VII. قصة نونيا
قصة نونيا تنتهي بالبحث عن أسطورة. وتكتشف هي الأسطورة من خلال إشارة غامضة، قبل أسابيع من ذلك اللقاء معه. إنه مساء ماطر. ونونيا متكئة بكسل، ونظرها يشرد بكثرة إلى صور التلفزيون، لكنها غير مهتمة بالموضوع، بينما هي تتصفح، دون اهتمام أيضاً، صفحات الجريدة. انتهى البرنامج واستعدت للنهوض وإطفاء الجهاز، عندما شدت انتباهها بعض الصور العابرة: فبإيجاز متسارع، ومن زوايا معهودة، ويمكن معرفتها فوراً، راحت تتوالى على الشاشة أقواس أروقة دير قديمة، وواجهات مداخل من أحجار قاتمة، وجسر طويل مذهب فوق النهر الذي يمتد أمام أشجار الحور الأسود الضخمة، والصليب الحديدي الصغير مغروس فوق كومة حجارة، وبيوت ذات أفاريز كبيرة، وأطلال مهدمة.
فضول رؤيتها ظهور بعض المناظر المألوفة أوقفها عن إطفاء الجهاز. ظلت جامدة تتأمل تلك الصور. كان لصوت المذيع إيقاع غير منتظم، صوت قارئ متوسط الجودة، يفخم الكلام بطريقة تبدو فظة معها سلسلة الأمجاد القديمة، وكأنه يسعى إلى إدهاش المشاهدين. ولكن، على خلفـية الصوت، راحت تظهر الأبنية والمعابر بين وديان متموجة، وغابات قاتمة، وطرقات متعرجة كأنها دروب. وكان بهاء المناظر يطغى على تفخيم الكلمات، بل كان يسوغه: فالأروقة القديمة ذات الأقواس المتناظرة تشبه نوافذ مشرعة على مناظر لا يمكن إلا لبعض العيون أن تفهمها؛ والواجهات القاتمة تتكشف عن عتبات يمكن لها أن تعني، بالتأكيد، المدخل إلى العقاب أو المخرج إلى الغفران من مصائر خفـية. والجسور كأنها حدود دافع عنها أحدهم بتدبير عظيم، وكأن اجتيازها يتيح الدخول إلى أراضٍ فريدة. وتبدو الصلبان فوق كومة الأحجار الجرداء، كأنها تشير إلى علامة احتضار، كواجهات البيوت فـي الشوارع الضيقة، بأبوابها التي تشبه، تحت شرفتين متناظرتين، وجوهاً ضخمة ذاهلة، شوهها انتظار بلا أمل، أو كخرائب مقوضة فـي العراء بدقة يمكن القول إنها ثمرة إرادة صريحة بالكمال.
كان الصوت يصف بعض نقاط طريق الحج القديم الذي يبدأ من أراضٍ شمالية بعيدة، مجتازاً مضايق جبلية وسط هاويات دوارية ورؤوس جبال حادة ذات ثلوج دائمة، ويأخذ بالهبوط إلى وديان الأنهار الكبيرة عبر تفرعات مختلفة، بعضها يذرع سهولاً خضراء ناعمة، وغيرها يجتاز أراضي حمراء بين أشجار سرو وغار وتين، أو يتوقف أمام واجهات الكاتدرائيات الضخمة لتلتقي أسفل جبال الفضة وتتوغل أخيراً فـي شبه الجزيرة الإيبيرية. كان الصوت يصف دروباً جبلية ضيقة ذات شهرة أسطورية، ويشير إلى مقاطع من الطريق وتفرعات تنفصل أحياناً عن الفرع الرئيسي، ويؤكد أخيراً أنه فـي ما وراء الضريح، يتوقف الطريق نهائياً عند دير يسوع المقدس ذي اللحية الشقراء، فـي أراضي أقصى الطرف الغربي.
إنه وصف مسهب، تركته نونيا يمضي دون كبير اهتمام، ولكن بإحساس فريد بالمعايشة، كما لو أن كل تلك الأماكن، ليس القريبة والمعروفة منها فقط، مألوفة لها منذ القدم ولا تحتاج إلى تركيز انتباهها كثيراً لتعرفها كلها، المقوضة منها والمتبقية، على حافة طريق يكفـي السير فـيه للعثور عليها دوماً.
وأخيراً، أخذ الصوت يتوقف عند الإشارة إلى نصوص قديمة حول الطريق. أحد الكتب التي أُشير إليها بتركيز خاص هو، كما يبدو، دليل أُعدّ برعاية أحد باباوات العصور الوسطى، وقد توصل إلى تحقيق شهرة شعبية لدرب الحج المقدس ذاك فـي عصور الظلام تلك. كان المذيع يقول إن الكتاب مؤلف من نصوص متنوعة تتحدث فـي بعض أجزائها، إلى جانب وصف دروب الحج والصلوات، عن حالات وأمثلة مرتبطة بالحج: معجزات مختلفة لسيدتنا العذراء، حيث يلعب الحواري سانتياغو أيضاً دور الوسيط. وأمثلة عن مشعوذين مجدفـين، وأبناء ضالين، وعبيد غير أوفـياء، وأصدقاء حاسدين، ورهبان شهوانيين نالوا جميعهم المغفرة عن ذنوبهم بفضل تدخل العذراء الأمومي أو مساعدة الحواري الأخوية، لأنهم كانوا مؤمنين ورعين بهما.
وخارج البيت، كان المطر ينقر الزجاج، وكانت تُسمع كذلك ولولة الريح الخفـيفة فـي الأفنية. أما هي فكانت مستغرقة فـي الصور، ولا تكاد تولي سوى اهتمام ملتبس إلى كلمات المذيع. وفجأة، فـي اللحظات الأخيرة من القصة، انتابها فضول خاص نحو إحدى المعجزات، وحاولت بتلهف الإحاطة بموضوعها من خلال نهايتها، وهو الشيء الوحيد الذي سمعته حقاً. أيقظت تلك النهاية فـي نفسها رغبة كبيرة فـي معرفة المسألة، وانتظرت دون طائل أن يعود المذيع للإشارة إليها. لكن اقتباساته من الكتاب كانت قد انتهت. وكانت البوابات البديعة، والأضرحة والصلبان، وأبراج النواقيس المنتصبة فـي الوديان، تزين نهاية البث. عندئذ تنهض نونيا، وتطفئ التلفزيون، وتجلس مجدداً وتظل مستغرقة لوقت طويل.
بدا لها أن المعجزة التي استثارت اهتمامها بعد فواتها تتعلق بغرام دنس بين حاجّين؛ وتظن أنها سمعت كذلك أنه حُكم عليهما، بسبب خطيئتهما، بأن يظلا هائمين على وجهيهما على طريق الحج دون أن يلتقيا حتى نهاية الأزمان، حين تختفـي الدروب كلها إلى الأبد. ومع ذلك، لم تفهم طبيعة تلك العلاقة الخاطئة، ولم تعرف إذا ما كانت تلك النبوءة الأبوكالبسية، حسب المعجزة، مشروطة بأن يلتقي الحاجان، أم أن لقاءهما سيكون نذير الشؤم بوقوع الكارثة الأخيرة، حين يختفـي من السماء إلى الأبد الدرب المرصع بالنجوم الذي يدل على طريق الحج، ويختفـي كذلك درب الحجيج المعفر الذي يمضي بين المدن والغابات، وباختفائهما يختفـي الكون كله.
ظلت ساهمة. فالاحتمالان كلاهما، مع ذلك، هما الاحتمال نفسه، ولا يمكن إلا لظل خفـيف أن يميز بينهما. وكانت تفكر فـي نهاية الأزمان باعتبارها حدثاً عابراً أيضاً لا يلبث أن ينقضي مثل أي حديث بعد الطعام، فمرور كل دقيقة ما هو إلا إنذار بتلك النهاية المحتمة. وتعود بعد ذلك إلى المعجزة التي لم تكد تسمعها، مثلما لم تفهم مضمون الحكاية، وتشعر كذلك بأنها لا تستطيع حدس تلك النهاية النموذجية حيث الخطايا الخطيرة تواصل تماديها إلى أن تستثير الغضب الإلهي، ثم تُغتفر بفعل عاطفة ورع تقيّة.
وفـي الوقت نفسه، بهرتها فكرة غير معقولة. فوصف تلك المعجزة المشوشة جسًد فـي ذاكرتها، بوضوح لا لبس فـيه، صورة حاجّين عرفتهما فـي مراهقتها، كانا قد دخلا على نحو خاص نطاق حياتها اليومية من خلال حلم تكرر لسنوات. ظلت نونيا ساهمة، ومخيلتها معلقة بتلك الذكرى. توقف المطر عن النقر. وفقدت هي عندئذ جمودها، فاقتربت من النافذة وأزاحت الستائر.
لقد انقطع المطر. وعلى الإسفلت الذي مازال مبللاً، كان ينعكس ضوء الشمس الذي هيمن أخيراً، وإن يكن متأخراً، على الغيوم. كان على نونيا أن تخرج لإنجاز عدة أمور. ومع ذلك، ظلت تفكر باحثة عن عمل يبقيها فـي البيت، فـيرغمها على تأجيل أعمالها الصغيرة فـي الخارج، ويتيح لها البقاء فـي وحدتها الصامتة مستسلمة تماماً للرغبة فـي مواصلة اجترار ذلك التشابه غير المعقول.
تجلس من جديد. الستائر ظلت متباعدة، فلامس شعاعٌ هاونَ خزانة الأطباق مشعلاً انعكاساً أشبه بمنارة صغيرة، تشير إلى الخط الحقيقي لساحل غير مرئي. يحيط البريق الخفـيف والمذهب بقية الأشياء الموضوعة فوق الخزانة الهرمة بهالة مهيبة. وبانعكاس تلك الأسطورة المشوشة، تبدو ذكرياتها محاطة أيضاً بهالة بريق ترفع من شأنها. وهكذا، تجد أن ذلك الحلم المتكرر على امتداد أعوام، والذي يتصادف فـيه التقاءها بحاجين فـي أماكن مختلفة، يكتسب فجأة معاني غامضة، وتتشكك للحظة فـي أن حلمها لم يكن عرضياً، وإن كان مكروراً فـي طبيعته، وإنما هو دائم مثله مثل الحزم المألوفة التي تظل فـي ظلمة الحجرة. ومع أنها غير قادرة على تذكره إلا فـي بعض الأحيان، فإنه حلم الليالي كلها نفسه، ربما يتكرر هو نفسه على امتداد كل ليلة، فـي متوالية غير معقولة من مشاهد وأوضاع: فـي مناظر ضبابية وتحت شموس صيف متلألئة، وسط أمطار وفوق ثلوج، أمام صوامع صغيرة وكاتدرائيات ضخمة.
وهكذا، تفكر نونيا فـي الأسطورة التي لم تكد تسمعها، وفـي الشخصيات المستشفة من الأسطورة، وفـي ظلال تلك الأحلام، بنشوة هادئة تتحكم مع ذلك باهتماماتها الأخرى. تشعر بفضول كبير نحو ذلك الكتاب الذي تُروى فـيه، كما يبدو، القصة القديمة. الطابع الأسطوري، ومظهر الإيمان الساذج، وقوة النموذج الإعجازي الناعمة، تضفـي كلها أيضاً مظهراً غير عرضي على جميع الأحلام.
الاستحضار جلب إليها ذكرى بعض روائح الطفولة. ذكرى غائمة لأزهار موزعة فـي زهريات زجاجية تكاد فوهاتها لا تتسع لوفرة سيقان الزهور، ولهيب شموع مرتعشة تلقي على وجه التمثال ظلالاً مقتضبة متتالية، توحي بأنها إيماءات خاصة من تقاطيع وجه تلك الطاهرة المنحوتة من الجبس. كان ذلك هو شهر مريم، شهر الأزهار، وتأتي تلك الخلوات فـي الكنيسة الصغيرة كفترات طمأنينة روحية مطلقة فـي سياق العام الدراسي، منبئة دون ريب بطمأنينة السماء البهيجة، وكانت مثل حضن دافئ ووثير، كأنه بطن هرّ ضخم مسالم ومتكور فـي أشد زوايا الأبدية راحة.
وفـي الكنيسة الصغيرة المظلمة، كان الكاهن يرتل بصوت متأثر مدائح لسيدتنا العذراء. وهي تتذكر كيف كان آنذاك: كان ضئيلاً، أصلع، بجمجمة كبيرة مكورة يلمع عليها، كما على مرمر مصقول، ضوء الشموع المرتعش. تلك التراتيل، والأناشيد والصلوات، والعهود، وبعد ذلك الموكب الديني فـي الفناء الكبير، فـي المساء الربيعي الذي يطول مضوعاً بعطور نباتية، تعود إليها كلها كطقس احتفالي لا متسع فـيه لأي عنف.
تفكر فـي الكاهن القديم وتدرك أنه يعرف، دون شك، ذلك الكتاب وأساطيره. وتعرف من أبيها أن الرجل، وقد صار عجوزاً جداً، يعاني من هشاشة صحية هي مقدمة لنهاية محتومة. ويجد فضولها عندئذ الذرائع الضرورية، وتقرر أخيراً مغادرة البيت، ليس لانجاز التزاماتها المنزلية الصغيرة، وإنما لزيارة الكاهن العجوز وتبادل الحديث معه: استعادة ذكريات أماسي أيار فـي أيام طفولتها الضائعة، والتحدث عن الكتاب القديم الذي كُتبت فـيه تلك المعجزات الأسطورية.
* * *
قصة الزيارة تكاد تكون غير ضرورية، لكنها تتيح إبراز اهتمام نونيا بالأسطورة التي لم تكد تدركها. ولا حاجة لوصفها بينما هي تقترب، عبر الأزقة المتعرجة، من بيت الكاهن العجوز الذي بلغ مرتبة كاهن قانوني وصار متقاعداً. كانت رطوبة النهار تبلل حجارة الجدران وبلاط الشارع، وتقبع راكدة فـي محيط القناطر المعتمة. كان مدخل البيت واحداً من تلك القناطر المظلمة والعابقة بالراوائح. وكان مصباح نور شاحب يضيء بسطة السلّم. تقرع نونيا الباب بالمقرعة عدة مرات وتنتظر بصبر التوالي الطويل لوقع خطوات تصل متجرجرة بصدى متعب. ويسأل صوت مرتعش عمن تكون، من الجانب الآخر لكوة الباب الواسعة. إنها مدبرة البيت، وهي كتلة سوداء، تقف ساكنة وذراعاها متهدلتان على جانبي الجسد، وبريق طحيني فـي الوجه المجعد، تتأملها من وراء الكوة كما لو أنها فـي الجانب الآخر من عتبة أبدية.
ــ يا يسوع ــ تهتف أخيراً ــ. لم أعرفك، كان الصوت مألوفاً لي، لكني لم أعرفك.
ــ أجل، إنني أنا ــ تقول نونيا.
ــ ادخلي، يا بنتي، ادخلي. سيفرح بك كثيراً.
تذرع مدبرة البيت العجوز تلك الممرات المظلمة بثقة عادة سنوات طويلة. عتمة الأركان تزداد كثافة فـي طيات الستائر الرمادية المغبرة، وقطع الأثاث الكبيرة التي تضم أمكنة مظلمة أيضاً بين أسطح أخشابها الثقيلة.
لقد صار الكاهن القانوني عجوزاً جداً. وربما تأخر لحظات أيضاً للتعرف إليها، لكنه لم يقل ذلك. نهض قليلاً، وإن لم يُخرج ساقيه من السرير الضيق، وأبدى سعادة ساذجة. لا شك أن نظره قد ساء، لكنه مازال يتمتع بسمع مرهف، ويسعى جاهداً للسيطرة، بصوته الحذر والبطيء، على ضعف أنفاسه.
ــ لا حاجة لأن تتحرك ــ تقول نونيا.
يتهاوى دون آغابيتو من جديد متدثراً بالغطاء. وعلى المنضدة الصغيرة النقالة، هناك حفنة من الفاصولياء الخضراء مبعثرة على صفحة من جريدة دياريو تشير إلى نشاط مدبرة البيت التي تجمع ذلك كله بيد مرتعشة وتنصرف إلى المطبخ.
ــ حسن ــ قالت نونيا متنهدة ــ. لم أكن أريد الإزعاج.
وبعد وقت قصير، ترجع المرأة الطيبة حاملة صينية معكرونة وكأس نبيذ أحمر.
ــ أراكَ بحالة جيدة ــ تقول نونيا ــ مظهرك جيد.
على المنضدة الصغيرة مازال المصباح القديم ذو البكرة الذي طالما استرعى اهتمامها وهي طفلة، بمظهره العتيق، ومحيطه النحيل، وثقالته الكبيرة المذهبة. كان الضوء مركزاً عليهما، بينما يخيم على بقية الحجرة ظلام متزايد.
ــ ياه ــ هتف الكاهن.
ــ منذ زمن طويل لم أجئ إلى هنا. لابد أن تعذرني.
ــ لا تقلقي. لديك ما تفعلينه أكثر من تحمّل عجوز مثلي.
ــ لا تقل هذا.
كان للخمر مذاق حلو، وطعم زنخ يتناسب دون غرابة مع روائح البيت ومع الظل والضوء فـيه.
ــ ثم إن أباكِ لا يفوّت أسبوعاً دون أن يجيء.
يداه مجعدتان جداً، تغطي ظاهرهما بقع كبيرة بنية اللون. وضعهما فوق الغطاء، إحداهما إلى جانب الأخرى، بتناظر تام. وبينما هو يتكلم، يجعلهما تنزلقان، مباعداً بينهما ومعيداً جمعهما من جديد وفق إيقاع بطيء وصامت.
ــ دون آغابيتو ــ تقول له ــ، لقد تذكرتُ اليوم أشهر مريم تلك. تذكرت مذبح الكنيسة المترع بأزهار وشموع مشعلة، بينما أنت تروي قصص معجزات.
ــ كانت تلك هي الأساليب آنذاك، يا بنتي.
ــ إنها ذكرى جميلة جداً، أشبه بحلم تملؤه سكينة.. طمأنينة لم أعد إلى الشعور بها تقريباً فـي حياتي.
ــ إنها تقنيات تلك الأزمنة. من أجل التأثير فـيكم، يا حلوة.
ــ فكرتُ فـي الأمر بسبب شيء شاهدته فـي التلفزيون. كان ريبورتاجاً عن طريق الحج.
ــ التلفزيون عندنا معطل. وقد ظهر البرنامج بصورة رديئة جداً.
ــ تكلموا عن كتاب قديم، من العصور الوسطى. كتبه أحد الباباوات. وهو أشبه بدليل، وفـيه معجزات. وقد تذكرتك، وتذكرت شهور الأزهار تلك.
ــ أنا أعرف ما تشيرين إليه.
ــ هناك معجزة لم أستطع فهمها. تتحدث عن حاجين خاطئين، وعن عقابهما. وقيل إنهما منذ ذلك الحين يهيمان على وجهيهما فـي الدنيا دون أن يلتقيا.
احتفظ الكاهن بالصمت للحظات.
ــ كان نصاً معروفاً على نطاق واسع فـي القرن الثاني عشر. وتوجد نسخ منه فـي أماكن كثيرة.
ــ وهل تتذكر المعجزة التي حدثتك عنها؟
دفع الكاهن رأسه إلى الخلف وتكلم ببطء، كمن يتذكر:
ــ كان الكتاب يرمي إلى التعريف بطريق الحج. وقد حظيت تلك الطريق بأهمية كبيرة، يا بنتي. أما المعجزات، فهناك ما تشائين منها. لقد كانت أزمنة أخرى.
أعاد إليه الجهد والمحادثة شيئاً من حيويةٍ تبدت بصعوبة، متغلبة بصورة متقطعة وعابرة على الاختناق الذي يبدو قريباً وحاسماً.
ــ كان الناس يؤمنون بهذه الأشياء.
ــ أتتذكرها؟
أشار بإيماءة غامضة بيديه البيضاوين والهرمتين، كما لو أنه يجرد تلك المعجزة من الأهمية، ويركز على تقويم ذلك العصر، وطريقة التفكير والإحساس التي جرى فـيها ذلك.
ــ بشأن التذكر، أتذكر الكثير. لقد كانت وسيلة فعالة، تقديم أمثولة وعبرة، كما فـي أشهر الأزهار تلك: تعالوا ولنمض معاً، والتنافس بالأزهار.
كان رأس الكاهن، ببؤبؤي عينيه الأبيضين، والجبهة الممتلئة بالأخاديد، والأذنين المفتوحتين على جانبي الجمجمة لبنية اللون، والمغطاة كذلك بنمش قاتم، يبدو أشبه برأس صورة باهتة الألوان، وضائعة وسط أغراض مستودع كنيسة منعزل.
ــ أتعرف أين يمكنني العثور على الكتاب؟
استغرق الرجل فجأة فـي الغمغمة بتلك الأغنية الدينية. وانتهى إلى الدندنة بها هامساً، ثم أخرج منديلاً وتمخّط بصخب. كانت نونيا على وشك أن تكرر سؤالها، عندما أجابها:
ــ انظري فـي أبرشية المقاطعة. ربما لديهم شيء هناك.
عادت مدبرة البيت إلى دخول الحجرة وهي تمسح يديها بالمريلة.
ــ منذ زمن طويل لم نركِ هنا.
تبتسم هي لمدبرة البيت، لكنّ دون آغابيتو يدير وجهه قليلاً ويأمرها أن تصمت بإشارة منه.
ــ هل يهمك هذا الكتاب كثيراً؟
ــ حسن ــ تقول هي ــ لقد استثار فضولي. والحقيقة أنني راغبة فـي رؤيته.
ــ هناك نسخة أصلية منه محفوظة فـي سانتياغو ــ يقول دون آغابيتو.
يضمّ إحدى يديه ويضرب على الغطاء بالقبضة العظمية.
ــ مازال لي أصدقاء فـي تلك الأبرشية ــ يؤكد ــ وسوف تصلين إلى الكتاب إن شئت.
تدرك نونيا عندئذ أن الاطلاع على الكتاب قد يكون مسألة عويصة. ومع ذلك، تشعر أن فضولها قد هدأ قليلاً بعد تلك المحادثة القصيرة، كما لو أنها وجدت فـي وجه دون آغابيتو، فـي العينين اللبنيّتين، فـي الذقن البرّاقة بسبب قليل من الريالة، إشارة هادئة، لم توضح لها شيئاً، ولكنها استبدلت مع ذلك بمسوغات اهتمامها الغامضة بحقائق يقينية أخرى لا تحتاج إلى نبش وتمحيص. نهضت واقفة.
ــ سأترك الأمر إذاً حتى الصيف. فأنا أفكر فـي قضاء بضعة أيام هناك هذا الصيف. وسأخبرك قبل ذهابي لتزوّدني برسالة توصية.
ــ لا تتباطئي كثيراً ــ يقول مقطباً ــ فـي الصيف، بمشيئة الله، ستكون أعشاب الخباز قد نبتت على قبري.
ــ ما الذي تقوله. أنا أجدك بصحة رائعة.
وفـي وقوفها، بينما هي تنحني لتقبل الخدين الباردين والخشنين، وجهت إليه السؤال الأخير:
ــ ألا تتذكر تلك الحاجة الفرنسية؟
ردّ العجوز بإيماءة جهل كامل.
ــ تلك التي أعطتني دروساً بالفرنسية والعزف على البيانو.
تنهد دون آغابيتو:
ــ آه، يا بنتي، لم تعد لدي ذاكرة لأي شيء.
* * *
كانت الحاجَّةُ قد ظهرت ذات يوم فـي عربة ممتلئة بأوان وأغراض وتجرّها بغلة. ويبدو أنها كانت مريضة. وقد تولى مجلس الأبرشية أمر رعايتها لبعض الوقت. وبعد شفائها، ظلت فـي المدينة تعطي دروساً باللغة الفرنسية والعزف على البيانو. وقد أوصى دون آغابيتو أبا نونيا بها، باعتبارها امرأة تقيّة جداً على الرغم من جنسيتها، وهكذا بدأت إعطائها الدروس. دروس اللغة الفرنسية فـي أيام الاثنين والأربعاء، ودروس البيانو الثلاثاء والخميس.
كانت دقيقة فـي مواعيدها. تحيي بطريقة احتفالية، وكانتا ترتلان صلاة «يا قديسة مريم» ثلاث مرات وتبدأان الدرس. وكانت أمها، فـي أول الأمر، تحضر معهما كل الدروس، جالسة تخيط على أريكة، لتتأكد من فائدة تلك الدروس. ومع مرور الوقت، وقد أضجرتها روتينية التمارين من جهة، ولقناعتها من جهة أخرى باجتهاد المعلمة والطالبة، قررت العودة إلى عاداتها السابقة، وصارت تبقى فـي الحجرة الصغيرة، جالسة قرب مجمر التدفئة تستمع من المذياع إلى أحاديث راهب فرنسيسكاني كابويشي مشهور.
غير أنه لم تكن ثمة ضرورة إلى أية مراقبة. فالآنسة سيسان جدّية جداً؛ أما نونيا فكانت تعلم أن تلك الدروس والبيانو تعني جهداً عائلياً تحقق بمزيد من ساعات العمل الإضافـية فـي المصرف، وحسابات جديدة، وبعض التضحيات فـي الراحة المنزلية. فكانت تنكب على الدروس بحماسة عالية. هذا الانكباب على الدراسة، سواء فـي المعهد الموسيقي أم فـي الدروس الخاصة، كان أحد أسباب مسرات أبيها القليلة، وهو رجل صموت فـي العادة، مع ملمح حزن عميق جاءه من الحرب، على حد قول أمها، عندما كان عليه أن يتنقل بين جبهات قتال عديدة، وإنهاء خدمته فـي سجن أندلسي، حيث كان يجري، فـي كل يوم، إعدام مئات المهزومين رمياً بالرصاص. ويبدو أن انكباب ابنته على الدراسة، وممارستها واجباتها الدينية دون خلل، كانا حافزي ذلك الرجل الرئيسيين على الحياة.
روتين الدروس الطويل الذي تواصل طوال ذلك العام الدراسي، راح يخلق بينهما عادة من الثقة. وقد توافق ذلك أيضاً مع وقت نأت فـيه نونيا كثيراً عن أصدقائها المعهودين، حتى إن ذلك الفتى الذي كان يرافقها بلهفة من قبل، ابتعد عنها فجأة، لأسباب لم تفهم قط حقيقتها جيداً.
وهكذا راحت تتعزز علاقتها الحميمة بالآنسة سيسان. فكانتا تتبادلان الكتب، والهدايا الصغيرة، والأسرار. ومع مرور الوقت، صارتا تلتقيان خارج البيت أحياناً، فـي أيام الجمعة أو السبت لزيارة الضريح المقدس وتناول وجبة خفـيفة عند العصر. وهكذا راحت سيسان الطقوسية والنائية تكشف عن طبع أكثر انفتاحاً، وكشفت هي نفسها أيضاً أنها أكثر ميلاً لتبادل الحديث مع تلك المرأة ذات الشعر الأشقر الذي تظهر فـيه بعض شعرات شائبة، ويحمل وجهها بدايات تجاعيد كعلامة على مرارة خفـية. فـي بعض الأحيان، خلال دروس اللغة الفرنسية، كانت الآنسة سيسان تنشد قصيدة بديعة، أو تقرأ بانفعال صفحات ذات جمال خاص لكُتَّابها المفضّلين. وفـي أيام أخرى، بعد الدرس، تعزف على البيانو بعض المقطوعات. وكان هناك لحن خاص تعزفه الآنسة سيسان بإحساس مميز. كان لتلك الموسيقى وقع قديم، وإيقاع رتيب، وإحالة مبهة إلى ذكرى دينية عذبة. يبدو كما لو أنها تختزل، فـي همس غير مفهوم، قصة محزنة. سألت نونيا الآنسة سيسان عن هوية ذلك اللحن. وبعينين طافحتين بالدموع، قالت لها الآنسة إنها موسيقى قديمة، ألّفها شخص أحبّته. وظلت هكذا، ملتفتة بنصف وجهها، كأنها تصغي إلى الصدى البعيد للنغمات التي تعزفها والدموع تملأ عينيها.
وفـي مساء أحد الأيام، أهدت إليها الآنسة سيسان علبة فضية صغيرة، لها مظهر عتيق جداً. كانتا تجلسان معاً فـي كافـيتريا، وراحت هي تقلّب العلبة بين يديها، متلمسة نعومة تلك الزخارف المصقولة. عندئذ، بصوت خافت جداً، خالطة اللغتين فـي سردها مع بعض الكلمات غير المفهومة، بدأت الآنسة سيسان تروي لها قصة حياتها، بمعطيات مضطربة راحت تنضبط تدريجياً، ليس فـي تسلسلها الزمني، وإنما فـي مضمون أحداثها.
فـي بدايات القصة، كان ينتصب البيت الذي وُلدت فـيه ملفوفاً بالضباب. وكانت تستحضر الهدوء الريفـي بمذاق الخلود الذي يميزه، والسنوات اللانهائية فـي تلك الوحدة المنزلية الصاخبة التي تذكرها بها كثيراً هذه المدينة.
كانت السليل الوحيد لبطل مات فـي الحرب. ومنذ طفولتها كانت تجتهد فـي العزف على البيانو يوماً بعد يوم لتُدخل الفرح على حزن أمها، وهي امرأة صموت ومعتلة الصحة.
وذات يوم، وكانت قد أكملت الخامسة والعشرين من عمرها، بينما لا تزال حياتها تتمدد بعذوبة فـي الصدى الخالد لإيقاع الطفولة والصبا نفسه، قامت برحلة مع بعض الصديقات لزيارة دير قديم. وفـي عتمة الكنيسة، كانت تتردد موسيقى أرغنّ كحسرة مكرورة، فأحسّت فجأة بأن فـي ذلك اللحن تعبيراً موضوعياً وغيرياً عن الحزن الطويل الذي ضمخ حياتها الهادئة لسنوات طويلة.
صعدت إلى منصة جوقة المرتلين دون أن ترى الأرض التي تطأها، شاعرة بأن كل درجة هي تأكيد لطريق يترسخ فجأة فـي الظلام من أجلها وحدها. وأمام أرغنّ كبير، فـي منتصف منصة جوقة الترتيل، كان يجلس راهب شاب يحرك يديه بحماسة على طول ملامس الجهاز، أو يتحكم بمفاتيح تغيير طبقات الصوت. وكان المصباح الأصفر الذي يضيء نوتة الألحان يضفـي بريقاً على عينيه.
هناك فوق،كانت موسيقى الأرغن تكتسب زخماً مؤثراً. راحت تقترب ببطء حتى صارت بجانب الملامس. بدا كما لو أن موجات الصوت لا تنبعث من أدوات الجهاز المخفـية، وإنما من جسد الراهب نفسه، عبر يديه الضخمتين. ظلت جامدة دون حراك للحظات؛ لكنها بعد ذلك، وكما لو اجتذبتها دوامة يشارك الصوت نفسه فـي قوتها، قرّبت كامل جسدها من الأرغن حتى أسندت إليه بطنها وفخذيها. كان اهتزاز الآلة يصفع سطح لحمها، ثم يتغلغل فـيها دون خلاص. عندئذ نظر الراهب إليها، وبالطريقة نفسها التي أمسكت بها الاهتزازات بجسدها، سيطرت تينك العينان على إرادتها.
كانا متحدين عبر الأرغن والموسيقى والنظرة المتبادلة. أخذ الراهب يزيد من حدّة اللحن، وظلا يتبادلان النظر بثبات لوقت طويل، بينما كل منهما يشعر باختناقٍ يُسرع من إيقاع تنفسه وخفقان قلبه.
قطع وصول صديقاتها ذلك الافتتان الغريب. اقتربن منها وأنّبنها مازحات على اختفائها المفاجئ. توقف الراهب الشاب عن العزف وواصل تأملها بهيئة مرتبكة. وقبل أن تنزل، أعادت النظر إليه وتأكدت من أنه ظل ثابتاً، وأنه ينظر إليها أيضاً بعينين ثابتتين وشرهتين.
وخلال الأسابيع التالية، ظلت تلك الأحاسيس مشتعلة فـي داخلها. بدا لها أنها لا تزال تشعر بذلك الأرغن الكبير كجسد حي ونابض يشكل امتداداً لجسد ذلك الرجل المجهول ولجسدها هي نفسها، إلى حدّ إجبارهما على ذلك الاتصال الخفـي، ذلك التماس الفريد. وبدل أن تهدأ تلك الذكرى، راحت تتحول بازدياد إلى انجذاب طاغ. وأخيراً، عادت تكرر الزيارة، وحدها هذه المرة، إلى الدير البعيد. ووصلت فـي أول ساعات مساء خريفـي. وعلى المذبح الأكبر كانت بعض الأضواء الضعيفة ترتعش فـي مواجهة الظلمة الآخذة بالتماسك.
كان الأرغن يصدح كما فـي المرة السابقة. صعدت الدرجات، وعندما صارت فوق، تأملت الراهب نفسه تحيط به هالة من بريق المصباح. تقدمت بعد ذلك، غير أن حياء غريباً منعها من إلصاق جسدها بالأرغن، مثلما فعلت المرة السابقة. توقف الراهب عن العزف، نهض واقفاً واقترب منها وهو يمد يديه المرتعشتين. كان معصما قميصه يلمعان على معصميه، وإلى ما فوق ذلك، كان مسوحه آخذ فـي الذوبان فـي ظلمة منصة الكورال نفسها، بحيث لم يكن يظهر سوى اليدين والعينين فقط فـي الفضاء الكثيف، كيدي ووجه كائن أكثر من بشري، هائل، مادّته هي الكنيسة كلها، وصدى الموسيقى الذي مازال نابضاً، وتذبذب ضوء الشموع البعيدة.
وصل إليها، واحتضنها. كان الجزع يحرقه مثل جرح. قادها الراهب بحزم إلى الظلمة فـي العمق، حيث تنفتح حجرة صغيرة ممتلئة بأمتعة معفرة بالغبار، تأتيها إضاءة قليلة من كوة عالية مدوّرة. جلسا هناك أحدهما إلى جانب الآخر، وشرعا يتمتمان بمتوالية طويلة من فقرات لا يسمعها أي منهما، من كلمات غير مترابطة هي مع ذلك تصريحات غرامية. كان لقاؤهما اكتشاف أمل أرضي وقريب كان حاضراً، وإن بصورة مشوشة، ومترصداً داخل كل منهما. وكان لاتصالهما الأول عبر ذبذبات الأرغن طابع الخطوبة.
عادت إلى بيتها. لكنهما بدأا منذ ذلك الحين مراسلة محمومة، ترسل هي رسائلها إلى بعض تلميذات الراهب الروحيات. استمر التواصل الجديد حتى أعياد الميلاد، حين عادت لزيارته. ومن جديد كانت منصة الكورال شاهداً على لقائهما، وحجرة الركن الصغيرة التي كان الراهب قد نقل إليها كومة أقمشة قديمة، ستائر وملابس خدمة القداس صارت فراش زوجية لهما، وهو المكان الذي تعارفا فـيه بصورة أكثر حميمية. كان يدخل من الكوة المدورة ضياء الثلج الأبيض كأنه نور سماوي. وكانا يرتجفان كمريضين. أخرجهما، بفزع، من حلمهما قرع نواقيس بدأت تدوي فوقهما.
وفـي الربيع هربا معاً. وظلا معاً عدة سنوات. كانت حياة بلا وجهة محدّدة، تضطرهما فـي الشتاء إلى البقاء فـي إحدى المدن ليقضيا الأيام فـي دروس موسيقى منهكة، تدفع بهما فـي أيام الدفء إلى الدروب الريفـية. وتحولا بعد ذلك إلى حاجّين. وبدأت هي ترسم وتمارس أيضاً تجارة أثاث وقطع قديمة، فصار هذا العمل، على المدى الطويل، كافـياً لنفقات معيشتها. وكان هو يصل إلى الكنائس الأخيرة فـي أقصى كل طريق بنوع من النشوة الدينية، كما لو أنه يستعيد إحدى تلك الأحاسيس التي كانت تحتجز روحه فـي حياته السابقة. فـيطلب الإذن فـي العزف على الأرغن، وما إن يحصل عليه حتى يجلس أمام لوحة المفاتيح ويعزف لساعات طويلة متوالية.
ومع أنهما كانا لا يزالان سعيدين، إلا أن غمّاً قاتماً راح يسيطر على الرجل بصورة متعاظمة. ومنذ شتاء جافّ ودافئ على نحو استثنائي، ما عادا يستمتعان تقريباً بلحظات حميمة. وراح هو يدخل بعد ذلك فـي حالة متمادية من البكم. وكانا قد امتلكا فـي ذلك الحين العربة والبغلة.
وفـي أحد الأيام، وكانا يجوبان أحد تفرعات طريق الحج فـي فرنسا، توقفا لقضاء الليل على مرتفع، عند أقدام رؤوس صخرية ضخمة. وكان يمتد تحتهما الوادي الفسيح، حيث تتناثر بيوت الفلاحين. وفـي الصباح، بدأ يوقظها صياح الديكة ونباح الكلاب وأصوات الجلاجل، وكل الأصوات التي كانت تتردد أصداؤها الوديعة بين الحقول. استيقظت بصعوبة، وبتعب شديد، كأن النوم فـي تلك الليلة قد نزل بها إلى هوة لا قرار لها. وكان قلبها طافحاً بحزن مجهول، لا خلاص منه.
لم يكن هو إلى جانبها. لكن غيابه، كما فـي مرات أخرى سابقة، لم يُثر استغرابها، إذ كان ينهض فـي أصباح كثيرة مع الفجر ليتمشى فـي الغابات والجبال فـي لحظات النهار الأولى. لكنها أحست فـي ذلك الصباح بجزع غريب.. بهاجس شؤم.
خرجت من العربة. كانت الشمس الذهبية تبدأ صعودها على المرتفعات المقابلة. انقطعت الأصوات الريفـية للحظات: لم تعد الديوك تصدح، ولم تعد الكلاب تنبح، وتوقف كذلك رنين الجلاجل، وحتى همهمة الأصوات البشرية وزقزقة العصافـير توقفت. لا شك أن الأمر مجرد مصادفة، لكن ذلك الصمت أخافها. جابت المنطقة المحيطة بنظرتها.
على مرمى حجر منها، تبدأ بقعة أشجار تغطي السفح. كانت هناك شجرة كستناء ضخمة معزولة، كأنها تحدّد الحد بين تلك الغابة الصغيرة والصخور الجرداء التي تصعد حتى ذروة الهضبة. إلى أحد جانبي شجرة الكستناء، وكضد لخضرة أوراق الشجر، كان تتدلى حزمة كبيرة، قاتمة كأنها كيس. بدأت تلك الصورة الأولى تتحول فوراً إلى حدس فظيع: فالحزمة لها كذلك شكل جسد بشري غير واضح المعالم، واللون يوحي بلون ثياب مألوفة، الثياب التي يرتديها هو، والتي تُذكِّر أكثر فأكثر بأثوابه أثناء حياته كراهب.
ــ لم أشأ الاقتراب ــ همست الآنسة سيسان ــ فضّلتُ التفكير فـي أنه كيس بالفعل. وظللت طيلة النهار أنتظر فـي العربة دون حراك. لكنه لم يعد. ومع بداية الغروب رحلت.
* * *
ذُهلت نونيا ببوح الآنسة سيسان. وعندما ابتعدت بعد ذلك عنها مؤرقة، ساورها الشك فـي أن الرواية بحد ذاتها خطيئة مريعة، لأن القصة كلها تشعّ بفـيض جلي من الضلال والعهر. والآن، تتوارد إلى عقلها بضراوة بعض التقولات التي كانت تصم الفرنسية بالخفة، وتشير إلى أنها تعيش، كما يبدو، حياة أخرى موازية، تسعى فـيها إلى صحبة الذكور وإلى صداقة متمادية مع بعض الفتيان. ومع أن نونيا لم تكن قادرة على التحقق من ذلك كله، إلا أنه كان يعني فـي نظرها أنه يمكن للآنسة سيسان أن تكون سبب ذلك الجفاء الذي أحزنها كثيراً.
ومع ذلك، ظلت الغلبة، إلى جانب مخاوفها وشكوكها، لصورة تلك المرأة المألوفة، صورتها حين تلتقيان فـي سان إيسيدرو وتُظهر حماسة إيمانها عند تناول القربان، أو حين تُعطيها الدروس بدقة واهتمام، أو لحظات البوح تلك، فـي أماسيات أخرى، قبل أن تخبرها بقصتها الرهيبة. أضف إلى ذلك أنها أبدت أثناء رواية الأحداث حزناً واضحاً.
كان انعدام التوافق بين المظهرين يقلقها. وعلى الرغم من محاولتها إبعاد تلك القصة القاتمة عن مخيّلتها، فقد كانت ترى، فـي عتمة الحجرة، معروضة على سواد رموشها، كما على شاشة سينما، استعادة لمشاهد وحركات مخيفة متوالية.
كانت لا تزال حينئذ صبية فتية، وكانت تفكر بسذاجة فـي أنها قد تضطر هي نفسها ذات يوم، بعيداً عن مدينة مولدها، وحين يتحقق قدر النجاح والتألق الذي يحلم بهما أبواها، إلى مواجهة عالم ممتلئ بقصص خاطئة ورهيبة أيضاً. وقد حاولت تقبلها كمعطى آخر فـي تجربتها. لكنها منذ ذلك الحين، وعلى الرغم منها، صارت تتجنب لحظات البوح مع الآنسة سيسان. أما الآنسة، فظلت تتعامل معها بالطريقة نفسها التي كانت عليها فـي الأوقات الأخيرة، بإبداء اهتمام حنون وساهٍ بعض الشيء، دون أن يبدو عليها أنها تولي أهمية خاصة لاعترافها الطويل.
فـي مساء هادئ من شهر أيار، وجدت فـي الكاتدرائية لقية مفاجئة. كانت قد دخلت لتصلّي بضع دقائق، مثلما هي عادتها الدائمة كلما مرت قريباً من المعبد ولا تكون مستعجلة. فالكاتدرائية تفتنها وهي صامتة وخالية فـي هذه الساعات المسائية. جثت على أحد المراكع الأخيرة، قرب منصة كورال المرتلين، واستغرقت فـي صلاتها للحظات، بعينين مغمضتين. وبعد ذلك، جلست، وتكورت على المقعد وهي ترفع بصرها. راودها إحساس متنام بأنها فـي جو متحرك يتذبذب فـي ما حولها. هناك فـي الأعلى يشتعل زجاج النوافذ طاغياً على ظل ممرات الكنيسة الخفـيف، بحيث يمكن الظن أنه بدل الزجاج هناك ضوء متعدد الألوان آت من السماء الحقيقية، سماء الملائكة والقديسين. الدعائم التي تصعد من الأعمدة حتى أقواس الممر، فـي أعلى السقف المقنطر الطويل، ترسم شكل أضلاع كبيرة، كأنها داخل هيكل عظمي لحيوان ضخم غامض. ربما كانت الكاتدرائية طائراً ضخماً يحلق فـي السماء الإلهية، وتلك الذبذبات ليست إلا حركة طيرانه. توصلت أحلام يقظتها إلى إبهارها إلى حدّ عبر معه فـي خيالها، حين نهضت واتجهت نحو المخرج، ظل فكرة مقلقة: التحليق حقيقي، وليس هناك فـي الخارج شارع ولا بيوت، وإنما فضاء غير متناه متعدد الألوان وحسب.
ومع ذلك، لم تكن الكاتدرائية الظليلة المقفرة صامتة فـي ذلك المساء. كان هناك من يعزف على الأرغن، والمصباح الذي يضيء عمله، وهو نقطة الضوء الوحيدة فـي منصة الكورال، يسمح برؤية ظهر يغطيه قماش مسوح بنيّ اللون. وأخيراً، رأت أيضاً، عند أسفل منصة الكورال، دون آغابيتو يصوب عينيه إلى عازف الأرغن. كانت شريطة ياقته البنفسجية تبرز بوضوح على خلفـية العنق شديد البياض عند قاعدة الحنجرة الناتئة، كأنها علامة ذبح رقيق.
جلست هي وواصلت الاستماع إلى اللحن. كان الطائر الضخم يخفق بجناحيه فـي الفضاء العميق، وجلبة الأرغنّ بأصوات الأبواق والكلارينات، والفلاوتات، والنايات أشبه بنبضات قلب كبير مبتهج. أحست أنها ممتلئة بطمأنينة عذبة.
وبعد قليل، بعد إنهاء بعض الدوزنة، بدأ عازف الأرغن ضبط نغمات لحن، تميز بسلسلة نغمات مقتضبة تتكرر بتدرجات متتالية، وبإيقاع بطيء ووقع كئيب، و تعرّفت هي على تلك الموسيقى. فبأصداء أخرى، وتنغيم متعدد ووافر، كان اللحن هو نفسه الذي اعتادت أن تعزفه على البيانو أحياناً الآنسة سيسان بكثير من الأسى.
استمعت بجمود، وقد وقعت فجأة ضحية إحساس بارتباك وخوف. نهضت بعد ذلك، وفتحت الحاجز الصغير، واجتازت المسافة القصيرة التي تفصلها عن منصة كورال المرتلين، واقتربت من دون آغابيتو أدار رأسه وقطب عينيه كي يحدد هويتها.
ــ أهلاً، يا جميلة ــ تمتم هامساً ــ منذ وقت طويل لم أراكِ. هل جميعكم بخير؟
أكّدت له ذلك بهز رأسها. ثم رفعت يدها وأشارت إلى عازف الأرغن الذي كان شعره الطويل يظهر على كتفه.
ــ من هو؟
ــ إنه حاجّ ــ ردّ دون آغابيتو.
والتفت ليتأمل العازف لحظة، ثم نظر إليها من جديد.
ــ إنه بارع فـي العزف على الأرغن. قضى المساء كله فـي العزف، ولا أدري كيف لا يتعب. لقد مرّ من هنا منذ سنوات أيضاً. وسيعزف فـي قداديس الأحد.
وبعد قليل، حين أنهى عازف الأرغن عزفه المندفع والكئيب، نهض واقفاً ونزل إليهما. كان رجلاً ناضجاً، له حاجبان كثيفان ولحية طويلة يتخللها الشيب، تمتد تحت الوجه كأنها استمرار لإكليل. وكان شعره الطويل ينسدل على الكتفـين.
ــ إنني جائع ــ قال الحاج.
كان صوته خشناً لكنه واضح جداً. انطلق ماشياً أمامهما وكانت خطواته الواسعة المدوية تلغي بحسم أصداء النغمات الأخيرة التي يبدو أنها مازالت تتردد فـي أنحاء الكنيسة بعد ذلك العزف الطويل. تبعته هي ودون آغابيتو دون كلام وهما يغذان الخطى، حتى خرجوا إلى الشارع. اجتاز الحاج الطريق واتجه دون تردد نحو البار المقابل. ومع أن الظلام قد خيم، إلا أنه كانت هناك جماعة كبيرة من الزبائن عند منضدة الكونتوار. دخل الحاج إلى قاعة الطعام المقفرة وجلس إلى إحدى المناضد. كان دون آغابيتو يتلمس جيوبه بعصبية شديدة.
ــ يا للورطة يا بنتي ــ همس ــ هل لديك بعض النقود؟
وقالت هي لا.
ــ يا للورطة، رباه ــ أضاف الكاهن القانوني.
جلسا قبالته. ولم يتناول دون آغابيتو ولا هي أي شيء. طلب الحاج وجبته بدقة عارف قديم. تأملاه وهو يأكل صامتين. وأخيراً استدعى دون آغابيتو النادل جانباً وهمس شيئاً فـي أذنه، مشيراً إلى الحاج. مسح الفتى مرة أخرى سطح المنضدة بالخرقة، وقام بسلسلة حركات تأكيد توقيرية طمأنت الكاهن القانوني.
وبعد قليل، نظر إلى ساعته ونهض. ثمة واجب يستدعيه. ودّعهما بمودة، ولكن باقتضاب شديد.
ــ وأنتِ، انقلي تحيّاتي إلى أبويك ــ قال لها.
هكذا، بصورة غير متوقعة، وجدت نفسها تجلس قبالة ذلك الرجل. وفوق الغفارة التي مازالت تحتفظ بالكتفـية التقليدية، كان يعلق أصدافاً وميداليات. وكان دبوس بكلة يثبت إلى صداره من الداخل جراباً صغيراً من قماش مشمع. مسح الطبق بقطعة خبز، وشرب كأس النبيذ دفعة واحدة، وظل ينظر إليها بإمعان.
ــ فلنصلِّ ــ قال.
بقي مغمضاَ عينيه لحظات، كأنه مستغرق فـي صلاته. ثم فتحهما أخيراً ونظر إليها مرة أخرى. كانت عيناه قاتمتين محاطتين بتجاعيد مثل عيني عجوز، لكنهما حيتان ولامعتان. اسند ظهره إلى الكرسي وقاطع يديه على بطنه.
ــ أنا خاطئ كبير ــ هتف ــ ارتكبت خطايا كثيرة، كثيرة جداً. كم عمرك؟
أخبرته بعمرها. ولم تشأ التحدث إليه عن اللحن، وإنما كانت راغبة فـي الانصراف. كانت تصل من البار أحاديث الزبائن، لكن عزلة قاعة الطعام التي تضاعفها الإضاءة الشحيحة من مصباح وحيد يعلو الجزء الذي يشغلانه، أحدث فـيها إحساساً حاداً بالخذلان. ومع ذلك، لم تجرؤ على النهوض. احتفظت بالصمت كأنها تنتظر أن يحل هو الموقف بحركة وداع. لكن الحاج راح يتكلم ببطء، ناظراً إليها بثبات دون أن يرمش تقريباً، وبدا كمن يدعوها إلى إغفاءة ناعمة، مثل سحرة المهرجانات الشعبية.
لقد كان راهباً فـي دير بعيد مشيد بأحجار رمادية تغطيها طحالب زرقاء وأشنيات مذهبة. وذات مساء، بينما هو يعزف على منصة كورال المرتلين، جاءت إليه فتاة. لها عينان تشبهان، هكذا، لون العسل القاتم. جاءت من السواد، كأنها حضور مضيء، خفـيف جداً فـي البدء، ما لبث أن تجسد أمامه. كان يعزف والفتاة تقترب. وأدركت نونيا أن هذه القصة هي الوجه الآخر لقصة الآنسة سيسان. كانت تستمع إليه بذهول، فاغرة فمها قليلاً، ويداها تستندان إلى المنضدة فـي حركة استعداد للنهوض، راغبة فـي أن تقوم دفعة واحدة بالجهد الذي يسمح لها البدء بالانصراف، بالمغادرة. لكنها ظلت هناك، غارقة فـي ارتباك يضغط على صدرها ووجهها.
كانت قصة الرجل تتحدث عن بدايات ذلك الافتتان، وذلك الهروب، وذلك الترحال الطويل المشترك. وعن التنافر، والغم القاتم الذي عزته الآنسة سيسان إلى رفـيقها، بينما ينسبه الحاج إلى امرأة قصته. وأخيراً، وصلت روايته إلى ذلك المنظر المطل على الوادي الفسيح، أسفل القمم الصخرية. وأوضح الرجل أنه اعتاد، فـي أيام الطقس الجيد الاستيقاظ فـي بداية الفجر، والتمشي مستنشقاً الروائح الوليدة، وهو يصغي إلى أصوات الاستيقاظ ويرى اشتعال الأشجار والأشياء إلى أن تكتسب حجم الواقع والحياة الحقيقيين.
كانت الآن على وشك أن تبكي. أحست بالخوف من ذلك الرجل، ومن القصة التي تنطبق تماماً على النصف الآخر الذي روته الآنسة سيسان لتزيد من قلقها.
انتهت نزهته قرب شجرة كستناء ضخمة. وكان الصباح يفتح أصابعه المترعة بالنور. وهناك فـي الأعلى، كانت العربة تبرز على خلفـية المنظر بهيئتها الغائمة. وكانت البغلة، وهي تستيقظ مبكرة، تقضم بعض العشب. اقترب من العربة ولاحظ جمود رفـيقته النائمة. لكنه أدرك أخيراً، بذعر، أن ذلك السكون يبدي بُعداً أكثر شؤماً وحسماً من سكون النوم. فدخل إلى العربة، وألقى بنفسه فوقها، احتضنها بذراعيه، هزّها بقوة يريد إيقاظها.
ــ كل ذلك كان بلا جدوى ــ همس الحاج ــ. كانت ميتة. استولى عليّ يأس رهيب، وابتعدت أنبح مثل كلب. مشيتُ أياماً عبر الغابات وأنا أقرب إلى البهيمة مني إلى الإنسان.
رفعت نونيا يديها. وكانت لا تزال غير قادرة على البكاء. وتشكلت كلماتها بدقة ووضوح.
ــ إنها هنا.
نظر إليها الحاج باستغراب، دون أن يفهم.
ــ هنا، فـي المدينة ــ كررت نونيا ــ تعلمني الفرنسية والعزف على البيانو.
شرعت تدندن اللحن، وتضبط الإيقاع بسبابة يدها اليمنى.
نظر إليها الحاج بتكشيرة مخيفة. وعلى بريق لحيته الضارب إلى البياض، كانت بقايا السجق المنزلقة تُبرز أخاديد تكشيرة مؤلمة. قفز واقفاً، وأزاح الكرسي بصخب، والتقط عن الأرض عصا الحاج الكبيرة التي تنتهي برأس حديدي.
ــ هنا؟ ــ صرخ.
انقطعت الأحاديث فـي البار وأطل رجلان من الباب. أكدت بهز رأسها عدة مرات. ودون أن يقول الحاج كلمة واحدة، انصرف راكضاً فـي هروب يائس.
عندئذ تحول ارتباك نونيا إلى رغبة متعجلة فـي معرفة تلك العلاقة بصورة كاملة. انتظرت بلهفة خلال الوقت المتبقي للدرس التالي، وعندما جاءت الآنسة سيسان أطلعتها على الخبر. كانت هي نفسها قد فتحت لها الباب، وكانتا تقفان معاً فـي الردهة القاتمة، تحت الضوء العمودي للمصباح الصغير.
ــ وجدتُ صديقك ــ أوضحت نونيا ــ. إنه حي. لا يزال حياً. مساء أمس كان يعزف على الأرغن فـي الكاتدرائية. إنه هو، لا شك فـي ذلك. وهو من قاله لي.
استمعت إليها الآنسة سيسان مذهولة، بشفتين منفرجتين فـي أول الأمر، ثم مزمومتين بقوة بعد ذلك. وأخيراً اتجهت دون أن تقول شيئاً إلى الرواق. تأخرت طويلاً قبل الإشارة إلى الحدث، لكن الدرس استُبدل أخيراً بأسئلتها حول الحاج وبفترات صمت طويلة لتستوعب المعلومات. وعندما انتهت ساعة الدرس، ظلت لبعض الوقت جالسة هناك، بذراعين متهدلين، وجبهة مقطبة بتجاعيد عميقة، بين الكتب المبعثرة على السرير، بينما كانت طيور السنونو، فـي ذلك المساء الصيفـي، تطير فـي الجانب الآخر من النافذة فوق الثياب المنشورة.
لم يعرفوا ما الذي جرى، لكن الآنسة سيسان لم تعد إلى البيت، حتى إنها لم تودعهم، على الرغم من أنهم كانوا مدينين لها بأجر خمسة عشر يوماً. وقد قيل لهم إنها، كما يبدو، رحلت على عجل كأنها هاربة من شيء ما. لقد فوجئ أبواها كثيراً، لكن نونيا شعرت بسعادة لا تفسير لها حيال تلك الأحداث.
* * *
بدء ذلك الحلم وتكراره التالي والدائم لم يكن فورياً. إذ كان عليها أن تلتقي كلاً من الحاجين مرة أخرى فـي واقع اليقظة، وإن صارت تشك مع مرور الوقت فـي أن ذلك اللقاء كان حلماً أيضاً، وبالتحديد الحلم الأول فـيها جميعاً، حلم البدء فـي تلك السلسلة الطويلة.
حدث ذلك بعد سنوات من اختفاء الآنسة سيسان الغريب، فـي مساء يوم أحد بارد جداً. كانت نونيا ترغب فـي زيارة إحدى المدن القريبة. وكانوا قد اشتروا حديثاً سيارة صغيرة، ولم تكن الرغبة فـي السفر تحتاج إلى مسوغ أفضل من ذلك. كانت أمها لا تزال على قيد الحياة، وبعد تبادل الحديث على المائدة، توجهوا إلى المدينة القديمة. تركت نونيا السيارة قرب الكاتدرائية، وكان أبواها على وشك الدخول إلى المعبد، عندما اكتشفت، على بعد خطوات أمامها، هيئة أنثوية تلبس بطريقة غير مألوفة كثيراً. وعلى الفور تعرفت فـيها على الآنسة سيسان، وكانت تقف ثابتة تتأمل الأبراج الوردية. اقتربت نونيا منها بعد تردد.
ــ آنسة سيسان ــ هتفت ــ إنني أنا.
أدارت المرأة وجهها ونظرت إليها باسمة. لم يبد عليها أنها عرفتها.
ــ أنا نونيا. ألا تتذكرينني؟
قامت المرأة بحركة لطيفة، لكن إنكارها كان جازماً.
ــ لا، الحقيقة أنني لا أتذكرك. عليك أن تعذريني. ربما كنتِ مخطئة، فأنا لست من هنا.
اعتذرت نونيا بدورها وابتعدت عنها. لقد استيقظ فـيها إحساس بالذعر، وظلت جامدة على بعد خطوات خلفها، أسيرة هاجس شرس لا تستطيع تحديده. وأخيراً، دفعها حدس مجهول بالطريقة نفسها إلى الابتعاد صعوداً فـي الشارع، تاركة أبويها وحيدين وحائرين عند عتبة المعبد.
وفـي نهاية الشارع، عند حافة حديقة صغيرة مهجورة وقذرة، التقت بالحاج. كان يغطي رأسه فـي هذه المرة بقبعة جلد بني كبيرة. ولم يفاجئها ذلك الظهور، فدون أن تدرك مغزاه، كان يتوافق على نحو دقيق بصورة خاصة مع هواجسها. أوقفته بإشارة منها، فحدق فـيها بعينيه البراقتين القاتمتين.
ــ ألا تتذكرني؟ ــ سألته نونيا.
نفى الحاج ببطء.
ــ فـي أحد الأيام رويتَ لي قصة حزينة جداً: حين وجدتَ رفـيقتك شبه نائمة. وبعد ذلك هربتَ عبر الجبال.
واصل هو النفـي، مع أن توتراً واضحاً راح يهزه. كان أنفه محروقاً بالشمس.
ــ إنها هنا ــ أضافت نونيا مشيرة دون تحديد إلى عمق الشارع وراء ظهرها ــ قرب الكاتدرائية.
ــ هنا؟ ــ سأل الحاج.
وبدا عليه أنه فهم. ثم أدار ظهره، وبالتصميم نفسه الذي أبداه فـي ذلك المساء البعيد، ابتعد صعوداً فـي الشارع، إلى أن اختفى.
ذلك اللقاء كان حقيقياً، وإن كانت تظن أحياناً أنها رأته فـي حلم أيضاً. ومع ذلك، مازال التذكر يحتفظ بمظاهر محددة من اليقظة واضحة جداً؛ ففترة المساء كانت قد انقضت بانتظام تواليها الزمني المعهود، والأمكنة تمتد بأبعاد ثلاثة، ونظرتها تلتقط الإسقاط الوحيد الذي يتلقاه وجهها بالذات. كان شتاء، وقد بدأ الغسق يلون الأبراج بلون الذهب، وكانت الحمائم تخفق بأجنحتها، وكان للأصوات والأعمال معناها الدقيق المحدد. وقد ملؤوا خزان السيارة بالبنزين، وتناولوا قهوة بالحليب مع خبز ممسوح بالزبدة. وكانت أمها تدشن قفازين أسودين، ولم يكن أبوها قد أقلع عن التدخين بعد، فكان يستنشق دخان سيجارته بتلذذ.
أما الحلم الأول فحدث فـي وقت لاحق، وإن كانت لا تتذكر متى على وجه التحديد، مثلما لا تتذكر م
قصة نونيا تنتهي بالبحث عن أسطورة. وتكتشف هي الأسطورة من خلال إشارة غامضة، قبل أسابيع من ذلك اللقاء معه. إنه مساء ماطر. ونونيا متكئة بكسل، ونظرها يشرد بكثرة إلى صور التلفزيون، لكنها غير مهتمة بالموضوع، بينما هي تتصفح، دون اهتمام أيضاً، صفحات الجريدة. انتهى البرنامج واستعدت للنهوض وإطفاء الجهاز، عندما شدت انتباهها بعض الصور العابرة: فبإيجاز متسارع، ومن زوايا معهودة، ويمكن معرفتها فوراً، راحت تتوالى على الشاشة أقواس أروقة دير قديمة، وواجهات مداخل من أحجار قاتمة، وجسر طويل مذهب فوق النهر الذي يمتد أمام أشجار الحور الأسود الضخمة، والصليب الحديدي الصغير مغروس فوق كومة حجارة، وبيوت ذات أفاريز كبيرة، وأطلال مهدمة.
فضول رؤيتها ظهور بعض المناظر المألوفة أوقفها عن إطفاء الجهاز. ظلت جامدة تتأمل تلك الصور. كان لصوت المذيع إيقاع غير منتظم، صوت قارئ متوسط الجودة، يفخم الكلام بطريقة تبدو فظة معها سلسلة الأمجاد القديمة، وكأنه يسعى إلى إدهاش المشاهدين. ولكن، على خلفـية الصوت، راحت تظهر الأبنية والمعابر بين وديان متموجة، وغابات قاتمة، وطرقات متعرجة كأنها دروب. وكان بهاء المناظر يطغى على تفخيم الكلمات، بل كان يسوغه: فالأروقة القديمة ذات الأقواس المتناظرة تشبه نوافذ مشرعة على مناظر لا يمكن إلا لبعض العيون أن تفهمها؛ والواجهات القاتمة تتكشف عن عتبات يمكن لها أن تعني، بالتأكيد، المدخل إلى العقاب أو المخرج إلى الغفران من مصائر خفـية. والجسور كأنها حدود دافع عنها أحدهم بتدبير عظيم، وكأن اجتيازها يتيح الدخول إلى أراضٍ فريدة. وتبدو الصلبان فوق كومة الأحجار الجرداء، كأنها تشير إلى علامة احتضار، كواجهات البيوت فـي الشوارع الضيقة، بأبوابها التي تشبه، تحت شرفتين متناظرتين، وجوهاً ضخمة ذاهلة، شوهها انتظار بلا أمل، أو كخرائب مقوضة فـي العراء بدقة يمكن القول إنها ثمرة إرادة صريحة بالكمال.
كان الصوت يصف بعض نقاط طريق الحج القديم الذي يبدأ من أراضٍ شمالية بعيدة، مجتازاً مضايق جبلية وسط هاويات دوارية ورؤوس جبال حادة ذات ثلوج دائمة، ويأخذ بالهبوط إلى وديان الأنهار الكبيرة عبر تفرعات مختلفة، بعضها يذرع سهولاً خضراء ناعمة، وغيرها يجتاز أراضي حمراء بين أشجار سرو وغار وتين، أو يتوقف أمام واجهات الكاتدرائيات الضخمة لتلتقي أسفل جبال الفضة وتتوغل أخيراً فـي شبه الجزيرة الإيبيرية. كان الصوت يصف دروباً جبلية ضيقة ذات شهرة أسطورية، ويشير إلى مقاطع من الطريق وتفرعات تنفصل أحياناً عن الفرع الرئيسي، ويؤكد أخيراً أنه فـي ما وراء الضريح، يتوقف الطريق نهائياً عند دير يسوع المقدس ذي اللحية الشقراء، فـي أراضي أقصى الطرف الغربي.
إنه وصف مسهب، تركته نونيا يمضي دون كبير اهتمام، ولكن بإحساس فريد بالمعايشة، كما لو أن كل تلك الأماكن، ليس القريبة والمعروفة منها فقط، مألوفة لها منذ القدم ولا تحتاج إلى تركيز انتباهها كثيراً لتعرفها كلها، المقوضة منها والمتبقية، على حافة طريق يكفـي السير فـيه للعثور عليها دوماً.
وأخيراً، أخذ الصوت يتوقف عند الإشارة إلى نصوص قديمة حول الطريق. أحد الكتب التي أُشير إليها بتركيز خاص هو، كما يبدو، دليل أُعدّ برعاية أحد باباوات العصور الوسطى، وقد توصل إلى تحقيق شهرة شعبية لدرب الحج المقدس ذاك فـي عصور الظلام تلك. كان المذيع يقول إن الكتاب مؤلف من نصوص متنوعة تتحدث فـي بعض أجزائها، إلى جانب وصف دروب الحج والصلوات، عن حالات وأمثلة مرتبطة بالحج: معجزات مختلفة لسيدتنا العذراء، حيث يلعب الحواري سانتياغو أيضاً دور الوسيط. وأمثلة عن مشعوذين مجدفـين، وأبناء ضالين، وعبيد غير أوفـياء، وأصدقاء حاسدين، ورهبان شهوانيين نالوا جميعهم المغفرة عن ذنوبهم بفضل تدخل العذراء الأمومي أو مساعدة الحواري الأخوية، لأنهم كانوا مؤمنين ورعين بهما.
وخارج البيت، كان المطر ينقر الزجاج، وكانت تُسمع كذلك ولولة الريح الخفـيفة فـي الأفنية. أما هي فكانت مستغرقة فـي الصور، ولا تكاد تولي سوى اهتمام ملتبس إلى كلمات المذيع. وفجأة، فـي اللحظات الأخيرة من القصة، انتابها فضول خاص نحو إحدى المعجزات، وحاولت بتلهف الإحاطة بموضوعها من خلال نهايتها، وهو الشيء الوحيد الذي سمعته حقاً. أيقظت تلك النهاية فـي نفسها رغبة كبيرة فـي معرفة المسألة، وانتظرت دون طائل أن يعود المذيع للإشارة إليها. لكن اقتباساته من الكتاب كانت قد انتهت. وكانت البوابات البديعة، والأضرحة والصلبان، وأبراج النواقيس المنتصبة فـي الوديان، تزين نهاية البث. عندئذ تنهض نونيا، وتطفئ التلفزيون، وتجلس مجدداً وتظل مستغرقة لوقت طويل.
بدا لها أن المعجزة التي استثارت اهتمامها بعد فواتها تتعلق بغرام دنس بين حاجّين؛ وتظن أنها سمعت كذلك أنه حُكم عليهما، بسبب خطيئتهما، بأن يظلا هائمين على وجهيهما على طريق الحج دون أن يلتقيا حتى نهاية الأزمان، حين تختفـي الدروب كلها إلى الأبد. ومع ذلك، لم تفهم طبيعة تلك العلاقة الخاطئة، ولم تعرف إذا ما كانت تلك النبوءة الأبوكالبسية، حسب المعجزة، مشروطة بأن يلتقي الحاجان، أم أن لقاءهما سيكون نذير الشؤم بوقوع الكارثة الأخيرة، حين يختفـي من السماء إلى الأبد الدرب المرصع بالنجوم الذي يدل على طريق الحج، ويختفـي كذلك درب الحجيج المعفر الذي يمضي بين المدن والغابات، وباختفائهما يختفـي الكون كله.
ظلت ساهمة. فالاحتمالان كلاهما، مع ذلك، هما الاحتمال نفسه، ولا يمكن إلا لظل خفـيف أن يميز بينهما. وكانت تفكر فـي نهاية الأزمان باعتبارها حدثاً عابراً أيضاً لا يلبث أن ينقضي مثل أي حديث بعد الطعام، فمرور كل دقيقة ما هو إلا إنذار بتلك النهاية المحتمة. وتعود بعد ذلك إلى المعجزة التي لم تكد تسمعها، مثلما لم تفهم مضمون الحكاية، وتشعر كذلك بأنها لا تستطيع حدس تلك النهاية النموذجية حيث الخطايا الخطيرة تواصل تماديها إلى أن تستثير الغضب الإلهي، ثم تُغتفر بفعل عاطفة ورع تقيّة.
وفـي الوقت نفسه، بهرتها فكرة غير معقولة. فوصف تلك المعجزة المشوشة جسًد فـي ذاكرتها، بوضوح لا لبس فـيه، صورة حاجّين عرفتهما فـي مراهقتها، كانا قد دخلا على نحو خاص نطاق حياتها اليومية من خلال حلم تكرر لسنوات. ظلت نونيا ساهمة، ومخيلتها معلقة بتلك الذكرى. توقف المطر عن النقر. وفقدت هي عندئذ جمودها، فاقتربت من النافذة وأزاحت الستائر.
لقد انقطع المطر. وعلى الإسفلت الذي مازال مبللاً، كان ينعكس ضوء الشمس الذي هيمن أخيراً، وإن يكن متأخراً، على الغيوم. كان على نونيا أن تخرج لإنجاز عدة أمور. ومع ذلك، ظلت تفكر باحثة عن عمل يبقيها فـي البيت، فـيرغمها على تأجيل أعمالها الصغيرة فـي الخارج، ويتيح لها البقاء فـي وحدتها الصامتة مستسلمة تماماً للرغبة فـي مواصلة اجترار ذلك التشابه غير المعقول.
تجلس من جديد. الستائر ظلت متباعدة، فلامس شعاعٌ هاونَ خزانة الأطباق مشعلاً انعكاساً أشبه بمنارة صغيرة، تشير إلى الخط الحقيقي لساحل غير مرئي. يحيط البريق الخفـيف والمذهب بقية الأشياء الموضوعة فوق الخزانة الهرمة بهالة مهيبة. وبانعكاس تلك الأسطورة المشوشة، تبدو ذكرياتها محاطة أيضاً بهالة بريق ترفع من شأنها. وهكذا، تجد أن ذلك الحلم المتكرر على امتداد أعوام، والذي يتصادف فـيه التقاءها بحاجين فـي أماكن مختلفة، يكتسب فجأة معاني غامضة، وتتشكك للحظة فـي أن حلمها لم يكن عرضياً، وإن كان مكروراً فـي طبيعته، وإنما هو دائم مثله مثل الحزم المألوفة التي تظل فـي ظلمة الحجرة. ومع أنها غير قادرة على تذكره إلا فـي بعض الأحيان، فإنه حلم الليالي كلها نفسه، ربما يتكرر هو نفسه على امتداد كل ليلة، فـي متوالية غير معقولة من مشاهد وأوضاع: فـي مناظر ضبابية وتحت شموس صيف متلألئة، وسط أمطار وفوق ثلوج، أمام صوامع صغيرة وكاتدرائيات ضخمة.
وهكذا، تفكر نونيا فـي الأسطورة التي لم تكد تسمعها، وفـي الشخصيات المستشفة من الأسطورة، وفـي ظلال تلك الأحلام، بنشوة هادئة تتحكم مع ذلك باهتماماتها الأخرى. تشعر بفضول كبير نحو ذلك الكتاب الذي تُروى فـيه، كما يبدو، القصة القديمة. الطابع الأسطوري، ومظهر الإيمان الساذج، وقوة النموذج الإعجازي الناعمة، تضفـي كلها أيضاً مظهراً غير عرضي على جميع الأحلام.
الاستحضار جلب إليها ذكرى بعض روائح الطفولة. ذكرى غائمة لأزهار موزعة فـي زهريات زجاجية تكاد فوهاتها لا تتسع لوفرة سيقان الزهور، ولهيب شموع مرتعشة تلقي على وجه التمثال ظلالاً مقتضبة متتالية، توحي بأنها إيماءات خاصة من تقاطيع وجه تلك الطاهرة المنحوتة من الجبس. كان ذلك هو شهر مريم، شهر الأزهار، وتأتي تلك الخلوات فـي الكنيسة الصغيرة كفترات طمأنينة روحية مطلقة فـي سياق العام الدراسي، منبئة دون ريب بطمأنينة السماء البهيجة، وكانت مثل حضن دافئ ووثير، كأنه بطن هرّ ضخم مسالم ومتكور فـي أشد زوايا الأبدية راحة.
وفـي الكنيسة الصغيرة المظلمة، كان الكاهن يرتل بصوت متأثر مدائح لسيدتنا العذراء. وهي تتذكر كيف كان آنذاك: كان ضئيلاً، أصلع، بجمجمة كبيرة مكورة يلمع عليها، كما على مرمر مصقول، ضوء الشموع المرتعش. تلك التراتيل، والأناشيد والصلوات، والعهود، وبعد ذلك الموكب الديني فـي الفناء الكبير، فـي المساء الربيعي الذي يطول مضوعاً بعطور نباتية، تعود إليها كلها كطقس احتفالي لا متسع فـيه لأي عنف.
تفكر فـي الكاهن القديم وتدرك أنه يعرف، دون شك، ذلك الكتاب وأساطيره. وتعرف من أبيها أن الرجل، وقد صار عجوزاً جداً، يعاني من هشاشة صحية هي مقدمة لنهاية محتومة. ويجد فضولها عندئذ الذرائع الضرورية، وتقرر أخيراً مغادرة البيت، ليس لانجاز التزاماتها المنزلية الصغيرة، وإنما لزيارة الكاهن العجوز وتبادل الحديث معه: استعادة ذكريات أماسي أيار فـي أيام طفولتها الضائعة، والتحدث عن الكتاب القديم الذي كُتبت فـيه تلك المعجزات الأسطورية.
* * *
قصة الزيارة تكاد تكون غير ضرورية، لكنها تتيح إبراز اهتمام نونيا بالأسطورة التي لم تكد تدركها. ولا حاجة لوصفها بينما هي تقترب، عبر الأزقة المتعرجة، من بيت الكاهن العجوز الذي بلغ مرتبة كاهن قانوني وصار متقاعداً. كانت رطوبة النهار تبلل حجارة الجدران وبلاط الشارع، وتقبع راكدة فـي محيط القناطر المعتمة. كان مدخل البيت واحداً من تلك القناطر المظلمة والعابقة بالراوائح. وكان مصباح نور شاحب يضيء بسطة السلّم. تقرع نونيا الباب بالمقرعة عدة مرات وتنتظر بصبر التوالي الطويل لوقع خطوات تصل متجرجرة بصدى متعب. ويسأل صوت مرتعش عمن تكون، من الجانب الآخر لكوة الباب الواسعة. إنها مدبرة البيت، وهي كتلة سوداء، تقف ساكنة وذراعاها متهدلتان على جانبي الجسد، وبريق طحيني فـي الوجه المجعد، تتأملها من وراء الكوة كما لو أنها فـي الجانب الآخر من عتبة أبدية.
ــ يا يسوع ــ تهتف أخيراً ــ. لم أعرفك، كان الصوت مألوفاً لي، لكني لم أعرفك.
ــ أجل، إنني أنا ــ تقول نونيا.
ــ ادخلي، يا بنتي، ادخلي. سيفرح بك كثيراً.
تذرع مدبرة البيت العجوز تلك الممرات المظلمة بثقة عادة سنوات طويلة. عتمة الأركان تزداد كثافة فـي طيات الستائر الرمادية المغبرة، وقطع الأثاث الكبيرة التي تضم أمكنة مظلمة أيضاً بين أسطح أخشابها الثقيلة.
لقد صار الكاهن القانوني عجوزاً جداً. وربما تأخر لحظات أيضاً للتعرف إليها، لكنه لم يقل ذلك. نهض قليلاً، وإن لم يُخرج ساقيه من السرير الضيق، وأبدى سعادة ساذجة. لا شك أن نظره قد ساء، لكنه مازال يتمتع بسمع مرهف، ويسعى جاهداً للسيطرة، بصوته الحذر والبطيء، على ضعف أنفاسه.
ــ لا حاجة لأن تتحرك ــ تقول نونيا.
يتهاوى دون آغابيتو من جديد متدثراً بالغطاء. وعلى المنضدة الصغيرة النقالة، هناك حفنة من الفاصولياء الخضراء مبعثرة على صفحة من جريدة دياريو تشير إلى نشاط مدبرة البيت التي تجمع ذلك كله بيد مرتعشة وتنصرف إلى المطبخ.
ــ حسن ــ قالت نونيا متنهدة ــ. لم أكن أريد الإزعاج.
وبعد وقت قصير، ترجع المرأة الطيبة حاملة صينية معكرونة وكأس نبيذ أحمر.
ــ أراكَ بحالة جيدة ــ تقول نونيا ــ مظهرك جيد.
على المنضدة الصغيرة مازال المصباح القديم ذو البكرة الذي طالما استرعى اهتمامها وهي طفلة، بمظهره العتيق، ومحيطه النحيل، وثقالته الكبيرة المذهبة. كان الضوء مركزاً عليهما، بينما يخيم على بقية الحجرة ظلام متزايد.
ــ ياه ــ هتف الكاهن.
ــ منذ زمن طويل لم أجئ إلى هنا. لابد أن تعذرني.
ــ لا تقلقي. لديك ما تفعلينه أكثر من تحمّل عجوز مثلي.
ــ لا تقل هذا.
كان للخمر مذاق حلو، وطعم زنخ يتناسب دون غرابة مع روائح البيت ومع الظل والضوء فـيه.
ــ ثم إن أباكِ لا يفوّت أسبوعاً دون أن يجيء.
يداه مجعدتان جداً، تغطي ظاهرهما بقع كبيرة بنية اللون. وضعهما فوق الغطاء، إحداهما إلى جانب الأخرى، بتناظر تام. وبينما هو يتكلم، يجعلهما تنزلقان، مباعداً بينهما ومعيداً جمعهما من جديد وفق إيقاع بطيء وصامت.
ــ دون آغابيتو ــ تقول له ــ، لقد تذكرتُ اليوم أشهر مريم تلك. تذكرت مذبح الكنيسة المترع بأزهار وشموع مشعلة، بينما أنت تروي قصص معجزات.
ــ كانت تلك هي الأساليب آنذاك، يا بنتي.
ــ إنها ذكرى جميلة جداً، أشبه بحلم تملؤه سكينة.. طمأنينة لم أعد إلى الشعور بها تقريباً فـي حياتي.
ــ إنها تقنيات تلك الأزمنة. من أجل التأثير فـيكم، يا حلوة.
ــ فكرتُ فـي الأمر بسبب شيء شاهدته فـي التلفزيون. كان ريبورتاجاً عن طريق الحج.
ــ التلفزيون عندنا معطل. وقد ظهر البرنامج بصورة رديئة جداً.
ــ تكلموا عن كتاب قديم، من العصور الوسطى. كتبه أحد الباباوات. وهو أشبه بدليل، وفـيه معجزات. وقد تذكرتك، وتذكرت شهور الأزهار تلك.
ــ أنا أعرف ما تشيرين إليه.
ــ هناك معجزة لم أستطع فهمها. تتحدث عن حاجين خاطئين، وعن عقابهما. وقيل إنهما منذ ذلك الحين يهيمان على وجهيهما فـي الدنيا دون أن يلتقيا.
احتفظ الكاهن بالصمت للحظات.
ــ كان نصاً معروفاً على نطاق واسع فـي القرن الثاني عشر. وتوجد نسخ منه فـي أماكن كثيرة.
ــ وهل تتذكر المعجزة التي حدثتك عنها؟
دفع الكاهن رأسه إلى الخلف وتكلم ببطء، كمن يتذكر:
ــ كان الكتاب يرمي إلى التعريف بطريق الحج. وقد حظيت تلك الطريق بأهمية كبيرة، يا بنتي. أما المعجزات، فهناك ما تشائين منها. لقد كانت أزمنة أخرى.
أعاد إليه الجهد والمحادثة شيئاً من حيويةٍ تبدت بصعوبة، متغلبة بصورة متقطعة وعابرة على الاختناق الذي يبدو قريباً وحاسماً.
ــ كان الناس يؤمنون بهذه الأشياء.
ــ أتتذكرها؟
أشار بإيماءة غامضة بيديه البيضاوين والهرمتين، كما لو أنه يجرد تلك المعجزة من الأهمية، ويركز على تقويم ذلك العصر، وطريقة التفكير والإحساس التي جرى فـيها ذلك.
ــ بشأن التذكر، أتذكر الكثير. لقد كانت وسيلة فعالة، تقديم أمثولة وعبرة، كما فـي أشهر الأزهار تلك: تعالوا ولنمض معاً، والتنافس بالأزهار.
كان رأس الكاهن، ببؤبؤي عينيه الأبيضين، والجبهة الممتلئة بالأخاديد، والأذنين المفتوحتين على جانبي الجمجمة لبنية اللون، والمغطاة كذلك بنمش قاتم، يبدو أشبه برأس صورة باهتة الألوان، وضائعة وسط أغراض مستودع كنيسة منعزل.
ــ أتعرف أين يمكنني العثور على الكتاب؟
استغرق الرجل فجأة فـي الغمغمة بتلك الأغنية الدينية. وانتهى إلى الدندنة بها هامساً، ثم أخرج منديلاً وتمخّط بصخب. كانت نونيا على وشك أن تكرر سؤالها، عندما أجابها:
ــ انظري فـي أبرشية المقاطعة. ربما لديهم شيء هناك.
عادت مدبرة البيت إلى دخول الحجرة وهي تمسح يديها بالمريلة.
ــ منذ زمن طويل لم نركِ هنا.
تبتسم هي لمدبرة البيت، لكنّ دون آغابيتو يدير وجهه قليلاً ويأمرها أن تصمت بإشارة منه.
ــ هل يهمك هذا الكتاب كثيراً؟
ــ حسن ــ تقول هي ــ لقد استثار فضولي. والحقيقة أنني راغبة فـي رؤيته.
ــ هناك نسخة أصلية منه محفوظة فـي سانتياغو ــ يقول دون آغابيتو.
يضمّ إحدى يديه ويضرب على الغطاء بالقبضة العظمية.
ــ مازال لي أصدقاء فـي تلك الأبرشية ــ يؤكد ــ وسوف تصلين إلى الكتاب إن شئت.
تدرك نونيا عندئذ أن الاطلاع على الكتاب قد يكون مسألة عويصة. ومع ذلك، تشعر أن فضولها قد هدأ قليلاً بعد تلك المحادثة القصيرة، كما لو أنها وجدت فـي وجه دون آغابيتو، فـي العينين اللبنيّتين، فـي الذقن البرّاقة بسبب قليل من الريالة، إشارة هادئة، لم توضح لها شيئاً، ولكنها استبدلت مع ذلك بمسوغات اهتمامها الغامضة بحقائق يقينية أخرى لا تحتاج إلى نبش وتمحيص. نهضت واقفة.
ــ سأترك الأمر إذاً حتى الصيف. فأنا أفكر فـي قضاء بضعة أيام هناك هذا الصيف. وسأخبرك قبل ذهابي لتزوّدني برسالة توصية.
ــ لا تتباطئي كثيراً ــ يقول مقطباً ــ فـي الصيف، بمشيئة الله، ستكون أعشاب الخباز قد نبتت على قبري.
ــ ما الذي تقوله. أنا أجدك بصحة رائعة.
وفـي وقوفها، بينما هي تنحني لتقبل الخدين الباردين والخشنين، وجهت إليه السؤال الأخير:
ــ ألا تتذكر تلك الحاجة الفرنسية؟
ردّ العجوز بإيماءة جهل كامل.
ــ تلك التي أعطتني دروساً بالفرنسية والعزف على البيانو.
تنهد دون آغابيتو:
ــ آه، يا بنتي، لم تعد لدي ذاكرة لأي شيء.
* * *
كانت الحاجَّةُ قد ظهرت ذات يوم فـي عربة ممتلئة بأوان وأغراض وتجرّها بغلة. ويبدو أنها كانت مريضة. وقد تولى مجلس الأبرشية أمر رعايتها لبعض الوقت. وبعد شفائها، ظلت فـي المدينة تعطي دروساً باللغة الفرنسية والعزف على البيانو. وقد أوصى دون آغابيتو أبا نونيا بها، باعتبارها امرأة تقيّة جداً على الرغم من جنسيتها، وهكذا بدأت إعطائها الدروس. دروس اللغة الفرنسية فـي أيام الاثنين والأربعاء، ودروس البيانو الثلاثاء والخميس.
كانت دقيقة فـي مواعيدها. تحيي بطريقة احتفالية، وكانتا ترتلان صلاة «يا قديسة مريم» ثلاث مرات وتبدأان الدرس. وكانت أمها، فـي أول الأمر، تحضر معهما كل الدروس، جالسة تخيط على أريكة، لتتأكد من فائدة تلك الدروس. ومع مرور الوقت، وقد أضجرتها روتينية التمارين من جهة، ولقناعتها من جهة أخرى باجتهاد المعلمة والطالبة، قررت العودة إلى عاداتها السابقة، وصارت تبقى فـي الحجرة الصغيرة، جالسة قرب مجمر التدفئة تستمع من المذياع إلى أحاديث راهب فرنسيسكاني كابويشي مشهور.
غير أنه لم تكن ثمة ضرورة إلى أية مراقبة. فالآنسة سيسان جدّية جداً؛ أما نونيا فكانت تعلم أن تلك الدروس والبيانو تعني جهداً عائلياً تحقق بمزيد من ساعات العمل الإضافـية فـي المصرف، وحسابات جديدة، وبعض التضحيات فـي الراحة المنزلية. فكانت تنكب على الدروس بحماسة عالية. هذا الانكباب على الدراسة، سواء فـي المعهد الموسيقي أم فـي الدروس الخاصة، كان أحد أسباب مسرات أبيها القليلة، وهو رجل صموت فـي العادة، مع ملمح حزن عميق جاءه من الحرب، على حد قول أمها، عندما كان عليه أن يتنقل بين جبهات قتال عديدة، وإنهاء خدمته فـي سجن أندلسي، حيث كان يجري، فـي كل يوم، إعدام مئات المهزومين رمياً بالرصاص. ويبدو أن انكباب ابنته على الدراسة، وممارستها واجباتها الدينية دون خلل، كانا حافزي ذلك الرجل الرئيسيين على الحياة.
روتين الدروس الطويل الذي تواصل طوال ذلك العام الدراسي، راح يخلق بينهما عادة من الثقة. وقد توافق ذلك أيضاً مع وقت نأت فـيه نونيا كثيراً عن أصدقائها المعهودين، حتى إن ذلك الفتى الذي كان يرافقها بلهفة من قبل، ابتعد عنها فجأة، لأسباب لم تفهم قط حقيقتها جيداً.
وهكذا راحت تتعزز علاقتها الحميمة بالآنسة سيسان. فكانتا تتبادلان الكتب، والهدايا الصغيرة، والأسرار. ومع مرور الوقت، صارتا تلتقيان خارج البيت أحياناً، فـي أيام الجمعة أو السبت لزيارة الضريح المقدس وتناول وجبة خفـيفة عند العصر. وهكذا راحت سيسان الطقوسية والنائية تكشف عن طبع أكثر انفتاحاً، وكشفت هي نفسها أيضاً أنها أكثر ميلاً لتبادل الحديث مع تلك المرأة ذات الشعر الأشقر الذي تظهر فـيه بعض شعرات شائبة، ويحمل وجهها بدايات تجاعيد كعلامة على مرارة خفـية. فـي بعض الأحيان، خلال دروس اللغة الفرنسية، كانت الآنسة سيسان تنشد قصيدة بديعة، أو تقرأ بانفعال صفحات ذات جمال خاص لكُتَّابها المفضّلين. وفـي أيام أخرى، بعد الدرس، تعزف على البيانو بعض المقطوعات. وكان هناك لحن خاص تعزفه الآنسة سيسان بإحساس مميز. كان لتلك الموسيقى وقع قديم، وإيقاع رتيب، وإحالة مبهة إلى ذكرى دينية عذبة. يبدو كما لو أنها تختزل، فـي همس غير مفهوم، قصة محزنة. سألت نونيا الآنسة سيسان عن هوية ذلك اللحن. وبعينين طافحتين بالدموع، قالت لها الآنسة إنها موسيقى قديمة، ألّفها شخص أحبّته. وظلت هكذا، ملتفتة بنصف وجهها، كأنها تصغي إلى الصدى البعيد للنغمات التي تعزفها والدموع تملأ عينيها.
وفـي مساء أحد الأيام، أهدت إليها الآنسة سيسان علبة فضية صغيرة، لها مظهر عتيق جداً. كانتا تجلسان معاً فـي كافـيتريا، وراحت هي تقلّب العلبة بين يديها، متلمسة نعومة تلك الزخارف المصقولة. عندئذ، بصوت خافت جداً، خالطة اللغتين فـي سردها مع بعض الكلمات غير المفهومة، بدأت الآنسة سيسان تروي لها قصة حياتها، بمعطيات مضطربة راحت تنضبط تدريجياً، ليس فـي تسلسلها الزمني، وإنما فـي مضمون أحداثها.
فـي بدايات القصة، كان ينتصب البيت الذي وُلدت فـيه ملفوفاً بالضباب. وكانت تستحضر الهدوء الريفـي بمذاق الخلود الذي يميزه، والسنوات اللانهائية فـي تلك الوحدة المنزلية الصاخبة التي تذكرها بها كثيراً هذه المدينة.
كانت السليل الوحيد لبطل مات فـي الحرب. ومنذ طفولتها كانت تجتهد فـي العزف على البيانو يوماً بعد يوم لتُدخل الفرح على حزن أمها، وهي امرأة صموت ومعتلة الصحة.
وذات يوم، وكانت قد أكملت الخامسة والعشرين من عمرها، بينما لا تزال حياتها تتمدد بعذوبة فـي الصدى الخالد لإيقاع الطفولة والصبا نفسه، قامت برحلة مع بعض الصديقات لزيارة دير قديم. وفـي عتمة الكنيسة، كانت تتردد موسيقى أرغنّ كحسرة مكرورة، فأحسّت فجأة بأن فـي ذلك اللحن تعبيراً موضوعياً وغيرياً عن الحزن الطويل الذي ضمخ حياتها الهادئة لسنوات طويلة.
صعدت إلى منصة جوقة المرتلين دون أن ترى الأرض التي تطأها، شاعرة بأن كل درجة هي تأكيد لطريق يترسخ فجأة فـي الظلام من أجلها وحدها. وأمام أرغنّ كبير، فـي منتصف منصة جوقة الترتيل، كان يجلس راهب شاب يحرك يديه بحماسة على طول ملامس الجهاز، أو يتحكم بمفاتيح تغيير طبقات الصوت. وكان المصباح الأصفر الذي يضيء نوتة الألحان يضفـي بريقاً على عينيه.
هناك فوق،كانت موسيقى الأرغن تكتسب زخماً مؤثراً. راحت تقترب ببطء حتى صارت بجانب الملامس. بدا كما لو أن موجات الصوت لا تنبعث من أدوات الجهاز المخفـية، وإنما من جسد الراهب نفسه، عبر يديه الضخمتين. ظلت جامدة دون حراك للحظات؛ لكنها بعد ذلك، وكما لو اجتذبتها دوامة يشارك الصوت نفسه فـي قوتها، قرّبت كامل جسدها من الأرغن حتى أسندت إليه بطنها وفخذيها. كان اهتزاز الآلة يصفع سطح لحمها، ثم يتغلغل فـيها دون خلاص. عندئذ نظر الراهب إليها، وبالطريقة نفسها التي أمسكت بها الاهتزازات بجسدها، سيطرت تينك العينان على إرادتها.
كانا متحدين عبر الأرغن والموسيقى والنظرة المتبادلة. أخذ الراهب يزيد من حدّة اللحن، وظلا يتبادلان النظر بثبات لوقت طويل، بينما كل منهما يشعر باختناقٍ يُسرع من إيقاع تنفسه وخفقان قلبه.
قطع وصول صديقاتها ذلك الافتتان الغريب. اقتربن منها وأنّبنها مازحات على اختفائها المفاجئ. توقف الراهب الشاب عن العزف وواصل تأملها بهيئة مرتبكة. وقبل أن تنزل، أعادت النظر إليه وتأكدت من أنه ظل ثابتاً، وأنه ينظر إليها أيضاً بعينين ثابتتين وشرهتين.
وخلال الأسابيع التالية، ظلت تلك الأحاسيس مشتعلة فـي داخلها. بدا لها أنها لا تزال تشعر بذلك الأرغن الكبير كجسد حي ونابض يشكل امتداداً لجسد ذلك الرجل المجهول ولجسدها هي نفسها، إلى حدّ إجبارهما على ذلك الاتصال الخفـي، ذلك التماس الفريد. وبدل أن تهدأ تلك الذكرى، راحت تتحول بازدياد إلى انجذاب طاغ. وأخيراً، عادت تكرر الزيارة، وحدها هذه المرة، إلى الدير البعيد. ووصلت فـي أول ساعات مساء خريفـي. وعلى المذبح الأكبر كانت بعض الأضواء الضعيفة ترتعش فـي مواجهة الظلمة الآخذة بالتماسك.
كان الأرغن يصدح كما فـي المرة السابقة. صعدت الدرجات، وعندما صارت فوق، تأملت الراهب نفسه تحيط به هالة من بريق المصباح. تقدمت بعد ذلك، غير أن حياء غريباً منعها من إلصاق جسدها بالأرغن، مثلما فعلت المرة السابقة. توقف الراهب عن العزف، نهض واقفاً واقترب منها وهو يمد يديه المرتعشتين. كان معصما قميصه يلمعان على معصميه، وإلى ما فوق ذلك، كان مسوحه آخذ فـي الذوبان فـي ظلمة منصة الكورال نفسها، بحيث لم يكن يظهر سوى اليدين والعينين فقط فـي الفضاء الكثيف، كيدي ووجه كائن أكثر من بشري، هائل، مادّته هي الكنيسة كلها، وصدى الموسيقى الذي مازال نابضاً، وتذبذب ضوء الشموع البعيدة.
وصل إليها، واحتضنها. كان الجزع يحرقه مثل جرح. قادها الراهب بحزم إلى الظلمة فـي العمق، حيث تنفتح حجرة صغيرة ممتلئة بأمتعة معفرة بالغبار، تأتيها إضاءة قليلة من كوة عالية مدوّرة. جلسا هناك أحدهما إلى جانب الآخر، وشرعا يتمتمان بمتوالية طويلة من فقرات لا يسمعها أي منهما، من كلمات غير مترابطة هي مع ذلك تصريحات غرامية. كان لقاؤهما اكتشاف أمل أرضي وقريب كان حاضراً، وإن بصورة مشوشة، ومترصداً داخل كل منهما. وكان لاتصالهما الأول عبر ذبذبات الأرغن طابع الخطوبة.
عادت إلى بيتها. لكنهما بدأا منذ ذلك الحين مراسلة محمومة، ترسل هي رسائلها إلى بعض تلميذات الراهب الروحيات. استمر التواصل الجديد حتى أعياد الميلاد، حين عادت لزيارته. ومن جديد كانت منصة الكورال شاهداً على لقائهما، وحجرة الركن الصغيرة التي كان الراهب قد نقل إليها كومة أقمشة قديمة، ستائر وملابس خدمة القداس صارت فراش زوجية لهما، وهو المكان الذي تعارفا فـيه بصورة أكثر حميمية. كان يدخل من الكوة المدورة ضياء الثلج الأبيض كأنه نور سماوي. وكانا يرتجفان كمريضين. أخرجهما، بفزع، من حلمهما قرع نواقيس بدأت تدوي فوقهما.
وفـي الربيع هربا معاً. وظلا معاً عدة سنوات. كانت حياة بلا وجهة محدّدة، تضطرهما فـي الشتاء إلى البقاء فـي إحدى المدن ليقضيا الأيام فـي دروس موسيقى منهكة، تدفع بهما فـي أيام الدفء إلى الدروب الريفـية. وتحولا بعد ذلك إلى حاجّين. وبدأت هي ترسم وتمارس أيضاً تجارة أثاث وقطع قديمة، فصار هذا العمل، على المدى الطويل، كافـياً لنفقات معيشتها. وكان هو يصل إلى الكنائس الأخيرة فـي أقصى كل طريق بنوع من النشوة الدينية، كما لو أنه يستعيد إحدى تلك الأحاسيس التي كانت تحتجز روحه فـي حياته السابقة. فـيطلب الإذن فـي العزف على الأرغن، وما إن يحصل عليه حتى يجلس أمام لوحة المفاتيح ويعزف لساعات طويلة متوالية.
ومع أنهما كانا لا يزالان سعيدين، إلا أن غمّاً قاتماً راح يسيطر على الرجل بصورة متعاظمة. ومنذ شتاء جافّ ودافئ على نحو استثنائي، ما عادا يستمتعان تقريباً بلحظات حميمة. وراح هو يدخل بعد ذلك فـي حالة متمادية من البكم. وكانا قد امتلكا فـي ذلك الحين العربة والبغلة.
وفـي أحد الأيام، وكانا يجوبان أحد تفرعات طريق الحج فـي فرنسا، توقفا لقضاء الليل على مرتفع، عند أقدام رؤوس صخرية ضخمة. وكان يمتد تحتهما الوادي الفسيح، حيث تتناثر بيوت الفلاحين. وفـي الصباح، بدأ يوقظها صياح الديكة ونباح الكلاب وأصوات الجلاجل، وكل الأصوات التي كانت تتردد أصداؤها الوديعة بين الحقول. استيقظت بصعوبة، وبتعب شديد، كأن النوم فـي تلك الليلة قد نزل بها إلى هوة لا قرار لها. وكان قلبها طافحاً بحزن مجهول، لا خلاص منه.
لم يكن هو إلى جانبها. لكن غيابه، كما فـي مرات أخرى سابقة، لم يُثر استغرابها، إذ كان ينهض فـي أصباح كثيرة مع الفجر ليتمشى فـي الغابات والجبال فـي لحظات النهار الأولى. لكنها أحست فـي ذلك الصباح بجزع غريب.. بهاجس شؤم.
خرجت من العربة. كانت الشمس الذهبية تبدأ صعودها على المرتفعات المقابلة. انقطعت الأصوات الريفـية للحظات: لم تعد الديوك تصدح، ولم تعد الكلاب تنبح، وتوقف كذلك رنين الجلاجل، وحتى همهمة الأصوات البشرية وزقزقة العصافـير توقفت. لا شك أن الأمر مجرد مصادفة، لكن ذلك الصمت أخافها. جابت المنطقة المحيطة بنظرتها.
على مرمى حجر منها، تبدأ بقعة أشجار تغطي السفح. كانت هناك شجرة كستناء ضخمة معزولة، كأنها تحدّد الحد بين تلك الغابة الصغيرة والصخور الجرداء التي تصعد حتى ذروة الهضبة. إلى أحد جانبي شجرة الكستناء، وكضد لخضرة أوراق الشجر، كان تتدلى حزمة كبيرة، قاتمة كأنها كيس. بدأت تلك الصورة الأولى تتحول فوراً إلى حدس فظيع: فالحزمة لها كذلك شكل جسد بشري غير واضح المعالم، واللون يوحي بلون ثياب مألوفة، الثياب التي يرتديها هو، والتي تُذكِّر أكثر فأكثر بأثوابه أثناء حياته كراهب.
ــ لم أشأ الاقتراب ــ همست الآنسة سيسان ــ فضّلتُ التفكير فـي أنه كيس بالفعل. وظللت طيلة النهار أنتظر فـي العربة دون حراك. لكنه لم يعد. ومع بداية الغروب رحلت.
* * *
ذُهلت نونيا ببوح الآنسة سيسان. وعندما ابتعدت بعد ذلك عنها مؤرقة، ساورها الشك فـي أن الرواية بحد ذاتها خطيئة مريعة، لأن القصة كلها تشعّ بفـيض جلي من الضلال والعهر. والآن، تتوارد إلى عقلها بضراوة بعض التقولات التي كانت تصم الفرنسية بالخفة، وتشير إلى أنها تعيش، كما يبدو، حياة أخرى موازية، تسعى فـيها إلى صحبة الذكور وإلى صداقة متمادية مع بعض الفتيان. ومع أن نونيا لم تكن قادرة على التحقق من ذلك كله، إلا أنه كان يعني فـي نظرها أنه يمكن للآنسة سيسان أن تكون سبب ذلك الجفاء الذي أحزنها كثيراً.
ومع ذلك، ظلت الغلبة، إلى جانب مخاوفها وشكوكها، لصورة تلك المرأة المألوفة، صورتها حين تلتقيان فـي سان إيسيدرو وتُظهر حماسة إيمانها عند تناول القربان، أو حين تُعطيها الدروس بدقة واهتمام، أو لحظات البوح تلك، فـي أماسيات أخرى، قبل أن تخبرها بقصتها الرهيبة. أضف إلى ذلك أنها أبدت أثناء رواية الأحداث حزناً واضحاً.
كان انعدام التوافق بين المظهرين يقلقها. وعلى الرغم من محاولتها إبعاد تلك القصة القاتمة عن مخيّلتها، فقد كانت ترى، فـي عتمة الحجرة، معروضة على سواد رموشها، كما على شاشة سينما، استعادة لمشاهد وحركات مخيفة متوالية.
كانت لا تزال حينئذ صبية فتية، وكانت تفكر بسذاجة فـي أنها قد تضطر هي نفسها ذات يوم، بعيداً عن مدينة مولدها، وحين يتحقق قدر النجاح والتألق الذي يحلم بهما أبواها، إلى مواجهة عالم ممتلئ بقصص خاطئة ورهيبة أيضاً. وقد حاولت تقبلها كمعطى آخر فـي تجربتها. لكنها منذ ذلك الحين، وعلى الرغم منها، صارت تتجنب لحظات البوح مع الآنسة سيسان. أما الآنسة، فظلت تتعامل معها بالطريقة نفسها التي كانت عليها فـي الأوقات الأخيرة، بإبداء اهتمام حنون وساهٍ بعض الشيء، دون أن يبدو عليها أنها تولي أهمية خاصة لاعترافها الطويل.
فـي مساء هادئ من شهر أيار، وجدت فـي الكاتدرائية لقية مفاجئة. كانت قد دخلت لتصلّي بضع دقائق، مثلما هي عادتها الدائمة كلما مرت قريباً من المعبد ولا تكون مستعجلة. فالكاتدرائية تفتنها وهي صامتة وخالية فـي هذه الساعات المسائية. جثت على أحد المراكع الأخيرة، قرب منصة كورال المرتلين، واستغرقت فـي صلاتها للحظات، بعينين مغمضتين. وبعد ذلك، جلست، وتكورت على المقعد وهي ترفع بصرها. راودها إحساس متنام بأنها فـي جو متحرك يتذبذب فـي ما حولها. هناك فـي الأعلى يشتعل زجاج النوافذ طاغياً على ظل ممرات الكنيسة الخفـيف، بحيث يمكن الظن أنه بدل الزجاج هناك ضوء متعدد الألوان آت من السماء الحقيقية، سماء الملائكة والقديسين. الدعائم التي تصعد من الأعمدة حتى أقواس الممر، فـي أعلى السقف المقنطر الطويل، ترسم شكل أضلاع كبيرة، كأنها داخل هيكل عظمي لحيوان ضخم غامض. ربما كانت الكاتدرائية طائراً ضخماً يحلق فـي السماء الإلهية، وتلك الذبذبات ليست إلا حركة طيرانه. توصلت أحلام يقظتها إلى إبهارها إلى حدّ عبر معه فـي خيالها، حين نهضت واتجهت نحو المخرج، ظل فكرة مقلقة: التحليق حقيقي، وليس هناك فـي الخارج شارع ولا بيوت، وإنما فضاء غير متناه متعدد الألوان وحسب.
ومع ذلك، لم تكن الكاتدرائية الظليلة المقفرة صامتة فـي ذلك المساء. كان هناك من يعزف على الأرغن، والمصباح الذي يضيء عمله، وهو نقطة الضوء الوحيدة فـي منصة الكورال، يسمح برؤية ظهر يغطيه قماش مسوح بنيّ اللون. وأخيراً، رأت أيضاً، عند أسفل منصة الكورال، دون آغابيتو يصوب عينيه إلى عازف الأرغن. كانت شريطة ياقته البنفسجية تبرز بوضوح على خلفـية العنق شديد البياض عند قاعدة الحنجرة الناتئة، كأنها علامة ذبح رقيق.
جلست هي وواصلت الاستماع إلى اللحن. كان الطائر الضخم يخفق بجناحيه فـي الفضاء العميق، وجلبة الأرغنّ بأصوات الأبواق والكلارينات، والفلاوتات، والنايات أشبه بنبضات قلب كبير مبتهج. أحست أنها ممتلئة بطمأنينة عذبة.
وبعد قليل، بعد إنهاء بعض الدوزنة، بدأ عازف الأرغن ضبط نغمات لحن، تميز بسلسلة نغمات مقتضبة تتكرر بتدرجات متتالية، وبإيقاع بطيء ووقع كئيب، و تعرّفت هي على تلك الموسيقى. فبأصداء أخرى، وتنغيم متعدد ووافر، كان اللحن هو نفسه الذي اعتادت أن تعزفه على البيانو أحياناً الآنسة سيسان بكثير من الأسى.
استمعت بجمود، وقد وقعت فجأة ضحية إحساس بارتباك وخوف. نهضت بعد ذلك، وفتحت الحاجز الصغير، واجتازت المسافة القصيرة التي تفصلها عن منصة كورال المرتلين، واقتربت من دون آغابيتو أدار رأسه وقطب عينيه كي يحدد هويتها.
ــ أهلاً، يا جميلة ــ تمتم هامساً ــ منذ وقت طويل لم أراكِ. هل جميعكم بخير؟
أكّدت له ذلك بهز رأسها. ثم رفعت يدها وأشارت إلى عازف الأرغن الذي كان شعره الطويل يظهر على كتفه.
ــ من هو؟
ــ إنه حاجّ ــ ردّ دون آغابيتو.
والتفت ليتأمل العازف لحظة، ثم نظر إليها من جديد.
ــ إنه بارع فـي العزف على الأرغن. قضى المساء كله فـي العزف، ولا أدري كيف لا يتعب. لقد مرّ من هنا منذ سنوات أيضاً. وسيعزف فـي قداديس الأحد.
وبعد قليل، حين أنهى عازف الأرغن عزفه المندفع والكئيب، نهض واقفاً ونزل إليهما. كان رجلاً ناضجاً، له حاجبان كثيفان ولحية طويلة يتخللها الشيب، تمتد تحت الوجه كأنها استمرار لإكليل. وكان شعره الطويل ينسدل على الكتفـين.
ــ إنني جائع ــ قال الحاج.
كان صوته خشناً لكنه واضح جداً. انطلق ماشياً أمامهما وكانت خطواته الواسعة المدوية تلغي بحسم أصداء النغمات الأخيرة التي يبدو أنها مازالت تتردد فـي أنحاء الكنيسة بعد ذلك العزف الطويل. تبعته هي ودون آغابيتو دون كلام وهما يغذان الخطى، حتى خرجوا إلى الشارع. اجتاز الحاج الطريق واتجه دون تردد نحو البار المقابل. ومع أن الظلام قد خيم، إلا أنه كانت هناك جماعة كبيرة من الزبائن عند منضدة الكونتوار. دخل الحاج إلى قاعة الطعام المقفرة وجلس إلى إحدى المناضد. كان دون آغابيتو يتلمس جيوبه بعصبية شديدة.
ــ يا للورطة يا بنتي ــ همس ــ هل لديك بعض النقود؟
وقالت هي لا.
ــ يا للورطة، رباه ــ أضاف الكاهن القانوني.
جلسا قبالته. ولم يتناول دون آغابيتو ولا هي أي شيء. طلب الحاج وجبته بدقة عارف قديم. تأملاه وهو يأكل صامتين. وأخيراً استدعى دون آغابيتو النادل جانباً وهمس شيئاً فـي أذنه، مشيراً إلى الحاج. مسح الفتى مرة أخرى سطح المنضدة بالخرقة، وقام بسلسلة حركات تأكيد توقيرية طمأنت الكاهن القانوني.
وبعد قليل، نظر إلى ساعته ونهض. ثمة واجب يستدعيه. ودّعهما بمودة، ولكن باقتضاب شديد.
ــ وأنتِ، انقلي تحيّاتي إلى أبويك ــ قال لها.
هكذا، بصورة غير متوقعة، وجدت نفسها تجلس قبالة ذلك الرجل. وفوق الغفارة التي مازالت تحتفظ بالكتفـية التقليدية، كان يعلق أصدافاً وميداليات. وكان دبوس بكلة يثبت إلى صداره من الداخل جراباً صغيراً من قماش مشمع. مسح الطبق بقطعة خبز، وشرب كأس النبيذ دفعة واحدة، وظل ينظر إليها بإمعان.
ــ فلنصلِّ ــ قال.
بقي مغمضاَ عينيه لحظات، كأنه مستغرق فـي صلاته. ثم فتحهما أخيراً ونظر إليها مرة أخرى. كانت عيناه قاتمتين محاطتين بتجاعيد مثل عيني عجوز، لكنهما حيتان ولامعتان. اسند ظهره إلى الكرسي وقاطع يديه على بطنه.
ــ أنا خاطئ كبير ــ هتف ــ ارتكبت خطايا كثيرة، كثيرة جداً. كم عمرك؟
أخبرته بعمرها. ولم تشأ التحدث إليه عن اللحن، وإنما كانت راغبة فـي الانصراف. كانت تصل من البار أحاديث الزبائن، لكن عزلة قاعة الطعام التي تضاعفها الإضاءة الشحيحة من مصباح وحيد يعلو الجزء الذي يشغلانه، أحدث فـيها إحساساً حاداً بالخذلان. ومع ذلك، لم تجرؤ على النهوض. احتفظت بالصمت كأنها تنتظر أن يحل هو الموقف بحركة وداع. لكن الحاج راح يتكلم ببطء، ناظراً إليها بثبات دون أن يرمش تقريباً، وبدا كمن يدعوها إلى إغفاءة ناعمة، مثل سحرة المهرجانات الشعبية.
لقد كان راهباً فـي دير بعيد مشيد بأحجار رمادية تغطيها طحالب زرقاء وأشنيات مذهبة. وذات مساء، بينما هو يعزف على منصة كورال المرتلين، جاءت إليه فتاة. لها عينان تشبهان، هكذا، لون العسل القاتم. جاءت من السواد، كأنها حضور مضيء، خفـيف جداً فـي البدء، ما لبث أن تجسد أمامه. كان يعزف والفتاة تقترب. وأدركت نونيا أن هذه القصة هي الوجه الآخر لقصة الآنسة سيسان. كانت تستمع إليه بذهول، فاغرة فمها قليلاً، ويداها تستندان إلى المنضدة فـي حركة استعداد للنهوض، راغبة فـي أن تقوم دفعة واحدة بالجهد الذي يسمح لها البدء بالانصراف، بالمغادرة. لكنها ظلت هناك، غارقة فـي ارتباك يضغط على صدرها ووجهها.
كانت قصة الرجل تتحدث عن بدايات ذلك الافتتان، وذلك الهروب، وذلك الترحال الطويل المشترك. وعن التنافر، والغم القاتم الذي عزته الآنسة سيسان إلى رفـيقها، بينما ينسبه الحاج إلى امرأة قصته. وأخيراً، وصلت روايته إلى ذلك المنظر المطل على الوادي الفسيح، أسفل القمم الصخرية. وأوضح الرجل أنه اعتاد، فـي أيام الطقس الجيد الاستيقاظ فـي بداية الفجر، والتمشي مستنشقاً الروائح الوليدة، وهو يصغي إلى أصوات الاستيقاظ ويرى اشتعال الأشجار والأشياء إلى أن تكتسب حجم الواقع والحياة الحقيقيين.
كانت الآن على وشك أن تبكي. أحست بالخوف من ذلك الرجل، ومن القصة التي تنطبق تماماً على النصف الآخر الذي روته الآنسة سيسان لتزيد من قلقها.
انتهت نزهته قرب شجرة كستناء ضخمة. وكان الصباح يفتح أصابعه المترعة بالنور. وهناك فـي الأعلى، كانت العربة تبرز على خلفـية المنظر بهيئتها الغائمة. وكانت البغلة، وهي تستيقظ مبكرة، تقضم بعض العشب. اقترب من العربة ولاحظ جمود رفـيقته النائمة. لكنه أدرك أخيراً، بذعر، أن ذلك السكون يبدي بُعداً أكثر شؤماً وحسماً من سكون النوم. فدخل إلى العربة، وألقى بنفسه فوقها، احتضنها بذراعيه، هزّها بقوة يريد إيقاظها.
ــ كل ذلك كان بلا جدوى ــ همس الحاج ــ. كانت ميتة. استولى عليّ يأس رهيب، وابتعدت أنبح مثل كلب. مشيتُ أياماً عبر الغابات وأنا أقرب إلى البهيمة مني إلى الإنسان.
رفعت نونيا يديها. وكانت لا تزال غير قادرة على البكاء. وتشكلت كلماتها بدقة ووضوح.
ــ إنها هنا.
نظر إليها الحاج باستغراب، دون أن يفهم.
ــ هنا، فـي المدينة ــ كررت نونيا ــ تعلمني الفرنسية والعزف على البيانو.
شرعت تدندن اللحن، وتضبط الإيقاع بسبابة يدها اليمنى.
نظر إليها الحاج بتكشيرة مخيفة. وعلى بريق لحيته الضارب إلى البياض، كانت بقايا السجق المنزلقة تُبرز أخاديد تكشيرة مؤلمة. قفز واقفاً، وأزاح الكرسي بصخب، والتقط عن الأرض عصا الحاج الكبيرة التي تنتهي برأس حديدي.
ــ هنا؟ ــ صرخ.
انقطعت الأحاديث فـي البار وأطل رجلان من الباب. أكدت بهز رأسها عدة مرات. ودون أن يقول الحاج كلمة واحدة، انصرف راكضاً فـي هروب يائس.
عندئذ تحول ارتباك نونيا إلى رغبة متعجلة فـي معرفة تلك العلاقة بصورة كاملة. انتظرت بلهفة خلال الوقت المتبقي للدرس التالي، وعندما جاءت الآنسة سيسان أطلعتها على الخبر. كانت هي نفسها قد فتحت لها الباب، وكانتا تقفان معاً فـي الردهة القاتمة، تحت الضوء العمودي للمصباح الصغير.
ــ وجدتُ صديقك ــ أوضحت نونيا ــ. إنه حي. لا يزال حياً. مساء أمس كان يعزف على الأرغن فـي الكاتدرائية. إنه هو، لا شك فـي ذلك. وهو من قاله لي.
استمعت إليها الآنسة سيسان مذهولة، بشفتين منفرجتين فـي أول الأمر، ثم مزمومتين بقوة بعد ذلك. وأخيراً اتجهت دون أن تقول شيئاً إلى الرواق. تأخرت طويلاً قبل الإشارة إلى الحدث، لكن الدرس استُبدل أخيراً بأسئلتها حول الحاج وبفترات صمت طويلة لتستوعب المعلومات. وعندما انتهت ساعة الدرس، ظلت لبعض الوقت جالسة هناك، بذراعين متهدلين، وجبهة مقطبة بتجاعيد عميقة، بين الكتب المبعثرة على السرير، بينما كانت طيور السنونو، فـي ذلك المساء الصيفـي، تطير فـي الجانب الآخر من النافذة فوق الثياب المنشورة.
لم يعرفوا ما الذي جرى، لكن الآنسة سيسان لم تعد إلى البيت، حتى إنها لم تودعهم، على الرغم من أنهم كانوا مدينين لها بأجر خمسة عشر يوماً. وقد قيل لهم إنها، كما يبدو، رحلت على عجل كأنها هاربة من شيء ما. لقد فوجئ أبواها كثيراً، لكن نونيا شعرت بسعادة لا تفسير لها حيال تلك الأحداث.
* * *
بدء ذلك الحلم وتكراره التالي والدائم لم يكن فورياً. إذ كان عليها أن تلتقي كلاً من الحاجين مرة أخرى فـي واقع اليقظة، وإن صارت تشك مع مرور الوقت فـي أن ذلك اللقاء كان حلماً أيضاً، وبالتحديد الحلم الأول فـيها جميعاً، حلم البدء فـي تلك السلسلة الطويلة.
حدث ذلك بعد سنوات من اختفاء الآنسة سيسان الغريب، فـي مساء يوم أحد بارد جداً. كانت نونيا ترغب فـي زيارة إحدى المدن القريبة. وكانوا قد اشتروا حديثاً سيارة صغيرة، ولم تكن الرغبة فـي السفر تحتاج إلى مسوغ أفضل من ذلك. كانت أمها لا تزال على قيد الحياة، وبعد تبادل الحديث على المائدة، توجهوا إلى المدينة القديمة. تركت نونيا السيارة قرب الكاتدرائية، وكان أبواها على وشك الدخول إلى المعبد، عندما اكتشفت، على بعد خطوات أمامها، هيئة أنثوية تلبس بطريقة غير مألوفة كثيراً. وعلى الفور تعرفت فـيها على الآنسة سيسان، وكانت تقف ثابتة تتأمل الأبراج الوردية. اقتربت نونيا منها بعد تردد.
ــ آنسة سيسان ــ هتفت ــ إنني أنا.
أدارت المرأة وجهها ونظرت إليها باسمة. لم يبد عليها أنها عرفتها.
ــ أنا نونيا. ألا تتذكرينني؟
قامت المرأة بحركة لطيفة، لكن إنكارها كان جازماً.
ــ لا، الحقيقة أنني لا أتذكرك. عليك أن تعذريني. ربما كنتِ مخطئة، فأنا لست من هنا.
اعتذرت نونيا بدورها وابتعدت عنها. لقد استيقظ فـيها إحساس بالذعر، وظلت جامدة على بعد خطوات خلفها، أسيرة هاجس شرس لا تستطيع تحديده. وأخيراً، دفعها حدس مجهول بالطريقة نفسها إلى الابتعاد صعوداً فـي الشارع، تاركة أبويها وحيدين وحائرين عند عتبة المعبد.
وفـي نهاية الشارع، عند حافة حديقة صغيرة مهجورة وقذرة، التقت بالحاج. كان يغطي رأسه فـي هذه المرة بقبعة جلد بني كبيرة. ولم يفاجئها ذلك الظهور، فدون أن تدرك مغزاه، كان يتوافق على نحو دقيق بصورة خاصة مع هواجسها. أوقفته بإشارة منها، فحدق فـيها بعينيه البراقتين القاتمتين.
ــ ألا تتذكرني؟ ــ سألته نونيا.
نفى الحاج ببطء.
ــ فـي أحد الأيام رويتَ لي قصة حزينة جداً: حين وجدتَ رفـيقتك شبه نائمة. وبعد ذلك هربتَ عبر الجبال.
واصل هو النفـي، مع أن توتراً واضحاً راح يهزه. كان أنفه محروقاً بالشمس.
ــ إنها هنا ــ أضافت نونيا مشيرة دون تحديد إلى عمق الشارع وراء ظهرها ــ قرب الكاتدرائية.
ــ هنا؟ ــ سأل الحاج.
وبدا عليه أنه فهم. ثم أدار ظهره، وبالتصميم نفسه الذي أبداه فـي ذلك المساء البعيد، ابتعد صعوداً فـي الشارع، إلى أن اختفى.
ذلك اللقاء كان حقيقياً، وإن كانت تظن أحياناً أنها رأته فـي حلم أيضاً. ومع ذلك، مازال التذكر يحتفظ بمظاهر محددة من اليقظة واضحة جداً؛ ففترة المساء كانت قد انقضت بانتظام تواليها الزمني المعهود، والأمكنة تمتد بأبعاد ثلاثة، ونظرتها تلتقط الإسقاط الوحيد الذي يتلقاه وجهها بالذات. كان شتاء، وقد بدأ الغسق يلون الأبراج بلون الذهب، وكانت الحمائم تخفق بأجنحتها، وكان للأصوات والأعمال معناها الدقيق المحدد. وقد ملؤوا خزان السيارة بالبنزين، وتناولوا قهوة بالحليب مع خبز ممسوح بالزبدة. وكانت أمها تدشن قفازين أسودين، ولم يكن أبوها قد أقلع عن التدخين بعد، فكان يستنشق دخان سيجارته بتلذذ.
أما الحلم الأول فحدث فـي وقت لاحق، وإن كانت لا تتذكر متى على وجه التحديد، مثلما لا تتذكر م
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:48 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية5
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:46 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية4
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:45 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية3
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:44 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية2
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:42 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:41 pm من طرف Admin
» نموذج من بناء الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:39 pm من طرف Admin
» كيف تنشأ الرواية أو المسرحية؟
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:38 pm من طرف Admin
» رواية جديدة
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:26 pm من طرف Admin