويعلم من حضر أنك أخطأت فيه وقصرت. وأما البرامكة وملازمتي لهم فاشهر من أن أجحده، وإني لحقيق فيه بالمعذرة، وأحرى أن أشكرهم على صنيعهم وبأن أذيعه وأنشره، وذلك والله أقل ما يستحقونه مني.
ثم أقبل على الفضل- وقد غاظه مدحه لهم - فقال: اسمع مني شيئا أخبرك به مما فعلوه ليس هو بكبير في صنائعهم عندي ولا عند أبي قبلي، فإن وجدت لي عذرا وإلا فلم: كنت في ابتداء أمري نازلا مع أبي في داره، فكان لا يزال يجري بين غلماني وغلمانه وجواري وجواريه الخصومة، كما تجري بين هذه الطبقات، فيشكونهم إليه، فأتبين الضجر والتنكر في وجهه؛ فاستأجرت دارا بقربه و انتقلت إليها أنا وغلماني وجواري، وكانت دارا واسعة، فلم أرض ما معي من الآلة لها ولا لمن يدخل إلي من إخواني أن يروا مثله عندي؛ ففكرت في ذلك وكيف أصنع، وزاد فكري حتى خطر بقلبي قبح الأحدوثة من نزول مثلي في دار بأجرة، وأني لا آمن في وقت أن يستأذن علي صاحب داري، وعندي من أحتشمه ولا يعلم حالي، فيقال صاحب دارك، أو يوجه في وقت فيطلب أجرة الدار وعندي من أحتشمه؛ فضاق بذلك صدري ضيقا شديدا حتى جاوز الحد؛ فأمرت غلامي بأن يسرج لي حمارا كان عندي لأمضي إلى الصحراء أتفرج فيها مما دخل على قلبي، فأسرجه وركبت برداء ونعل؛ فأفضى بي المسير وأنا مفكر لا
صفحة : 577
أميز الطريق التي أسلك فيها حتى هجم بي على باب يحيى بن خالد؛ فتواثب غلمانه إلي؛ وقالوا: أين هذا الطريق? فقلت: إلى الوزير؛ فدخلوا فاستأذنوا لي؛ وخرج الحاجب فأمرني بالدخول، وبقيت خجلا، قد وقعت في أمرين فاضحين: إن دخلت إليه برداء ونعل وأعلمته أني قصدته في تلك الحال كان سوء أدب، وإن قلت له: كنت مجتازا ولم أقصدك فجعلتك طريقا كان قبيحا؛ ثم عزمت فدخلت؛ فلما رآني تبسم وقال: ما هذا الزي يا أبا محمد احتبسنا لك بالبر والقصد والتفقد ثم علمنا أنك جعلتنا طريقا؛ فقلت: لا والله يا سيدي، ولكني أصدقك؛ قال: هات؛ فأخبرته القصة من أولها إلى آخرها؛ فقال: هذا حق مستو، أفهذا شغل قلبك? قلت: إي والله وزاد فقال: لا تشغل قلبك بهذا، يا غلام، ردوا حماره وهاتوا له خلعة؛ فجاءوني بخلعة تامة من ثيابه فلبستها، ودعا بالطعام فأكلت ووضع النبيذ فشربت وشرب فغنيته، ودعا في وسط ذلك بدواة ورقعة وكتب أربع رقاع ظننت بعضها توقيعا لي بجائزة، فإذا هو قد دعا بعض وكلائه فدفع إليه الرقاع وساره بشيء، فزاد طمعي في الجائزة؛ ومضى الرجل وجلسنا نشرب وأنا أنتظر شيئا فلا أراه إلى العتمة؛ ثم اتكأ يحيى فنام، فقمت وأنا منكسر خائب فخرجت وقدم لي حماري؛ فلما تجاوزت الدار قال لي غلامي: إلى أين تمضي? قلت: إلى البيت؛ قال: قد والله بيعت دارك، وأشهد على صاحبها، وابتيع الدرب كله ووزن ثمنه، والمشتري جالس على بابك ينتظرك ليعرفك، وأظنه اشترى ذلك للسلطان، لأني رأيت الأمر في استعجاله واستحثاثه أمرا سلطانيا، فوقعت من ذلك فيما لم يكن في حسابي، وجئت وأنا لا أدري ما أعمل؛ فلما نزلت على باب داري إذا أنا بالوكيل الذي ساره يحيى قد قام إلي فقال لي: ادخل - أيدك الله - دارك حتى أدخل إلى مخاطبتك في أمر أحتاج إليك فيه؛ فطابت نفسي بذلك، ودخلت ودخل إلي فأقرأني توقيع يحيى: يطلق لأبي محمد إسحاق مائة ألف درهم يبتاع له بها داره وجميع ما يجاورها ويلاصقها . والتوقيع الثاني إلى ابنه الفضل: قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها داره، فأطلق إليه مثلها لينفقها على إصلاح الدار كما يريد وبنائها على ما يشتهي . والتوقيع الثالث إلى جعفر: قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها منزل يسكنه، وأمر له أخوك بدفع مائة ألف درهم ينفقها على بنائها ومرمتها على ما يريد، فأطلق له أنت مائة ألف درهم يبتاع بها فرشا لمنزله . والتوقيع الرابع إلى محمد: قد أمرت لأبي محمد إسحاق أنا وأخواك بثلثمائة ألف درهم لمنزل يبتاعه ونفقة ينفقها عليه وفرش يبتذله، فمر له أنت بمائة ألف درهم يصرفها في سائر نفقته . وقال الوكيل: قد حملت المال واشتريت كل شيء جاورك بسبعين ألف درهم، وهذه كتب الابتياعات باسمي والإقرار لك، وهذا المال بورك لك فيه فاقبضه؛ فقبضته وأصبحت أحسن حالا من أبي في منزلي وفرشي وآلتي، ولا والله ما هذا بأكبر شيء فعلوه لي، أفألام على شكر هؤلاء فبكى الفضل بن الربيع وكل من حضر، وقالوا: لا والله لا تلام على شكر هؤلاء. ثم فال الفضل: بحياتي غن الصوت ولا تبخل على أبي الحسن بأن تقومه له؛ فقال: أفعل؛ وغناه، فتبين علويه أنه كما قال، فقام فقبل رأسه وقال: أنت أستاذنا وابن أستاذنا وأولى بتقويمنا واحتمالنا من كل أحد؛ ورده إسحاق مرات حتى استوى لعلويه.
ولقد روي في هذا الخبر بعينه أن هذه القصة كانت عند علي بن هشام، وقد أخبرني بهذا الخبر أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون وأبو عبد الله الهاشمي قالا: دعا علي بن هشام إسحاق الموصلي وسأله أن يصطبح عنده ويبكر فأجابه؛ فلما كان الغد وافاه ظهرا وعنده مخارق وعلويه؛ فقال له علي بن هشام: أين كنت الساعة يا أبا محمد? قال: عاقني أمر لم أجد من القيام به بدا؛ فدعا له بطعام فأصاب منه، ثم قعدوا على نبيذهم، وتغنى علويه صوتا، الشعر فيه لابن ياسين، وهو:
إلهي منحت الود مني بـخـيلة وأنت على تغـيير ذاك قـدير
شفاء الهوى بث الهوى واشتكاؤه وإن امرأ أخفى الهوى لصبور الغناء لسليمان أخي أحيحة، خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو - فقال له إسحاق: أخطأت ويلك فوضع علويه العود وشرب رطلا وشرب علي بن هشام؛ ثم تناول العود وغنى:
صفحة : 578
ولقد أسمو إلى غـرف في طريق موحش جدده
حوله الأحراس تحرسـه ولديه جاثـمـا أسـده الغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى عن عمرو - فقال له إسحاق: أخطأت ويلك فوضع العود من يده ثم أقبل على إسحاق فقال له: دعاك الأمير- أعزه الله - لتبكر إليه، فجئته ظهرا، وغنيت صوتين يشتهيهما الأمير- أعزه الله - علي فخطأتني فيهما، وزعمت أنك لا تغني بين يدي الأمير- أعزه الله - ولا تغني إلا بين يدي خليفة أو ولي عهد، ولو دعاك بعض البرامكة لكنت تسرع إليه ثم تغنى منذ غدوة إلى الليل؛ فقال إسحاق: إني والله ما أردت انتقاصا منك، ولا أقول مثله لغيرك ولا أريد ازدراء من أحد، ولكني أردت بك خاصة التقويم والتأديب؛ فإن ساءك ذلك تركتك في خطئك. ثم أقبل على علي بن هشام، فقال له: أعزك الله، إني أحدثك عن البرامكة بما يقيم عذري فيما ذكره: دخلت على يحيى بن خالد يوما، ولم أكن أردت الدخول عليه، وإنما ركبت متبذلا لهم أهمني، وكنت نازلا مع أبي في داره، فضقت صدرا بذلك وأحببت النقلة عنه، ونظرت فإذا يدي تقصر عما يصلحني؛ ثم ذكر الخبر نحوا مما قلته. وزاد فيه: أنه دخل إلى يحيى بن خالد وهو مصطبح، فلما رآه نعر وصفق، وأنه وقع له بمائتي ألف درهم، ووقع له كل من جعفر والفضل بمائة وخمسين ألفا، وكل واحد من موسى ومحمد بمائة ألف مائة ألف. وقال فيه: فبكى علي بن هشام ومن حضر، وقالوا: لا يرى والله مثل هؤلاء أبدا؛ وأخذ إسحاق العود فغنى الصوتين فأتى فيهما بالعجائب؛ فقام علويه فقبل رأسه وقال له: أنت أستاذنا وابن أستاذنا، وما بنا عن تقويمك غنى؛ ثم غنى بعد ذلك لحنه: تشكى الكميت الجري ، ولم يزل يغني بقية يومه كلما شرب علي بن هشام؛ ثم انصرف فأتبعه علي بن هشام بجائزة سنية.
حدثني الصولي قال حدثنا عون بن محمد قال حدثني عبد الله بن العباس الربيعي قال: أحضرني إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلما جلست واطمأننت، أخرج إلي خادمه رقعة، فقال: اقرأ ما فيها واعمل بما رسمه الأمير أعزه الله؛ فقرأتها فإذا فيها قوله:
يرتاح للدجن قلبي وهو مقتـسـم بين الهموم ارتياح الأرض للمطر
إني جعلت لهذا الدجن نحـلـتـه ألا يزول ولي في اللهو من وطر وتحث هذين البيتين: تقدم- جعلت فداك - إلى من بحضرتك من المغنين بأن يغنوا في هذين البيتين، وألق جميع ما يصنعونه على فلانة؛ فإذا أخذته فأنفذها إلي مع رسولي ؛ فقلت: السمع والطاعة لأمر الأمير أعزه الله، فهل صنع فيهما أحد قبلي? فقال: نعم، إسحاق الموصلي؛ فقلت: والله لو كلف إبليس أن يصنع فيهما صنعة يفضل إسحاق فيها بل يساويه بل يقاربه، ما قدر على ذلك ولا بلغ مبلغه، فضحك حتى استلقى، وقال: صدقت والله وهكذا يقول من يعمل لا كما يقول هؤلاء الحمقى، ولكن اصنع فيهما على كل حال كما أمر؛ فقلت: أفعل وقد برئت من العهدة؛ فانصرفت فصنعت فيهما صنعة كانت والله عند صنعة إسحاق بمنزلة غناء القرادين.
حدثني جحظة فال حدثني ميمون قال حدثني إسحاق الموصلي قال: قال لي المعتصم أو قال لي الواثق: لقد ضحك الشيب في عارضيك؛ فقلت: نعم يا سيدي، وبكيت؛ ثم قلت أبياتا في الوقت وغنيت فيها:
تولى شـبـابـك إلا قـلـيلا وحل المشيسب فصبرا جميلا
كفى حزنا بفراق الـصـبـا وإن أصبح الشيب منه بـديلا
ولما رأى الغانيات المـشـي ب أغضين دونك طرفا كليلا
سأندب عهدا مضى للصـبـا وأبكي الشباب بكاء طـويلا فبكى الواثق وحزن وقال: والله لو قدرت على رد شبابك لفعلت بشطر ملكي؛ فلم يكن لكلامه عندي جواب إلا تقبيل البساط بين يديه.
أخبرني محمد بن مزيد فال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني حمدون بن إسماعيل قال: لما صنع أبوك لحنه في:
قف بالديار التي عفا القدم وغيرتها الأرواح والديم رأيتهم يعني المغنين يأخذونه عنه ويجهدون فيه؛ فتوفي والله وما أخذوا منه إلا رسمه.
قف بالديار التي عفا القـدم وغيرتهـا الأرواح والـديم
لما وففنا بها نـسـائلـهـا فاضت من القوم أعين سجم
ذكرا لعيش مضى إذا ذكروا ما فات منه فإنـه سـقـم
صفحة : 579
وكل عيش دامت غضارته منقطع مرة ومنـصـرم الشعر والغناء لإسحاق، ثقيل أول بالوسطى من جميع أغانيه.
حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني هارون اليتيم قال حدثني عجيف بن عنبسة قال: كنت عند أمير المؤمنين المعتصم وعنده إسحاق الموصلي، فغناه:
قل لمن صد عاتبا ونأى عنك جانبا فأمره بإعادته، فأعاده ثلاثا، وشرب عليه ثلاثا، فقال له إبراهيم بن المهدي: قد استحسنت هذا الصوت يا أمير المؤمنين، أفنأخذه? قال: نعم، خذوه فقد أعجبني؛ فاجتمع جماعة المغنين: مخارق وعلويه وعمرو بن بانة وغيرهم، فأمره المعتصم أن يلقيه عليهم حتى يأخذوه؛ فقال عجيف: فعددت خمسين مرة قد أعاده فيها عليهم وهم يظنون أنهم قد أخذوه ولم يكونوا أخذوه. قال هارون: فنحن في هذا الحديث إذ دخل علينا محمد بن الحارث بن بسخنر، فقال له عجيف: يا أبا جعفر، كنت أحدث أبا موسى بحديثنا البارحة مع إسحاق في الصوت وأني عددت خمسين مرة؛ فقال محمد: إي والله- أصلحك الله - ولقد عددت أنا أكثر من سبعين مرة وما في القوم أحد إلا وهو يظن أنه قد أخذه، والله ما أخذه أحد منهم وأنا أولهم ما قدرت - علم الله - على أخذه على الصحة وأنا أسرعهم أخذا، فلا أدري: ألكثرة زوائده فيه أم لشدة صعوبته؛ ومن يقدر أن يأخذ من ذلك الشيطان شيئا. أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني عجيف بن عنبسة بهذا الخبر فذكر مثله سواء.
قال أبو أيوب وحدثني حماد عن أبيه قال: كنت يوما عند المعتصم، فمر شعر على هذا الوزن فقال: وددت أنه على غير ما هو؛ فقلت له: أنا لك به على هذا الوزن في أحسن من هذا الشعر:
قل لمن صد عاتبا ونأى عنك جانبـا
قد بلغت الذي أرد ت وإن كنت لاعبا فأعجبه، وقال لي: قد والله أحسنت وأمر لي بألفي دينار، ووالله ما كانت قيمتهما عندي دانقين الشعر والغناء في هذين البيتين لإسحاق، ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى.
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني ابن المكي عن إسحاق قال: غضب علي المخلوع فأقصاني وجفاني، فاشتد ذلك علي - قال: وجفاني وهو يومئذ بالأنبار- فحملت عليه بالفضل بن الربيع، فطلب إليه فشفعه المخلوع ودعاني وهو مصطبح، فلم أزل متوقفا وقد لبست قباء وخفا أحمر واعتصبت بعصابة صفراء وشددت وسطي بشقة حمراء من حرير، فلما أخذوا في الأهزاج دخلت وفي يدي صفاقتان وأنا أتغنى:
اسمع لصوت طريب من صنعة الأنباري
صوت مليح خفـيف يطير في الأوتـار الشعر والغناء لإسحاق، هزج بالبنصر- فسر بذلك محمد، وكان صوتهم في يومهم ذلك، وأمر لي بثلثمائة ألف درهم. وأخبرني جحظة بهذا الخبر عن محمد بن أحمد بن يحيى المكي قال حدثني أبي أن إسحاق حدثه بهذا الخبر، وذكر مثل ما ذكره يحيى؛ وزاد فيه قال: وكان سبب تسمية محمد لي ب الأنباري أني دخلت عليه يوما وقد لثت عمامتي على رأسي لوثا غير مستحسن، فقال لي: يا إسحاق، كأن عمامتك من عمائم أهل الأنبار.
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق، وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق، وأخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبي: قال إسحاق: قلت في ليلة من الليالي:
هل إلى نظرة إليك سبـيل يرو الصدى ويشفى الغليل
إن ما قل منك يكثر عندي وكثير ممن تحب القلـيل قال: فلما أصبحت أنشدتهما الأصمعي، فقال: هذا الديباج الخسرواني، هذا الوشي الإسكندراني، لمن هذا? فقلت له: إنه ابن ليلته؛ فتبينت الحسد في وجهه، وقال: أفسدته أفسدته أما إن التوليد فيه لبين. في هذين البيتين لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر.
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى قال حدثني إسحاق بهذا الخبر، فذكر مثل ما ذكره من قدمت الرواية عنه، وزاد فيه: فقال لي علي بن يحيى بعقب هذا الخبر: كان إسحاق يعجب بهذا المعنى ويكرره في شعره، ويرى أنه ما سبق إليه ة فمن ذلك قوله:
أيها الظبي الغرير هل لنا منك مجير
إن ما نولتني مـن ك وإن قل كثـير
صفحة : 580
لحن إسحاق خفيف ثقيل بالوسطى - فقلت: إنك فد سبقت إلى هذا المعنى، فقال: ما علمت أن أحدا سبقني إليه؛ فأنشدته لأعرابي من بني عقيل:
قفي ودعينا يا مليح بنـظـرة فقد حان منا يا مليح رحـيل
أليس قليلا نظرة إن نظرتهـا إليك وكلا ليس منك قـلـيل
عقيلية أمـا مـلاث إزارهـا فوعث وأما خصرها فضئيل
أيا جنة الدنيا ويا غاية المنـى ويا سؤل نفسي هل إليك سبيل
أراجعة نفسي إلي فأغـتـدي مع الركب لم يقتل عليك قتيل
فما كل يوم لي بأرضك حاجة ولا كل يوم لي إليك رسـول قال: فحلف أنه ما سمع بذلك قط. قال علي بن يحيى: وصدق، ما سمع بها. الغناء في الأبيات الأخيرة من أبيات العقيلى.
حدثني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن محمد بن أبي طالب الديناري بمكة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي. قال: عاتبني إبراهيم بن المهدي في ترك المجيء إليه، فقال لي: من جمع لك مع المودة الصادقة رأيا حازما، فاجمع له مع المحبة الخالصة طاعة لازمة؛ فقلت له: جعلني الله فداك، إذا ثبتت الأصول في القلوب، نطقت الألسن بالفروع، والله يعلم أن قلبي لك شاكر، ولساني بالثناء عليك ناثر؛ وما يظهر الود المستقيم، إلا من القلب السليم؛ قال: فأبرىء ساحتك عندي بكثرة مجيئك إلي؛ فقلت: أجعل مجيئي إليك في الليل والنهار نوبا أتيقظ لها كتيقظي للصلوات الخمس، وأكون بعد ذلك مقصرا؛ فضحك وقال: من يقدر على جواب المغنين؛ فقلت: من اتخذ الغناء لنفسه ولم يتخذه لغيره؛ فضحك أيضا، وأمر لي بخلع ودنانير وبرذون وخادم. وبلغ الخبر المعتصم، فضاعف لإبراهيم ما أعطاني، فرحت وقد ربحت وأربحت.
حدثنا الحرمي قال حدثنا الديناري قال حدثني إسحاق قال: عتب علي الفضل بن الربيع في شيء بلغه عني؛ فكتبت إليه: إن لكل ذنب عفوا وعقوبة؛ فذنوب الخاصة عندك مستورة مغفورة، فأما مثلي من العامة فذنبه لا يغفر، وكسره لا يجبر؛ فإن كنت لا بد معاقبي فإعراض لا يؤدي إلى مقت .
حدثني الحرمي قال حدثنا الديناري قال حدثني إسحاق قال: كان يختلف إلي رجل من الأعراب، وكان الفضل بن الربيع يقر به ويستظرف كلامه، وكان عندي يوما وجاء رسول الفضل يطلبه فمضى إليه؛ فقال له الفضل: فيم كنتم? قال: كنا في قدر تفور، وكأس تدور، وغناء يصور، وحديث لا يحور.
حدثنا الحرمي قال حدثنا الحسين بن طالب قال: كان إسحاق يقول الشعر على ألسن الأعراب، وينشده للأعراب، وكان يعايي بذلك أصحابه ويغرب عليهم به؛ فمن ذلك ما أنشدنيه لأعرابي:
لفظ الخدور عليك حورا عينـا أنسين ما جمع الكناس قطينـا
فإذا بسمن فعن كمثل غـمـامة أو أقحوان الرمل بات معينـا
وأصح من رأت العيون محاجرا ولهن أمرض ما رأيت عيونـا
وكأنما تلـك الـوجـوه أهـلة أقمرن بين العشر والعشرينـا
وكأنهن إذا نهضـن لـحـاجة ينهضن بالعقدات من يبـرينـا قال: وأنشدني أيضا مما كان ينسبه إلى الأعراب وهو له:
ومكحولة العينين من غير ما كحـل مهفهفة الكشحين ذات شوى خـدل
منغمة الأطراف مفعـمة الـبـرى روادفها تحكي الدهاس من الرمل
صيود لألباب الرجال، متـى رنـت إلى ذي نهى جلد القوى وافر العقل
تخلى النهى عنه وحالفه الـصـبـا وأسلمه الرأي الأصيل إلى الجهـل
شبيبة كثبان يروقـك تـحـتـهـا عنا قيد كرم جادها غدق الـوبـل
رمتني فحلت نائطي ولم تـصـب لها نائطي قلب ولا مقتلا نبـلـي حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثت عن الأصمعي قال: دخلت أنا وإسحاق الموصلي يوما على الرشيد فرأيناه لقس النفس؛ فأنشده إسحاق يقول:
وآمرة بالبخل قلت لها آقصـري فذلك شيء مـا إلـيه سـبـيل
أرى الناس خلان الكرام ولا أرى بخيلا له حتى الممات خـلـيل
وإني رأيت البخل يزري بأهلـه فأكرمت نفسي أن يقال بخـيل
صفحة : 581
ومن خير حالات الفتى لو علمته إذا نال خـيرا أن يكـون ينـيل
فعالى فعال المكثرين تـجـمـلا وما لي كما قد تعلمـين قـلـيل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ورأي أمير المؤمنـين جـمـيل قال: فقال الرشيد: لا تخف إن شاء الله؛ ثم قال: لله در أبيات تأتينا بها؛ ما أشد أصولها، وأحسن فصولها، وأقل فضولها وأمر له بخمسين ألف درهم؛ فقال له إسحاق: وصفك والله يا أمير المؤمنين لشعري أحسن منه، فعلام آخذ الجائزة فضحك الرشيد وقال: اجعلوها لهذا القول مائة ألف درهم. قال الأصمعي: فعلمت يومئذ أن إسحاق أحذق بصيد الدراهم مني. وأخبرني بهذا الخبر جعفر بن قدامة عن حماد عن أبيه، وأخبرنا به يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق فذكر معنى الخبر قريبا مما ذكره الأصمعي والألفاظ تختلف.
أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق، وأخبرني به جعفر بن قدامة ووكيع عن حماد عن أبيه قال: كنت عند الفضل بن الربيع يوما، فدخل إليه ابن ابنه عبد الله بن العباس بن الفضل وهو طفل، وكان يرق عليه لأن أباه مات في حياته، فأجلسه في حجره وضمه إليه ودمعت عليناه؛ فأنشأت أقول:
مد لك الله الحـياة مـدا حتى يكون ابنك هذا جدا
مؤزرا بمجـده مـردى ثم يفدى مثل ما تفـدى
أشبه منك سـنة وخـدا وشيما مرضتة ومجـدا
كأنه أنـت إذا تـبـدى شمائلا محمـودة وقـدا قال: فتبسم الفضل وقال: أمتعني الله بك يا أبا محمد، فقد عوضت من الحزن سرورا وتسليت بقولك، وكذلك يكون إن شاء الله. قال جعفر بن قدامة: وحدثني بهذا الحديث علي بن يحيى، فذكر أن إسحاق قال هذه الأبيات للفضل بن يحيى وقد دخل عليه وفي حجره ابن له.
غنى في هذه الأبيات أبو عيسى بن المتوكل لحنا من الرمل، يقال: إنه صنعه وقد ولد للمعتمد ولد ثم غنى به. وأخبرني ذكاء وجه الرزة عن بدعة الكبيرة: أن الرمل لعريب، وأن لحن أبي عيسى خفيف رمل.
حدثني عمي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي عن إسحاق قال: أتيت الفضل بن الربيع يوما عائدا وجاءه بنو هاشم يعودونه؛ فقلت في مجلسي ذلك:
إذا ما أبو العباس عيد ولم يعـد رأيت معودا أكرم الناس عائدا
وجاء بنو العباس يبـتـدرونـه مراضا لما يشكوه مثنى وواحدا
يفدونه عند السـلام وكـلـهـم مجل له يدعوه عمـا ووالـدا قال: وكان الفضل مضطجعا، فأمر خادما له فأجلسه، ثم قال لي: أعد يا أبا محمد فأعدت، فأمرني فكتبتها، وسر بها وجعل يرددها حتى حفظها.
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال أخبرني أبي قال قال إسحاق، وأخبرني الحسن بن على الخفاف قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك عن إسحاق قال: جاءني الزبير بن دحمان يوما مسلما فاحتبسته؛ فقال لي: أمرني الفضل بن الربيع بالمسير إليه؛ فقلت له:
أقم يا أبا العوام ويحـك نـشـرب ونله مع اللاهين يوما ونطـرب
إذا ما رأيت اليوم قد جـاء خـيره فخذه بشكر واترك الفضل يغضب فأقام عندي وسررنا يومنا؛ ثم صار إلى الفضل؛ فسأله عن سبب تأخره عنه؛ فحدثه الحديث وأنشده البيتين؛ فغضب وحول وجهه عني، وأمر عونا حاجبه بألا يدخلني إليه ولا يستأذن لي عليه ولا يوصل لي رقعة؛ فقلت:
حرام علي الكأس ما دمت غضبانا وما لم يعد عني رضاك كما كانا
فأحسن فإني قد أسأت ولم تـزل تعودني عند الإساءة إحـسـانـا قال: وأنشدته إياهما، فضحك ورضي عني وعاد إلى ما كان عليه. وقد أخبرني بهذا الخبر محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه، فذكر مثله وزاد فيه: فقلت في عون حاجبه:
عون يا عون ليس مثلك عـون أنت لي عدة إذا كـان كـون
لك عندي والله إن رضى الفض ل غلام يرضـيك أو بـرذون قال: فأتى عون الفضل بالشعرين جميعا؛ فقرأهما وضحك وقال: ويحك إنما عرض لك بقوله: غلام يرضيك بالسوءة؛ قال: قد وعدني ما سمعت، فإن شئت أن تحرمنيه فأنت أعلم؛ فأمره أن يرسل إلي؛ فأتاني رسوله فصرت إليه فرضي عني.
صفحة : 582
أخبرني جحظة قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي المرتجل قال حدثني أبي قال حدثني الزبير بن دحمان قال: دخلت يوما على الفضل بن الربيع مسلما؛ فقال لي: قد عزمت غدا على الصبوح، فصر إلي بكرة؛ فكنت أنا والصبح كفرسي رهان؛ فلما أصبحت في غد جعلت طريقي على إسحاق بن إبراهيم فدخلت إليه، فلما جلست قال لي: أقم اليوم عندي؛ فعرفته خبري؛ فقال:
أقم يا أبا العوام ويحـك نـشـرب ونله مع اللاهين يوما ونطـرب
إذا ما رأيت اليوم قد جـاء خـيره فخذه بشكر واترك الفضل يغضب فقلت: إني لا آمن غضبه، وأنا بين يديك؛ فقال لي: أنت تعلم أن صبوح الفضل أبدا في وفت غبوق الناس، فأقم وارفق بنفسك ثم امض إليه؛ فأجبته إلى ذلك؛ فلما شربنا طاب لي الموضع، فأقمت حتى سكرت. وذكر باقي الخبر نحوا مما ذكر إسحاق. انتهى.
حدثني جحظة قال حدثني محمد بن المكي المرتجل قال: قلت لزرزور الكبير: كيف كان إسحاق ينفق على الخلفاء معكم وأنت وإبراهيم بن المهدي ومخارق أطيب أصواتا وأحسن نغمة? قال: كنا والله يا بني نحضر معه فنجتهد في الغناء ونقيم الوهج فيه ويقبل علينا الخلفاء، حتى نطمع فيه ونظن أنا قد غلبناه، فإذا غنى عمل في غنائه أشياء من مداراته وحذقه ولطفه حتى يسقطنا كلنا ويقبل عليه الخليفة دوننا ويجيزه دوننا ويصغى إليه، ونرى أنفسنا اضطرارا دونه.
حدثنا جحظة قال حدثني محمد بن أحمد المكي قال حدثني أبي قال: كان المغنون يجتمعون مع إسحاق وكلهم أحسن صوتا منه، ولم يكن فيه عيب إلا صوته فيطمعون فيه؛ فلا يزال بلطفه وحذقه ومعرفته حتى يغلبهم ويبذهم جميعا ويفضلهم ويتقدمهم. قال: وهو أول من أحدث التخنيث ليوافق صوته ويشاكله، فجاء معه عجبا من العجب؛ وكان في حلقه نبو عن الوتر. أخبرني يحيى بن علي قال أخبرنا أبو العبيس بن حمدون: أن إسحاق أول من جاء بالتخنيث في الغناء ولم يكن يعرف، وإنما احتال بحذقه لمنافرة حلقه الوتر، حتى صار يجيبه ببعض التخنيث فيكون أحسن له في السمع.
أخبرنا جحظة قال حدثني الهشامي عن أبيه قال: كان المغنون إذا حضروا وليس إسحاق معهم غنوا هوينى وهم غير مفكرين؛ فإذا حضر إسحاق لم يكن إلا الجد.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني إسحاق الموصلي قال: قال لي أبي وقد انصرف من دار الرشيد: رأيت الأمير جعفر بن يحيى يستبطئك ويقول: لست أراه ولا يغشاني؛ فقلت: إني لآتيه كثيرا فأحجب عنه ويصرفني نافذ حاجبه ويقول: هو على شغل؛ قال: فبلغه أبي ذلك؛ فقال له: قل له: أنكه أمه إذا فعل؛ فأقمت أياما ثم كتبت إليه:
جعلت فداءك من كل سوء إلى حسن رأيك أشكو اناسا
يحولون بيني وبين السـلام فلست أسلم إلا اختـلاسـا
وأنفذت أمرك في نـافـذ فما زاده ذاك إلا شماسـا وقد أخبرني الخبر محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه، فذكر مثله وقال: كان خادم يحجبه يقال له: نافذ، فقال: إذا حجبك فنكه؛ فلما كتبت إليه بهذه الأبيات بعث فأحضرني؛ فلما دخلت إليه أحضر نافذا وقرأ الأبيات عليه، وقال لي: أفعلتها يا عدو الله فغضب نافذ حتى كاد يبكي، وجعل جعفر يضحك ويصفق؛ ثم ما عاد بعد ذلك يتعرض لي.
حدثني الحسين بن أبي طالب قال حدثني عبيد الله بن المأمون، وأخبرنا اليزيدي عن عمه عبيد الله عن أبيه قال: غضب المأمون على إسحاق بن إبراهيم، ثم كلم فيه فرضي عنه ودعا به؛ فلما وقف بين يديه اعتذر وقبل الأرض بين يديه واستقاله؛ فأجابه المأمون جوابا جميلا، ثم قال له في أثناء كلامه:
فلا أنت أعتبـت مـن زلة ولا أنت بالغت في المعفرة
ولا أنت وليتنـي أمـرهـا فأغفر ذنبك عن مـقـدره هكذا في الخبر؛ وأظنه إسحاق بن إبراهيم الطاهري لا الموصلي.
أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن أبي طالب قال حدثني إسحاق قال: أنشدت أبا الأشعث الأعرابي شعرا لي، فقال: والذي أصوم له مخافته ورجاءه، إنك لمن طراز ما رأيت بالعراق شيئا منه، ولو كان شباب يشترى لاشتريته لك ولو بإحدى يدي، وإن في كبرك لما زان الجليس وسره.
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الديناري قال حدثنا إسحاق قال:
صفحة : 583
قالت لي زهراء الكلابية: ما فعل عبد الله بن خزداذبه? فقلت: مات؛ فقالت: غير ذميم ولا لئيم، غفر الله لصداه، لقد كان يحبك ويعجبه ما سرك. قال: فقلت لزهراء: حدثيني عن قول الشاعر:
أحبك أن أخبرت أنك فارك لزوجك إني مولع بالفوارك ما أعجبه من بغضها لزوجها? فقالت: عزفته أن في نفسها فضلة من جمال وشمخا بأنفها وأبهة، فأعجبته.
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثت عن غير واحد: أن إسحاق الموصلي دخل على المعتصم يوما من الأيام فرآه لقس النفس، فقال له: أما ترى يا أمير المؤمنين طيب هذا اليوم وحسنه؛ فقال المعتصم: ما يدعوني حسنه إلى شيء مما تريد ولا أنشط له؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه يوم أكل وشرب؛ فاشرب حتى انشطك؛ قال: أو تفعل? قال: نعم ة قال: يا غلمان، قدموا الطعام والشراب ومدوا الستارة، وأحضروا الندماء والمغنين؛ فأتي بالطعام فأكل وبالشراب فشرب وحضر الندماء والمغنون؛ فغناه إسحاق:
سقيت الغيث يا قصر السلام فنغم محلة الملك الهـمـام
لقد نشر الإله عليك نـورا وخصك بالسلامة والسلام الشعر والغناء لإبراهيم الموصلي رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وذكر حبش أن فيه للزبير بن دحمان لحنا من الرمل بالوسطى - قال: فطرب المعتصم وشرب شربا كثيرا، ولم يبق أحد بحضرته إلا وصله وخلع عليه وحمله؛ وفضل إسحاق في ذلك أجمع.
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن إسحاق قال: أول جائزة أخذتها من الرشيد ألف دينار في أول يوم دخلت إليه فغنيته:
علق القلب بزوعا فاستحسنه واستعاده ثلاث مرات وشرب عليه ثلاثة أرطال وأمر لي بألف دينار؛ فكان أول جائزة أجازنيها.
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق قال: كان أبي ذات يوم عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلما جلسوا للشراب جعل الغلمان يسقون من حضر، وجاء غلام قبيح الوجه إلى أبي بقدح نبيذ فلم يأخذه؛ ورآه إسحاق فقال له: لم لا تشرب? فكتب إليه أبي:
اصبح نديمك أقداحا يسلسلـهـا من الشمول وأتبعها بـأقـداح
من كف ريم مليح الدل ريقتـه بعد الهجوع كمسك أوكتـفـاح
لا أشرب الراح إلا من يدي رشأ تقبيل راحته أشهى من الـراح فضحك وقال: صدقت والله، ثم دعا بوصيفة كأنها صورة، تامة الحسن لطيفة الخصر في زي غلام عليها أقبية ومنطقة، فقال لها: تولى سقي أبي محمد؛ فما زالت تسقيه حتى سكر؛ ثم أمر بتوجيهها وكل مالها في داره إليه، فحملت معه.
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الصباح قال: كانت امرأة من بني كلاب يقال لها زهراء تحدث إسحاق وتناشده، وكانت تميل إليه، وتكني عنه في عشيرتها إذا ذكرته بجمل؛ فال: فحدثني إسحاق أنها كتبت إليه وقد غابت عنه تقول:
وجدي بجمل على أني أحمجـمـه وجد السقيم ببرء بـعـد إدنـاف
أو وجد ثكلى أصاب الموت واحدها أو وجد مغترب مـن بـين آلاف قال: فأجبتها:
أقر السلام على الزهراء إذ شحطت وقل لها قد أذقت القلب ما خـافـا
أما رثيت لمن خلفت مـكـتـئبـا يذري مدامعه سحـا وتـوكـافـا
فما وجدت علـى إلـف أفـارقـه وجدي عليك وقد فـارقـت ألافـا أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال أنشدني إسحاق لنفسه:
سقى الله يوم الماوشان ومجـلـسـا به كان أحلى عندنا من جنى النحل
غداة اجتنينا اللهو غضا ولـم نـبـل حجاب أبي نصر ولا غضبة الفضل
غدونا صحاحا ثم رحنـا كـأنـنـا أطاف بنا شر شديد من الـخـبـل فسألته أن يكتبها ففعل؛ فقلت له: ما حديث الماوشان? فضحك وقال: لو لم أكتبك الأبيات لما سألت عما لا يعنيك؛ ولم يخبرني.
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن الحارث وأبو مسلم عن ابن الأعرابي: أنه كان يصف إسحاق الموصلي ويقرظه ويثني عليه ويذكر أدبه وحفظه وعلمه وصدقه، ويستحسن قوله:
صفحة : 584
هل إلى أن تنام عيني سبـيل إن عهدي بالنوم عهد طـويل
غاب عني من لا أسمي فعيني كل يوم وجدا عليه تـسـيل الشعر والغناء لإسحاق رمل بالوسطى- قال: وكان إسحاق إذا غناه تفيض دموعه على لحيته ويبكي أحر بكاء. وأخبرنا به يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق. وحديث موسى عن حماد أتم، واللفظ له.
أخبرني الصولي والحسن بن علي قالا حدثنا محمد بن موسى عن حماد بن إسحاق قال: أول صوت صنعه أبي:
إني لأكني بأجبال عن اجبلها وباسم أودية عن اسم واديها وآخر صوت صنعة مختارا:
قف نحي المغانيا والطلول البواليا ثم قطع الصنعة حتى أمره الواثق بأن يعارض صنعته في:
لقد بخلت حتى لو أني سألتها قال حماد وحدثني أبي قال: كان المغنون يحسدونني مذ كنت غلاما، فلما مات أبي صنعت هذا الصوت، فهو أول صوت صنعته بعد وفاته، و هو:
أمن آل ليلى عرفت الطلولا بذي حرض ماثلات مئولا فقالوا للرشيد: هذا من صنعة أبيه فقد انتحله؛ فقال لي الرشيد في ذلك، فقلت: هذا ومائة بعده خير منه لهم؛ فقال: اصنع في شعر الأخطل:
أعاذلتي اليوم ويحكمـا مـهـلا وكفا الأذى عني ولا تكثرا العذلا فصنعت فيه كما أمرني؛ فلما سمعوا بذلك وما جاء بعده أذعنوا، وزال عن قلب الرشيد ما كان ظنه بي. وقد ذكر غير حماد أن اللحن الذي اختبره به الرشيد قوله:
كنت صبا وقلبي الـيوم سـال عن حبيب يسيء في كل حال وذكر أن الفضل بن الربيع قال الشعر في ذلك الوقت ودفعه إليه وأمره الرشيد أن يصنع فيه ففعل. وأخبرني بذلك محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق، وأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال: أول ما سمعه الرشيد من غناء أبي:
ألم تسأل فتخبرك المغانـي وكيف وهن مذ حجج ثماني
برئت من المنازل غير شوق إلى الدار التي بلوي أبـان
ديار للتي لجلجـت فـيهـا ولو أغربت لج بها لسانـي
فكاد يظل للعينـين غـرب بربعي دمنة لا ينطـقـان قال: فحدثني أبي أن المغنين قالوا للرشيد: هذا من صنعة أبيه انتحله بعد وفاته؛ فقلت له: أنا أدع لهم هذا ومائة صوت بعده؛ ثم نظروا إلى ما جاء بعد ذلك فأذعنوا.
قف نحي المغانـيا والطلول البوالـيا
وعلى أهلها فنـح وابك إن كنت باكيا الشعر لابن ياسين. والغناء لإسحاق ثقيل أول بالوسطى.
أمـن آل لـيلـى عـرفـت الـطـلـــولا بذي حـرض مـاثـــلات مـــثـــولا
بلين وتحسب آياتهن عن فرط حولين رقا محيلا الشعر لكعب بن زهير. والغناء لإسحاق ثاني ثقيل بالبنصر.
أعاذلتي اليوم ويحكمـا مـهـلا وكفا الأذى عني ولا تكثرا العذلا
دعاني تجد كفي بمالي فإنـنـي سأصبح لا أسطيع جودا ولا بخلا
إذا وضعوا فوق الصفيح جنـادلا علي وخلفت المطية والرحـلا
فلا أنا مجتاز إذا مـا نـزلـتـه ولا أنا لاق ما ثويت بـه أهـلا الشعر للأخطل، والغناء لإسحاق، ثقيل أول بالوسطى.
إني لأكني بأجبال عن اجبلـهـا وباسم أودية عن اسـم واديهـا
عمدا ليحسبها الواشون غـانـية أخرى وتحسب أني لا أباليهـا
ولا يغير ودي أن أهاجـرهـا ولا فراق نوى في الدار أنويها
وللقلوص ولي منها إذا بعـدت بوارح الشوق تنضيني وأنضيها الشعر لأعرابي، والغناء لإسحاق هزج بالبنصر.
حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن حمدون قال: قال إسحاق للواثق يوما: الأهزاج من أملح الغناء؛ فقال الواثق: أما إذا كانت مثل صوتك:
إني لأكنى بأجبال عن اجبلها وباسم أودية عن اسم واديها فهي كذلك.
قال أحمد بن أبي طاهر حدثني أحمد بن يحيى الرازي عن محمد بن المثنى عن الحجاج بن قتيبة بن مسلم قال:
صفحة : 585
قال إسحاق: بعث إلي طلحة بن طاهر وقد انصرف من وقعة للشراة وقد أصابته ضربة في وجهه؛ فقال لي الغلام: أجب؛ فقلت: وما يعمل? قال: يشرب؛ فمضيت إليه فإذا هو جالس قد عصب ضربته وتقلنس بقلنسوة؛ فقلت له: سبحان الله أيها الأمير ما حملك على لبس هذا? قال: التبرم بغيره، ثم قال: غن:
إني لأكنى بأجبال عن اجبلها قال: فغنيته إياه، فقال: أحسنت والله أعد فأعدت وهو يشرب حتى صلى العتمة وأنا. أغنيه؛ فأقبل على خادم له بالحضرة وقال له: كم عندك? قال: مقدار سبعين ألف درهم؛ قال: تحمل معه. فلما خرجت من عنده تبعني جماعة من الغلمان يسألوني، فوزعت المال بينهم؛ فرفع الخبر إليه فأغضبه ولم يوجه إلي ثلاثا؛ فجلست ليلا وتناولت الدواة والقرطاس فقلت:
علمني جودك السماح فـمـا أبقيت شيئا لدي من صلـتـك
لم أبق شيئا إلا سمحـت بـه كأن لي قدرة كمـقـدرتـك
تتلف في اليوم بالهبات وفـي الساعة ما تجتنيه في سنتـك
فلست أثري من أين تنفق لـو لا أن ربي يجزى على صلتك فلما كان في اليوم الرابع بعث إلي، فصرت إليه ودخلت عليه فسلمت، فرفع بصره إلي وقال: اسقوه رطلا فسقيته، وأمر لي بآخر وآخر فشربت لاثا، م قال لي: غن:
إني لأكنى بأجبال عن اجبلها فغنيته م أتبعته بالأبيات التي قلتها، وقد كنت غنيت فيها لحنا في طريقة الصوت، فقال: ادن فدنوت، وقال: اجلس فجلست، فاستعاد الصوت الذي صنعته فأعدته. فلما فهمه وعرف معنى الشعر قال لخادم له: أحضرني فلانا فأحضره، فقال: كم قبلك من مال الضياع? قال: مانمائة ألف درهم، فقال: احضر بها الساعة، فجيء بثمانين بدرة، فقال للخادم: جئني بثمانين غلاما مملوكا، فأحضروا، فقال: احملوا هذا المال، م قال: يا أبا محمد، خذ المال والمماليك حتى لا تحتاج أن تعطي لأحد منهم شيئا.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن محمد بن طالب قال: كان إسحاق بن إبراهيم الموصلي كثير الغشيان لإسحاق بن إبراهيم بن مصعب والحضور لسمره، وكان إسحاق بن إبراهيم يرى ذلك له ويسني جوائزه ويواتر صلاته ويشاوره في بعض أموره ويسمع منه، فأصيب، إسحاق ببصره قبل موته بسنتين، فترك زيارة إسحاق وغيره ممن كان يغشاهم ولزم بيته. وخرج إسحاق يوما إلى بستان له بباب قطربل وخرج معه ندماؤه وفيهم موسى بن صالح بن شيخ بن عميرة ومحمد بن راشد الخناق والحراني، فجرى ذكر إسحاق الموصلي، فتوجع له إسحاق وذكر أنسه به وتمنى حضوره، وذكره، القوم فأطنبوا في نشر محاسنه وشيعوا ما ذكره به إسحاق بما حسن موقعه لهم عنده وذكره محمد بن راشد ذكرا لم يحمده أصحابه عليه، وزجره إسحاق، فأمسك عنه، فلما انصرفوا من مجلسهم نمي إلى إسحاق الموصلي ما كان فيه القوم في يومهم وما جرى من ذكره، فكتب إلى موسى بن صالح:
ألا قل لموسى الخير موسى بن صالح ومن هو دون الخلق إلفي وخلصاني
ومن لوسألت الناس عنه لأجمـعـوا على أنه أفتى معـد وقـحـطـان
لعمري لئن كان الأمير تـمـنـانـي بمجلس لـذات ونـزهة بـسـتـان
لقد زادني ما كان مـنـه صـبـابة وجدد لي شوقا إلـيه وأبـكـانـي
وما زال ممتنا علـي يخـصـنـي بما لست أحصي من أياد وإحسـان
هو السيد القرم الـذي مـا يرى لـه من الناس إن حصلتـه أبـدا انـي
نمته روابي مصعـب وبـنـى لـه كريم المساعي في أرومته بـانـي
يعز علي أن تـفـوزوا بـقـربـه ولست إليه بالقـريب ولا الـدانـي
فيا ليت شعري هل أروحـن مـرة إليه فيلقاني كمـا كـان يلـقـانـي
وهل أرين يوما غضـارة مـلـكـه وسلطانه لازال في عز سلـطـان
وهل أسمعن ذاك المزاح الـذي بـه إذا جئته سليت همـي وأحـزانـي
إذا قال لي يا مرد مي خر وكرهـا علي وكناني مزاحـا بـصـفـوان هذا كلام بالفارسية تفسيره: يا رجل اشرب النبيذ:
فيا لك من ملهى أنيق ومجلس كريم ومن مزح كثير بألوان
صفحة : 586
وهل يغمزن بي ذو الهنات ابن راشد وذاك الكريم الجد مـن آل حـران
وهل أرين موسى الكريم ابن صالح ينازعني صوتا إذا هو غـنـانـي )يريد الغناء في:
فلم أر كالتجمير منظر ناظـر ولا كليالي النفر أفتن ذا هوى
إذا صاح بالتجمـير م أعـاده بتحقيق إعراب صحيح وتبيان
أولئك إخواني الذين أحبـهـم وأوثرهم بالود من بين إخواني
وما منهم إلا كـريم مـهـذب حبيب إلى إخوانه غير خوان فأجابه محمد بن راشد:
بعثت بشعـر فـيه أن رسـالة أتتك لموسى عن جماعة إخوان
بشوق وذكر للجميل ولـم يكـن لموسى لعمري في سلامته اني
ولكن نطقنا بالذي أنت أهـلـه وما تستحق من صديق وندمان
وموسى كريم لم يحط بك خبره كخبر ندامى قد بلوك وإخـوان
ولو قد بلاك قال فيك كقول من فسدت عليه من خليل وخلصان
ولم يعره شوق إليك ولـم يجـد لفقدك مسا عند نزهة بسـتـان
حمدت الندامى كلهم غير إنسان ألا إنما يجني على نفسه الجاني
فلا تعتب الإخوان من بعدها فما تنقض إخوان المودة من شاني قال: فأجابه إسحاق:
عجبت لمخذول تعـرض جـانـيا لليث أبي شبلين من أسد خـفـان
أتانا بشعر قاله مـثـل وجـهـه تزخرف فيه واستعان بـأعـوان
فجاء بألفاظ ضـعـاف سـخـيفة ومضغها تمضيغ أهوج سكـران
دعوا الشعر للشيخ الذي تعرفونـه وإلا وسمتم أو رميتم بشـهـبـان
فإنكم والشـعـر إذ تـدعـونـه كمعتسف في ظلمة الليل حـيران
صه لا تعودوا للجواب فـإنـمـا ترومون صعبا من شماريخ هلان
أنا الأسد الـورد الـذي لا يفـلـه تظاهر
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدثت من غير وجه: أن إسحاق بات ليلة عند المعتصم وهو أمير، فسمع لحنا لعبد الوهاب المؤذن أذن به على باب المعتصم، فأصغى إليه فأعجبه، فأعاد المبيت ليلة أخرى عنده حتى استقام له اللحن؛ فبنى عليه لحنه:
هزئت أسماء منى وقالت أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي: أن إبراهيم بن المهدي فصد يوما، فكتب إليه إسحاق يتعرف خبره ويدعو له بالسلامة وحسن العقبى، وكتب إليه: إني سأهدي إليك هدية للفصد حسنة؛ فوجه إليه بديحا غلامه، فغناه لحنه في:
هزئت أسماء منى وقالت فاستحسنه إبراهيم وقال له: قد قبلنا الهدية، فإن كان أن لك في طرحه على الجواري فافعل؛ فقال له: بذلك أمرني، وقال لي: إنك ستقول لي هذا القول، فقال: إن قاله لك فقل له: لو لم آمرك بطرحه لم يكن هدية؛ فضحك إبراهيم، وألقاه بديح على جواريه. وقد ذكر علي بن محمد بن نصر هذا الخبر، فذكر أنه كتب إلى أبيه بهذه الهدية؛ وهذا خطأ، لأن الشعر في تهنئة المعتصم بالخلافة، وإبراهيم الموصلي مات في حياة الرشيد، فكيف يهدى إليه هذا الصوت.
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبي قال حدثني أحمد بن أبي العلاء قال: اندفع محمد بن الحارث بن بسخنر يوما يغني هذا الصوت؛ فالتفت إلينا مخارق فقال: خرج ابن الزانية.
حدثني عمي قال حدثني أبو جعفر محمد بن الدهقانة النديم قال حدثني أحمد بن يحيى المكي قال: دعاني الفضل بن الربيع ودعا علويه ومخارقا، وذلك في أيام المأمون بعد رجوعه ورضاه عنه إلا أن حاله كانت ناقصة متضعضعة؛ فلما اجتمعنا عنده كتب إلى إسحاق الموصلي يسأله أن يصير إليه ويعلمه الحال في اجتماعنا عنده؛ فكتب إليهم: لا تنتظروني بالأكل فقد أكلت، وأنا أصير إليكم بعد ساعة؛ فأكلنا وجلسنا نشرب حتى قرب العصر، ثم وافى إسحاق فجلس، وجاء غلامه بقطرميز نبيذ فوضعه ناحية، وأمر صاحب الشراب بإسقائه منه، وكان علويه يغني الفضل بن الربيع في لحن لسياط اقترحه الفضل عليه وأعجبه، وهو:
فإن تعجبي أو تبصري الدهر طمني بأحداثه طم المقصص بالـجـلـم
فقد أترك الأصياف تندى رحالهـم وأكرمهم بالمحض والتامك السنـم
صفحة : 576
ولحنه من الثقيل الثاني - فقال له إسحاق: أخطأت يا أبا الحسن في أداء هذا الصوت، وأنا أصلحه لك؛ فجن علويه واغتاظ وقامت قيامته؛ ثم أقبل على علويه فقال له: يا حبيبي، ما أردت الوضع منك بما قلته لك، وإنما أردت تهذيبك وتقويمك، لأنك منسوب الصواب والخطأ إلى أبي وإلي، فإن كرهت ذلك تركتك وقلت لك: أحسنت وأجملت؛ فقال له علويه: والله ما هذا أردت، ولا أردت إلا ما لا تتركه أبدا من سوء عشرتك أخبرني عنك حين تجيء هذا الوقت لما دعاك الأمير وعرفك أنه قد نشط للاصطباح: ما حملك على الترفع عن مباكرته وخدمته مع صنائعه عندك، وما كان ينبغي أن يشغلك عنه شيء إلا الخليفة ثم تجيئه ومعك قطرميز نبيل ترفعا عن شرابه كما ترفعت عن طعامه ومجالسته إلا كما تشتهي وحين تنشط، كما تفعل الأكفاء، بل تزيد على فعل الأكفاء؛ ثم تعمد إلى صوت قد اشتهاه واقترحه وسمعه جميع من حضر فما عابه منهم أحد فتعيبه ليتم تنغيصك إياه لذته؛ أما والله لو الفضل بن يحيى أو أخوه جعفر دعاك إلى مثل ما دعاك إليه الأمير، بل بعض أتباعهم، لبادرن وباكرت وما تأخرت ولا اعتذرت؛ قال: فأمسك الفضل عن الجواب إعجابا بما خاطب به علويه إسحاق؛ فقال له إسحاق: أما ما ذكرته من تأخري عنه إلى الوقت الذي حضرت فيه، فهو يعلم أني لا أتأخر عنه إلا بعائق قاطع، إن وثق بذلك مني وإلا ذكرت له الحجة سرا من حيث لا يكون لك ولا لغيرك فيه مدخل. وأما ترفعي عنه، فكيف أترفع عنه وأنا أنتسب إلى صنائعه وأستمنحه وأعيش من فضله مذ كنت، وهذا تضريب لا أبالي به منك. وأما حملي النبيذ معي، فإن لي في النبيذ شرطا من طعمه وريحه، وإن لم أجده لم أقدر على الشرب وتنغص علي يومئذ، وإنما حملته ليتم نشاطي وينتفع بي. وأما طعني على ما اختاره، فإني لم أطعن على اختياره، وإنما أردت تقويمك، ولست والله تراني متتبعا لك بعد هذا اليوم ولا مقوما شيئا من خطئك؛ وأنا أغني له - أعزه الله - هذا الصوت فيعلم وتعلم ويعلم من حضر أنك أخطأت فيه وقصرت. وأما البرامكة وملازمتي لهم فاشهر من أن أجحده، وإني لحقيق فيه بالمعذرة، وأحرى أن أشكرهم على صنيعهم وبأن أذيعه وأنشره، وذلك والله أقل ما يستحقونه مني.
ثم أقبل على الفضل- وقد غاظه مدحه لهم - فقال: اسمع مني شيئا أخبرك به مما فعلوه ليس هو بكبير في صنائعهم عندي ولا عند أبي قبلي، فإن وجدت لي عذرا وإلا فلم: كنت في ابتداء أمري نازلا مع أبي في داره، فكان لا يزال يجري بين غلماني وغلمانه وجواري وجواريه الخصومة، كما تجري بين هذه الطبقات، فيشكونهم إليه، فأتبين الضجر والتنكر في وجهه؛ فاستأجرت دارا بقربه و انتقلت إليها أنا وغلماني وجواري، وكانت دارا واسعة، فلم أرض ما معي من الآلة لها ولا لمن يدخل إلي من إخواني أن يروا مثله عندي؛ ففكرت في ذلك وكيف أصنع، وزاد فكري حتى خطر بقلبي قبح الأحدوثة من نزول مثلي في دار بأجرة، وأني لا آمن في وقت أن يستأذن علي صاحب داري، وعندي من أحتشمه ولا يعلم حالي، فيقال صاحب دارك، أو يوجه في وقت فيطلب أجرة الدار وعندي من أحتشمه؛ فضاق بذلك صدري ضيقا شديدا حتى جاوز الحد؛ فأمرت غلامي بأن يسرج لي حمارا كان عندي لأمضي إلى الصحراء أتفرج فيها مما دخل على قلبي، فأسرجه وركبت برداء ونعل؛ فأفضى بي المسير وأنا مفكر لا
صفحة : 577
أميز الطريق التي أسلك فيها حتى هجم بي على باب يحيى بن خالد؛ فتواثب غلمانه إلي؛ وقالوا: أين هذا الطريق? فقلت: إلى الوزير؛ فدخلوا فاستأذنوا لي؛ وخرج الحاجب فأمرني بالدخول، وبقيت خجلا، قد وقعت في أمرين فاضحين: إن دخلت إليه برداء ونعل وأعلمته أني قصدته في تلك الحال كان سوء أدب، وإن قلت له: كنت مجتازا ولم أقصدك فجعلتك طريقا كان قبيحا؛ ثم عزمت فدخلت؛ فلما رآني تبسم وقال: ما هذا الزي يا أبا محمد احتبسنا لك بالبر والقصد والتفقد ثم علمنا أنك جعلتنا طريقا؛ فقلت: لا والله يا سيدي، ولكني أصدقك؛ قال: هات؛ فأخبرته القصة من أولها إلى آخرها؛ فقال: هذا حق مستو، أفهذا شغل قلبك? قلت: إي والله وزاد فقال: لا تشغل قلبك بهذا، يا غلام، ردوا حماره وهاتوا له خلعة؛ فجاءوني بخلعة تامة من ثيابه فلبستها، ودعا بالطعام فأكلت ووضع النبيذ فشربت وشرب فغنيته، ودعا في وسط ذلك بدواة ورقعة وكتب أربع رقاع ظننت بعضها توقيعا لي بجائزة، فإذا هو قد دعا بعض وكلائه فدفع إليه الرقاع وساره بشيء، فزاد طمعي في الجائزة؛ ومضى الرجل وجلسنا نشرب وأنا أنتظر شيئا فلا أراه إلى العتمة؛ ثم اتكأ يحيى فنام، فقمت وأنا منكسر خائب فخرجت وقدم لي حماري؛ فلما تجاوزت الدار قال لي غلامي: إلى أين تمضي? قلت: إلى البيت؛ قال: قد والله بيعت دارك، وأشهد على صاحبها، وابتيع الدرب كله ووزن ثمنه، والمشتري جالس على بابك ينتظرك ليعرفك، وأظنه اشترى ذلك للسلطان، لأني رأيت الأمر في استعجاله واستحثاثه أمرا سلطانيا، فوقعت من ذلك فيما لم يكن في حسابي، وجئت وأنا لا أدري ما أعمل؛ فلما نزلت على باب داري إذا أنا بالوكيل الذي ساره يحيى قد قام إلي فقال لي: ادخل - أيدك الله - دارك حتى أدخل إلى مخاطبتك في أمر أحتاج إليك فيه؛ فطابت نفسي بذلك، ودخلت ودخل إلي فأقرأني توقيع يحيى: يطلق لأبي محمد إسحاق مائة ألف درهم يبتاع له بها داره وجميع ما يجاورها ويلاصقها . والتوقيع الثاني إلى ابنه الفضل: قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها داره، فأطلق إليه مثلها لينفقها على إصلاح الدار كما يريد وبنائها على ما يشتهي . والتوقيع الثالث إلى جعفر: قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها منزل يسكنه، وأمر له أخوك بدفع مائة ألف درهم ينفقها على بنائها ومرمتها على ما يريد، فأطلق له أنت مائة ألف درهم يبتاع بها فرشا لمنزله . والتوقيع الرابع إلى محمد: قد أمرت لأبي محمد إسحاق أنا وأخواك بثلثمائة ألف درهم لمنزل يبتاعه ونفقة ينفقها عليه وفرش يبتذله، فمر له أنت بمائة ألف درهم يصرفها في سائر نفقته . وقال الوكيل: قد حملت المال واشتريت كل شيء جاورك بسبعين ألف درهم، وهذه كتب الابتياعات باسمي والإقرار لك، وهذا المال بورك لك فيه فاقبضه؛ فقبضته وأصبحت أحسن حالا من أبي في منزلي وفرشي وآلتي، ولا والله ما هذا بأكبر شيء فعلوه لي، أفألام على شكر هؤلاء فبكى الفضل بن الربيع وكل من حضر، وقالوا: لا والله لا تلام على شكر هؤلاء. ثم فال الفضل: بحياتي غن الصوت ولا تبخل على أبي الحسن بأن تقومه له؛ فقال: أفعل؛ وغناه، فتبين علويه أنه كما قال، فقام فقبل رأسه وقال: أنت أستاذنا وابن أستاذنا وأولى بتقويمنا واحتمالنا من كل أحد؛ ورده إسحاق مرات حتى استوى لعلويه.
ولقد روي في هذا الخبر بعينه أن هذه القصة كانت عند علي بن هشام، وقد أخبرني بهذا الخبر أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون وأبو عبد الله الهاشمي قالا: دعا علي بن هشام إسحاق الموصلي وسأله أن يصطبح عنده ويبكر فأجابه؛ فلما كان الغد وافاه ظهرا وعنده مخارق وعلويه؛ فقال له علي بن هشام: أين كنت الساعة يا أبا محمد? قال: عاقني أمر لم أجد من القيام به بدا؛ فدعا له بطعام فأصاب منه، ثم قعدوا على نبيذهم، وتغنى علويه صوتا، الشعر فيه لابن ياسين، وهو:
إلهي منحت الود مني بـخـيلة وأنت على تغـيير ذاك قـدير
شفاء الهوى بث الهوى واشتكاؤه وإن امرأ أخفى الهوى لصبور الغناء لسليمان أخي أحيحة، خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو - فقال له إسحاق: أخطأت ويلك فوضع علويه العود وشرب رطلا وشرب علي بن هشام؛ ثم تناول العود وغنى:
صفحة : 578
ولقد أسمو إلى غـرف في طريق موحش جدده
حوله الأحراس تحرسـه ولديه جاثـمـا أسـده الغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى عن عمرو - فقال له إسحاق: أخطأت ويلك فوضع العود من يده ثم أقبل على إسحاق فقال له: دعاك الأمير- أعزه الله - لتبكر إليه، فجئته ظهرا، وغنيت صوتين يشتهيهما الأمير- أعزه الله - علي فخطأتني فيهما، وزعمت أنك لا تغني بين يدي الأمير- أعزه الله - ولا تغني إلا بين يدي خليفة أو ولي عهد، ولو دعاك بعض البرامكة لكنت تسرع إليه ثم تغنى منذ غدوة إلى الليل؛ فقال إسحاق: إني والله ما أردت انتقاصا منك، ولا أقول مثله لغيرك ولا أريد ازدراء من أحد، ولكني أردت بك خاصة التقويم والتأديب؛ فإن ساءك ذلك تركتك في خطئك. ثم أقبل على علي بن هشام، فقال له: أعزك الله، إني أحدثك عن البرامكة بما يقيم عذري فيما ذكره: دخلت على يحيى بن خالد يوما، ولم أكن أردت الدخول عليه، وإنما ركبت متبذلا لهم أهمني، وكنت نازلا مع أبي في داره، فضقت صدرا بذلك وأحببت النقلة عنه، ونظرت فإذا يدي تقصر عما يصلحني؛ ثم ذكر الخبر نحوا مما قلته. وزاد فيه: أنه دخل إلى يحيى بن خالد وهو مصطبح، فلما رآه نعر وصفق، وأنه وقع له بمائتي ألف درهم، ووقع له كل من جعفر والفضل بمائة وخمسين ألفا، وكل واحد من موسى ومحمد بمائة ألف مائة ألف. وقال فيه: فبكى علي بن هشام ومن حضر، وقالوا: لا يرى والله مثل هؤلاء أبدا؛ وأخذ إسحاق العود فغنى الصوتين فأتى فيهما بالعجائب؛ فقام علويه فقبل رأسه وقال له: أنت أستاذنا وابن أستاذنا، وما بنا عن تقويمك غنى؛ ثم غنى بعد ذلك لحنه: تشكى الكميت الجري ، ولم يزل يغني بقية يومه كلما شرب علي بن هشام؛ ثم انصرف فأتبعه علي بن هشام بجائزة سنية.
حدثني الصولي قال حدثنا عون بن محمد قال حدثني عبد الله بن العباس الربيعي قال: أحضرني إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلما جلست واطمأننت، أخرج إلي خادمه رقعة، فقال: اقرأ ما فيها واعمل بما رسمه الأمير أعزه الله؛ فقرأتها فإذا فيها قوله:
يرتاح للدجن قلبي وهو مقتـسـم بين الهموم ارتياح الأرض للمطر
إني جعلت لهذا الدجن نحـلـتـه ألا يزول ولي في اللهو من وطر وتحث هذين البيتين: تقدم- جعلت فداك - إلى من بحضرتك من المغنين بأن يغنوا في هذين البيتين، وألق جميع ما يصنعونه على فلانة؛ فإذا أخذته فأنفذها إلي مع رسولي ؛ فقلت: السمع والطاعة لأمر الأمير أعزه الله، فهل صنع فيهما أحد قبلي? فقال: نعم، إسحاق الموصلي؛ فقلت: والله لو كلف إبليس أن يصنع فيهما صنعة يفضل إسحاق فيها بل يساويه بل يقاربه، ما قدر على ذلك ولا بلغ مبلغه، فضحك حتى استلقى، وقال: صدقت والله وهكذا يقول من يعمل لا كما يقول هؤلاء الحمقى، ولكن اصنع فيهما على كل حال كما أمر؛ فقلت: أفعل وقد برئت من العهدة؛ فانصرفت فصنعت فيهما صنعة كانت والله عند صنعة إسحاق بمنزلة غناء القرادين.
حدثني جحظة فال حدثني ميمون قال حدثني إسحاق الموصلي قال: قال لي المعتصم أو قال لي الواثق: لقد ضحك الشيب في عارضيك؛ فقلت: نعم يا سيدي، وبكيت؛ ثم قلت أبياتا في الوقت وغنيت فيها:
تولى شـبـابـك إلا قـلـيلا وحل المشيسب فصبرا جميلا
كفى حزنا بفراق الـصـبـا وإن أصبح الشيب منه بـديلا
ولما رأى الغانيات المـشـي ب أغضين دونك طرفا كليلا
سأندب عهدا مضى للصـبـا وأبكي الشباب بكاء طـويلا فبكى الواثق وحزن وقال: والله لو قدرت على رد شبابك لفعلت بشطر ملكي؛ فلم يكن لكلامه عندي جواب إلا تقبيل البساط بين يديه.
أخبرني محمد بن مزيد فال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني حمدون بن إسماعيل قال: لما صنع أبوك لحنه في:
قف بالديار التي عفا القدم وغيرتها الأرواح والديم رأيتهم يعني المغنين يأخذونه عنه ويجهدون فيه؛ فتوفي والله وما أخذوا منه إلا رسمه.
قف بالديار التي عفا القـدم وغيرتهـا الأرواح والـديم
لما وففنا بها نـسـائلـهـا فاضت من القوم أعين سجم
ذكرا لعيش مضى إذا ذكروا ما فات منه فإنـه سـقـم
صفحة : 579
وكل عيش دامت غضارته منقطع مرة ومنـصـرم الشعر والغناء لإسحاق، ثقيل أول بالوسطى من جميع أغانيه.
حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني هارون اليتيم قال حدثني عجيف بن عنبسة قال: كنت عند أمير المؤمنين المعتصم وعنده إسحاق الموصلي، فغناه:
قل لمن صد عاتبا ونأى عنك جانبا فأمره بإعادته، فأعاده ثلاثا، وشرب عليه ثلاثا، فقال له إبراهيم بن المهدي: قد استحسنت هذا الصوت يا أمير المؤمنين، أفنأخذه? قال: نعم، خذوه فقد أعجبني؛ فاجتمع جماعة المغنين: مخارق وعلويه وعمرو بن بانة وغيرهم، فأمره المعتصم أن يلقيه عليهم حتى يأخذوه؛ فقال عجيف: فعددت خمسين مرة قد أعاده فيها عليهم وهم يظنون أنهم قد أخذوه ولم يكونوا أخذوه. قال هارون: فنحن في هذا الحديث إذ دخل علينا محمد بن الحارث بن بسخنر، فقال له عجيف: يا أبا جعفر، كنت أحدث أبا موسى بحديثنا البارحة مع إسحاق في الصوت وأني عددت خمسين مرة؛ فقال محمد: إي والله- أصلحك الله - ولقد عددت أنا أكثر من سبعين مرة وما في القوم أحد إلا وهو يظن أنه قد أخذه، والله ما أخذه أحد منهم وأنا أولهم ما قدرت - علم الله - على أخذه على الصحة وأنا أسرعهم أخذا، فلا أدري: ألكثرة زوائده فيه أم لشدة صعوبته؛ ومن يقدر أن يأخذ من ذلك الشيطان شيئا. أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني عجيف بن عنبسة بهذا الخبر فذكر مثله سواء.
قال أبو أيوب وحدثني حماد عن أبيه قال: كنت يوما عند المعتصم، فمر شعر على هذا الوزن فقال: وددت أنه على غير ما هو؛ فقلت له: أنا لك به على هذا الوزن في أحسن من هذا الشعر:
قل لمن صد عاتبا ونأى عنك جانبـا
قد بلغت الذي أرد ت وإن كنت لاعبا فأعجبه، وقال لي: قد والله أحسنت وأمر لي بألفي دينار، ووالله ما كانت قيمتهما عندي دانقين الشعر والغناء في هذين البيتين لإسحاق، ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى.
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني ابن المكي عن إسحاق قال: غضب علي المخلوع فأقصاني وجفاني، فاشتد ذلك علي - قال: وجفاني وهو يومئذ بالأنبار- فحملت عليه بالفضل بن الربيع، فطلب إليه فشفعه المخلوع ودعاني وهو مصطبح، فلم أزل متوقفا وقد لبست قباء وخفا أحمر واعتصبت بعصابة صفراء وشددت وسطي بشقة حمراء من حرير، فلما أخذوا في الأهزاج دخلت وفي يدي صفاقتان وأنا أتغنى:
اسمع لصوت طريب من صنعة الأنباري
صوت مليح خفـيف يطير في الأوتـار الشعر والغناء لإسحاق، هزج بالبنصر- فسر بذلك محمد، وكان صوتهم في يومهم ذلك، وأمر لي بثلثمائة ألف درهم. وأخبرني جحظة بهذا الخبر عن محمد بن أحمد بن يحيى المكي قال حدثني أبي أن إسحاق حدثه بهذا الخبر، وذكر مثل ما ذكره يحيى؛ وزاد فيه قال: وكان سبب تسمية محمد لي ب الأنباري أني دخلت عليه يوما وقد لثت عمامتي على رأسي لوثا غير مستحسن، فقال لي: يا إسحاق، كأن عمامتك من عمائم أهل الأنبار.
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق، وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق، وأخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبي: قال إسحاق: قلت في ليلة من الليالي:
هل إلى نظرة إليك سبـيل يرو الصدى ويشفى الغليل
إن ما قل منك يكثر عندي وكثير ممن تحب القلـيل قال: فلما أصبحت أنشدتهما الأصمعي، فقال: هذا الديباج الخسرواني، هذا الوشي الإسكندراني، لمن هذا? فقلت له: إنه ابن ليلته؛ فتبينت الحسد في وجهه، وقال: أفسدته أفسدته أما إن التوليد فيه لبين. في هذين البيتين لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر.
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى قال حدثني إسحاق بهذا الخبر، فذكر مثل ما ذكره من قدمت الرواية عنه، وزاد فيه: فقال لي علي بن يحيى بعقب هذا الخبر: كان إسحاق يعجب بهذا المعنى ويكرره في شعره، ويرى أنه ما سبق إليه ة فمن ذلك قوله:
أيها الظبي الغرير هل لنا منك مجير
إن ما نولتني مـن ك وإن قل كثـير
صفحة : 580
لحن إسحاق خفيف ثقيل بالوسطى - فقلت: إنك فد سبقت إلى هذا المعنى، فقال: ما علمت أن أحدا سبقني إليه؛ فأنشدته لأعرابي من بني عقيل:
قفي ودعينا يا مليح بنـظـرة فقد حان منا يا مليح رحـيل
أليس قليلا نظرة إن نظرتهـا إليك وكلا ليس منك قـلـيل
عقيلية أمـا مـلاث إزارهـا فوعث وأما خصرها فضئيل
أيا جنة الدنيا ويا غاية المنـى ويا سؤل نفسي هل إليك سبيل
أراجعة نفسي إلي فأغـتـدي مع الركب لم يقتل عليك قتيل
فما كل يوم لي بأرضك حاجة ولا كل يوم لي إليك رسـول قال: فحلف أنه ما سمع بذلك قط. قال علي بن يحيى: وصدق، ما سمع بها. الغناء في الأبيات الأخيرة من أبيات العقيلى.
حدثني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن محمد بن أبي طالب الديناري بمكة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي. قال: عاتبني إبراهيم بن المهدي في ترك المجيء إليه، فقال لي: من جمع لك مع المودة الصادقة رأيا حازما، فاجمع له مع المحبة الخالصة طاعة لازمة؛ فقلت له: جعلني الله فداك، إذا ثبتت الأصول في القلوب، نطقت الألسن بالفروع، والله يعلم أن قلبي لك شاكر، ولساني بالثناء عليك ناثر؛ وما يظهر الود المستقيم، إلا من القلب السليم؛ قال: فأبرىء ساحتك عندي بكثرة مجيئك إلي؛ فقلت: أجعل مجيئي إليك في الليل والنهار نوبا أتيقظ لها كتيقظي للصلوات الخمس، وأكون بعد ذلك مقصرا؛ فضحك وقال: من يقدر على جواب المغنين؛ فقلت: من اتخذ الغناء لنفسه ولم يتخذه لغيره؛ فضحك أيضا، وأمر لي بخلع ودنانير وبرذون وخادم. وبلغ الخبر المعتصم، فضاعف لإبراهيم ما أعطاني، فرحت وقد ربحت وأربحت.
حدثنا الحرمي قال حدثنا الديناري قال حدثني إسحاق قال: عتب علي الفضل بن الربيع في شيء بلغه عني؛ فكتبت إليه: إن لكل ذنب عفوا وعقوبة؛ فذنوب الخاصة عندك مستورة مغفورة، فأما مثلي من العامة فذنبه لا يغفر، وكسره لا يجبر؛ فإن كنت لا بد معاقبي فإعراض لا يؤدي إلى مقت .
حدثني الحرمي قال حدثنا الديناري قال حدثني إسحاق قال: كان يختلف إلي رجل من الأعراب، وكان الفضل بن الربيع يقر به ويستظرف كلامه، وكان عندي يوما وجاء رسول الفضل يطلبه فمضى إليه؛ فقال له الفضل: فيم كنتم? قال: كنا في قدر تفور، وكأس تدور، وغناء يصور، وحديث لا يحور.
حدثنا الحرمي قال حدثنا الحسين بن طالب قال: كان إسحاق يقول الشعر على ألسن الأعراب، وينشده للأعراب، وكان يعايي بذلك أصحابه ويغرب عليهم به؛ فمن ذلك ما أنشدنيه لأعرابي:
لفظ الخدور عليك حورا عينـا أنسين ما جمع الكناس قطينـا
فإذا بسمن فعن كمثل غـمـامة أو أقحوان الرمل بات معينـا
وأصح من رأت العيون محاجرا ولهن أمرض ما رأيت عيونـا
وكأنما تلـك الـوجـوه أهـلة أقمرن بين العشر والعشرينـا
وكأنهن إذا نهضـن لـحـاجة ينهضن بالعقدات من يبـرينـا قال: وأنشدني أيضا مما كان ينسبه إلى الأعراب وهو له:
ومكحولة العينين من غير ما كحـل مهفهفة الكشحين ذات شوى خـدل
منغمة الأطراف مفعـمة الـبـرى روادفها تحكي الدهاس من الرمل
صيود لألباب الرجال، متـى رنـت إلى ذي نهى جلد القوى وافر العقل
تخلى النهى عنه وحالفه الـصـبـا وأسلمه الرأي الأصيل إلى الجهـل
شبيبة كثبان يروقـك تـحـتـهـا عنا قيد كرم جادها غدق الـوبـل
رمتني فحلت نائطي ولم تـصـب لها نائطي قلب ولا مقتلا نبـلـي حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثت عن الأصمعي قال: دخلت أنا وإسحاق الموصلي يوما على الرشيد فرأيناه لقس النفس؛ فأنشده إسحاق يقول:
وآمرة بالبخل قلت لها آقصـري فذلك شيء مـا إلـيه سـبـيل
أرى الناس خلان الكرام ولا أرى بخيلا له حتى الممات خـلـيل
وإني رأيت البخل يزري بأهلـه فأكرمت نفسي أن يقال بخـيل
صفحة : 581
ومن خير حالات الفتى لو علمته إذا نال خـيرا أن يكـون ينـيل
فعالى فعال المكثرين تـجـمـلا وما لي كما قد تعلمـين قـلـيل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ورأي أمير المؤمنـين جـمـيل قال: فقال الرشيد: لا تخف إن شاء الله؛ ثم قال: لله در أبيات تأتينا بها؛ ما أشد أصولها، وأحسن فصولها، وأقل فضولها وأمر له بخمسين ألف درهم؛ فقال له إسحاق: وصفك والله يا أمير المؤمنين لشعري أحسن منه، فعلام آخذ الجائزة فضحك الرشيد وقال: اجعلوها لهذا القول مائة ألف درهم. قال الأصمعي: فعلمت يومئذ أن إسحاق أحذق بصيد الدراهم مني. وأخبرني بهذا الخبر جعفر بن قدامة عن حماد عن أبيه، وأخبرنا به يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق فذكر معنى الخبر قريبا مما ذكره الأصمعي والألفاظ تختلف.
أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق، وأخبرني به جعفر بن قدامة ووكيع عن حماد عن أبيه قال: كنت عند الفضل بن الربيع يوما، فدخل إليه ابن ابنه عبد الله بن العباس بن الفضل وهو طفل، وكان يرق عليه لأن أباه مات في حياته، فأجلسه في حجره وضمه إليه ودمعت عليناه؛ فأنشأت أقول:
مد لك الله الحـياة مـدا حتى يكون ابنك هذا جدا
مؤزرا بمجـده مـردى ثم يفدى مثل ما تفـدى
أشبه منك سـنة وخـدا وشيما مرضتة ومجـدا
كأنه أنـت إذا تـبـدى شمائلا محمـودة وقـدا قال: فتبسم الفضل وقال: أمتعني الله بك يا أبا محمد، فقد عوضت من الحزن سرورا وتسليت بقولك، وكذلك يكون إن شاء الله. قال جعفر بن قدامة: وحدثني بهذا الحديث علي بن يحيى، فذكر أن إسحاق قال هذه الأبيات للفضل بن يحيى وقد دخل عليه وفي حجره ابن له.
غنى في هذه الأبيات أبو عيسى بن المتوكل لحنا من الرمل، يقال: إنه صنعه وقد ولد للمعتمد ولد ثم غنى به. وأخبرني ذكاء وجه الرزة عن بدعة الكبيرة: أن الرمل لعريب، وأن لحن أبي عيسى خفيف رمل.
حدثني عمي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي عن إسحاق قال: أتيت الفضل بن الربيع يوما عائدا وجاءه بنو هاشم يعودونه؛ فقلت في مجلسي ذلك:
إذا ما أبو العباس عيد ولم يعـد رأيت معودا أكرم الناس عائدا
وجاء بنو العباس يبـتـدرونـه مراضا لما يشكوه مثنى وواحدا
يفدونه عند السـلام وكـلـهـم مجل له يدعوه عمـا ووالـدا قال: وكان الفضل مضطجعا، فأمر خادما له فأجلسه، ثم قال لي: أعد يا أبا محمد فأعدت، فأمرني فكتبتها، وسر بها وجعل يرددها حتى حفظها.
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال أخبرني أبي قال قال إسحاق، وأخبرني الحسن بن على الخفاف قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك عن إسحاق قال: جاءني الزبير بن دحمان يوما مسلما فاحتبسته؛ فقال لي: أمرني الفضل بن الربيع بالمسير إليه؛ فقلت له:
أقم يا أبا العوام ويحـك نـشـرب ونله مع اللاهين يوما ونطـرب
إذا ما رأيت اليوم قد جـاء خـيره فخذه بشكر واترك الفضل يغضب فأقام عندي وسررنا يومنا؛ ثم صار إلى الفضل؛ فسأله عن سبب تأخره عنه؛ فحدثه الحديث وأنشده البيتين؛ فغضب وحول وجهه عني، وأمر عونا حاجبه بألا يدخلني إليه ولا يستأذن لي عليه ولا يوصل لي رقعة؛ فقلت:
حرام علي الكأس ما دمت غضبانا وما لم يعد عني رضاك كما كانا
فأحسن فإني قد أسأت ولم تـزل تعودني عند الإساءة إحـسـانـا قال: وأنشدته إياهما، فضحك ورضي عني وعاد إلى ما كان عليه. وقد أخبرني بهذا الخبر محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه، فذكر مثله وزاد فيه: فقلت في عون حاجبه:
عون يا عون ليس مثلك عـون أنت لي عدة إذا كـان كـون
لك عندي والله إن رضى الفض ل غلام يرضـيك أو بـرذون قال: فأتى عون الفضل بالشعرين جميعا؛ فقرأهما وضحك وقال: ويحك إنما عرض لك بقوله: غلام يرضيك بالسوءة؛ قال: قد وعدني ما سمعت، فإن شئت أن تحرمنيه فأنت أعلم؛ فأمره أن يرسل إلي؛ فأتاني رسوله فصرت إليه فرضي عني.
صفحة : 582
أخبرني جحظة قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي المرتجل قال حدثني أبي قال حدثني الزبير بن دحمان قال: دخلت يوما على الفضل بن الربيع مسلما؛ فقال لي: قد عزمت غدا على الصبوح، فصر إلي بكرة؛ فكنت أنا والصبح كفرسي رهان؛ فلما أصبحت في غد جعلت طريقي على إسحاق بن إبراهيم فدخلت إليه، فلما جلست قال لي: أقم اليوم عندي؛ فعرفته خبري؛ فقال:
أقم يا أبا العوام ويحـك نـشـرب ونله مع اللاهين يوما ونطـرب
إذا ما رأيت اليوم قد جـاء خـيره فخذه بشكر واترك الفضل يغضب فقلت: إني لا آمن غضبه، وأنا بين يديك؛ فقال لي: أنت تعلم أن صبوح الفضل أبدا في وفت غبوق الناس، فأقم وارفق بنفسك ثم امض إليه؛ فأجبته إلى ذلك؛ فلما شربنا طاب لي الموضع، فأقمت حتى سكرت. وذكر باقي الخبر نحوا مما ذكر إسحاق. انتهى.
حدثني جحظة قال حدثني محمد بن المكي المرتجل قال: قلت لزرزور الكبير: كيف كان إسحاق ينفق على الخلفاء معكم وأنت وإبراهيم بن المهدي ومخارق أطيب أصواتا وأحسن نغمة? قال: كنا والله يا بني نحضر معه فنجتهد في الغناء ونقيم الوهج فيه ويقبل علينا الخلفاء، حتى نطمع فيه ونظن أنا قد غلبناه، فإذا غنى عمل في غنائه أشياء من مداراته وحذقه ولطفه حتى يسقطنا كلنا ويقبل عليه الخليفة دوننا ويجيزه دوننا ويصغى إليه، ونرى أنفسنا اضطرارا دونه.
حدثنا جحظة قال حدثني محمد بن أحمد المكي قال حدثني أبي قال: كان المغنون يجتمعون مع إسحاق وكلهم أحسن صوتا منه، ولم يكن فيه عيب إلا صوته فيطمعون فيه؛ فلا يزال بلطفه وحذقه ومعرفته حتى يغلبهم ويبذهم جميعا ويفضلهم ويتقدمهم. قال: وهو أول من أحدث التخنيث ليوافق صوته ويشاكله، فجاء معه عجبا من العجب؛ وكان في حلقه نبو عن الوتر. أخبرني يحيى بن علي قال أخبرنا أبو العبيس بن حمدون: أن إسحاق أول من جاء بالتخنيث في الغناء ولم يكن يعرف، وإنما احتال بحذقه لمنافرة حلقه الوتر، حتى صار يجيبه ببعض التخنيث فيكون أحسن له في السمع.
أخبرنا جحظة قال حدثني الهشامي عن أبيه قال: كان المغنون إذا حضروا وليس إسحاق معهم غنوا هوينى وهم غير مفكرين؛ فإذا حضر إسحاق لم يكن إلا الجد.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني إسحاق الموصلي قال: قال لي أبي وقد انصرف من دار الرشيد: رأيت الأمير جعفر بن يحيى يستبطئك ويقول: لست أراه ولا يغشاني؛ فقلت: إني لآتيه كثيرا فأحجب عنه ويصرفني نافذ حاجبه ويقول: هو على شغل؛ قال: فبلغه أبي ذلك؛ فقال له: قل له: أنكه أمه إذا فعل؛ فأقمت أياما ثم كتبت إليه:
جعلت فداءك من كل سوء إلى حسن رأيك أشكو اناسا
يحولون بيني وبين السـلام فلست أسلم إلا اختـلاسـا
وأنفذت أمرك في نـافـذ فما زاده ذاك إلا شماسـا وقد أخبرني الخبر محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه، فذكر مثله وقال: كان خادم يحجبه يقال له: نافذ، فقال: إذا حجبك فنكه؛ فلما كتبت إليه بهذه الأبيات بعث فأحضرني؛ فلما دخلت إليه أحضر نافذا وقرأ الأبيات عليه، وقال لي: أفعلتها يا عدو الله فغضب نافذ حتى كاد يبكي، وجعل جعفر يضحك ويصفق؛ ثم ما عاد بعد ذلك يتعرض لي.
حدثني الحسين بن أبي طالب قال حدثني عبيد الله بن المأمون، وأخبرنا اليزيدي عن عمه عبيد الله عن أبيه قال: غضب المأمون على إسحاق بن إبراهيم، ثم كلم فيه فرضي عنه ودعا به؛ فلما وقف بين يديه اعتذر وقبل الأرض بين يديه واستقاله؛ فأجابه المأمون جوابا جميلا، ثم قال له في أثناء كلامه:
فلا أنت أعتبـت مـن زلة ولا أنت بالغت في المعفرة
ولا أنت وليتنـي أمـرهـا فأغفر ذنبك عن مـقـدره هكذا في الخبر؛ وأظنه إسحاق بن إبراهيم الطاهري لا الموصلي.
أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن أبي طالب قال حدثني إسحاق قال: أنشدت أبا الأشعث الأعرابي شعرا لي، فقال: والذي أصوم له مخافته ورجاءه، إنك لمن طراز ما رأيت بالعراق شيئا منه، ولو كان شباب يشترى لاشتريته لك ولو بإحدى يدي، وإن في كبرك لما زان الجليس وسره.
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الديناري قال حدثنا إسحاق قال:
صفحة : 583
قالت لي زهراء الكلابية: ما فعل عبد الله بن خزداذبه? فقلت: مات؛ فقالت: غير ذميم ولا لئيم، غفر الله لصداه، لقد كان يحبك ويعجبه ما سرك. قال: فقلت لزهراء: حدثيني عن قول الشاعر:
أحبك أن أخبرت أنك فارك لزوجك إني مولع بالفوارك ما أعجبه من بغضها لزوجها? فقالت: عزفته أن في نفسها فضلة من جمال وشمخا بأنفها وأبهة، فأعجبته.
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثت عن غير واحد: أن إسحاق الموصلي دخل على المعتصم يوما من الأيام فرآه لقس النفس، فقال له: أما ترى يا أمير المؤمنين طيب هذا اليوم وحسنه؛ فقال المعتصم: ما يدعوني حسنه إلى شيء مما تريد ولا أنشط له؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه يوم أكل وشرب؛ فاشرب حتى انشطك؛ قال: أو تفعل? قال: نعم ة قال: يا غلمان، قدموا الطعام والشراب ومدوا الستارة، وأحضروا الندماء والمغنين؛ فأتي بالطعام فأكل وبالشراب فشرب وحضر الندماء والمغنون؛ فغناه إسحاق:
سقيت الغيث يا قصر السلام فنغم محلة الملك الهـمـام
لقد نشر الإله عليك نـورا وخصك بالسلامة والسلام الشعر والغناء لإبراهيم الموصلي رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وذكر حبش أن فيه للزبير بن دحمان لحنا من الرمل بالوسطى - قال: فطرب المعتصم وشرب شربا كثيرا، ولم يبق أحد بحضرته إلا وصله وخلع عليه وحمله؛ وفضل إسحاق في ذلك أجمع.
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن إسحاق قال: أول جائزة أخذتها من الرشيد ألف دينار في أول يوم دخلت إليه فغنيته:
علق القلب بزوعا فاستحسنه واستعاده ثلاث مرات وشرب عليه ثلاثة أرطال وأمر لي بألف دينار؛ فكان أول جائزة أجازنيها.
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق قال: كان أبي ذات يوم عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلما جلسوا للشراب جعل الغلمان يسقون من حضر، وجاء غلام قبيح الوجه إلى أبي بقدح نبيذ فلم يأخذه؛ ورآه إسحاق فقال له: لم لا تشرب? فكتب إليه أبي:
اصبح نديمك أقداحا يسلسلـهـا من الشمول وأتبعها بـأقـداح
من كف ريم مليح الدل ريقتـه بعد الهجوع كمسك أوكتـفـاح
لا أشرب الراح إلا من يدي رشأ تقبيل راحته أشهى من الـراح فضحك وقال: صدقت والله، ثم دعا بوصيفة كأنها صورة، تامة الحسن لطيفة الخصر في زي غلام عليها أقبية ومنطقة، فقال لها: تولى سقي أبي محمد؛ فما زالت تسقيه حتى سكر؛ ثم أمر بتوجيهها وكل مالها في داره إليه، فحملت معه.
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الصباح قال: كانت امرأة من بني كلاب يقال لها زهراء تحدث إسحاق وتناشده، وكانت تميل إليه، وتكني عنه في عشيرتها إذا ذكرته بجمل؛ فال: فحدثني إسحاق أنها كتبت إليه وقد غابت عنه تقول:
وجدي بجمل على أني أحمجـمـه وجد السقيم ببرء بـعـد إدنـاف
أو وجد ثكلى أصاب الموت واحدها أو وجد مغترب مـن بـين آلاف قال: فأجبتها:
أقر السلام على الزهراء إذ شحطت وقل لها قد أذقت القلب ما خـافـا
أما رثيت لمن خلفت مـكـتـئبـا يذري مدامعه سحـا وتـوكـافـا
فما وجدت علـى إلـف أفـارقـه وجدي عليك وقد فـارقـت ألافـا أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال أنشدني إسحاق لنفسه:
سقى الله يوم الماوشان ومجـلـسـا به كان أحلى عندنا من جنى النحل
غداة اجتنينا اللهو غضا ولـم نـبـل حجاب أبي نصر ولا غضبة الفضل
غدونا صحاحا ثم رحنـا كـأنـنـا أطاف بنا شر شديد من الـخـبـل فسألته أن يكتبها ففعل؛ فقلت له: ما حديث الماوشان? فضحك وقال: لو لم أكتبك الأبيات لما سألت عما لا يعنيك؛ ولم يخبرني.
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن الحارث وأبو مسلم عن ابن الأعرابي: أنه كان يصف إسحاق الموصلي ويقرظه ويثني عليه ويذكر أدبه وحفظه وعلمه وصدقه، ويستحسن قوله:
صفحة : 584
هل إلى أن تنام عيني سبـيل إن عهدي بالنوم عهد طـويل
غاب عني من لا أسمي فعيني كل يوم وجدا عليه تـسـيل الشعر والغناء لإسحاق رمل بالوسطى- قال: وكان إسحاق إذا غناه تفيض دموعه على لحيته ويبكي أحر بكاء. وأخبرنا به يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق. وحديث موسى عن حماد أتم، واللفظ له.
أخبرني الصولي والحسن بن علي قالا حدثنا محمد بن موسى عن حماد بن إسحاق قال: أول صوت صنعه أبي:
إني لأكني بأجبال عن اجبلها وباسم أودية عن اسم واديها وآخر صوت صنعة مختارا:
قف نحي المغانيا والطلول البواليا ثم قطع الصنعة حتى أمره الواثق بأن يعارض صنعته في:
لقد بخلت حتى لو أني سألتها قال حماد وحدثني أبي قال: كان المغنون يحسدونني مذ كنت غلاما، فلما مات أبي صنعت هذا الصوت، فهو أول صوت صنعته بعد وفاته، و هو:
أمن آل ليلى عرفت الطلولا بذي حرض ماثلات مئولا فقالوا للرشيد: هذا من صنعة أبيه فقد انتحله؛ فقال لي الرشيد في ذلك، فقلت: هذا ومائة بعده خير منه لهم؛ فقال: اصنع في شعر الأخطل:
أعاذلتي اليوم ويحكمـا مـهـلا وكفا الأذى عني ولا تكثرا العذلا فصنعت فيه كما أمرني؛ فلما سمعوا بذلك وما جاء بعده أذعنوا، وزال عن قلب الرشيد ما كان ظنه بي. وقد ذكر غير حماد أن اللحن الذي اختبره به الرشيد قوله:
كنت صبا وقلبي الـيوم سـال عن حبيب يسيء في كل حال وذكر أن الفضل بن الربيع قال الشعر في ذلك الوقت ودفعه إليه وأمره الرشيد أن يصنع فيه ففعل. وأخبرني بذلك محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق، وأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال: أول ما سمعه الرشيد من غناء أبي:
ألم تسأل فتخبرك المغانـي وكيف وهن مذ حجج ثماني
برئت من المنازل غير شوق إلى الدار التي بلوي أبـان
ديار للتي لجلجـت فـيهـا ولو أغربت لج بها لسانـي
فكاد يظل للعينـين غـرب بربعي دمنة لا ينطـقـان قال: فحدثني أبي أن المغنين قالوا للرشيد: هذا من صنعة أبيه انتحله بعد وفاته؛ فقلت له: أنا أدع لهم هذا ومائة صوت بعده؛ ثم نظروا إلى ما جاء بعد ذلك فأذعنوا.
قف نحي المغانـيا والطلول البوالـيا
وعلى أهلها فنـح وابك إن كنت باكيا الشعر لابن ياسين. والغناء لإسحاق ثقيل أول بالوسطى.
أمـن آل لـيلـى عـرفـت الـطـلـــولا بذي حـرض مـاثـــلات مـــثـــولا
بلين وتحسب آياتهن عن فرط حولين رقا محيلا الشعر لكعب بن زهير. والغناء لإسحاق ثاني ثقيل بالبنصر.
أعاذلتي اليوم ويحكمـا مـهـلا وكفا الأذى عني ولا تكثرا العذلا
دعاني تجد كفي بمالي فإنـنـي سأصبح لا أسطيع جودا ولا بخلا
إذا وضعوا فوق الصفيح جنـادلا علي وخلفت المطية والرحـلا
فلا أنا مجتاز إذا مـا نـزلـتـه ولا أنا لاق ما ثويت بـه أهـلا الشعر للأخطل، والغناء لإسحاق، ثقيل أول بالوسطى.
إني لأكني بأجبال عن اجبلـهـا وباسم أودية عن اسـم واديهـا
عمدا ليحسبها الواشون غـانـية أخرى وتحسب أني لا أباليهـا
ولا يغير ودي أن أهاجـرهـا ولا فراق نوى في الدار أنويها
وللقلوص ولي منها إذا بعـدت بوارح الشوق تنضيني وأنضيها الشعر لأعرابي، والغناء لإسحاق هزج بالبنصر.
حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن حمدون قال: قال إسحاق للواثق يوما: الأهزاج من أملح الغناء؛ فقال الواثق: أما إذا كانت مثل صوتك:
إني لأكنى بأجبال عن اجبلها وباسم أودية عن اسم واديها فهي كذلك.
قال أحمد بن أبي طاهر حدثني أحمد بن يحيى الرازي عن محمد بن المثنى عن الحجاج بن قتيبة بن مسلم قال:
صفحة : 585
قال إسحاق: بعث إلي طلحة بن طاهر وقد انصرف من وقعة للشراة وقد أصابته ضربة في وجهه؛ فقال لي الغلام: أجب؛ فقلت: وما يعمل? قال: يشرب؛ فمضيت إليه فإذا هو جالس قد عصب ضربته وتقلنس بقلنسوة؛ فقلت له: سبحان الله أيها الأمير ما حملك على لبس هذا? قال: التبرم بغيره، ثم قال: غن:
إني لأكنى بأجبال عن اجبلها قال: فغنيته إياه، فقال: أحسنت والله أعد فأعدت وهو يشرب حتى صلى العتمة وأنا. أغنيه؛ فأقبل على خادم له بالحضرة وقال له: كم عندك? قال: مقدار سبعين ألف درهم؛ قال: تحمل معه. فلما خرجت من عنده تبعني جماعة من الغلمان يسألوني، فوزعت المال بينهم؛ فرفع الخبر إليه فأغضبه ولم يوجه إلي ثلاثا؛ فجلست ليلا وتناولت الدواة والقرطاس فقلت:
علمني جودك السماح فـمـا أبقيت شيئا لدي من صلـتـك
لم أبق شيئا إلا سمحـت بـه كأن لي قدرة كمـقـدرتـك
تتلف في اليوم بالهبات وفـي الساعة ما تجتنيه في سنتـك
فلست أثري من أين تنفق لـو لا أن ربي يجزى على صلتك فلما كان في اليوم الرابع بعث إلي، فصرت إليه ودخلت عليه فسلمت، فرفع بصره إلي وقال: اسقوه رطلا فسقيته، وأمر لي بآخر وآخر فشربت لاثا، م قال لي: غن:
إني لأكنى بأجبال عن اجبلها فغنيته م أتبعته بالأبيات التي قلتها، وقد كنت غنيت فيها لحنا في طريقة الصوت، فقال: ادن فدنوت، وقال: اجلس فجلست، فاستعاد الصوت الذي صنعته فأعدته. فلما فهمه وعرف معنى الشعر قال لخادم له: أحضرني فلانا فأحضره، فقال: كم قبلك من مال الضياع? قال: مانمائة ألف درهم، فقال: احضر بها الساعة، فجيء بثمانين بدرة، فقال للخادم: جئني بثمانين غلاما مملوكا، فأحضروا، فقال: احملوا هذا المال، م قال: يا أبا محمد، خذ المال والمماليك حتى لا تحتاج أن تعطي لأحد منهم شيئا.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن محمد بن طالب قال: كان إسحاق بن إبراهيم الموصلي كثير الغشيان لإسحاق بن إبراهيم بن مصعب والحضور لسمره، وكان إسحاق بن إبراهيم يرى ذلك له ويسني جوائزه ويواتر صلاته ويشاوره في بعض أموره ويسمع منه، فأصيب، إسحاق ببصره قبل موته بسنتين، فترك زيارة إسحاق وغيره ممن كان يغشاهم ولزم بيته. وخرج إسحاق يوما إلى بستان له بباب قطربل وخرج معه ندماؤه وفيهم موسى بن صالح بن شيخ بن عميرة ومحمد بن راشد الخناق والحراني، فجرى ذكر إسحاق الموصلي، فتوجع له إسحاق وذكر أنسه به وتمنى حضوره، وذكره، القوم فأطنبوا في نشر محاسنه وشيعوا ما ذكره به إسحاق بما حسن موقعه لهم عنده وذكره محمد بن راشد ذكرا لم يحمده أصحابه عليه، وزجره إسحاق، فأمسك عنه، فلما انصرفوا من مجلسهم نمي إلى إسحاق الموصلي ما كان فيه القوم في يومهم وما جرى من ذكره، فكتب إلى موسى بن صالح:
ألا قل لموسى الخير موسى بن صالح ومن هو دون الخلق إلفي وخلصاني
ومن لوسألت الناس عنه لأجمـعـوا على أنه أفتى معـد وقـحـطـان
لعمري لئن كان الأمير تـمـنـانـي بمجلس لـذات ونـزهة بـسـتـان
لقد زادني ما كان مـنـه صـبـابة وجدد لي شوقا إلـيه وأبـكـانـي
وما زال ممتنا علـي يخـصـنـي بما لست أحصي من أياد وإحسـان
هو السيد القرم الـذي مـا يرى لـه من الناس إن حصلتـه أبـدا انـي
نمته روابي مصعـب وبـنـى لـه كريم المساعي في أرومته بـانـي
يعز علي أن تـفـوزوا بـقـربـه ولست إليه بالقـريب ولا الـدانـي
فيا ليت شعري هل أروحـن مـرة إليه فيلقاني كمـا كـان يلـقـانـي
وهل أرين يوما غضـارة مـلـكـه وسلطانه لازال في عز سلـطـان
وهل أسمعن ذاك المزاح الـذي بـه إذا جئته سليت همـي وأحـزانـي
إذا قال لي يا مرد مي خر وكرهـا علي وكناني مزاحـا بـصـفـوان هذا كلام بالفارسية تفسيره: يا رجل اشرب النبيذ:
فيا لك من ملهى أنيق ومجلس كريم ومن مزح كثير بألوان
صفحة : 586
وهل يغمزن بي ذو الهنات ابن راشد وذاك الكريم الجد مـن آل حـران
وهل أرين موسى الكريم ابن صالح ينازعني صوتا إذا هو غـنـانـي )يريد الغناء في:
فلم أر كالتجمير منظر ناظـر ولا كليالي النفر أفتن ذا هوى
إذا صاح بالتجمـير م أعـاده بتحقيق إعراب صحيح وتبيان
أولئك إخواني الذين أحبـهـم وأوثرهم بالود من بين إخواني
وما منهم إلا كـريم مـهـذب حبيب إلى إخوانه غير خوان فأجابه محمد بن راشد:
بعثت بشعـر فـيه أن رسـالة أتتك لموسى عن جماعة إخوان
بشوق وذكر للجميل ولـم يكـن لموسى لعمري في سلامته اني
ولكن نطقنا بالذي أنت أهـلـه وما تستحق من صديق وندمان
وموسى كريم لم يحط بك خبره كخبر ندامى قد بلوك وإخـوان
ولو قد بلاك قال فيك كقول من فسدت عليه من خليل وخلصان
ولم يعره شوق إليك ولـم يجـد لفقدك مسا عند نزهة بسـتـان
حمدت الندامى كلهم غير إنسان ألا إنما يجني على نفسه الجاني
فلا تعتب الإخوان من بعدها فما تنقض إخوان المودة من شاني قال: فأجابه إسحاق:
عجبت لمخذول تعـرض جـانـيا لليث أبي شبلين من أسد خـفـان
أتانا بشعر قاله مـثـل وجـهـه تزخرف فيه واستعان بـأعـوان
فجاء بألفاظ ضـعـاف سـخـيفة ومضغها تمضيغ أهوج سكـران
دعوا الشعر للشيخ الذي تعرفونـه وإلا وسمتم أو رميتم بشـهـبـان
فإنكم والشـعـر إذ تـدعـونـه كمعتسف في ظلمة الليل حـيران
صه لا تعودوا للجواب فـإنـمـا ترومون صعبا من شماريخ هلان
أنا الأسد الـورد الـذي لا يفـلـه تظاهر
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:48 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية5
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:46 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية4
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:45 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية3
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:44 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية2
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:42 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:41 pm من طرف Admin
» نموذج من بناء الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:39 pm من طرف Admin
» كيف تنشأ الرواية أو المسرحية؟
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:38 pm من طرف Admin
» رواية جديدة
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:26 pm من طرف Admin