صفحة : 660
فاقتتلوا حتى انتقضت الصفوف وصاروا كراديس والخوارج أقوى عدة بالدروع والجواشن. وجعل الحجاج يغمض عينيه ويحمل حتى يغيب في الشراة ويطعن فيهم ويقتل حتى يظن أنه قد قتل، ثم يرفع رأسه وسيفه يقطر دما، ويفتح عينيه فيرى الناس كراديس يقاتل كل قوم في ناحية. ثم التقى الحجاج بن باب وعمران ين الحارث الراسبي ، فاختلفا ضربتين كل واحد منهما قتل صاحبه، وجال الناس بينهما جولة ثم تحاجزوا، وأصبح أهل البصرة وقد هرب عامتهم، وولوا حارثة بن بدر الغداني أمرهم ليس بهم طرق ولا بالخوارج. فقالت امرأة من الشراة وهي أم عمران قاتل الحجاج بن باب وقتيله ترثي ابنها عمران:
أللـه أيد عـمـرانـا وطـهـره وكان عمران يدعو الله في السحر
يدعوه سرا وإعـلانـا لـيرزقـه شهادة بـيدي مـلـحـادة غـدر
ولى صحابته عن حر مـلـحـمة وشد عمران كالضرغامة الذكـر قال: فلما عقدوا لحارثة بن بدر الرياسة وسلموا إليه الراية نادى فيهم بأن يثبتوا، فإذا فتح الله عليهم فللعرب زيادة فريضتين وللموالي زيادة فريضة، فندب الناس فالتقوا وليس بأحد منهم طرق، وقد فشت فيهم الجراحات فلهم أنين، وما تطأ الخيل إلا على القتلى. فبينما هم كذلك إذ أقبل من اليمامة جمع من الشراة يقول المكثر إنهم مائتان والمقلل إنهم أربعون، فاجتمعوا وهم يريحون مع أصحابهم واجتمعوا كبكبة واحدة، فحملوا على المسلمين. فلما رآهم حارثة بن بدر نكص برايته فانهزم وقال:
كرنبوا ودولـبـوا وحيث شئتم فاذهبوا وقال:
أير الحمار فريضة لعبيدكـم والخصيتان فريضة الأعراب وتتابع الناس على أثره منهزمين، وتبعتهم الخوارج، فالقوا أنفسهم في دجيل فغرق منهم خلق كثير وسلمت بقيتهم. وكان ممن غرق دغفل بن حنظلة أحد بني عمرو بن شيبان. ولحقت قطعة من الشراة خيل عبد القيس فأكبوا عليهم، فعطفت عليهم خيل من بني تميم فعاونوهم وقاتلوا السراة حتى كشفوهم وانصرفوا إلى أصحابهم. وعبرت بقية الناس، فصار حارثة ومن معه بنهر تيري والسراة بالأهواز، فأقاموا ثلاثة أيام. وكان على الأزد يومئذ قبيصة بن أبي صفرة أخو المهلب، وهو جد هزارمرد . قال: وغرق يومئذ من الأزد عدد كثير. فقال شاعر الأزراقة:
يرى من جاء ينظرمن دجيل شيوخ الأزد طافية لحاهـا وقال شاعر آخر منهم:
شمت ابن بدر، والحوادث جمة، والظالمون بنافع بـن الأزرق
والموت حتم لامحـالة واقـع من لايصبحه نهـارا يطـرق
فلئن أمير المؤمنـين أصـابـه ريب المنون فمن تصبه يغلق قال قطري بن الفجاءة، فيما ذكر المبرد، وقال المدائني في خبره: إن صالح بن عبدالله العبشمي قائل ذلك، وقال خالد بن خداش: بل قائلها عمرو القنا، قال وهب بن جرير عن أبيه فيما حدثني به أحمد بن الجعد الوشاء عن أحمد بن أبي خيثمة عن أبيه عن وهب بن جرير عن أبيه: إن حبيب بن سهم قائلها:
لعمرك إتي في الحياة لـزاهـد وفي العيش ما لم ألق أم حكيم
من الخفرات البيض لم أرمثلها شفاء لذي بـث ولالـسـقـيم
لعمرك إني يوم ألطم وجهـهـا على نائبات الدهرغيرحـلـيم
ولوشهدتني يوم دولاب أبصرت طعان فتى في الحرب غير لئيم
غداة طفت علماء بكربـن وائل وألافها من حـمـير وسـلـيم
ومال الحجازيون نحو بلادهـم وعجنا صدورالخيل نحو تمـيم
وكان لعبد القيس أول جـدهـا وولت شيوخ الأزدفهي تعـوم
فلم أريوما كان كثرمقـعـصـا يمج دما مـن فـائظ وكـلـيم
وضاربة خدا كريماعلى فـتـى أغر نجيب الأمـهـات كـريم
أصيب بدولاب ولم تك موطنـا له أرض دولاب وديرحـمـيم
فلو شهدتنا يوم ذاك وخـيلـنـا تبيح من الكفـاركـل حـريم
رأت فتية باعوا الإله نفوسهـم بجنات عدن عـنـده ونـعـيم حدثني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا خلاد الأرقط قال:
صفحة : 661
كان الشراة والمسلمون يتواقفون ويتساءلون بينهم عن أمر الدين وغير ذلك على أمان وسكون فلا يهيج بعضهم بعضا. فتواقف يوما عبيدة بن هلال اليشكري وأبو حزابة التميمي وهما في الحرب، فقال عبيدة: يا أبا حزابة، إني سائلك عن أشياء، أفتصدقني في الجواب عنها? قال: نعم، إن تضمنت لي مثل ذلك، قال: قد فعلت. قال: سل عما بدا لك. قال: ما تقول في أئمتكم. قال: يبيحون الدم الحرام والمال الحرام والفرج الحرام. قال: ويحك فكيف فعلهم في المال? قال: يخبونه من غير حقه، وينفقونه في غير حقه. قال: فكيف فعلهم في اليتيم. قال: يظلمونه ماله، ويمنعونه حقه، وينيكون أمه. قال: ويلك يا أبا حزابة أفمثل هؤلاء تتبع.قال: قد أجبت، فاسمع سؤالي ودع عنك عتابي على رأيي، قال: قل. قال: أي الخمر أطيب: أخمر السهل أم خمر الجبل. قال: ويلك أتسأل مثلي عن هذا? قال: قد أوجبت على نفسك أن تجيب، قال: أما إذ أبيت فإن خمر الجبل أقوى وأسكر، وخمر السهل أحسن وأسلس. قال أبو حزابة: فأي الزواني أفره: أزواني رامهرمز أم زواني أرجان ? قال: ويلك إن مثلي لا يسأل عن مثل هذا قال: لا بد من الجواب أو تغدر، فقال: أما إذ أبيت فزواني رامهرمز أرق أبشارا، وزواني أزجان أحسن أبدانا. قال: فأي الرجلين أشعر: أجرير أم الفرزدق. قال: عليك وعليهما لعنة الله، أيهما الذي يقول:
وطوى الطراد مع القياد بطونها طي التجار بحضرموت برودا قال: جرير، قال: فهو أشعرهما. قال: وكان الناس قد تجاذبوا في أمر جرير والفرزدق حتى تواثبوا وصاروا إلى المهلب محكمين له في ذلك، فقال: أردتم أن أحكم بين هذين الكلبين المتهارشين فيمتضغاني، كنت لأحكم بينهما، ولكني أدلكم على من يحكم بينهما ثم يهون عليه سبابهما، عليكم بالشراة فسلوهم إذا تواقفتم. فلما تواقفوا سأل أبو حزابة عبيدة بن هلال عن ذلك فأجابه بهذا الجواب.
أخبرني أحمد بن جعفر جخظة قال حدثني ميمون بن هارون قال: حدثت أن امرأة من الخوارج كانت مع قطري بن الفجاءة يقال لها أم حكيم، وكانت من أشجع الناس وأجملهم وجها وأحسنهم بدينهم تمسكا، وخطبها جماعة منهم فردتهم ولم تجب إلى ذلك? فأخبرني من شهدها أنها كانت تحمل على الناس وترتجز:
أحمل رأسا قد سئمت حمله وقد مللت دفنه وغسـلـه
ألا فتى يحمل عني ثقله قال: وهم يفدونها بالآباء والأمهات، فما رأيت قبلها ولا بعدها مثلها.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عمي قال: كان عبيدة بن هلال إذا تكاف الناس ناداهم: ليخرج إلي بعضكم، فيخرج إليه فتيان من العسكر، فيقول لهم: أيما أحب إليكم: أقرأ عليكم القرآن أو أنشدكم الشعر? فيقولون له: أما القرآن فقد عرفناه مثل معرفتك، فأنشدنا، فيقول لهم: يا فسقة، والله قد علمت أنكم تختارون الشعر على القرآن، ثم لا يزال ينشدهم ويستنشدهم حتى يملوا ثم يفترقون.
أخبار سياط ونسبه
سياط لقب غلب عليه، واسمه عبدالله بن وهب، ويكنى أبا وهب، مكي مولى خزاعة. وكان مقدما في الغناء رواية وصنعة، ومقدما في الضرب معدودا في الضراب. وهو أستاذ ابن جامع وإبراهيم الموصلي، وعنه أخذا ونقلا ونقل نظراؤهما الغناء القديم، وأخذه هو عن يونس الكاتب. وكان سياط زوج أم ابن جامع. وفيه يقول بعضر الشعراء:
ماسمعت الغناء إلا شجانـي من سياط وزاد في وسواسي
غنني ياسياط قد ذهب اللـي ل غناء يطيرمنه نعـاسـي
ما أبالي إذاسمعـت غـنـاء لسياط مافاتني للـرؤاسـي والرؤاسي الذي عناه هو عباس بن منقار، وهو من بني رؤاس. وفيه يقول محمد بن أبان الضبي:
إذا واخيت عـبـاسـا فكن منه على وجـل
فتى لايقبل الـعـذر ولايرغب في الوصل
وما إن يتغنـى مـن يواخيه من النـبـل قال حماد بن إسحاق: لقب سياط هذا اللقب لأنه كان كثيرا ما يتغنى:
كأن مزاحف الحيات فيه قبيل الصبح آثار السياط وأخبرني محمد بن خلف قال حدثني هارون بن مخارق عن أبيه، وأخبرني به عبدالله بن عباس بن الفضل بن الربيع الربيعي عن وسواسة الموصلي ولم أسمع أنا هذا الخبر من وسواسةعن حماد عن أبيه، قالا :
صفحة : 662
غنى إبراهيم الموصلي يوما صوتا لسياط، فقال له ابنه إسحاق: لمن هذا الغناء يا أبت? قال: لمن لو عاش ما وجد أبوك شيئا يأكله، لسياط. قال: وقال المهدي يوما وهو يشرب لسلام الأبرش : جئني بسياط وعقاب وحبال، فارتاع كل من حضر وظن جميعهم أنه يريد الإيقاع بهم أو ببعضهم، فجاءه بسياط المغني وعقاب المدني وكان الذي يوقع عليه وحبال الزامر. فجعل الجلساء يشتمونهم والمهدي يضحك.
أخبرني محمد بن خلف قال حدثني أبو أيوب المدني قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: مر سياط على أبي ريحانة المدني في يوم بارد وهو جالس في الشمس وعليه ثوب رقيق رث، فوثب إليه أبو ريحانة وقال: بأبي أنت يا أبا وهب، غنني صوتك في شعر ابن جندب:
فؤادي رهين في هواك ومهجتي تذوب وأجفاني عليك هـمـول فغناه إياه، فشق قميصه ورجع إلى موضعه من الشمس وقد ازداد بردا وجهدا. فقال له رجل: ما أغنى عنك ما غناك من شق قميصك فقال له يابن أخي، إن الشعر الحسن من المغني الحسن في الصوت المطرب أدفأ للمقرور من حمام محمى. فقال له رجل: أنت عندي من الذين قال الله جل وعز: فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين .
فقال: بل أنا من الذين قال تبارك وتعالى: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه . وقد أخبرني بهذا الخبر علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه فذكر قريبا من هذا، ولفظ أبي أيوب وخبره أتم.
وأخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي، المعروف بابن أبي اليسع، قالحدثنا عمر بن شبة: أن سياطا مر بأبي ريحانة المدني، فقال له: بحق القبر ومن غنني بلحنك في شعر ابن جندب:
لكل حمام أنـت بـاك إذا بـكـى ودمعك منهل وقلـبـك يخـفـق
مخافة بعد بعد قـرب وهـجـرة تكون ولما تأت والقلب مشـفـق
ولي مهجة ترفض من خوف عتبها وقلب بنارالحب يصلى ويحـرق
أظل خليعا بين أهلـي مـتـيمـا وقلبي لما يرجوه منها مـعـلـق فغناه إياه، فلما استوفاه ضرب بيده على قميصه فشقه حتى خرج منه وغشي عليه. فقال له رجل لما أفاق: يا أبا ريحانة، ما أغنى عنك الغناء، ثم ذكر باقي الخبر مثل ما تقدم.
أخبرني إسماعيل قال حدثني عمر بن شبة قال: مرت جارية بأبي ريحانة يوما على ظهرها قربة وهي تغني وتقول:
وأبكى فلا ليلى بكت من صبابة إلي ولا ليلى لذي الود تبـذل
وأخنع بالعتبى إذا كنت مذنبـا وإن أذنبت كنت الذي أتنصـل فقام إليها فقال: يا سيدتي أعيدي فقالت: مولاتي تنتظرني والقربة على ظهري، فقال: أنا أحملها عنك، فدفعتها إليه فحملها، وغنته الصوت، فطرب فرمى بالقربة فشقها. فقالت له الجارية: أمن حقي أن أغنيك وتشق قربتي فقال لها: لا عليك، تعالي معي إلى السوق، فجاءت معه فباع ملحفته واشترى لها بثمنها قربة جديدة. فقال له رجل: يا أبا ريحانة، أنت والله كما قال الله عز وجل: فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ، فقال: بل أنا كما قال الله عز وجل: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه .
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني أبو العيناء قال قال إسحاق الموصلي: بلغني أن أبا ريحانة المدني كان جالسا في يوم شديد البرد وعليه قميص خلق رقيق، فمر به سياط المغني فوثب إليه وأخذ بلجامه وقال له: يا سيدي، بحق القبر ومن فيه غنني صوت ابن جندب، فغناه :
فؤادي رهين في هواك ومهجتي تذوب وأجفاني عليك هـمـول فشق قميصه حتى خرج منه وبقي عاريا وغشي عليه، واجتمع الناس حوله وسياط واقف متعجب مما فعل. ثم أفاق وقام إليه، فرحمه سياط وقال له: مالك يا مشئوم? أي شيء تريد. قال: غنني بالله عليك:
ودع أمامة حان منك رحيل إن الوداع لمن تحب قلـيل
مثل القضيب تمايلت أعطافه فالريح تجذب متنه فيمـيل
إن كان شأنكم الدلال فإنـه حسن دلالك يا أميم جمـيل فغناه إياه، فلطم وجهه ثم خرج الدم من أنفه ووقع صريعا. ومضى سياط، وحمل الناس أبا ريحانة إلى الشمس. فلما أفاق قيل له: ويحك خرقت قميصك وليس لك غيره فقال: دعوني، فإن الغناء الحسن من المغني المطرب أدفأ للمقرور من حمام المهدي إذا أوقد سبعة أيام. قال: ووجه له سياط بقميص وجبة وسراويل وعمامة.
صفحة : 663
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبو أيوب المدني قال حدثني محمد بن عبدالله الخزاعي وحماد بن إسحاق جميعا عن إسحاق قال: كان سياط أستاذ أبي وأستاذ ابن جامع ومن كان في ذلك العصر. فاعتل علة، فجاءه أبي وابن جامع يعودانه.
فقال له أبي: أغزز علي بعلتك أبا وهب، ولو كانت مما يفتدى لفديتك منها. قال: كيف كنت لكم? قلنا: نعم الأستاذ والسيد. قال: قد غنيت لنفسي ستين صوتا فأحب ألا تغيروها ولا تنتحلوها. فقال له أبي: أفعل ذلك يا أبا وهب، ولكن أي ذلك كرهت: أن يكون في غنائك فضل فأقصر عنه فيعرف فضلك عليم فيه، أو أن يكون فيه نقص فأحسنه فينسب إحساني إليك ويأخذه الناس عني لك? قال، :لقد استعفيت سن غير مكروه. قال الخزاعي فيب خبره: ثم قال لي إسحاق: كان سياط خزاعيا، وكان له زامر يقال له حبال، وضارب يقال له عقاب. قال حماد قال أبي: أدركت أربعة كانوا أحسن الناس غناء، سياط أحدهم. قال: وكان موته في أول أيام موسى الهادي.
أخبرني يحيى قال حدثنا أبو أيوب عن مصعب قال: دخل ابن جامع على سياط وقد نزل به الموت، فقال له: ألك حاجة. فقال: نعم، لا تزد في غنائي شيئا ولا تنقص منه، دعه رأسا برأس، فإنما هو ثمانية عشر صوتا.
أخبرنا محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال حدثني محمد بن حديد أخو النضر بن حديد: أن إخوانا لسياط دعوه، فأقام عندهم وبات ، فأصبحوا فوجدوه ميتا في منزلهم، فجاءوا إلى أمه وقالوا: يا هذه، إنا دعونا ابنك لنكرمه ونسر به ونأنس بقربه فمات فجأة، وها نحن بين يديك فاحتكمي ما شئت، ونشدناك الله ألا تعرضينا للسلطان أو تدعي فيه علينا ما لم نفعله. فقالت: ما كنت لأفعل، وقد صدقتم، وهكذا مات أبوه فجأة. قال: فجاءت معنا فحملته إلى منزلها فأصلحت أمره ودفنته. وقد ذكرت هذه القصة بعينها في وفاة نبيه المغني، وخبره في ذلك يذكر مع أخباره إن شاء الله تعالى.
أخبرنا يحيى بن عليئ وعيسى بن الحسين الزيات واللفظ له، قالا حدثنا أبو أيوب قال حدثنا أحمد بن المكي قال: غنيت إبراهيم بن المهدي لسياط:
ضاف قلبي الهوى فأكثر سهوي فاستحسنه جدا، وقال لي: ممن أخذته? قلت: من جارية أبيك قرشية الزباء، فقال: أشعرت أنه كان لأبي ثلاث جوار محسنات كلهن تسمى قرشية، منهن قرشية الزباء وقرشية السوداء وقرشية البيضاء، وكانت الزباء أحسنهن غناء يعني التي أخذت منها هذا الصوت، قال: وكنت أسمعها كثيرا تقول: قد سمعت المغنين وأخذت عنهم وتفقدت أغانيهم، فما رأيت فيهم مثل سياط قط. هذه الحكاية من رواية عيسى بن الحسين خاصة.
نسبة هذا الصوت
ضاف قلبى الهوى فأكثر سهوي وجوى الحب مفظع غير حلو
لو علا بعض ما علاني ثبـيرا ظل ضعفا ثبير من ذاك يهوي
من يكن من هوى الغواني خليا يا ثقاتي فإننـي غـير خـلـو الغناء لسياط ثاني ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحاق.
من المائة المختارة
يا أم عمرو لقد طالـبـت ودكـم جهدي وأعذرت فيه كل إعـذار
حتى سقمت، وقد أصبحت سالمة، مما أعالج من هـم وتـذكـار لم يسم قائل هذا الشعر. والغناء للرطاب. والرطاب مدني قليل الصنعة ليس بمشهور. وقيل له الرطاب لأنه كان يبيع الرطب بالمدينة. ولحنه المختار هزج بالوسطى.
تصدع الأنس الجمـيع أمسى فقلبي به صدوع
في إثرهم وجفون عيني مخضلة كلها دمـوع لم يسم لنا قائل هذا الشعر ولا عرفناه. والغناء لدكين بن يزيد الكوفي. ولحنه المختار من خفيف الثقيل بالوسطى، وهكذا ذكر إسحاق في الألحان المتخارة للواثق. وذكر هذا الصوت في مجرد شجا فنسبه إلى دكين، وجنسه في الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. وذكر أيضا فيه لحنا من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى البنصر، فزعم أنه ينسب إلى معبد وإلى الغريض. وفيه بيتان آخران وهما:
فالقلب إن سيم عنك صبرا كلف ماليس يستـطـيع
عاص لمن لام في هواكم وهو لكم سامع مطـيع
من المائة المختارة
يأيها الـرجـل الـذي قد زان منطقه البيان
لاتعتبن على الـزمـا ن فليس يعتبك الزمان
صفحة : 664
الشعر لعبدالله بن هارون العروضي. والغناء لنبيه المغني، ولحنه المختار ثقيل أول بالبنصر.
فأما عبدالله بن هارون فما أعلم أنه وقع إلي له خبر إلا ما شهر من حاله في نفسه. وهو عبدالله بن هارون بن السميدع، مولى قريش، من أهل البصرة. وأخذ العروض من الخليل ابن أحمد، فكان مقدما فيه. وانقطع إلى آل سليمان بن علي وأدب أولادهم، وكان يمدحهم كثيرا، فأكثر شعره فيهم. وهو مقل جدا. وكان يقول أوزانا من العروض غريبة في شعره، ثم أخذ ذلك عنه ونحا نحوه فيه رزين العروضي فأتى فيه ببدائع جمة، وجعل أكثر شعره من هذا الجنس. فأما عبدالله بن هارون فما عرفت له خبرا ولا وقع إلي من أمره شيء غير ما ذكرته.
ذكر نبيه وأخباره
نسبه وأصله وشعره وسبب تعلمه الغناء: زعم ابن خرداذبه أنه رجل من بني تميم صليبة، وأن أصله من الكوفة، وأنه كان في أول أمره شاعرا لا يغني، ويقول شعرا صالحا. فهوي قينة ببغداد فتعلم الغناء من أجلها وجعله سببا للدخول عليها، ولم يزل يتزيد حتى جاد غناؤه وصنع فأحسن واشتهر، ودون غناؤه وعد في المحسنين. فمما قاله في هذه الجارية وغنى فيه قوله:
يا رب إني ما جفوت وقد جفت فإليك أشـكـو ذاك يا ربـاه
مولاة سوء ماترق لعـبـدهـا نعم الغلام وبئست الـمـولاه
يارب إن كانت حياتي هـكـذا ضرراعلي فمـا أريد حـياه الغناء لنبيه ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى. ومن الناس من ينسب الشعر والغناء إلى علية بنت المهدي.
أخبرفي إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال: قلت لمخارق، وقد غنى هذا الصوت يوما:
متى لجمع القلب الذكي وصارما وأنفا حميا تجتنبك المـظـالـم فسألته لمن هو، فقال: هذا لنبيه التميمي، وكان له أخوان يقال لهما منبه ونبهان، وكان ينزل شهار سوج الهيثم في محرب الريحان. قال أبو زيد: وسمعت مخارقا يحدث إسحاق بن إبراهيم قال سمعت أباك إبراهيم بن ميمون يقول، وقد ذكر نبيها: إن عاش هذا الغلام ذهب خبرنا . قال: وكنت قد غنيته صوتا أخذته عنه، وهو:
شكوت إلى قلبي الفراق فقال لي من الآن فايأس لا أغرك بالصبر
إذا صد من أهوى وأسلمني العزا ففرقة من أهوى أحرمن الجمر أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثني ابن أبي سعد عن محمد بن عبدالله بن مالك قال حدثني علي بن المفضل قال: اصطبحنا يوما أنا ونبيه عند عبيد الله بن أبي غسان، فغنانا نبيه لحنه:
يأيها الرجـل الـذي قد زان منطقه البيان فما سمعت أحسن منه، وكان صوتنا عليه بقية يومنا. ثم أردنا الانصراف، فسألنا عبيد الله أن نبيت عنده ونصطبح من غد فأجبناه. وقال لنبيه: أي شيء تشتهي أن يصلح لك? قال: تشتري لي غزالا فتطعمني كبده كبابا، ونجعل سائر ما آكله من لحمه كما تحب، فقال: أفعل. فلما أصبحنا جاءه بغزال فأصلحه كما أحب. فلما استوفى أكله استلقى لينام، فحركناه فإذا هو ميت، فجزعنا من ذلك. وبعث عبيد الله إلى أمه فجاءت فأخبرها بخبره. فلما رأته استرجعت ثم قالت: لا بأس عليكم هو رابع أربعة ولدتهم كانت هذه ميتتهم جميعا وميتة أبيهم من قبلهم، فسكنا إلى ذلك. وغسل في دار عبيد الله وأصلح شأنه وصلي عليه، ومضينا به إلى مقابرهم فدفن هناك.
وففت على ربع لسعدى وعبرتي ترقرق في العينين ثم تـسـيل
أسائل ربعا قد تعفت رسـومـه عليه لأصنـاف الـرياح ذيول لم يسم لنا قائل هذا الشعر. والغناء لسليم هزج خفيف بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق.
أخبار سليم
انقطع إلى إبراهيم المصلي، وهو أمر د فأحبه وعلمه: هو سليم بن سلام الكوفي، ويكنى أبا عبدالله. وكان حسن الوجه حسن الصوت. وقد انقطع وهو أمرد إلى إبراهيم الموصلي، فمال إليه وتعشقه، فعلمه وناصحه، فبرع وكثرت روايته، وصنع فأجاد. وكان إسحاق يهجوه ويطعن عليه. واتفق له اتفاق سيء: كان يخدم الرشيد فيتفق مع ابن جامع وإبراهيم وابنه إسحاق وفليح ابن العوراء وحكم الوادي فيكون بالإضافة إليهم كالساقط. وكان من أبخل الناس، فلما مات خلف جملة عظيمة وافرة من المال، فقبضها السلطان عنه.
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه:
صفحة : 665
أن إسحاق قال في سليم:
سليم بن لسلام على برد خلقه أحرغناء من حسين بن محرز وأخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق، وأخبرنا يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق: أن الرشيد قال لبرصوما الزامر وكانت فيه لكنة ما تقول في ابن جامع. قال: زق من أسل، يريد من عسل.
قال: فإبراهيم. قال: بستان فيه فاكهة وريحان وشوك. قال: فيزيد حوراء. قال: ما أبيد أسنانه يريد ما أبيض. قال: فحسين بن محرز. قال: ما أهسن خظامه، يريد ما أحسن خضابه. قال: فسليم بن سلام? قال: ما أنظف ثيابه.
قال إسماعيل بن يونس في خبره عن عمر بن شبة عن إسحاق: وغنى سليم يوما وبرصوما يزمر عليه بين يلي الرشيد، فقصر سليم في موضع صيحة، فأخرج برصوما الناي من فيه ثم صاح به وقال له: يا أبا عبدالله، صيهة أشد من هذا، صيهة أشد من هذا، فضحك الرشيد حتى استلقى. قال: وما أذكر أني ضحكت قط أكثر من ذلك اليوم.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال قال محمد بن الحسن بن مصعب: إنما أخر سليما عن أصحابه في الصنعة ولعه بالأهزاج، فإن ثلثي صنعته هزج، وله من ذلك ماليس لأحد منهم. قال: ثم قال محمد: غنى سليم يوما بين يدي الرشيد ثلاثة أصوات من الهزج ولاء، أولها:
مت على من غبت عنه أسفا والثاني:
أسرفت في الإعراض والهجر والثالث:
أصبح قلبي به ندوب فأطربه وأمر له بثلاثين ألف درهم، وقال له: لو كنت الحكم الوادي ما زدت على هذا الإحسان في أهزاجك. يعني أن الحكم كان منفردا بالهزج.
مت على من غبت عنه أسفا لست منه بمصيب خلـفـا
لن ترى قـرة عـين أبـدا أوترى نحوهم منصـرفـا
قلت لماشفني وجدي بـهـم حسبي الله لمابي وكـفـى
بين الدمع لمن أبصـرنـي ماتضمنـت إذا مـا ذرفـا الشعر للعباس بن الأحنف. والغناء لسليم، وله فيه لحنان، أحدهما في الأول والثاني هزج بالوسطى، والآخر في الثالث والرابع خفيف رمل بالبنصر مطلق. وفيهما لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو.
ومنها:
أسرفت في الإعراض والهجـر وجزت حد التـيه والـكـبـر
الهجر والإعراض من ذي الهوى سلم ذي الغـدر إلـى الـغـدر
مالي وللهجران حسبـي الـذي مر على رأسي من الـهـجـر
ودون ما جربت فيمـا مـضـى ما عرف الخير مـن الـشـر الغناء لسيلم هزج بالبنصر.
أصبح قلبي به نـدوب أندبه الشادن الربـيب
تماديا منه في التصابي وقدعلا رأسي المشيب
أظنني ذائقا حمـامـي وأن إلمامـه قـريب
إذا فؤاد شجـاه حـب فقلما ينفع الطـبـيب الشعر لأبي نواس. والغناء لسليم، وله فيه لحنان: خفيف رمل بالبنصر عن إسحاق، وهزج بالوسطى عن الهشامي. وزعمت بذل أن الهزج لها.
أخبرني عفي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثني هارون بن مخارق عن أبيه قال: كان سليم بن سلام كوفيا، وكان أبوه من أصحاب أبي مسلم صاحب الدولة ودعاته وثقاته، فكان يكاتب أهل العراق على يلى. وكان سليم حسن الصوت جهيره، وكان بخيلا.
قال أحمد بن أبي طاهر وحدثني أبو الحواجب الأنصاري، واسمه محمد، قال: قال لي سليم يوما: امض إلى موسى بن إسحاق الأزرق فادعه ووافياني مع الظهر، فجئناه مع الظهر، فأخرج إلينا ثلاثين جارية محسنة ونبيذا، ولم يطعمنا شيئا، ولم نكن كلنا شيئا. فغمر موسى غلامه فذهب فاشترى لنا خبزا وبيضا، فأدخله إلى الكنيف وجلسنا نأكل، فدخل علينا، فلما رآنا نأكل غضب وخاصمنا وقال: أهكذا يفعل الناس تأكلون ولا تطعمونني وجلس معنا في الكنيف يأكل كما يأكل واحد منا حتى فني الخبز والبيض.
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثني أبي قال:
صفحة : 666
كان سليم بن سلام صديقي وكان كثيرا ما يغشاني. فجاءني يوما وأعلمني الغلام بمجيئه، فأمرت بإدخاله، فدخل وقال: قد جئتك في حاجة، فقلت: مقضية. فقال: إن المهرجان بعد غد، وقد أمرنا بحضور مجلس الخليفة، وأريد أن أغنيه لحنا أصنعه في شعر لم يعرفه هو ولا من بحضرته، فقل أبياتا أغني فيها ملاحاة فقلت: على أن تقيم عندي وتصنع بحضرتي اللحن، قال: أفعل. فردوا دابته وأقام عندي، وقلت:
أتيتك عائذا بك مـن ك لما ضاقت الحيل
وصيرني هواك وبي لحيني يضرب المثل
فإن سلمت لكم نفسي فما لاقيتـه جـلـل
وإن قتل الهوى رجلا فإني ذلك الـرجـل فغنى فيه وشربنا يومئذ عليه، وغنانا عدة أصوات من غنائه، فما رأيته مذ عرفته كان أنشط منه يومئذ.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن الجراح قال حدثني عبد الله بن محمد اليزيدي قال حدثني أخي محمد قال: سمعت أبي يقول: ما سرقت من الشعر قط إلا معنيين: قال مسلم بن الوليد:
ذاك ظبي تحير الحسن في الأر كن منه وجال كـل مـكـان
عرضت دونه الحجال فـمـايل قاك ألا في النوم أو في الأماني فاستعرت معناه فقلت:
يا بعيد الدار موصو لا بقلبي ولسلنـي
ربما باعدك الـده ر فأدنتك الأماني الغناء في هذين البيتين لسليم هزج بالبنصر عن الهشامي.
قال: وقال مسلم أيضا:
متى ماتسمعي بقتيل أرض فإني ذلك الرجل القتـيل ويروى: أصيب فإنني ذاك القتيل فقلت:
أتيتك عائذا بك مـن ك لما ضاقت الحيل
وصيرني هواك وبي لحيني يضرب المثل
فإن سلمت لكم نفسي فما لاقيتـه جـلـل
وإن قتل الهوى رجلا فإني ذلك الـرجـل وجدت في كتاب علي بن محمد بن نصر عن جده حمدون بن إسماعيل، ولم أسمعه من أحد: أن إبراهيم بن المهدي سأل جماعة من إخوانه أن يصطبحوا عنده قال حمدون: وكنت فيه، وكان فيمن دعا مخارق، فسار إليه وهو سكران لا فضل فيه لطعام ولا لشراب، فاغتم لذلك إبراهيم وعاتبه على ما صنع? فقال: لا والله أيها الأمير، ما كان آفتي إلا سليم بن سلام فإنه مر بي فدخل علي فغناني صوتا له صنعه قريبا فشربت عليه إلى السحر حتى لم يبق في فضل وأخذته. فقال له إبراهيم: فغنناه إملالا، فغناه:
إذا كنت ندماني فبـاكـر مـدامة معتقة زفت إلى غـير خـاطـب
إذاعتقت في دنها العام أقـبـلـت تردى رداء الحسن في عين شارب الغناء لسليم خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصرقال فبعث إبراهيم إلى سليم فأحضره، فغناه إياه وطرحه على جواريه وأمر له بجائزة، وشربنا عليه بقية يومنا حتى صرنا في حالة مخارق وصار في مثل أحوالنا.
من المائة المختارة
عتق الفؤاد من الـصـبـا ومن السفاهة والـعـلاق
وحططت رحلي عن قلـو ص الحب في قلص عتاق
ورفعت فضـل إزاري ال مجرورعن قدمي وساقي
وكففت غرب النفس حـت ى ما تتوق إلى مـتـاق لم يقع إلينا قائل هذا الشعر. والغناء لابن عباد الكاتب ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لإبراهيم خفيف ثقيل، وقيل: إنه لغيره، بل قيل: إنه لعمرو.
أخبار ابن عباد
نسبه وكنيته وصاعته
هو محمد بن عباد، مولى بني مخزوم، وقيل: إنه مولى بني جمح، ويكنى أبا جعفر. مكي، من كبراء المغنين من الطبقة الثاينة منهم. وقد ذكره يونس الكاتب فيمن أخذ عنه الغناء، متقن الصنعة كثيرها. وكان أبوه من كتاب الديوان بمكة، فلذلك قيل ابن عباد الكاتب.
أخبرني إسماعيل بن يونس فال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق، وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن عثمان بن حفحص الثقفي عن أبي خالد الكناني عن ابن عباد الكاتب قال:
صفحة : 667
والله إني لأمشي بأعلى مكة في الشعب ، إذ أنا بمالك على حمار له ومعه فتيان من أهل المدينة، فظننت أنهم قالوا له: هذا ابن عباد، فمال إلي فملت إليه، فقال لي: أنت ابن عباد. قلت: نعم، قال: مل معي هاهنا، ففعلت? فأدخلني شعب ابن عامر ثم أدخلني دهليز ابن عامر وقال: غنني، فقلت: أغنيك هكذا وأنت مالك، وقد كان يبلغني أنه يثلب أهل مكة ويتعصب عليهم فقال: بالله إلا غنيتني صوتا من صنعتك. فاندفعت فغنيته:
ألاياصاحبـي قـفـا قـلـيلا على زبع تقادم بـالـمـنـيف
فأمست دارهم شحطت وبانـت وأضحى القلب يخفق ذا وجيف وما غنيته إياه إلا على احتشام. فلما فرغت نظر إلي وقال لي: قد والله أحسنت ولكن حلقك كأنه حلق زانية. فقلت: أما إذ أفلت منك بهذا فقد أفلت. وهذا اللحن من صدور غناء ابن عباد. ولحنه من الثقيل الثاني بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى.
وفاته ببغداد: أخبرني يحيى بن علي بن يحيى وعيسى بن الحسين قالا حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني جماعة من أهل العلم: أن ابن عباد الكاتب توفني ببغداد في الدولة العباسية ودفن بباب حرب. وقال أبو أيوب: أظنه فيمن قدم من مغني الحجار على المهدي.
من المائة المختارة:
ياطلـلا غـيره بـعـدي صوب ربيع صادق الرعد
أراك بعدالأنس ذا وحـشة لست كما كنت على العهد
مالي أبكي طللا كـلـمـا ساءلته عي عـن الـرد
كان به ذوغـنـج أهـيف أحورمطبوع على الصـد لم يسم أبو أحمد قائل هذا الشعر. والغناء ليحيى المكي، ولحنه المختار من الهزج بالوسطى.
أخبار يحيى المكي ونسبه
اسمه وكنيته وكتمانه ولاءه لبني أمية لخدمته الخلفاء من بني العباس: هو يحيى بن مرزوق، مولى بني أمية، وكان يكتم ذلك لخدمته الخلفاء من بني العباس خوفا من أن يجتنبوه ويحتشموه، فإذا سئل عن ولائه انتمى إلى قريش ولم يذكر البطن الذي ولاؤه لهم ، واستعفى من سأله عن ذلك. ويكنى يحيى أبا عثمان. وذكر ابن خزداذبة أنه مولى خزاعة. وليس قوله مما يحصل، لأنه لا يعتمد فيه على رواية ولا دراية.
أخبرني عبدالله بن الزبيع أبو بكر الربيعي صديقنا رحمه الله قال حدثني وسواسة بن الموصلي وقد لقيت وسواسة هذا، وهو أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم وكان معلما، ولم أسمع هذا منه فكتبته وأشياء أخر عن أبي بكر رحمه الله قال حدثني حماد بن إسحاق قال قال لي أبي: سألت يحيى المكي عن ولائه، فانتمى إلى قريش فاستزدته في الشرح فسألني أن أعفيه.
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق ويحيى بن علي بن يحيى قالا حدثنا أبو أيوب المديني قال: كان يحيى المكي يكنى أبا عثمان، وهو مولى بني أمية، وكان يكتم ذلك ويقول: أنا مولى قريش.
ولما قال أعشى بني سليم يمدح دحمان:
كانوا فحولا فصاروا عند حلبتهم لما انبرى لهم دحمان خصيانـا
فأبلغوه عن الأعشى مقالـتـه أعشى سليم أبي عمرو سليمانا
قولوا يقول أبوعمرو لصحبتـه ياليت دحمان قبل الموت غنانا قال أبان بن عبد الحميد اللاحقي، ويقال إن ابنه حمدان بن أبان قالها. والأشبه عندي أنها لأبان، وما أظن ابنه أدرك يحيى:
يا مق يفضمل دحمانا ويمـدحـه على المغنين طرا قلت بهتـانـا
لوكنت جالست يحيى أوسمعت بـه لم تمتدح أبدا ماعشت إنـسـانـا
ولم تقل سفها في منية عرضـت ياليت دحمان قبل الموت غنـانـا
لقدعجبت لدحـمـان ومـادحـه لاكان مادح دحـمـان ولاكـانـا
ماكان كابن صغيرالعين إذ جـريا بل قام في غاية المجرى وما دانى
بذ الجياد أبو بـكـر وصـيرهـا من بعد ما قرحت جذعا وثنـيانـا يعني بأبي بكر ابن صغير العين، وهو من معني مكة. وله أخبار تذكر في موضعها إن شاء الله تعالى.
منزلته في الغناء.
صفحة : 668
وعمر يحيى المكي مائة وعشرين سنة، وأصاب بالغناء ما لم يصبه أحد من نظرائه، ومات وهو صحيح السمع والبصر والعقل. وكان قدم مع الحجازيين الذين قدموا على المهدي في أول خلافته، فخرج أكثرهم وبقي، يحيى بالعراق هو وولده يخدمون الخلفاء إلى أن انقرضوا. وكان آخرهم محمد بن أحمد بن يحيى المكي، وكان يغني مرتجلا، ويحضر مجلس المعتمد مع المغنين فيوقع بقضيب على دواة. ولقيه جماعة من أصحابنا، وأخذ عنه جماعة ممن أدركنا من عجائز المغنيات، منهم قمرية العمرية، وكانت أم ولد عمرو بن بانة. وممن أدركه من أصحابنا جحظة، وكتبنا عنه عن ابن المكي هذا حكايات حسنة من أخبار أهله. وكان ابن جامع وإبراهيم الموصلي وفليح يفزعون إليه في الغناء القديم ويأخذونه عنه، ويعايي بعضهم بعضا بما يأخذه منه ويغرب به على أصحابه، فإذا خرجت لهم الجوائز أخذوا منها ووفروا نصيبه. وله صنعة عجيبة نادرة متقدمة. وله كتاب في الأغاني ونسبها وأخبارها أو أجناسها، كبير جليل مشهور، إلا أنه كان كالمطرح عند الرواة لكثرة تخليطه في رواياته. والعمل على كتاب ابنه أحمد، فإنه صحح كثيرا مما أفسده أبوه، وأزال ما عرفه من تخاليط أبيه، وحقق ما نسبه من الأغاني إلى صانعه. وهو يشتمل على نحو ثلاثة آلاف صوت.
أخبرني عبدالله بن الربيع قال حدثني وسواسة بن الموصلي قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي قال: عمل جدي كتابا في الأغاني وأهداه إلى عبدالله بن طاهر، وهو يومئذ شاب حديث السن، فاستحسنه وسر به، ثم عرضه على إسحاق فعرفه عوارا كثيرا في نسبه، لأن جدي كان لا يصحح لأحد نسبه صوت البتة، وينسب صنعته إلى المتقدمين، وينحل بعضهم صنعة بعض ضنا بذلك على غيره، فسقط من عين عبدالله وبقي في خزانته، ثم وقع إلى محمد بن عبدالله، فدعا أبي، وكان إليه محسنا وعليه مفضلا، فعرضه عليه، فقال له: إن في هذه النسب تخليطا كثيرا، خلطها أبي لضنه بهذا الشأن على الناس، ولكني أعمل لك كتابا أصحح هذا وغيره فيه. فعمل له لحد كتابا فيه اثنا عشر ألف صوت وأهداه إليه، فوصله محمد بثلاثين ألف درهم. وصحح له الكتاب الأول أيضا فهو في أيدي الناس. قال وسواسة: وحدثني حماد أن أباه إسحاق كان يقدم يحيى المكي تقديما كثيرا ويفضله ويناضل أباه وابن جامع فيه، ويقول: ليس يخلو يحيى فيما يرويه من الغناء الذي لا يعرفه أحا منكم من أحد أمرين: إما أن يكون محقا فيه، كما يقول، فقد علم ما جهلتم، أو يكون من صنعته وقد نحله المتقدمين، كما تقولون، فهو أفضل له، وأوضح لتقدمه عليكم. قال: وكان أبي يقول: لولا ما أفسد به يحيى المكي نفسه من تخليطه في رواية الغناء على المتقدمين وإضافته إليهم ما ليس لهم وقلة ثباته على ما يحكيه من ذلك، لما تقدمه أحد. وقال محمد بن الحسن الكاتب: كان يحيى يخلط في نسب الغناء تخليطا كثيرا، ولا يزال يصنع الصوت بعد الصوت يتشبه فيه بالغريض مرة وبمعبد أخرى وبابن سريج وابن محرز، ويجتهد في إحكامه وإتقانه حتى يشتبه على سامعه، فإذا حضر مجالس الخلفاء غناه على ما أحدث فيه، من ذلك، فيأتي بأحسن صنعة وأتقنها، وليس أحد يعرفها، فيسأل عن ذلك فيقول: أخذته عن فلان وأخذه فلان عن يونس أو عن نظرائه من رواة الأوائل، فلا يشك في قوله، ولا يثبت لمباراته أحد، ولا يقوم لمعارضته ولا يفي بها، حتى نشأ إسحاق فضبط الغناء وأخذه من مظانه ودونه، وكشف عوار يحيى في منحولاته وبينها للناس.
أظهر إسحاق غلطه فأرسل له هدايا وعاتبه: أخبرني عمي قال سمعت عبيد الله بن عبدالله بن طاهر يذكر عن أحمد بن سعيد المالكي وكان مغنيا منقطعا إلى طاهر وولده وكان من القواد قال: حضرت يحيى المكي يوما وقد غنى صوتا فسئل عنه فقال: هذا لمالك ولم يحفظ أحمد بن سعيد الصوت ثم غنى لحنا لمالك فسئل عن صانعه فقال: هذا لي، فقال له إسحاق: قلت ماذا? فديتك، وتضاحك به. فسئل عن صانعه فأخبر به، ثم غنى الصوت. فخجل يحيى حتى أمسك عنه، ثم غنى بعد ساعة في الثقيل الأول، واللحن:
إن الخليط أجد فاحتمـلا وأراد غيظك بالذي فعلا
فظللت تأمل قرب أوبتهم والنفس مما تأمل الأملا
صفحة : 669
فسئل عنه فنسبه إلى الغريض. فقال له إسحاق: يا أبا عثمان، ليس هذا من نمط الغريض ولا طريقته في الغناء، ولو شئت لأخذت مالك وتركت للغريض ماله ولم تتعب. فاستحيا يحيى ولم ينتفع بنفسه بقية يومه. فلما انصرف بعث إلى إسحاق بألطاف كثيرة وبر واسع، وكتب إليه يعاتبه ويستكف شره ويقول له: لست من أقرانك فتضادني، ولا أنا ممن يتصدى لمباغضتك ومباراتك فتكايدني، ولأنت إلى أن أفيدك وأعطيك ما تعلم أنك لا تجده عند غيري فتسمو به على أكفائك أحوج منك إلى أن تباغضني، فأعطي غيرك سلاحا إذا حمله عليك لم تقم له، وأنت أولى وما تختار. فعرف إسحاق صدق يحيى، فكتب إليه يعتذر، ورد الألطاف التي حملها إليه، وحلف لا يعارضه بعدها، وشرط عليه الوفاء بما وعده به من الفوائد، فوفى له بها، وأخذ منه كل ما أراد من غناء المتقدمين. وكان إذا حز به أمر في شيء منها فزع إليه فأفاده وعاونه ونصحه، وما عاود إسحاق معارضته بعد ذلك. وحذره يحيى، فكان إذا سئل بحضرته عن شيء صدق فيه، وإذا غاب إسحاق خلط فيما يسأل عنه. قال: وكان يحيى إذا صار إليه إسحاق بطلب منه شيئا أعطاه إياه وأفاده وناصحه، ويقول لابنه أحمد: تعال حتى تأخذ مع أبي محمد ما الله يعلم أني كنت أبخل به عليك فضلا عن غيرك. فيأخذه أحمد عن أبيه مع إسحاق. قال: وكان إسحاق بعد ذلك يتعصب ليحيى تعصبا شديدا، ويصفه ويقدمه ويعترف برياسته، وكذلك كان في وصف أحمد ابنه وتقريظه.
قال أحمد بن سعيد: والاختلاف الواقع في كتب الأغاني إلى الآن من بقايا تخليط يحيى. قال أحمد بن سعيد: وكانت صنعة يحيى ثلاثة آلاف صوت، منها زهاء ألف صوت لم.يقاربه فيها أحد، والباقي متوسط. وذكر بعض أصحاب أحمد بن يحيى المكي عنه أنه سئل عن صنعة أبيه فقال: الذي صح عندي منها ألف وثلثمائة صوت، منها مائة وسبعون صوتا غلب فيها على الناس جميعا من تقدم منهم ومن تأخر، فلم يقم له فيها أحد.
وقال حماد بن إسحاق قال لي أبي: كان يحيى المكي يسأل عن الصوت، وهو يعلم لمن هو، فينسبه إلى غير صانعه، فيحمل ذلك عنه كذلك، ثم يسأله آخرون فينسبه غير تلك النسبة، حتى طال ذلك وكثر منه وقل تحفظه، فظهر عواره، ولولا ذلك لما قاومه أحد.
وقال أحمد بن سعيد المالكي في خبره: فال إسحاق يوما للرشيد، قبل أن تصلح الحال بينه وبين يحيى المكي: أتحب يا أمير المؤمنين أن أظهر لك كذب يحيى فيما ينسبه من الغناء. قال نعم. قال: أعطني أي شعر شئت حتى أصنع فيه، واسألني بحضرة يحيى عن نسبته فإني سأنسبه إلى رجل لا أصل له، واسأل يحيى عنه إذا غنيته، فإنه لا يمتنع من أن يدعي معرفته. فأعطاه شعرا فصنع فيه لحنا وغناه الرشيد: ثم قال له: يسألني أمير المؤمنين عن نسبته بين يديه. فلما حضر يحيى غناه إسحاق فسأله الرشيد: لمن هذا اللحن. فقال له إسحاق: لغناديس? المديني. فأقبل الرشيد على يحيى فقال له: أكنت لقيت غناديس المديني? قال: نعم، لقيته وأخذت عنه صوتين، ثم غنى صوتا وقال: هذا أحدهما. فلما خرج يحيى حلف إسحاق بالطلاق ثلاثا وعتق جواريه: أن الله ما خلق أحدا اسمه غناديس، ولا سمع في المغنين ولا غيرهم، وأنه وضع ذلك الاسم في وقته ذلك لينكشف أمره.
حدثني أحمد بن جعفر جخظة قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي المرتجل قال: غنى جدي يوما بين يدي الرشيد:
هل هيجتك مغاني الحي والدور فاشتقت إن الغريب الدار معذور
وهل يحل بنا إذ عيشـنـا أنـق بيض أوانس أمثال الدمى حـور والصنعة له خفيف ثقيل فسار إليه إسحاق وسأله أن يعيده إياه، فقال: نعم، حبا وكرامة لك يابن أخي، ولو غيرك يروم ذلك لبعد عليه، وأعاده حتى أخذه إسحاق. فلما انصرف بعث إلى جدي بتخت ثياب وخاتم ياقوت نفيس.
حذثني جحظة قال حدثني القاسم بن زززور عن أبيه عن مولاه علي بن المارقي قال:
فاقتتلوا حتى انتقضت الصفوف وصاروا كراديس والخوارج أقوى عدة بالدروع والجواشن. وجعل الحجاج يغمض عينيه ويحمل حتى يغيب في الشراة ويطعن فيهم ويقتل حتى يظن أنه قد قتل، ثم يرفع رأسه وسيفه يقطر دما، ويفتح عينيه فيرى الناس كراديس يقاتل كل قوم في ناحية. ثم التقى الحجاج بن باب وعمران ين الحارث الراسبي ، فاختلفا ضربتين كل واحد منهما قتل صاحبه، وجال الناس بينهما جولة ثم تحاجزوا، وأصبح أهل البصرة وقد هرب عامتهم، وولوا حارثة بن بدر الغداني أمرهم ليس بهم طرق ولا بالخوارج. فقالت امرأة من الشراة وهي أم عمران قاتل الحجاج بن باب وقتيله ترثي ابنها عمران:
أللـه أيد عـمـرانـا وطـهـره وكان عمران يدعو الله في السحر
يدعوه سرا وإعـلانـا لـيرزقـه شهادة بـيدي مـلـحـادة غـدر
ولى صحابته عن حر مـلـحـمة وشد عمران كالضرغامة الذكـر قال: فلما عقدوا لحارثة بن بدر الرياسة وسلموا إليه الراية نادى فيهم بأن يثبتوا، فإذا فتح الله عليهم فللعرب زيادة فريضتين وللموالي زيادة فريضة، فندب الناس فالتقوا وليس بأحد منهم طرق، وقد فشت فيهم الجراحات فلهم أنين، وما تطأ الخيل إلا على القتلى. فبينما هم كذلك إذ أقبل من اليمامة جمع من الشراة يقول المكثر إنهم مائتان والمقلل إنهم أربعون، فاجتمعوا وهم يريحون مع أصحابهم واجتمعوا كبكبة واحدة، فحملوا على المسلمين. فلما رآهم حارثة بن بدر نكص برايته فانهزم وقال:
كرنبوا ودولـبـوا وحيث شئتم فاذهبوا وقال:
أير الحمار فريضة لعبيدكـم والخصيتان فريضة الأعراب وتتابع الناس على أثره منهزمين، وتبعتهم الخوارج، فالقوا أنفسهم في دجيل فغرق منهم خلق كثير وسلمت بقيتهم. وكان ممن غرق دغفل بن حنظلة أحد بني عمرو بن شيبان. ولحقت قطعة من الشراة خيل عبد القيس فأكبوا عليهم، فعطفت عليهم خيل من بني تميم فعاونوهم وقاتلوا السراة حتى كشفوهم وانصرفوا إلى أصحابهم. وعبرت بقية الناس، فصار حارثة ومن معه بنهر تيري والسراة بالأهواز، فأقاموا ثلاثة أيام. وكان على الأزد يومئذ قبيصة بن أبي صفرة أخو المهلب، وهو جد هزارمرد . قال: وغرق يومئذ من الأزد عدد كثير. فقال شاعر الأزراقة:
يرى من جاء ينظرمن دجيل شيوخ الأزد طافية لحاهـا وقال شاعر آخر منهم:
شمت ابن بدر، والحوادث جمة، والظالمون بنافع بـن الأزرق
والموت حتم لامحـالة واقـع من لايصبحه نهـارا يطـرق
فلئن أمير المؤمنـين أصـابـه ريب المنون فمن تصبه يغلق قال قطري بن الفجاءة، فيما ذكر المبرد، وقال المدائني في خبره: إن صالح بن عبدالله العبشمي قائل ذلك، وقال خالد بن خداش: بل قائلها عمرو القنا، قال وهب بن جرير عن أبيه فيما حدثني به أحمد بن الجعد الوشاء عن أحمد بن أبي خيثمة عن أبيه عن وهب بن جرير عن أبيه: إن حبيب بن سهم قائلها:
لعمرك إتي في الحياة لـزاهـد وفي العيش ما لم ألق أم حكيم
من الخفرات البيض لم أرمثلها شفاء لذي بـث ولالـسـقـيم
لعمرك إني يوم ألطم وجهـهـا على نائبات الدهرغيرحـلـيم
ولوشهدتني يوم دولاب أبصرت طعان فتى في الحرب غير لئيم
غداة طفت علماء بكربـن وائل وألافها من حـمـير وسـلـيم
ومال الحجازيون نحو بلادهـم وعجنا صدورالخيل نحو تمـيم
وكان لعبد القيس أول جـدهـا وولت شيوخ الأزدفهي تعـوم
فلم أريوما كان كثرمقـعـصـا يمج دما مـن فـائظ وكـلـيم
وضاربة خدا كريماعلى فـتـى أغر نجيب الأمـهـات كـريم
أصيب بدولاب ولم تك موطنـا له أرض دولاب وديرحـمـيم
فلو شهدتنا يوم ذاك وخـيلـنـا تبيح من الكفـاركـل حـريم
رأت فتية باعوا الإله نفوسهـم بجنات عدن عـنـده ونـعـيم حدثني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا خلاد الأرقط قال:
صفحة : 661
كان الشراة والمسلمون يتواقفون ويتساءلون بينهم عن أمر الدين وغير ذلك على أمان وسكون فلا يهيج بعضهم بعضا. فتواقف يوما عبيدة بن هلال اليشكري وأبو حزابة التميمي وهما في الحرب، فقال عبيدة: يا أبا حزابة، إني سائلك عن أشياء، أفتصدقني في الجواب عنها? قال: نعم، إن تضمنت لي مثل ذلك، قال: قد فعلت. قال: سل عما بدا لك. قال: ما تقول في أئمتكم. قال: يبيحون الدم الحرام والمال الحرام والفرج الحرام. قال: ويحك فكيف فعلهم في المال? قال: يخبونه من غير حقه، وينفقونه في غير حقه. قال: فكيف فعلهم في اليتيم. قال: يظلمونه ماله، ويمنعونه حقه، وينيكون أمه. قال: ويلك يا أبا حزابة أفمثل هؤلاء تتبع.قال: قد أجبت، فاسمع سؤالي ودع عنك عتابي على رأيي، قال: قل. قال: أي الخمر أطيب: أخمر السهل أم خمر الجبل. قال: ويلك أتسأل مثلي عن هذا? قال: قد أوجبت على نفسك أن تجيب، قال: أما إذ أبيت فإن خمر الجبل أقوى وأسكر، وخمر السهل أحسن وأسلس. قال أبو حزابة: فأي الزواني أفره: أزواني رامهرمز أم زواني أرجان ? قال: ويلك إن مثلي لا يسأل عن مثل هذا قال: لا بد من الجواب أو تغدر، فقال: أما إذ أبيت فزواني رامهرمز أرق أبشارا، وزواني أزجان أحسن أبدانا. قال: فأي الرجلين أشعر: أجرير أم الفرزدق. قال: عليك وعليهما لعنة الله، أيهما الذي يقول:
وطوى الطراد مع القياد بطونها طي التجار بحضرموت برودا قال: جرير، قال: فهو أشعرهما. قال: وكان الناس قد تجاذبوا في أمر جرير والفرزدق حتى تواثبوا وصاروا إلى المهلب محكمين له في ذلك، فقال: أردتم أن أحكم بين هذين الكلبين المتهارشين فيمتضغاني، كنت لأحكم بينهما، ولكني أدلكم على من يحكم بينهما ثم يهون عليه سبابهما، عليكم بالشراة فسلوهم إذا تواقفتم. فلما تواقفوا سأل أبو حزابة عبيدة بن هلال عن ذلك فأجابه بهذا الجواب.
أخبرني أحمد بن جعفر جخظة قال حدثني ميمون بن هارون قال: حدثت أن امرأة من الخوارج كانت مع قطري بن الفجاءة يقال لها أم حكيم، وكانت من أشجع الناس وأجملهم وجها وأحسنهم بدينهم تمسكا، وخطبها جماعة منهم فردتهم ولم تجب إلى ذلك? فأخبرني من شهدها أنها كانت تحمل على الناس وترتجز:
أحمل رأسا قد سئمت حمله وقد مللت دفنه وغسـلـه
ألا فتى يحمل عني ثقله قال: وهم يفدونها بالآباء والأمهات، فما رأيت قبلها ولا بعدها مثلها.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عمي قال: كان عبيدة بن هلال إذا تكاف الناس ناداهم: ليخرج إلي بعضكم، فيخرج إليه فتيان من العسكر، فيقول لهم: أيما أحب إليكم: أقرأ عليكم القرآن أو أنشدكم الشعر? فيقولون له: أما القرآن فقد عرفناه مثل معرفتك، فأنشدنا، فيقول لهم: يا فسقة، والله قد علمت أنكم تختارون الشعر على القرآن، ثم لا يزال ينشدهم ويستنشدهم حتى يملوا ثم يفترقون.
أخبار سياط ونسبه
سياط لقب غلب عليه، واسمه عبدالله بن وهب، ويكنى أبا وهب، مكي مولى خزاعة. وكان مقدما في الغناء رواية وصنعة، ومقدما في الضرب معدودا في الضراب. وهو أستاذ ابن جامع وإبراهيم الموصلي، وعنه أخذا ونقلا ونقل نظراؤهما الغناء القديم، وأخذه هو عن يونس الكاتب. وكان سياط زوج أم ابن جامع. وفيه يقول بعضر الشعراء:
ماسمعت الغناء إلا شجانـي من سياط وزاد في وسواسي
غنني ياسياط قد ذهب اللـي ل غناء يطيرمنه نعـاسـي
ما أبالي إذاسمعـت غـنـاء لسياط مافاتني للـرؤاسـي والرؤاسي الذي عناه هو عباس بن منقار، وهو من بني رؤاس. وفيه يقول محمد بن أبان الضبي:
إذا واخيت عـبـاسـا فكن منه على وجـل
فتى لايقبل الـعـذر ولايرغب في الوصل
وما إن يتغنـى مـن يواخيه من النـبـل قال حماد بن إسحاق: لقب سياط هذا اللقب لأنه كان كثيرا ما يتغنى:
كأن مزاحف الحيات فيه قبيل الصبح آثار السياط وأخبرني محمد بن خلف قال حدثني هارون بن مخارق عن أبيه، وأخبرني به عبدالله بن عباس بن الفضل بن الربيع الربيعي عن وسواسة الموصلي ولم أسمع أنا هذا الخبر من وسواسةعن حماد عن أبيه، قالا :
صفحة : 662
غنى إبراهيم الموصلي يوما صوتا لسياط، فقال له ابنه إسحاق: لمن هذا الغناء يا أبت? قال: لمن لو عاش ما وجد أبوك شيئا يأكله، لسياط. قال: وقال المهدي يوما وهو يشرب لسلام الأبرش : جئني بسياط وعقاب وحبال، فارتاع كل من حضر وظن جميعهم أنه يريد الإيقاع بهم أو ببعضهم، فجاءه بسياط المغني وعقاب المدني وكان الذي يوقع عليه وحبال الزامر. فجعل الجلساء يشتمونهم والمهدي يضحك.
أخبرني محمد بن خلف قال حدثني أبو أيوب المدني قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: مر سياط على أبي ريحانة المدني في يوم بارد وهو جالس في الشمس وعليه ثوب رقيق رث، فوثب إليه أبو ريحانة وقال: بأبي أنت يا أبا وهب، غنني صوتك في شعر ابن جندب:
فؤادي رهين في هواك ومهجتي تذوب وأجفاني عليك هـمـول فغناه إياه، فشق قميصه ورجع إلى موضعه من الشمس وقد ازداد بردا وجهدا. فقال له رجل: ما أغنى عنك ما غناك من شق قميصك فقال له يابن أخي، إن الشعر الحسن من المغني الحسن في الصوت المطرب أدفأ للمقرور من حمام محمى. فقال له رجل: أنت عندي من الذين قال الله جل وعز: فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين .
فقال: بل أنا من الذين قال تبارك وتعالى: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه . وقد أخبرني بهذا الخبر علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه فذكر قريبا من هذا، ولفظ أبي أيوب وخبره أتم.
وأخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي، المعروف بابن أبي اليسع، قالحدثنا عمر بن شبة: أن سياطا مر بأبي ريحانة المدني، فقال له: بحق القبر ومن غنني بلحنك في شعر ابن جندب:
لكل حمام أنـت بـاك إذا بـكـى ودمعك منهل وقلـبـك يخـفـق
مخافة بعد بعد قـرب وهـجـرة تكون ولما تأت والقلب مشـفـق
ولي مهجة ترفض من خوف عتبها وقلب بنارالحب يصلى ويحـرق
أظل خليعا بين أهلـي مـتـيمـا وقلبي لما يرجوه منها مـعـلـق فغناه إياه، فلما استوفاه ضرب بيده على قميصه فشقه حتى خرج منه وغشي عليه. فقال له رجل لما أفاق: يا أبا ريحانة، ما أغنى عنك الغناء، ثم ذكر باقي الخبر مثل ما تقدم.
أخبرني إسماعيل قال حدثني عمر بن شبة قال: مرت جارية بأبي ريحانة يوما على ظهرها قربة وهي تغني وتقول:
وأبكى فلا ليلى بكت من صبابة إلي ولا ليلى لذي الود تبـذل
وأخنع بالعتبى إذا كنت مذنبـا وإن أذنبت كنت الذي أتنصـل فقام إليها فقال: يا سيدتي أعيدي فقالت: مولاتي تنتظرني والقربة على ظهري، فقال: أنا أحملها عنك، فدفعتها إليه فحملها، وغنته الصوت، فطرب فرمى بالقربة فشقها. فقالت له الجارية: أمن حقي أن أغنيك وتشق قربتي فقال لها: لا عليك، تعالي معي إلى السوق، فجاءت معه فباع ملحفته واشترى لها بثمنها قربة جديدة. فقال له رجل: يا أبا ريحانة، أنت والله كما قال الله عز وجل: فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ، فقال: بل أنا كما قال الله عز وجل: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه .
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني أبو العيناء قال قال إسحاق الموصلي: بلغني أن أبا ريحانة المدني كان جالسا في يوم شديد البرد وعليه قميص خلق رقيق، فمر به سياط المغني فوثب إليه وأخذ بلجامه وقال له: يا سيدي، بحق القبر ومن فيه غنني صوت ابن جندب، فغناه :
فؤادي رهين في هواك ومهجتي تذوب وأجفاني عليك هـمـول فشق قميصه حتى خرج منه وبقي عاريا وغشي عليه، واجتمع الناس حوله وسياط واقف متعجب مما فعل. ثم أفاق وقام إليه، فرحمه سياط وقال له: مالك يا مشئوم? أي شيء تريد. قال: غنني بالله عليك:
ودع أمامة حان منك رحيل إن الوداع لمن تحب قلـيل
مثل القضيب تمايلت أعطافه فالريح تجذب متنه فيمـيل
إن كان شأنكم الدلال فإنـه حسن دلالك يا أميم جمـيل فغناه إياه، فلطم وجهه ثم خرج الدم من أنفه ووقع صريعا. ومضى سياط، وحمل الناس أبا ريحانة إلى الشمس. فلما أفاق قيل له: ويحك خرقت قميصك وليس لك غيره فقال: دعوني، فإن الغناء الحسن من المغني المطرب أدفأ للمقرور من حمام المهدي إذا أوقد سبعة أيام. قال: ووجه له سياط بقميص وجبة وسراويل وعمامة.
صفحة : 663
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبو أيوب المدني قال حدثني محمد بن عبدالله الخزاعي وحماد بن إسحاق جميعا عن إسحاق قال: كان سياط أستاذ أبي وأستاذ ابن جامع ومن كان في ذلك العصر. فاعتل علة، فجاءه أبي وابن جامع يعودانه.
فقال له أبي: أغزز علي بعلتك أبا وهب، ولو كانت مما يفتدى لفديتك منها. قال: كيف كنت لكم? قلنا: نعم الأستاذ والسيد. قال: قد غنيت لنفسي ستين صوتا فأحب ألا تغيروها ولا تنتحلوها. فقال له أبي: أفعل ذلك يا أبا وهب، ولكن أي ذلك كرهت: أن يكون في غنائك فضل فأقصر عنه فيعرف فضلك عليم فيه، أو أن يكون فيه نقص فأحسنه فينسب إحساني إليك ويأخذه الناس عني لك? قال، :لقد استعفيت سن غير مكروه. قال الخزاعي فيب خبره: ثم قال لي إسحاق: كان سياط خزاعيا، وكان له زامر يقال له حبال، وضارب يقال له عقاب. قال حماد قال أبي: أدركت أربعة كانوا أحسن الناس غناء، سياط أحدهم. قال: وكان موته في أول أيام موسى الهادي.
أخبرني يحيى قال حدثنا أبو أيوب عن مصعب قال: دخل ابن جامع على سياط وقد نزل به الموت، فقال له: ألك حاجة. فقال: نعم، لا تزد في غنائي شيئا ولا تنقص منه، دعه رأسا برأس، فإنما هو ثمانية عشر صوتا.
أخبرنا محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال حدثني محمد بن حديد أخو النضر بن حديد: أن إخوانا لسياط دعوه، فأقام عندهم وبات ، فأصبحوا فوجدوه ميتا في منزلهم، فجاءوا إلى أمه وقالوا: يا هذه، إنا دعونا ابنك لنكرمه ونسر به ونأنس بقربه فمات فجأة، وها نحن بين يديك فاحتكمي ما شئت، ونشدناك الله ألا تعرضينا للسلطان أو تدعي فيه علينا ما لم نفعله. فقالت: ما كنت لأفعل، وقد صدقتم، وهكذا مات أبوه فجأة. قال: فجاءت معنا فحملته إلى منزلها فأصلحت أمره ودفنته. وقد ذكرت هذه القصة بعينها في وفاة نبيه المغني، وخبره في ذلك يذكر مع أخباره إن شاء الله تعالى.
أخبرنا يحيى بن عليئ وعيسى بن الحسين الزيات واللفظ له، قالا حدثنا أبو أيوب قال حدثنا أحمد بن المكي قال: غنيت إبراهيم بن المهدي لسياط:
ضاف قلبي الهوى فأكثر سهوي فاستحسنه جدا، وقال لي: ممن أخذته? قلت: من جارية أبيك قرشية الزباء، فقال: أشعرت أنه كان لأبي ثلاث جوار محسنات كلهن تسمى قرشية، منهن قرشية الزباء وقرشية السوداء وقرشية البيضاء، وكانت الزباء أحسنهن غناء يعني التي أخذت منها هذا الصوت، قال: وكنت أسمعها كثيرا تقول: قد سمعت المغنين وأخذت عنهم وتفقدت أغانيهم، فما رأيت فيهم مثل سياط قط. هذه الحكاية من رواية عيسى بن الحسين خاصة.
نسبة هذا الصوت
ضاف قلبى الهوى فأكثر سهوي وجوى الحب مفظع غير حلو
لو علا بعض ما علاني ثبـيرا ظل ضعفا ثبير من ذاك يهوي
من يكن من هوى الغواني خليا يا ثقاتي فإننـي غـير خـلـو الغناء لسياط ثاني ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحاق.
من المائة المختارة
يا أم عمرو لقد طالـبـت ودكـم جهدي وأعذرت فيه كل إعـذار
حتى سقمت، وقد أصبحت سالمة، مما أعالج من هـم وتـذكـار لم يسم قائل هذا الشعر. والغناء للرطاب. والرطاب مدني قليل الصنعة ليس بمشهور. وقيل له الرطاب لأنه كان يبيع الرطب بالمدينة. ولحنه المختار هزج بالوسطى.
تصدع الأنس الجمـيع أمسى فقلبي به صدوع
في إثرهم وجفون عيني مخضلة كلها دمـوع لم يسم لنا قائل هذا الشعر ولا عرفناه. والغناء لدكين بن يزيد الكوفي. ولحنه المختار من خفيف الثقيل بالوسطى، وهكذا ذكر إسحاق في الألحان المتخارة للواثق. وذكر هذا الصوت في مجرد شجا فنسبه إلى دكين، وجنسه في الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. وذكر أيضا فيه لحنا من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى البنصر، فزعم أنه ينسب إلى معبد وإلى الغريض. وفيه بيتان آخران وهما:
فالقلب إن سيم عنك صبرا كلف ماليس يستـطـيع
عاص لمن لام في هواكم وهو لكم سامع مطـيع
من المائة المختارة
يأيها الـرجـل الـذي قد زان منطقه البيان
لاتعتبن على الـزمـا ن فليس يعتبك الزمان
صفحة : 664
الشعر لعبدالله بن هارون العروضي. والغناء لنبيه المغني، ولحنه المختار ثقيل أول بالبنصر.
فأما عبدالله بن هارون فما أعلم أنه وقع إلي له خبر إلا ما شهر من حاله في نفسه. وهو عبدالله بن هارون بن السميدع، مولى قريش، من أهل البصرة. وأخذ العروض من الخليل ابن أحمد، فكان مقدما فيه. وانقطع إلى آل سليمان بن علي وأدب أولادهم، وكان يمدحهم كثيرا، فأكثر شعره فيهم. وهو مقل جدا. وكان يقول أوزانا من العروض غريبة في شعره، ثم أخذ ذلك عنه ونحا نحوه فيه رزين العروضي فأتى فيه ببدائع جمة، وجعل أكثر شعره من هذا الجنس. فأما عبدالله بن هارون فما عرفت له خبرا ولا وقع إلي من أمره شيء غير ما ذكرته.
ذكر نبيه وأخباره
نسبه وأصله وشعره وسبب تعلمه الغناء: زعم ابن خرداذبه أنه رجل من بني تميم صليبة، وأن أصله من الكوفة، وأنه كان في أول أمره شاعرا لا يغني، ويقول شعرا صالحا. فهوي قينة ببغداد فتعلم الغناء من أجلها وجعله سببا للدخول عليها، ولم يزل يتزيد حتى جاد غناؤه وصنع فأحسن واشتهر، ودون غناؤه وعد في المحسنين. فمما قاله في هذه الجارية وغنى فيه قوله:
يا رب إني ما جفوت وقد جفت فإليك أشـكـو ذاك يا ربـاه
مولاة سوء ماترق لعـبـدهـا نعم الغلام وبئست الـمـولاه
يارب إن كانت حياتي هـكـذا ضرراعلي فمـا أريد حـياه الغناء لنبيه ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى. ومن الناس من ينسب الشعر والغناء إلى علية بنت المهدي.
أخبرفي إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال: قلت لمخارق، وقد غنى هذا الصوت يوما:
متى لجمع القلب الذكي وصارما وأنفا حميا تجتنبك المـظـالـم فسألته لمن هو، فقال: هذا لنبيه التميمي، وكان له أخوان يقال لهما منبه ونبهان، وكان ينزل شهار سوج الهيثم في محرب الريحان. قال أبو زيد: وسمعت مخارقا يحدث إسحاق بن إبراهيم قال سمعت أباك إبراهيم بن ميمون يقول، وقد ذكر نبيها: إن عاش هذا الغلام ذهب خبرنا . قال: وكنت قد غنيته صوتا أخذته عنه، وهو:
شكوت إلى قلبي الفراق فقال لي من الآن فايأس لا أغرك بالصبر
إذا صد من أهوى وأسلمني العزا ففرقة من أهوى أحرمن الجمر أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثني ابن أبي سعد عن محمد بن عبدالله بن مالك قال حدثني علي بن المفضل قال: اصطبحنا يوما أنا ونبيه عند عبيد الله بن أبي غسان، فغنانا نبيه لحنه:
يأيها الرجـل الـذي قد زان منطقه البيان فما سمعت أحسن منه، وكان صوتنا عليه بقية يومنا. ثم أردنا الانصراف، فسألنا عبيد الله أن نبيت عنده ونصطبح من غد فأجبناه. وقال لنبيه: أي شيء تشتهي أن يصلح لك? قال: تشتري لي غزالا فتطعمني كبده كبابا، ونجعل سائر ما آكله من لحمه كما تحب، فقال: أفعل. فلما أصبحنا جاءه بغزال فأصلحه كما أحب. فلما استوفى أكله استلقى لينام، فحركناه فإذا هو ميت، فجزعنا من ذلك. وبعث عبيد الله إلى أمه فجاءت فأخبرها بخبره. فلما رأته استرجعت ثم قالت: لا بأس عليكم هو رابع أربعة ولدتهم كانت هذه ميتتهم جميعا وميتة أبيهم من قبلهم، فسكنا إلى ذلك. وغسل في دار عبيد الله وأصلح شأنه وصلي عليه، ومضينا به إلى مقابرهم فدفن هناك.
وففت على ربع لسعدى وعبرتي ترقرق في العينين ثم تـسـيل
أسائل ربعا قد تعفت رسـومـه عليه لأصنـاف الـرياح ذيول لم يسم لنا قائل هذا الشعر. والغناء لسليم هزج خفيف بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق.
أخبار سليم
انقطع إلى إبراهيم المصلي، وهو أمر د فأحبه وعلمه: هو سليم بن سلام الكوفي، ويكنى أبا عبدالله. وكان حسن الوجه حسن الصوت. وقد انقطع وهو أمرد إلى إبراهيم الموصلي، فمال إليه وتعشقه، فعلمه وناصحه، فبرع وكثرت روايته، وصنع فأجاد. وكان إسحاق يهجوه ويطعن عليه. واتفق له اتفاق سيء: كان يخدم الرشيد فيتفق مع ابن جامع وإبراهيم وابنه إسحاق وفليح ابن العوراء وحكم الوادي فيكون بالإضافة إليهم كالساقط. وكان من أبخل الناس، فلما مات خلف جملة عظيمة وافرة من المال، فقبضها السلطان عنه.
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه:
صفحة : 665
أن إسحاق قال في سليم:
سليم بن لسلام على برد خلقه أحرغناء من حسين بن محرز وأخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق، وأخبرنا يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق: أن الرشيد قال لبرصوما الزامر وكانت فيه لكنة ما تقول في ابن جامع. قال: زق من أسل، يريد من عسل.
قال: فإبراهيم. قال: بستان فيه فاكهة وريحان وشوك. قال: فيزيد حوراء. قال: ما أبيد أسنانه يريد ما أبيض. قال: فحسين بن محرز. قال: ما أهسن خظامه، يريد ما أحسن خضابه. قال: فسليم بن سلام? قال: ما أنظف ثيابه.
قال إسماعيل بن يونس في خبره عن عمر بن شبة عن إسحاق: وغنى سليم يوما وبرصوما يزمر عليه بين يلي الرشيد، فقصر سليم في موضع صيحة، فأخرج برصوما الناي من فيه ثم صاح به وقال له: يا أبا عبدالله، صيهة أشد من هذا، صيهة أشد من هذا، فضحك الرشيد حتى استلقى. قال: وما أذكر أني ضحكت قط أكثر من ذلك اليوم.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال قال محمد بن الحسن بن مصعب: إنما أخر سليما عن أصحابه في الصنعة ولعه بالأهزاج، فإن ثلثي صنعته هزج، وله من ذلك ماليس لأحد منهم. قال: ثم قال محمد: غنى سليم يوما بين يدي الرشيد ثلاثة أصوات من الهزج ولاء، أولها:
مت على من غبت عنه أسفا والثاني:
أسرفت في الإعراض والهجر والثالث:
أصبح قلبي به ندوب فأطربه وأمر له بثلاثين ألف درهم، وقال له: لو كنت الحكم الوادي ما زدت على هذا الإحسان في أهزاجك. يعني أن الحكم كان منفردا بالهزج.
مت على من غبت عنه أسفا لست منه بمصيب خلـفـا
لن ترى قـرة عـين أبـدا أوترى نحوهم منصـرفـا
قلت لماشفني وجدي بـهـم حسبي الله لمابي وكـفـى
بين الدمع لمن أبصـرنـي ماتضمنـت إذا مـا ذرفـا الشعر للعباس بن الأحنف. والغناء لسليم، وله فيه لحنان، أحدهما في الأول والثاني هزج بالوسطى، والآخر في الثالث والرابع خفيف رمل بالبنصر مطلق. وفيهما لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو.
ومنها:
أسرفت في الإعراض والهجـر وجزت حد التـيه والـكـبـر
الهجر والإعراض من ذي الهوى سلم ذي الغـدر إلـى الـغـدر
مالي وللهجران حسبـي الـذي مر على رأسي من الـهـجـر
ودون ما جربت فيمـا مـضـى ما عرف الخير مـن الـشـر الغناء لسيلم هزج بالبنصر.
أصبح قلبي به نـدوب أندبه الشادن الربـيب
تماديا منه في التصابي وقدعلا رأسي المشيب
أظنني ذائقا حمـامـي وأن إلمامـه قـريب
إذا فؤاد شجـاه حـب فقلما ينفع الطـبـيب الشعر لأبي نواس. والغناء لسليم، وله فيه لحنان: خفيف رمل بالبنصر عن إسحاق، وهزج بالوسطى عن الهشامي. وزعمت بذل أن الهزج لها.
أخبرني عفي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثني هارون بن مخارق عن أبيه قال: كان سليم بن سلام كوفيا، وكان أبوه من أصحاب أبي مسلم صاحب الدولة ودعاته وثقاته، فكان يكاتب أهل العراق على يلى. وكان سليم حسن الصوت جهيره، وكان بخيلا.
قال أحمد بن أبي طاهر وحدثني أبو الحواجب الأنصاري، واسمه محمد، قال: قال لي سليم يوما: امض إلى موسى بن إسحاق الأزرق فادعه ووافياني مع الظهر، فجئناه مع الظهر، فأخرج إلينا ثلاثين جارية محسنة ونبيذا، ولم يطعمنا شيئا، ولم نكن كلنا شيئا. فغمر موسى غلامه فذهب فاشترى لنا خبزا وبيضا، فأدخله إلى الكنيف وجلسنا نأكل، فدخل علينا، فلما رآنا نأكل غضب وخاصمنا وقال: أهكذا يفعل الناس تأكلون ولا تطعمونني وجلس معنا في الكنيف يأكل كما يأكل واحد منا حتى فني الخبز والبيض.
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثني أبي قال:
صفحة : 666
كان سليم بن سلام صديقي وكان كثيرا ما يغشاني. فجاءني يوما وأعلمني الغلام بمجيئه، فأمرت بإدخاله، فدخل وقال: قد جئتك في حاجة، فقلت: مقضية. فقال: إن المهرجان بعد غد، وقد أمرنا بحضور مجلس الخليفة، وأريد أن أغنيه لحنا أصنعه في شعر لم يعرفه هو ولا من بحضرته، فقل أبياتا أغني فيها ملاحاة فقلت: على أن تقيم عندي وتصنع بحضرتي اللحن، قال: أفعل. فردوا دابته وأقام عندي، وقلت:
أتيتك عائذا بك مـن ك لما ضاقت الحيل
وصيرني هواك وبي لحيني يضرب المثل
فإن سلمت لكم نفسي فما لاقيتـه جـلـل
وإن قتل الهوى رجلا فإني ذلك الـرجـل فغنى فيه وشربنا يومئذ عليه، وغنانا عدة أصوات من غنائه، فما رأيته مذ عرفته كان أنشط منه يومئذ.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن الجراح قال حدثني عبد الله بن محمد اليزيدي قال حدثني أخي محمد قال: سمعت أبي يقول: ما سرقت من الشعر قط إلا معنيين: قال مسلم بن الوليد:
ذاك ظبي تحير الحسن في الأر كن منه وجال كـل مـكـان
عرضت دونه الحجال فـمـايل قاك ألا في النوم أو في الأماني فاستعرت معناه فقلت:
يا بعيد الدار موصو لا بقلبي ولسلنـي
ربما باعدك الـده ر فأدنتك الأماني الغناء في هذين البيتين لسليم هزج بالبنصر عن الهشامي.
قال: وقال مسلم أيضا:
متى ماتسمعي بقتيل أرض فإني ذلك الرجل القتـيل ويروى: أصيب فإنني ذاك القتيل فقلت:
أتيتك عائذا بك مـن ك لما ضاقت الحيل
وصيرني هواك وبي لحيني يضرب المثل
فإن سلمت لكم نفسي فما لاقيتـه جـلـل
وإن قتل الهوى رجلا فإني ذلك الـرجـل وجدت في كتاب علي بن محمد بن نصر عن جده حمدون بن إسماعيل، ولم أسمعه من أحد: أن إبراهيم بن المهدي سأل جماعة من إخوانه أن يصطبحوا عنده قال حمدون: وكنت فيه، وكان فيمن دعا مخارق، فسار إليه وهو سكران لا فضل فيه لطعام ولا لشراب، فاغتم لذلك إبراهيم وعاتبه على ما صنع? فقال: لا والله أيها الأمير، ما كان آفتي إلا سليم بن سلام فإنه مر بي فدخل علي فغناني صوتا له صنعه قريبا فشربت عليه إلى السحر حتى لم يبق في فضل وأخذته. فقال له إبراهيم: فغنناه إملالا، فغناه:
إذا كنت ندماني فبـاكـر مـدامة معتقة زفت إلى غـير خـاطـب
إذاعتقت في دنها العام أقـبـلـت تردى رداء الحسن في عين شارب الغناء لسليم خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصرقال فبعث إبراهيم إلى سليم فأحضره، فغناه إياه وطرحه على جواريه وأمر له بجائزة، وشربنا عليه بقية يومنا حتى صرنا في حالة مخارق وصار في مثل أحوالنا.
من المائة المختارة
عتق الفؤاد من الـصـبـا ومن السفاهة والـعـلاق
وحططت رحلي عن قلـو ص الحب في قلص عتاق
ورفعت فضـل إزاري ال مجرورعن قدمي وساقي
وكففت غرب النفس حـت ى ما تتوق إلى مـتـاق لم يقع إلينا قائل هذا الشعر. والغناء لابن عباد الكاتب ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لإبراهيم خفيف ثقيل، وقيل: إنه لغيره، بل قيل: إنه لعمرو.
أخبار ابن عباد
نسبه وكنيته وصاعته
هو محمد بن عباد، مولى بني مخزوم، وقيل: إنه مولى بني جمح، ويكنى أبا جعفر. مكي، من كبراء المغنين من الطبقة الثاينة منهم. وقد ذكره يونس الكاتب فيمن أخذ عنه الغناء، متقن الصنعة كثيرها. وكان أبوه من كتاب الديوان بمكة، فلذلك قيل ابن عباد الكاتب.
أخبرني إسماعيل بن يونس فال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق، وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن عثمان بن حفحص الثقفي عن أبي خالد الكناني عن ابن عباد الكاتب قال:
صفحة : 667
والله إني لأمشي بأعلى مكة في الشعب ، إذ أنا بمالك على حمار له ومعه فتيان من أهل المدينة، فظننت أنهم قالوا له: هذا ابن عباد، فمال إلي فملت إليه، فقال لي: أنت ابن عباد. قلت: نعم، قال: مل معي هاهنا، ففعلت? فأدخلني شعب ابن عامر ثم أدخلني دهليز ابن عامر وقال: غنني، فقلت: أغنيك هكذا وأنت مالك، وقد كان يبلغني أنه يثلب أهل مكة ويتعصب عليهم فقال: بالله إلا غنيتني صوتا من صنعتك. فاندفعت فغنيته:
ألاياصاحبـي قـفـا قـلـيلا على زبع تقادم بـالـمـنـيف
فأمست دارهم شحطت وبانـت وأضحى القلب يخفق ذا وجيف وما غنيته إياه إلا على احتشام. فلما فرغت نظر إلي وقال لي: قد والله أحسنت ولكن حلقك كأنه حلق زانية. فقلت: أما إذ أفلت منك بهذا فقد أفلت. وهذا اللحن من صدور غناء ابن عباد. ولحنه من الثقيل الثاني بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى.
وفاته ببغداد: أخبرني يحيى بن علي بن يحيى وعيسى بن الحسين قالا حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني جماعة من أهل العلم: أن ابن عباد الكاتب توفني ببغداد في الدولة العباسية ودفن بباب حرب. وقال أبو أيوب: أظنه فيمن قدم من مغني الحجار على المهدي.
من المائة المختارة:
ياطلـلا غـيره بـعـدي صوب ربيع صادق الرعد
أراك بعدالأنس ذا وحـشة لست كما كنت على العهد
مالي أبكي طللا كـلـمـا ساءلته عي عـن الـرد
كان به ذوغـنـج أهـيف أحورمطبوع على الصـد لم يسم أبو أحمد قائل هذا الشعر. والغناء ليحيى المكي، ولحنه المختار من الهزج بالوسطى.
أخبار يحيى المكي ونسبه
اسمه وكنيته وكتمانه ولاءه لبني أمية لخدمته الخلفاء من بني العباس: هو يحيى بن مرزوق، مولى بني أمية، وكان يكتم ذلك لخدمته الخلفاء من بني العباس خوفا من أن يجتنبوه ويحتشموه، فإذا سئل عن ولائه انتمى إلى قريش ولم يذكر البطن الذي ولاؤه لهم ، واستعفى من سأله عن ذلك. ويكنى يحيى أبا عثمان. وذكر ابن خزداذبة أنه مولى خزاعة. وليس قوله مما يحصل، لأنه لا يعتمد فيه على رواية ولا دراية.
أخبرني عبدالله بن الزبيع أبو بكر الربيعي صديقنا رحمه الله قال حدثني وسواسة بن الموصلي وقد لقيت وسواسة هذا، وهو أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم وكان معلما، ولم أسمع هذا منه فكتبته وأشياء أخر عن أبي بكر رحمه الله قال حدثني حماد بن إسحاق قال قال لي أبي: سألت يحيى المكي عن ولائه، فانتمى إلى قريش فاستزدته في الشرح فسألني أن أعفيه.
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق ويحيى بن علي بن يحيى قالا حدثنا أبو أيوب المديني قال: كان يحيى المكي يكنى أبا عثمان، وهو مولى بني أمية، وكان يكتم ذلك ويقول: أنا مولى قريش.
ولما قال أعشى بني سليم يمدح دحمان:
كانوا فحولا فصاروا عند حلبتهم لما انبرى لهم دحمان خصيانـا
فأبلغوه عن الأعشى مقالـتـه أعشى سليم أبي عمرو سليمانا
قولوا يقول أبوعمرو لصحبتـه ياليت دحمان قبل الموت غنانا قال أبان بن عبد الحميد اللاحقي، ويقال إن ابنه حمدان بن أبان قالها. والأشبه عندي أنها لأبان، وما أظن ابنه أدرك يحيى:
يا مق يفضمل دحمانا ويمـدحـه على المغنين طرا قلت بهتـانـا
لوكنت جالست يحيى أوسمعت بـه لم تمتدح أبدا ماعشت إنـسـانـا
ولم تقل سفها في منية عرضـت ياليت دحمان قبل الموت غنـانـا
لقدعجبت لدحـمـان ومـادحـه لاكان مادح دحـمـان ولاكـانـا
ماكان كابن صغيرالعين إذ جـريا بل قام في غاية المجرى وما دانى
بذ الجياد أبو بـكـر وصـيرهـا من بعد ما قرحت جذعا وثنـيانـا يعني بأبي بكر ابن صغير العين، وهو من معني مكة. وله أخبار تذكر في موضعها إن شاء الله تعالى.
منزلته في الغناء.
صفحة : 668
وعمر يحيى المكي مائة وعشرين سنة، وأصاب بالغناء ما لم يصبه أحد من نظرائه، ومات وهو صحيح السمع والبصر والعقل. وكان قدم مع الحجازيين الذين قدموا على المهدي في أول خلافته، فخرج أكثرهم وبقي، يحيى بالعراق هو وولده يخدمون الخلفاء إلى أن انقرضوا. وكان آخرهم محمد بن أحمد بن يحيى المكي، وكان يغني مرتجلا، ويحضر مجلس المعتمد مع المغنين فيوقع بقضيب على دواة. ولقيه جماعة من أصحابنا، وأخذ عنه جماعة ممن أدركنا من عجائز المغنيات، منهم قمرية العمرية، وكانت أم ولد عمرو بن بانة. وممن أدركه من أصحابنا جحظة، وكتبنا عنه عن ابن المكي هذا حكايات حسنة من أخبار أهله. وكان ابن جامع وإبراهيم الموصلي وفليح يفزعون إليه في الغناء القديم ويأخذونه عنه، ويعايي بعضهم بعضا بما يأخذه منه ويغرب به على أصحابه، فإذا خرجت لهم الجوائز أخذوا منها ووفروا نصيبه. وله صنعة عجيبة نادرة متقدمة. وله كتاب في الأغاني ونسبها وأخبارها أو أجناسها، كبير جليل مشهور، إلا أنه كان كالمطرح عند الرواة لكثرة تخليطه في رواياته. والعمل على كتاب ابنه أحمد، فإنه صحح كثيرا مما أفسده أبوه، وأزال ما عرفه من تخاليط أبيه، وحقق ما نسبه من الأغاني إلى صانعه. وهو يشتمل على نحو ثلاثة آلاف صوت.
أخبرني عبدالله بن الربيع قال حدثني وسواسة بن الموصلي قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي قال: عمل جدي كتابا في الأغاني وأهداه إلى عبدالله بن طاهر، وهو يومئذ شاب حديث السن، فاستحسنه وسر به، ثم عرضه على إسحاق فعرفه عوارا كثيرا في نسبه، لأن جدي كان لا يصحح لأحد نسبه صوت البتة، وينسب صنعته إلى المتقدمين، وينحل بعضهم صنعة بعض ضنا بذلك على غيره، فسقط من عين عبدالله وبقي في خزانته، ثم وقع إلى محمد بن عبدالله، فدعا أبي، وكان إليه محسنا وعليه مفضلا، فعرضه عليه، فقال له: إن في هذه النسب تخليطا كثيرا، خلطها أبي لضنه بهذا الشأن على الناس، ولكني أعمل لك كتابا أصحح هذا وغيره فيه. فعمل له لحد كتابا فيه اثنا عشر ألف صوت وأهداه إليه، فوصله محمد بثلاثين ألف درهم. وصحح له الكتاب الأول أيضا فهو في أيدي الناس. قال وسواسة: وحدثني حماد أن أباه إسحاق كان يقدم يحيى المكي تقديما كثيرا ويفضله ويناضل أباه وابن جامع فيه، ويقول: ليس يخلو يحيى فيما يرويه من الغناء الذي لا يعرفه أحا منكم من أحد أمرين: إما أن يكون محقا فيه، كما يقول، فقد علم ما جهلتم، أو يكون من صنعته وقد نحله المتقدمين، كما تقولون، فهو أفضل له، وأوضح لتقدمه عليكم. قال: وكان أبي يقول: لولا ما أفسد به يحيى المكي نفسه من تخليطه في رواية الغناء على المتقدمين وإضافته إليهم ما ليس لهم وقلة ثباته على ما يحكيه من ذلك، لما تقدمه أحد. وقال محمد بن الحسن الكاتب: كان يحيى يخلط في نسب الغناء تخليطا كثيرا، ولا يزال يصنع الصوت بعد الصوت يتشبه فيه بالغريض مرة وبمعبد أخرى وبابن سريج وابن محرز، ويجتهد في إحكامه وإتقانه حتى يشتبه على سامعه، فإذا حضر مجالس الخلفاء غناه على ما أحدث فيه، من ذلك، فيأتي بأحسن صنعة وأتقنها، وليس أحد يعرفها، فيسأل عن ذلك فيقول: أخذته عن فلان وأخذه فلان عن يونس أو عن نظرائه من رواة الأوائل، فلا يشك في قوله، ولا يثبت لمباراته أحد، ولا يقوم لمعارضته ولا يفي بها، حتى نشأ إسحاق فضبط الغناء وأخذه من مظانه ودونه، وكشف عوار يحيى في منحولاته وبينها للناس.
أظهر إسحاق غلطه فأرسل له هدايا وعاتبه: أخبرني عمي قال سمعت عبيد الله بن عبدالله بن طاهر يذكر عن أحمد بن سعيد المالكي وكان مغنيا منقطعا إلى طاهر وولده وكان من القواد قال: حضرت يحيى المكي يوما وقد غنى صوتا فسئل عنه فقال: هذا لمالك ولم يحفظ أحمد بن سعيد الصوت ثم غنى لحنا لمالك فسئل عن صانعه فقال: هذا لي، فقال له إسحاق: قلت ماذا? فديتك، وتضاحك به. فسئل عن صانعه فأخبر به، ثم غنى الصوت. فخجل يحيى حتى أمسك عنه، ثم غنى بعد ساعة في الثقيل الأول، واللحن:
إن الخليط أجد فاحتمـلا وأراد غيظك بالذي فعلا
فظللت تأمل قرب أوبتهم والنفس مما تأمل الأملا
صفحة : 669
فسئل عنه فنسبه إلى الغريض. فقال له إسحاق: يا أبا عثمان، ليس هذا من نمط الغريض ولا طريقته في الغناء، ولو شئت لأخذت مالك وتركت للغريض ماله ولم تتعب. فاستحيا يحيى ولم ينتفع بنفسه بقية يومه. فلما انصرف بعث إلى إسحاق بألطاف كثيرة وبر واسع، وكتب إليه يعاتبه ويستكف شره ويقول له: لست من أقرانك فتضادني، ولا أنا ممن يتصدى لمباغضتك ومباراتك فتكايدني، ولأنت إلى أن أفيدك وأعطيك ما تعلم أنك لا تجده عند غيري فتسمو به على أكفائك أحوج منك إلى أن تباغضني، فأعطي غيرك سلاحا إذا حمله عليك لم تقم له، وأنت أولى وما تختار. فعرف إسحاق صدق يحيى، فكتب إليه يعتذر، ورد الألطاف التي حملها إليه، وحلف لا يعارضه بعدها، وشرط عليه الوفاء بما وعده به من الفوائد، فوفى له بها، وأخذ منه كل ما أراد من غناء المتقدمين. وكان إذا حز به أمر في شيء منها فزع إليه فأفاده وعاونه ونصحه، وما عاود إسحاق معارضته بعد ذلك. وحذره يحيى، فكان إذا سئل بحضرته عن شيء صدق فيه، وإذا غاب إسحاق خلط فيما يسأل عنه. قال: وكان يحيى إذا صار إليه إسحاق بطلب منه شيئا أعطاه إياه وأفاده وناصحه، ويقول لابنه أحمد: تعال حتى تأخذ مع أبي محمد ما الله يعلم أني كنت أبخل به عليك فضلا عن غيرك. فيأخذه أحمد عن أبيه مع إسحاق. قال: وكان إسحاق بعد ذلك يتعصب ليحيى تعصبا شديدا، ويصفه ويقدمه ويعترف برياسته، وكذلك كان في وصف أحمد ابنه وتقريظه.
قال أحمد بن سعيد: والاختلاف الواقع في كتب الأغاني إلى الآن من بقايا تخليط يحيى. قال أحمد بن سعيد: وكانت صنعة يحيى ثلاثة آلاف صوت، منها زهاء ألف صوت لم.يقاربه فيها أحد، والباقي متوسط. وذكر بعض أصحاب أحمد بن يحيى المكي عنه أنه سئل عن صنعة أبيه فقال: الذي صح عندي منها ألف وثلثمائة صوت، منها مائة وسبعون صوتا غلب فيها على الناس جميعا من تقدم منهم ومن تأخر، فلم يقم له فيها أحد.
وقال حماد بن إسحاق قال لي أبي: كان يحيى المكي يسأل عن الصوت، وهو يعلم لمن هو، فينسبه إلى غير صانعه، فيحمل ذلك عنه كذلك، ثم يسأله آخرون فينسبه غير تلك النسبة، حتى طال ذلك وكثر منه وقل تحفظه، فظهر عواره، ولولا ذلك لما قاومه أحد.
وقال أحمد بن سعيد المالكي في خبره: فال إسحاق يوما للرشيد، قبل أن تصلح الحال بينه وبين يحيى المكي: أتحب يا أمير المؤمنين أن أظهر لك كذب يحيى فيما ينسبه من الغناء. قال نعم. قال: أعطني أي شعر شئت حتى أصنع فيه، واسألني بحضرة يحيى عن نسبته فإني سأنسبه إلى رجل لا أصل له، واسأل يحيى عنه إذا غنيته، فإنه لا يمتنع من أن يدعي معرفته. فأعطاه شعرا فصنع فيه لحنا وغناه الرشيد: ثم قال له: يسألني أمير المؤمنين عن نسبته بين يديه. فلما حضر يحيى غناه إسحاق فسأله الرشيد: لمن هذا اللحن. فقال له إسحاق: لغناديس? المديني. فأقبل الرشيد على يحيى فقال له: أكنت لقيت غناديس المديني? قال: نعم، لقيته وأخذت عنه صوتين، ثم غنى صوتا وقال: هذا أحدهما. فلما خرج يحيى حلف إسحاق بالطلاق ثلاثا وعتق جواريه: أن الله ما خلق أحدا اسمه غناديس، ولا سمع في المغنين ولا غيرهم، وأنه وضع ذلك الاسم في وقته ذلك لينكشف أمره.
حدثني أحمد بن جعفر جخظة قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي المرتجل قال: غنى جدي يوما بين يدي الرشيد:
هل هيجتك مغاني الحي والدور فاشتقت إن الغريب الدار معذور
وهل يحل بنا إذ عيشـنـا أنـق بيض أوانس أمثال الدمى حـور والصنعة له خفيف ثقيل فسار إليه إسحاق وسأله أن يعيده إياه، فقال: نعم، حبا وكرامة لك يابن أخي، ولو غيرك يروم ذلك لبعد عليه، وأعاده حتى أخذه إسحاق. فلما انصرف بعث إلى جدي بتخت ثياب وخاتم ياقوت نفيس.
حذثني جحظة قال حدثني القاسم بن زززور عن أبيه عن مولاه علي بن المارقي قال:
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:48 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية5
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:46 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية4
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:45 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية3
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:44 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية2
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:42 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:41 pm من طرف Admin
» نموذج من بناء الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:39 pm من طرف Admin
» كيف تنشأ الرواية أو المسرحية؟
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:38 pm من طرف Admin
» رواية جديدة
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:26 pm من طرف Admin