صفحة : 611
- ولحنه قيل أول- اعجب به المعتصم والواثق جميعا، فقال له المعتصم: بحياتي اردده على مخارق وعلويه والجماعة ليأخذوه عنك، وانصحهم فيه، فإنهم إن أحسنوا فيه نسب إليك إحسانهم، وإن أساءوا بان فضلك عليهم، فرده عليهم أكثر من مائتي مرة، وكانوا يقصدون إلى منزله ويرده عليهم، ومات وما أخذوا منه علم الله إلا رسمه. الشعر والغناء لإسحاق، ولحنه ثقيل أول.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال: خرجنا مع الرشيد يريد الرقة، فلما صرنا بالموضع الذي يقال له القائم نزلنا، وخرج يتصيد وخرجنا معه، فأبعد في طلب الصيد، ولاح لي دير فقصدته وقد تعبت، فأشرفت على صاحبه، فقال: هل لك في النزول بنا اليوم? فقلت: إي والله، وإني إلى ذلك لمحتاج، فنزل ففتح لي الباب وجلس يحدثني، وكان شيخا كبيرا وقد أدرك دولة بني أمية، فجعل يحدثني عمن نزل به من القوم ومواليهم وجيوشهم وعرض علي الطعام فأجبته، فقدم إلي طعاما من طعام الديارات نظيفا طيبا، فأكلت منه، وأتاني بشراب وريان طري فشربت منه، ووكل بي جارية تخدمني راهبة لم أر أحسن وجها منها ولا أشكل، فشربت حتى سكرت، ونمت وانتبهت عشاء، فقلت في ذلك:
بدير القائم الأقصى غزال شادن أحوى
برى حبي له جسمي ولايعلم ما ألـقـى
وأكتم حبه جهـدي ولا والله مايخفـى وركبت فلحقت بالمعسكر والرشيد قد جلس للشرب وطلبني فلم أوجد. وأخبرت بذلك، فغنيت في الأبيات ودخلت إليه، فقال لي: أين كنت? ويحك، فأخبرته بالخبر وغنيته الصوت، فطرب وشرب عليه حتى سكر، وأخر الرحيل في غد، ومضينا إلى الدير ونزله، فرأى الشيخ واستنطقه، ورأى الجارية التي كانت تخدمني بالأمس فدعا بطعام خفيف فأصاب منه، ودعا بالشراب، وأمر الجارية التي كانت بالأمس تخدمني أن تتولى خدمته وسقيه ففعلت، وشرب حتى طابت نفسه، ثم أمر للدير بألف دينار، وأمر باحتمال خراجه له سبع سنين، فرحلنا.
قال حماد: فحدثني أبي قال: فلما صرنا بتل عزاز من دابق خرجت أنا وأصحاب لي نتنزه في قرية من قراها، فأقمنا بها أياما، وطلبني الرشيد فلم يجدني. فلما رجعت أتيت الفضل بن الربيع فقال لي: أين كنت، طلبك أمير المؤمنين، فأخبرته بنزهتنا فغضب. وخفت من الرشيد أكثر مما لقيت من الفضل فقلت:
إن قلبي بـالـتـل تـل عـزاز عند ظبي من الظباء الجـوازي
شادن يسـكـن الـشـآم وفـيه مع ظرف العراق شكل الحجاز
يالقومي لبنت قـس أصـابـت منك صفو الهوى وليست تجازي
حلفت بالمسيح أن تنـجـزالـوع د وليست تـهـم بـالإنـجـاز وغنيت فيه، ثم دخلت على الرشيد وهو مغضب، فقال: أين كنت? طلبتك فلم أجدك، فاعتذرت إليه وأنشدته هذا الشعر وغنيته إياه، فتبسم وقال: عذر وأبيك وأي عذر وما زال يشرب عليه ويستعيدنيه ليلته جمعاء حتى انصرفنا مع طلوع الفجر. فلما وصلت إلى رحلي إذا برسول أمير المؤمنين قد أتانا يدعونا، فوافيت فدخلت، وإذا ابن جامع يتمرغ على دكان في الدار وهو سكران يتململ، فقال لي: يابن الموصلي، أتدري ما جاء بنا? فقلت: لا والله ما أدري، فقال: لكني والله أدري دراية صحيحة، جاءت بنا نضرانيتك الزانية، عليك وعليها لعنة الله. وخرج الآذن فأذن لنا، فدخلنا. فلما رأيت الرشيد تبسمت، فقال لي: ما يضحكك? فأخبرته بقول ابن جامع، فقال: صدق، ما هو إلا أن فقدتكم فاشتقت إلى ما كنا فيه، فعودوا بنا، فعدنا فيه حتى انقضى مجلسنا وانصرفنا.
لحن إسحاق:
بدير القائم الأقصى خفيف ثقيل بالوسطى. وفيه للقاسم بن زرزور ثقيل أول. ولحنه في:
إن قلبي بالتل تل عزاز خفيف رمل.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثني حماد عن أبيه قال: دخلت على الرشيد يوما في عمامة قد كورتها على رأسي، فقال: ما هذه العمامة كأنك من الأنبار. فلما كان من غد. دعا بنا إليه، فأمهلت حتى دخل المغنون جميعا قبلي، ثم دخلت عليه في آخرهم، وقد شددت وسطي بمشدة حرير أحمر، ولبست لباسا مشتهرا، وأخذت بيدي صفاقتين وأقبلت أخطر وأضرب بالصفاقتين وأغني:
اسمع لصوت ملـيح من صعة الأنبـاري
صوت خفيف ظريف يطيرفـي الأوتـار
صفحة : 612
فبسط يده إلي حتى كاد يقوم، وجعل يقول: أحسنت وحياتي أحسنت أحسنت حتى جلست، ثم شرب عليه بقية يومه، ومااستعاد غيره، وأمر لي بعشرين ألف درهم. لحن إسحاق في هذا الشعر هزج.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال حدثني أحمد بن يحيى المكي قال: كنت عند الفضل بن الربيع، فغنى بعض من كان عنده:
كل شيء منك في عيني حسن ونصيبي منك هـم وحـزن
لاتظـنـي أنـه غـيرنـي قدم العهد ولاطول الـزمـن فقال لي: أتدري لمن هذا? فقلت: لبعض الطنبوريين، فقال: لا ولكنه لذلك الشيطان إسحاق. لحن إسحاق في هذين البيتين رمل بالوسطى من مجموع أغانيه.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال: لما خرجنا مع الرشيد إلى طوس كنت معه أسايره، فاستسقيت ماء من منزل نزلناه يقال له سحنة فخرجت إلينا جارية كأنها ظبية، فسقتني ماء، فقلت هذا الشعر:
غزال يرتعي جنبـات واد بسحنة قد تمكن في فؤادي
سقاني شربة كانت شفـاء لعلة حائم حران صـادي وغنيته الرشيد، فقال لي: أتحب أن أزوجكها? فقلت: نعم والله يا سيدي، قال: فاخطبها والمهر علي وما يصلحها، فخطبتها، فأبى أهلها أن يخرجوها من بلدهم. لحن إسحاق في هذين البيتين ثقيل أول. وفيه لعلويه خفيف رمل.
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق قال: قال لي أبي: ما اغتممت بشيء قط مثل ما اغتممت بصوت مليح صنعته في هذا الشعر.
كان لي قلب أعيش بـه فاكتوى بالنار فاحترقـا
أنا لم أرزق محبـتـهـا إنما للعبـد مـارزقـا
من يكن ماذاق طعم ردى ذاقه لاشك إن عشـقـا فإني صنعت فيه لحنا، وجعلت أردده في جناح لي سحرا، فأظن أن إنسانا من العامة مر بي فسمعه فأخذه، فبكرت من غد إلى المعتصم لأغنيه، فإذا أنا بسواط يسوط الناطف وهو يغني اللحن بعينه إلا أنه غناء فاسد. فعجبت وقلت: ترى من أين لهذا السواط هذا الصوت ولعلي إذ غنيته أن يكون قد مر بي هذا فسمعني أغنيه، وبقيت متحيرا، ثم قلث يا فتى، ممن سمعت هذا الصوت. فلم يجبني والتفت إلى شريكه، وقال: هذا يسألني ممن سمعته هذا غنائي، والله لو سمعه إسحاق الموصلي لخرىء في سراويله. فبادرت والله هاربا خوف أن يمر بي إنسان فيسمع ما جرى علي فأفتضح، وما علم الله أني نطقت بذلك الصوت بعدها.
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق قال: كتب إبراهيم بن المهدي إلى أبي: أي شيء تصحيف: لا يريح مثل الأسنة. فكتب إليه أبي: تصحيفه: لا يرث جميل إلا بثينة فكتب إليه: وي منك.
أخبرنا جعفر قال حدثنا حماد عن أبيه قال: دخلت يوما على جعفر بن يحيى، فرأى شفتي تتحركان بشيء كنت أعمله، فقال: أتدعو أم تصنع ماذا? فقلت: بل أمدح، قال: قل، فقلت:
وكنت إذا إذن عليك جرى لنا تجلى لنا وجه أغر وسـيم
علانية محمـودة وسـريرة وفعل يسرالمعتفين كـريم فاحتبسني وأمر لي بمال جليل وكسوة، وقال: زد البيتين حسنا بأن تصنع فيهما لحنا، فصنعت لحنا من الثقيل الثاني، فلم يزل يشرب عليهما حتى سكر.
صفحة : 613
أخبرنا محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه أنه حدثه قال: غدوت يوما وأنا ضجر من ملازمة دار الخلافة والخدمة فيها فخرجت وركبت بكرة، وعزمت على أن أطوف الصحراء وأتفرج فقلت لغلماني: إن جاء رسول الخليفة أو غيره فعرفوه أني بكرت في بعض مهماتي، وأنكم لا تعرفون أين توجهت، ومضيت وطفت ما بدا لي، ثم عدت وقد حمي النهار فوقفت في الشارع المعروف بالمخرم في فناء ثخين الظل وجناح رحب على، الطريق لأستريح. فلم ألبث أن جاء خادم يقود حمارا فارها عليه جارية راكبة، تحتها منديل دبيقي وعليها من اللباس الفاخر ما لا غاية بعده، ورأيت لها قواما حسنا وطرفا فاترا وشمائل حسنة، فخرصت عليها أنها مغنية، فدخلت الدار التي كنت واقفا عليها. ثم لم ألبث أن جاء رجلان شابان جميلان، فاستأذنا فأذن لهما فنزلا ونزلت معهما ودخلت، فظنا أن صاحب الدار دعاني وظن صاحب الدار أني معهما فجلسنا، وأتي بالطعام فأكلنا وبالشراب فوضع، وخرجت الجارية وفي يدها عود فغنت وشربنا، وقمت قومة، وسأل صاحب المنزل الرجلين عني فأخبراه أنهما لا يعرفاني، فقال: هذا طفيلي، ولكنه ظريف، فأجملوا عشرته. وجئت فجلست، وغنت الجارية في لحن لي:
ذكرتك أن مرت بنـا أم شـادن أمام المطايا تشرئب وتسـنـح
من المؤلفات الرمل أدماء حرة شعاع الضحى في متنها يتوضح فأدته أداء صالحا وشربت. ثم غنت أصواتا شتى، وغنت في أضعافها من صنعتي:
الطلول الدوارس فارقتها الأوانس
أوحشت بعد أهلها فهي قفر بسابس فكان أمرها فيه أصلح منه في الأول. ثم غنت أصواتا من القديم والحديث، وغنت في أثنائها من صنعتي:
قل لمن صد عاتبا ونأى عنك جانبـا
قد بلغت الذي أرد ت وإن كنت لاعبا فكان أصلح ما غنته، فاستعذته منها لأصححه لها، فأقبل علي رجل من الرجلين وقال: ما رأيت طفيليا أصفق وجها منك لم ترض بالتطفيل حتى اقترحت، وهذا غاية المثل طفيلي مقترح، فأطرقت ولم أجبه، وجعل صاحبه يكفه عني فلا يكف. ثم قاموا للصلاة وتأخرت قليلا، فأخذت عود الجارية، ثم شددت طبقته وأصلحته، إصلاحا محكما، وعدت إلى موضعي فصليت، وعادوا، ثم أخذ ذلك الرجل في عربدته علي وأنا صامت، ثم أخذت الجارية العود فجسته وأنكرت حاله وقالت: من مس عودي? قالوا: ما مسه أحد قالت: بلى، والله لقد مسه حاذق متقدم وشد طبقته وأصلحه إصلاح متمكن من صناعته، فقلت لها: أنا أصلحته قالت: فبالله خذه واضرب به، فأخذته وضربت به مبدأ صحيحا ظريفا عجيبا صعبا، فيه نقرات محركة، فما بقي أحد منهم إلا وثب أعلى قدميه، وجلس بين يدي، ثم قالوا: بالله يا سيدنا أتغني? فقلت: نعم، وأعرفكم نفسي، أنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، ووالله إني لأتيه على الخليفة إذا طلبني وأنتم تسمعونني ما أكره منذ اليوم لأني تملحت معكم، فوالله لا نطقت بحرف ولا جلست معكم حتى تخرجوا هذا المعربد المقيت الغث، فقال له صاحبه: من هذا حذرت عليك، فأخذ يعتذر، فقلت: والله لا نطقت بحرف ولا جلست معكم حتى يخرج، فأخذوا بيده فأخرجوه وعادوا. فبدأت وغنيت الأصوات التي غنتها الجارية من صنعتي، فقال لي الرجل: هل لك في خصلة? قلت: ما هي? قال: تقيم عندي شهرا، والجارية والحمار لك مع ما عليها من حلي، قلت: أفعل، فأقمت عنده ثلاثين يوما لا يدري أحد أين أنا، والمأمون يطلبني في كل موضع فلا يعرف لي خبرا. فلما كان بعد ثلاثين يوما أسلم إلي الجارية والحمار والخادم، فجئت بذلك إلى منزلي، وركبت إلى المأمون من وقتي، فلما رأني قال: إسحاق ويحك أين تكون? فأخبرته بخبري? فقال: علي بالرجل الساعة? فدللتهم على بيته فأحضر، فسأله المأمون عن القصة فأخبره، فقال له: أنت رجل ذو مروءة وسبيلك أن تعاون عليها، وأمر له بمائة ألف درهم، وقال: لا تعاشرن ذلك المعربد النذل البتة وأمر لي بخمسين ألف درهم، وقال: احضرني الجارية، فأحضرتها فغنته، فقال لي: قد جعلت لها نوبة في كل يوم ثلاثاء تغنيني وراء الستارة مع الجواري، وأمر لها بخمسين ألف درهم. فربحت والله بتلك الركبة وأربحت.
ذكرتك أن مرت بنا أم شادن أمام المطايا تشرئب وتسنح
صفحة : 614
من المؤلفات الرمل أدماء حرة شعاع الضحى في متنها يتوضح الشعر لذي الرمة. والغناء لإسحاق ثقيل أول بالسبابة والوسطى، عن ابن المكي. ومن أغاني إسحاق:
قل لمن صد عاتبا ونأى عنك جانبـا
قد بلغت الذي أرد ت وإن كنت لاعبا
الطلول الـدوارس فارقتها الأوانـس
أوحشت بعد أهلها فهي قفر بسابس الشعر لابن ياسين، شاعر مجهول قليل الشعر، كان صديقا لإسحاق. والغناء لإسحاق خفيف ثقيل. وهذا الصوت من أوابد إسحاق وبدائعه.
أخبرني عمي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال: كنت عند الواثق، فغنته شجى التي وهبها له إسحاق هذا الصوت، فقال لمخارق وعلويه: والله لو عاش معبد ما شق غبار إسحاق في هذا الصوت فقالا له: إنه لحسن يا أمير المؤمنين، فغضب وقال: ليس عندكما فيه إلا هذا ثم أقبل على أحمد بن المكي فقال: دعني من هذيه الأحمقين، أول بيت في هذا الصوت أربع كلمات: الطلول كلمة، و لا الدوارس كلمة، وفارقتها كلمة، و الأوانس كلمة، فانظر هل ترك إسحاق شيئا من الصنعة يتصرف فيه المغني لم يدخله في هذه الكلمات الأربع بدأ بها نشيدا، وتلاه بالبسيط، وجعل فيه صياحا، وإسجاحا، وترجيحا للنغم، واختلاسا فيها، وعمل هذا كله في أربع كلمات، فهل سمعت أحدا تقدم أو تأخر فعل مثل هذا أو قدر عليه? فقال: صدق أمير المؤمنين، فد لحق من قبله وسبق من بعده.
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني إسحاق قال: لما خرجت مع الواثق إلى النجف درنا بالحيرة ومررنا بدياراتها، فرأيت دير مريم وحسن بنائه، فقلت:
نعم المحل لمن يسعى للـذتـه دير لمريم فوق الظهر معمور
ظل ظليل وماء غير ذي أسـن وقاصرات كأمثال الدمى حور فقال الواثق: لا نصطبح والله غدا إلا فيه، وأمر بأن يعد فيه ما يصلح من الليل، وباكرناه فاصطبحنا فيه على هذا الصوت، وأمر بمال ففرق على أهل ذلك الدير، وأمر لي بجائزة. لحن إسحاق في هذين البيتين ثاني ثقيل بالبنصر.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: أخرج إلي عبدالله بن طاهر يوما بيتي شعر في رقعة وقال: هذان البيتان وجدتهما على بساط طبري أصبهبذي أهدى إلي من طبرستان، فأحب أن تغنيني فيهما، فقرأتهما فإذا هما:
لج بالعـين واكـف من هوى لايساعف
كلما كف غربـهـا هيجته المعـارف قال: فغنيت فيهما وغدوت بهما إليه، فأعجب بالصوت ووصلني بصلة سنية، وكان يشتهيه ويقترحه، وطرحته على جميع جواريه، وشاع خبر إعجابه به، فبينا المعتصم يوما جالس يعرض عليه فرش الربيع، إذ مر به بساط ديباج في نهاية الحسن عليه هذان البيتان ومعهما:
إنما الموت أن تفا رق من أنت آلف
لك حبان في الفؤا د تليد وطـارف فأمر بالبساط فحمل إلى عبدالله بن طاهر، وقال للرسول: قل له: إني قد عرفت شغفك بالغناء في هذا الشعر، فلما وقع هذا البساط أحببت أن أتم سرورك به. فشكر عبدالله ما تأذى إليه من هذه الرسالة وأعظم مقداره، وقال لي: والله يا أبا محمد لسروري بتمام الشعر أشد من سروري بكل شيء، فألحقهما في الغناء بالبيتين الأولين، فألحقتهما.
لج بالعـين واكـف من هوى لا يساعف
كلما كف غربـهـا هيجته المـعـازف
إنما الموت أن تفـا رق من أنت آلـف
لك حبان في الفـؤا د تلـيد وطـارف ولم أعرف من خبر شاعره غير ما ذكرته في هذا الخبر. والغناء لإسحاق هزج بالوسطى.
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني عن ابن المكي عن أبيه قال: قلت لإسحاق يوما: يا أبا محمد، كم تكون صنعتك. فقال: ما بلغت مائتين قط.
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا حماد بن إسحاق قال:
صفحة : 615
قال لي وكيل بن الحروني: قلت لأبيك إسحاق: يا أبا محمد، كم يكون غناؤك. قال: نحوا من أربعمائة صوت. قال: وقال له رجل بحضرتي: مالك لا تكثر الصنعة كما يكثر الناس. قال: لأني إنما أنقر في صخرة. ولإسحاق أخبار كثيرة قليلة الفائدة كثيرة الحشو، طرحتها لذلك، وله أخبار أخر حسن ذكرها في مواضع تليق بها فأخرتها واحتبستها عليها وفيما ذكرته هاهنا منها مقنع.
وتوفي إسحاق ببغداد في أول خلافة المتوكل. فأخبرني الصولي قال ذكر إبراهيم بن محمد الشاهيني: أن إسحاق كان يسأل الله ألا يبتليه بالقولنج لما رأى من صعوبته على أبيه، فرأى في منامه كأن قائلا يقول له: قد اجيبت دعوتك ولست تموت بالقولنج، ولكنك تموت بضده، فأصابه ذرب في شهر رمضان سنة خمس وثلاثين ومائتين، فكان يتصدق في كل يوم أمكنه أن يصومه بمائة درهم، ثم ضعف عن الصوم فلم يطقه ومات في شهر رمضان.
نعي إسحاق إلى المتوكل في وسط خلافته، فغمه وحزن عليه، وقال: ذهب صدر عظيم من جمال الملك وبهائه وزينته، ثم نعي إليه بعمه أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فقال: تكافأت الحالتان، وقام الفتح بوفاة أحمد وما كنت آمن وثبته علي مقام الفجيعة بإسحاق، فالحمد لله على ذلك.
حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني رجل من الكتاب من أهل قطربل قال حدثني أبي عن أبيه قال: رأيت فيما يرى النائم قائلا يقول لي:
مات الحسان ابن الحسا ن ومات إحسان الزمان فأصبحت من غد فركبت في بعض حوائجي، فتلقاني خبر وفاة إسحاق الموصلي.
وقال إدريس بن أبي حفصة يرثي إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
سقي الله يابن الموصلي بوابل من الغيث قبرا أنت فيه مقيم
ذهبت فأوحشت الكرام فمايني بعبرته يبكي علـيك كـريم
إلى الله أشكو فقد إسحاق إنني وإن كنت شيخا بالعراق يتيم وقال محمد بن عمرو الجرجاني يرثيه:
على الحدث الشرقي عوجا فسلمـا ببغداد لما ضـن عـنـه عـوائده
وقولا له لو كان للـمـوت فـدية فداك من الموت الطريف وتالـده
أإسحاق لا تبعد وإن كان قد رمـى بك الموت وردا ليس يصدر وارده
إذا هزل اخضرت فنون حـديثـه ورقت حواشيه وطابت مشاهـده
إن جد كان القول جدا وأقسـمـت مخارجه ألا تـلـين مـعـاقـده
فبك على ابن الموصلي بـعـبـرة كما ارفض من نظم الجمان فرائده وققال مصعب بن عبد الله الزبيري يرثيه نسخت ذلك من كتاب جعفر بن قدامة، وذكر أن حماد بن إسحاق انشده إياها ونسخته أيضا من كتاب الحرمي بن أبي العلاء يذكر فيه عن الزبير عن عمه مصعب أنه أنشده لنفسه يرثثي إسحاق:
أتدري لمن تبكي العيون الـذوارف وينهل منها واكـف ثـم واكـف
نعم لامرئ لم يبق في الناس مثلـه مفيد لعلم أو صـديق مـلاطـف
تجهز إسحاق إلـى الـلـه غـاديا فلله ما ضمـت عـلـيه الـلائف
وما حمل النعش المزجى عـشـية إلى القبر إلا دامع العـين لاهـف
صدورهم مرضى علـيه عـمـيدة لها أزمة مـن ذكـره وزفـازف
ترى كل محزون تفيض جفـونـه دموعا على الخدين والوجه شاسف
جزيت جزاء المحسنين مضاعـفـا كما كان جدواك الندى المتضاعف
فكم لك فينا مـن خـلائق جـزلة سبقت بها منها حـديث وسـالـف
هي الشهد أو أحلى إلينـا حـلاوة من الشهد لم يمزج به الماء غارف
ذهبت وخليت الصـديق بـعـولة به أسف من حزنـه مـتـرادف
إذا خطرات الذكر عاودن قـلـبـه تتابع منهن الشـؤون الـنـوازف
حبيب إلى الإخوان يرزون مـالـه وآت لما يأتي امرؤ الصدق عارف
هو المن والسلوى لمن يسـتـفـيده وسم على من يشرب السم زاعف
بكت داره من بعـده وتـنـكـرت معالم من آفاقـهـا ومـعـارف
فما الدار بالدار التي كنت أعتـري وإني بها لولا افتقـاديك عـارف
صفحة : 616
هي الدار إلا أنها قد تخـشـعـت وأظلم منها جانب فهو كـاسـف
وبان الجمال والفعال كـلاهـمـا من الدار واستنت عليها العواصف
خلت داره من بعده فـكـأنـمـا بعاقبة لم يغن في الدار طـارف
وقد كان فيها للصديق مـعـرس وملتمس إن طاف بالدار طـائف
كرامة إخوان الصـفـاء وزلـفة لمن جاء تزجيه إليه الـرواجـف
صحابته الغر الكـرام ولـم يكـن ليصحبه السود اللئام المـقـارف
يؤول إليه كـل أبـلـج شـامـخ ملوك وأبناء الملوك الغـطـارف
فلقيت في يمنـى يديك صـحـيفة إذا نشرت يوم الحساب الصحائف
يسر الذي فيهـا إذا مـا بـدا لـه ويفتر منها ضاحكا وهو واقـف
بما كان ميمونا على كل صاحـب يعين على ما نـابـه ويكـانـف
سريع إلى إخـوانـه بـرضـائه وعن كل ماساء الأخلاء صارف
أرى الناس كالنسناس لم يبق منهـم خلافك إلاحـشـوة وزعـانـف أخبرنا يحيى بن علي قال: أنشدني أبو أيوب لأحمد بن إبراهيم يرثي إسحاق في قصيدة له:
لقد طاب الحمام غداة ألوى بنفس أبي محمد الحمـام
فلو قبل الفداء إذا فـدتـه ملوك كان يألفهـا كـرام
فلاتبعد فكل فتى سيثـوى عليه الترب يحثى والرجام قال وقال أيضا يرثيه:
لله أي فتى إلـى دار الـبـلـى حمل الرجال ضحى على الأعواد
كم من كريم ما تجف دمـوعـه من حاضر يبكي عـلـيه وبـاد
أمسى يؤبنه ويعرف فـضـلـه من كان يثلبه مـن الـحـسـاد
فسقتك يا بن الموصـلـي روائح تروى صداك بصوبهـا وغـواد وقد بقيت من أخبار إسحاق بقايا مثل أخباره مع بني هاشم، وأخباره مع إبراهيم بن المهدي وغيرها، فإنها كثيرة، ولها مواضع ذكرت فيها وحسن ذكرها هنالك، فأخرتها لذلك عن أخباره التي ذكرت هاهنا، حسبما شرطنا في أول الكتاب.
ألا قاتل الله اللوى مـن مـحـلة وقاتل دنيانا بـهـا كـيف ذلـت
غنينا زمانا باللوى ثم أصبـحـت عراص اللوى من أهلها قد تخلت عروضه من الطويل. الشعر للصمة القشيري، والغناء لإسحاق، ولحنه المختار ثقيل أول بالوسطى في مجراها.
الجزء السادس
بسم الله الرحمن الرحيم
أخبار الصمة القشيري
نسبه
هو الصمة بن عبدالله بن الطفيل بن قرة بن هبيرة بن عامربن سلمة الخيربن قشيربن كعب بن ربيعة بن عامربن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار.
شاعر إسلامي بدوي مقل، من شعراء الدولة الاموية. ولجده قزة بن هبيرة صحبة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أحد وفود العرب الوافدين عليه صلى الله عليه وسلم واله.
وفد جده قرة على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم: أخبرني بخبره عبيد الله بن محمد الرازي. وعمي قالا حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي بكر الهذلي وابن دأب وغيرهما من الرواة قالوا: وفد قرة بن هبيرة بن عامر بن سلمة الخيربن قشيربن كعب بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، وقال له: يا رسول الله، إنا كنا نعبد الآلهة لا تنفعنا ولا تضرنا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعم ذا عقلا .
وقال ابن دأب: وكان من خبر الصمة أنه هوي امرأة من قومه ثم من بنات عمه دنية يقال لها العامرية بنت غطيف بن حبيب بن قرة بن هبيرة، فخطبها إلى أبيها فأبى أن يزوجه إياها، وخطبها عامر بن بشر بن أبي براء بن مالك بن ملاعب الأسنة بن جعفر بن كلاب، فزوجه إياها. وكان عامر قصيرا قبيحا، فقال الصمة بن عبدالله في ذلك:
فإن تنكحوها عامرا لاطلاعكم إليه يدهدهكم برجليه عامـر شبهه بالجعل الذي يدهده البعرة برجليه.
صفحة : 617
فال: فلما بنى بها زوجها، وجد الصمة بها وجدا شديدا وحزن عليها، فزوجه أهله امرأة منهم يقال لها جبرة بنت وحشي بن الطفيل بن قرة بن هبيرة، فأقام عليها مقاما يسيرأ، ثم رحل إلى الشأم غضبا على قومه، وخلف امرأته فيهم، وقال لها:
كليم التمرحتى تهرم النخل واضفري خطامك ماتدرين ما اليوم من أمس وقال فيها أيضا:
لعمري لئن كنتم على النأى والقلـى بكم مثل ما بي إنـكـم لـصـديق
إذا زفرات الحب صعدن في الحشى رددن ولم تنهـج لـهـن طـريق وقال فيها أيضا:
إذا ما أتتنا الريح من نحو أرضكم أتتنا برياكم فطاب هبـوبـهـا
أتتنا بريح المسك خالط عنـبـرا وريح الخزامى باكرتها جنوبها وقال فيها أيضا:
هل تجزيني العامـرية مـوقـفـي على نسوة بين الحمى وغضى الجمر
مررن بأسباب الصبا فـذكـرنـهـا فأومأت إذ ما من جواب ولا نـكـر وقال ابن دأب: وأخبرني جماعة من بني قشير أن الصمة خرج في غزي من المسلمين إلى بلد الديلم فمات بطبرستان.
قال ابن دأب: وأنشدني جماعة من بني قشير للصمة:
ألا تسألان الله أن يسقي الحـمـى بلى فسقى الله الحمى والمطالـيا
وأسأل من لاقيت هل مطرالحمى فهل يسألن عني الحمى كيف حاليا الغناء في هذين البيتين لإسحاق، ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى، وهو من مختار الأغاني ونادرها.
أخبرني محمد بن خلف وكيع وعمي قالا حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال قال عبدالله بن محمد بن إسماعيل الجعفري حدثنا عبدالله بن إسحاق الجعفري عن عبد العزيز بن أبي ثابت قال حدثني رجل من أهل طبرستان كبير السن قال: بينا أنا يوما أمشي. في ضيعة لي فيها ألوان من الفاكهة والزعفران وغير ذلك من الأشجار، إذ أنا بإنسان في البستان مطروح عليه أهدام خلقان، فدنوت منه فإذا هو يتحرك ولا يتكلم، فأصغيت إليه فإذا هو يقول بصوت خفي:
تعز بصبـر لا وجـدك لا تـرى بشام الحمى أخرى الليالي الغوابر
كأن فؤادي من تذكره الحـمـى وأهل الحمى يهفو به ريش طائر قال: فما زال يردد هذين البيتين حتى فاضت نفسه، فسألت عنه فقيل لي: هذا الصمة بن عبدالله القشيري.
كان ابن الأعرابي يستحسن شعرا له: أخبرني عمي قال حدثنا الخراز أحمد بن الحارث قال: كان ابن الأعرابي يستحسن قول الصمة:
أما وجلال الله لو تذكـرينـنـي كذكريك ما كفكفت للعين مدمعا
فقالت بلى والله ذكرا لـو أنـه يصب على صم الصفا لتصدعا غنى في هذين البيتين عبيد الله بن أبي غسان ثاني ثقيل بالوسطى. وفيهما لعريب خفيف رمل:
ولما رأيت البشر قـد حـال بـينـن وجالت بنات الشوق في الصدر نزعا
تلفث نحو الحي حتـى وجـدتـنـي وجعت من الإصغاء ليتا وأخـدعـا أخبرني أبو الطيب بن الوشاء قال: قال لي إبراهيم بن محمد بن سليمان الأزدعي: لو حلف حالف أن أحسن أبيات قيلت في الجاهلية والإسلام في الغزل قول الصمة القشيري ما حنث:
حننت إلى ريا ونفسك بـاعـدت مزارك من ريا وشعباكما معـا
فما حسن أن تأتي الأمر طائعـا وتجزع أن داعي الصبابة أسمعا
بكت عيني اليمنى فلما زجرتهـا عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
وأذكر أيام الحمى ثم أنـثـنـي على كبدي من خشية أن تصدعا
فليست عشيات الحمى برواجـع عليك ولكن خل عينيك تدمعـا غنت في هذين البيتين قرشية الزرقاء لحنا من الثقيل الأول عن الهشامي. وهذه الأبيات التي أولها حننت إلى ريا تروى لقيس بن ذريح في أخباره وشعره بأسانيد قد ذكرت في مواضعها، ويروى بعضها للمجنون في أخباره، بأسانيد قد ذكرت أيضا في أخباره. والصحيح في البيتين الأولين أنهما لقيس بن ذريح وروايتهما له، آثبت، وقد تواترت الروايات بأنهما له من عدة طرق، والأخر مشكوك فيها أهي للمجنون أم للصمة.
صفحة : 618
أنشدنا محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم للصمة القشيري قال: وكان أبو حاتم يستجيدهما، وأنشدنيهما عمي عن الكراني عن أبي حاتم، وأنشدنيهما الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن أبي حاتم:
إذا نأت لم تفارقنـي عـلاقـتـهـا وإن دنت فصدود العاتب الـزاري
فحـال عـينـي مـن يومـــيك واحدة تبكي لفرط صدود أونوى دار أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبيد الله بن إسحاق بن سلام قال حدثني أبي عن شعيب بن صخر عن بعض بني عقيل قال: مررت بالصمة بن عبدالله القشيري يوما وهو جالس وحده يبكي ويخاطب نفسه ويقول: لا والله ما صدقتك فيما قالت، فقلت: من تعني. ويحك أجننت قال: اعني التي أقول فيها:
أما وجلال الله لو تذكرينـنـي كذكريك ماكفكفت للعين مدمعا
فقالت بلى والله ذكرا لـوأنـه يصب على صم الصفا لتصدعا أسلي نفسي عنها وأخبرها أنها لو ذكرتني كما قالت لكانت في مثل حالي.
أخبرني عمي قال حدثنا عبدالله بن أبي سعد قال حدثني مسعود بن عيسى بن إسماعيل العبدي عن موسى بن عبدالله التيمي قال.
خطب الصمة القشيري بنت عمه وكان لها محبا، فاشتط عليه عمه في المهر فسأل أباه أن يعاونه وكان كثير المال فلم يعنه بشيء فسأل عشيرته فأعطوه، فأتى بالإبل عمه، فقال: لا أقبل هذه في مهر ابنتي، فاسأل أباك أن يبدلها لك فسأل ذلك أباه فأبى عليه، فلما رأى ذلك من فعلهما قطع عقلها وخلاها، فعاد كل بعير منها إلى ألافه. وتحمل الصفة راحلا. فقالت بنت عمه حين رأته يتحمل: تالله ما رأيت كاليوم رجلا باعته عشيرته بأبعرة. ومضى من وجهه حتى لحق بالثغر فقال وقد طال مقامه واشتاقها وندم على فعله:
أتبكي على ريا ونفسك باعـدت مزارك من ريا وشعباكما معـا
فماحسن أن تأتي الأمرطـائعـا وتجزع أن داعي الصبابة أسمعا وقد أخبرني بهذا الخبر جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي: أن الصمة خطب ابنة عمه هذه إلى أبيها فقال له: لا أزوجكها إلا على كذا وكذا من الإبل، فذهب إلى أبيه فأعلمه بذلك وشكا إليه ما يجد بها فساق الإبل عنه إلى أخيه فلما جاء بها عدها عمه فوجدها تنقص بعيرا، فقال: لا آخذها إلا كاملة، فغضب أبوه وحلف لا يزيده على ما جاء به شيئا. ورجع إلى الصمة، فقال له: ما وراءك. فأخبره، فقال: تالله ما رأيت قط ألأم منكما جميعاة وإني لألأم منكما إن أقمت بينكما ثم ركب ناقته ورحل إلى ثغر من الثغور، فأقام به حتى مات. وقال في ذلك:
أمن ذكر دار بالرقاشين أصبـحـت بها عاصفات الصيف بدءأ ورجعـا
حننت إلى ريا ونفسـك بـاعـدت مزارك من ريا وشعباكما مـعـا
فما حسن أن تأتي الأمـر طـائعـا وتجزع أن داعي الصبابة أسمعـا
كأنك لم نـشـهـد وداع مـفـارق ولم ترشعبي صاحبين تقـطـعـا
بكت عيني اليسرى فلما زجرتـهـا عن الجهل بعد الحلم أسبلتا مـعـا
تحمل أهلي من قـنـين وغـادروا به أهل ليلى حين جيد وأمـرعـا
ألا يا خليلـي الـلـذين تـواصـيا بلومي إلا أن أطـيع وأسـمـعـا
قفا إنه لا بد مـن رجـع نـظـرة يمانية شتى بها الـقـوم أو مـعـا
لمغتصب قد عزه الـقـوم أمـره حياء يكف الدمع أن يتـطـلـعـا
تبرض عينيه الصـبـابة كـلـمـا دنا الليل أو أوفى من الأرض ميفعا
فليست عشيات الحمـى بـرواجـع إليك ولكن خل عينـيك تـدمـعـا
قل لأسماء أنـجـزي الـمـيعـادا وانظري أن تـزودي مـنـك زادا
إن تكوني حللت ربعا مـن الـشـأ م وجـاورت حـمـيرا أومـرادا
أوتناءت بك النـوى فـلـقـد قـد ت فؤادي لـحـينـه فـانـقـادا
ذاك أني علقت منـك جـوى الـح ب ولـيدا فـزدت سـنـا فـزادا
صفحة : 619
الشعر لداود بن سلم. والغناء لدحمان، ولحنه المختار من الثقيل الأول بالوسطى. وقد كنا وجدنا هذا الشعر في رواية علي بن يحيى عن إسحاق منسوبا إلى المرقش، وطلبناه في أشعار المرقشين جميعا فلم نجده، وكنا نظنه من شاذ الروايات حتى وقع إلينا في شعر داود بن سلم، وفي خبر أنا ذاكره في أخبار داود. وإنما نذكر ما وقع إلينا عن رواته، فما وقع من غلط فوجدناه أو وقفنا على صحته أثبتناه وأبطلنا ما فرط منا غيره، وما لم يجر هذا المجرى فلا ينبغي لقارىء هذا الكتاب أن يلزمنا لوم خطأ لم نتعمده ولا اخترعناه، وإنما حكيناه عن رواته واجتهدنا في الإصابة. وإن عرف صوابا مخالفا لما ذكرناه وأصلحه، فإن ذلك لا يضره ولا يخلو به من فضل وذكر جميل إن شاء الله.
أخبار داود بن سلم ونسبه
داود بن سلم مولى بني تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، ثم يقول بعض الرواة: إنه مولى آل أبي بكر، ويقول بعضهم: إنه مولى آل طلحة. وهو مخضرم من شعراء الدولتين الأموية والعباسية، من ساكني المدينة، يقال له داود الآدم وداود الأرمك. وكان من أقبح الناس وجها.
وكان سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف يستثقله، فرآه ذات يوم يخطر خطرة منكرة فدعا به، وكان يتولى المدينة، فضربه ضربا مبرحا. وأظهر أنه إنما فعل ذلك به من أجل الخطرة التي تخايل فيها في مشيته. فقال بعض الشعراء في ذلك وأظنه ابن رهيمة:
ضرب العادل سعـد ابن سلم في السماجه
فقضى الله لسـعـد من أميركل حاجـه أخبرني محمد بن سليمان الطوسي قال حدثنا الزبير بن بكار قال: سألت محمد بن موسى بن طلحة عن داود بن سلم، هل هو مولاهم? فقال: كذلك يقول الناس، هو مولانا، أبوه رجل من النبط، وأمه بنت حوط مولى عمر بن عبيد الله بن معمر فانتسب إلى ولاء أمه. وفي ذلك يقول ويمدح ابن معمر:
وإذا دعا الجاني النصير لنصـره وأرتني الغرر النصيرة معمـر
متخازرين كـأن أسـد خـفـية بمقامها مستـبـسـلات تـزأر
متجاسرين بحمل كـل مـلـمة متجبرين على الذي يتـجـبـر
عسل الرضا فإذا أردت خصامهم خلط الشمام بفيك صاب مفقـر
لا يطبعون ولا ترى أخلاقـهـم إلا تطيب كما يطيب العنـبـر
رفعوا بناي بعتق حـؤط دتـية جدي وفضلهم الذي لا ينـكـر أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق الموصلي قال: كان داود بن سلم مولى بني تيم بن مرة، وكان يقال له: الآدم لشدة سواده، وكان من أبخل الناس فطرقه قوم وهو بالعقيق، فصاحوا به: العشاء والقرى يابن سفم، فقال لهم: لا عشاء لكم عندي ولا قرى، قالوا: فأين قولك في قصيدتك إذ تقول فيها:
يا دار هنل ألا حـييت مـن دار لم أمض منك لباناتي وأوطـاري
عودت فيها إذاما الضيف نبهـنـي عقرالعشار على يسري وإعساري قال: لستم من أولئك الذين عنيت.
قال: ودخل على السري بن عبدالله الهاشمي، وقد أصيب بابن له فوقف بين يديه ثم أنشده:
يا من على الأرض من عجم ومن عرب استرجعوا خاست الـدنـيا بـعـبـاس
فجعت من سبعة قد كـنـت آمـلـهـم من ضنء والدهم بـالـسـيد الـراس قال: وداود بن سلم الذي يقول:
قل لأسماء أنجزي المـيعـادا وانظري أن تزودي منك زادا
إن تكوني حللت ربعا من الشأ م وجاورت حميرا أومـرادا
أوتناءت بك النوى فلقـد قـد ت فؤادي لحينه فـانـقـادا
ذاك أني علقت منك جوى الح ب وليدا فزدت سنـا فـزادا قال أبو زيد: أنشدنيها أبو غسان محمد بن يحيى وإبراهيم بن المنذر لداود بن سلم.
يادار هند ألا حـييت مـن دار لم أقض منك لباناتي وأوطاري أخبرنا الطوسي قال حدثنا الزبير قال أخبرني مصعب بن عثمان قال:
- ولحنه قيل أول- اعجب به المعتصم والواثق جميعا، فقال له المعتصم: بحياتي اردده على مخارق وعلويه والجماعة ليأخذوه عنك، وانصحهم فيه، فإنهم إن أحسنوا فيه نسب إليك إحسانهم، وإن أساءوا بان فضلك عليهم، فرده عليهم أكثر من مائتي مرة، وكانوا يقصدون إلى منزله ويرده عليهم، ومات وما أخذوا منه علم الله إلا رسمه. الشعر والغناء لإسحاق، ولحنه ثقيل أول.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال: خرجنا مع الرشيد يريد الرقة، فلما صرنا بالموضع الذي يقال له القائم نزلنا، وخرج يتصيد وخرجنا معه، فأبعد في طلب الصيد، ولاح لي دير فقصدته وقد تعبت، فأشرفت على صاحبه، فقال: هل لك في النزول بنا اليوم? فقلت: إي والله، وإني إلى ذلك لمحتاج، فنزل ففتح لي الباب وجلس يحدثني، وكان شيخا كبيرا وقد أدرك دولة بني أمية، فجعل يحدثني عمن نزل به من القوم ومواليهم وجيوشهم وعرض علي الطعام فأجبته، فقدم إلي طعاما من طعام الديارات نظيفا طيبا، فأكلت منه، وأتاني بشراب وريان طري فشربت منه، ووكل بي جارية تخدمني راهبة لم أر أحسن وجها منها ولا أشكل، فشربت حتى سكرت، ونمت وانتبهت عشاء، فقلت في ذلك:
بدير القائم الأقصى غزال شادن أحوى
برى حبي له جسمي ولايعلم ما ألـقـى
وأكتم حبه جهـدي ولا والله مايخفـى وركبت فلحقت بالمعسكر والرشيد قد جلس للشرب وطلبني فلم أوجد. وأخبرت بذلك، فغنيت في الأبيات ودخلت إليه، فقال لي: أين كنت? ويحك، فأخبرته بالخبر وغنيته الصوت، فطرب وشرب عليه حتى سكر، وأخر الرحيل في غد، ومضينا إلى الدير ونزله، فرأى الشيخ واستنطقه، ورأى الجارية التي كانت تخدمني بالأمس فدعا بطعام خفيف فأصاب منه، ودعا بالشراب، وأمر الجارية التي كانت بالأمس تخدمني أن تتولى خدمته وسقيه ففعلت، وشرب حتى طابت نفسه، ثم أمر للدير بألف دينار، وأمر باحتمال خراجه له سبع سنين، فرحلنا.
قال حماد: فحدثني أبي قال: فلما صرنا بتل عزاز من دابق خرجت أنا وأصحاب لي نتنزه في قرية من قراها، فأقمنا بها أياما، وطلبني الرشيد فلم يجدني. فلما رجعت أتيت الفضل بن الربيع فقال لي: أين كنت، طلبك أمير المؤمنين، فأخبرته بنزهتنا فغضب. وخفت من الرشيد أكثر مما لقيت من الفضل فقلت:
إن قلبي بـالـتـل تـل عـزاز عند ظبي من الظباء الجـوازي
شادن يسـكـن الـشـآم وفـيه مع ظرف العراق شكل الحجاز
يالقومي لبنت قـس أصـابـت منك صفو الهوى وليست تجازي
حلفت بالمسيح أن تنـجـزالـوع د وليست تـهـم بـالإنـجـاز وغنيت فيه، ثم دخلت على الرشيد وهو مغضب، فقال: أين كنت? طلبتك فلم أجدك، فاعتذرت إليه وأنشدته هذا الشعر وغنيته إياه، فتبسم وقال: عذر وأبيك وأي عذر وما زال يشرب عليه ويستعيدنيه ليلته جمعاء حتى انصرفنا مع طلوع الفجر. فلما وصلت إلى رحلي إذا برسول أمير المؤمنين قد أتانا يدعونا، فوافيت فدخلت، وإذا ابن جامع يتمرغ على دكان في الدار وهو سكران يتململ، فقال لي: يابن الموصلي، أتدري ما جاء بنا? فقلت: لا والله ما أدري، فقال: لكني والله أدري دراية صحيحة، جاءت بنا نضرانيتك الزانية، عليك وعليها لعنة الله. وخرج الآذن فأذن لنا، فدخلنا. فلما رأيت الرشيد تبسمت، فقال لي: ما يضحكك? فأخبرته بقول ابن جامع، فقال: صدق، ما هو إلا أن فقدتكم فاشتقت إلى ما كنا فيه، فعودوا بنا، فعدنا فيه حتى انقضى مجلسنا وانصرفنا.
لحن إسحاق:
بدير القائم الأقصى خفيف ثقيل بالوسطى. وفيه للقاسم بن زرزور ثقيل أول. ولحنه في:
إن قلبي بالتل تل عزاز خفيف رمل.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثني حماد عن أبيه قال: دخلت على الرشيد يوما في عمامة قد كورتها على رأسي، فقال: ما هذه العمامة كأنك من الأنبار. فلما كان من غد. دعا بنا إليه، فأمهلت حتى دخل المغنون جميعا قبلي، ثم دخلت عليه في آخرهم، وقد شددت وسطي بمشدة حرير أحمر، ولبست لباسا مشتهرا، وأخذت بيدي صفاقتين وأقبلت أخطر وأضرب بالصفاقتين وأغني:
اسمع لصوت ملـيح من صعة الأنبـاري
صوت خفيف ظريف يطيرفـي الأوتـار
صفحة : 612
فبسط يده إلي حتى كاد يقوم، وجعل يقول: أحسنت وحياتي أحسنت أحسنت حتى جلست، ثم شرب عليه بقية يومه، ومااستعاد غيره، وأمر لي بعشرين ألف درهم. لحن إسحاق في هذا الشعر هزج.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال حدثني أحمد بن يحيى المكي قال: كنت عند الفضل بن الربيع، فغنى بعض من كان عنده:
كل شيء منك في عيني حسن ونصيبي منك هـم وحـزن
لاتظـنـي أنـه غـيرنـي قدم العهد ولاطول الـزمـن فقال لي: أتدري لمن هذا? فقلت: لبعض الطنبوريين، فقال: لا ولكنه لذلك الشيطان إسحاق. لحن إسحاق في هذين البيتين رمل بالوسطى من مجموع أغانيه.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال: لما خرجنا مع الرشيد إلى طوس كنت معه أسايره، فاستسقيت ماء من منزل نزلناه يقال له سحنة فخرجت إلينا جارية كأنها ظبية، فسقتني ماء، فقلت هذا الشعر:
غزال يرتعي جنبـات واد بسحنة قد تمكن في فؤادي
سقاني شربة كانت شفـاء لعلة حائم حران صـادي وغنيته الرشيد، فقال لي: أتحب أن أزوجكها? فقلت: نعم والله يا سيدي، قال: فاخطبها والمهر علي وما يصلحها، فخطبتها، فأبى أهلها أن يخرجوها من بلدهم. لحن إسحاق في هذين البيتين ثقيل أول. وفيه لعلويه خفيف رمل.
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق قال: قال لي أبي: ما اغتممت بشيء قط مثل ما اغتممت بصوت مليح صنعته في هذا الشعر.
كان لي قلب أعيش بـه فاكتوى بالنار فاحترقـا
أنا لم أرزق محبـتـهـا إنما للعبـد مـارزقـا
من يكن ماذاق طعم ردى ذاقه لاشك إن عشـقـا فإني صنعت فيه لحنا، وجعلت أردده في جناح لي سحرا، فأظن أن إنسانا من العامة مر بي فسمعه فأخذه، فبكرت من غد إلى المعتصم لأغنيه، فإذا أنا بسواط يسوط الناطف وهو يغني اللحن بعينه إلا أنه غناء فاسد. فعجبت وقلت: ترى من أين لهذا السواط هذا الصوت ولعلي إذ غنيته أن يكون قد مر بي هذا فسمعني أغنيه، وبقيت متحيرا، ثم قلث يا فتى، ممن سمعت هذا الصوت. فلم يجبني والتفت إلى شريكه، وقال: هذا يسألني ممن سمعته هذا غنائي، والله لو سمعه إسحاق الموصلي لخرىء في سراويله. فبادرت والله هاربا خوف أن يمر بي إنسان فيسمع ما جرى علي فأفتضح، وما علم الله أني نطقت بذلك الصوت بعدها.
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق قال: كتب إبراهيم بن المهدي إلى أبي: أي شيء تصحيف: لا يريح مثل الأسنة. فكتب إليه أبي: تصحيفه: لا يرث جميل إلا بثينة فكتب إليه: وي منك.
أخبرنا جعفر قال حدثنا حماد عن أبيه قال: دخلت يوما على جعفر بن يحيى، فرأى شفتي تتحركان بشيء كنت أعمله، فقال: أتدعو أم تصنع ماذا? فقلت: بل أمدح، قال: قل، فقلت:
وكنت إذا إذن عليك جرى لنا تجلى لنا وجه أغر وسـيم
علانية محمـودة وسـريرة وفعل يسرالمعتفين كـريم فاحتبسني وأمر لي بمال جليل وكسوة، وقال: زد البيتين حسنا بأن تصنع فيهما لحنا، فصنعت لحنا من الثقيل الثاني، فلم يزل يشرب عليهما حتى سكر.
صفحة : 613
أخبرنا محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه أنه حدثه قال: غدوت يوما وأنا ضجر من ملازمة دار الخلافة والخدمة فيها فخرجت وركبت بكرة، وعزمت على أن أطوف الصحراء وأتفرج فقلت لغلماني: إن جاء رسول الخليفة أو غيره فعرفوه أني بكرت في بعض مهماتي، وأنكم لا تعرفون أين توجهت، ومضيت وطفت ما بدا لي، ثم عدت وقد حمي النهار فوقفت في الشارع المعروف بالمخرم في فناء ثخين الظل وجناح رحب على، الطريق لأستريح. فلم ألبث أن جاء خادم يقود حمارا فارها عليه جارية راكبة، تحتها منديل دبيقي وعليها من اللباس الفاخر ما لا غاية بعده، ورأيت لها قواما حسنا وطرفا فاترا وشمائل حسنة، فخرصت عليها أنها مغنية، فدخلت الدار التي كنت واقفا عليها. ثم لم ألبث أن جاء رجلان شابان جميلان، فاستأذنا فأذن لهما فنزلا ونزلت معهما ودخلت، فظنا أن صاحب الدار دعاني وظن صاحب الدار أني معهما فجلسنا، وأتي بالطعام فأكلنا وبالشراب فوضع، وخرجت الجارية وفي يدها عود فغنت وشربنا، وقمت قومة، وسأل صاحب المنزل الرجلين عني فأخبراه أنهما لا يعرفاني، فقال: هذا طفيلي، ولكنه ظريف، فأجملوا عشرته. وجئت فجلست، وغنت الجارية في لحن لي:
ذكرتك أن مرت بنـا أم شـادن أمام المطايا تشرئب وتسـنـح
من المؤلفات الرمل أدماء حرة شعاع الضحى في متنها يتوضح فأدته أداء صالحا وشربت. ثم غنت أصواتا شتى، وغنت في أضعافها من صنعتي:
الطلول الدوارس فارقتها الأوانس
أوحشت بعد أهلها فهي قفر بسابس فكان أمرها فيه أصلح منه في الأول. ثم غنت أصواتا من القديم والحديث، وغنت في أثنائها من صنعتي:
قل لمن صد عاتبا ونأى عنك جانبـا
قد بلغت الذي أرد ت وإن كنت لاعبا فكان أصلح ما غنته، فاستعذته منها لأصححه لها، فأقبل علي رجل من الرجلين وقال: ما رأيت طفيليا أصفق وجها منك لم ترض بالتطفيل حتى اقترحت، وهذا غاية المثل طفيلي مقترح، فأطرقت ولم أجبه، وجعل صاحبه يكفه عني فلا يكف. ثم قاموا للصلاة وتأخرت قليلا، فأخذت عود الجارية، ثم شددت طبقته وأصلحته، إصلاحا محكما، وعدت إلى موضعي فصليت، وعادوا، ثم أخذ ذلك الرجل في عربدته علي وأنا صامت، ثم أخذت الجارية العود فجسته وأنكرت حاله وقالت: من مس عودي? قالوا: ما مسه أحد قالت: بلى، والله لقد مسه حاذق متقدم وشد طبقته وأصلحه إصلاح متمكن من صناعته، فقلت لها: أنا أصلحته قالت: فبالله خذه واضرب به، فأخذته وضربت به مبدأ صحيحا ظريفا عجيبا صعبا، فيه نقرات محركة، فما بقي أحد منهم إلا وثب أعلى قدميه، وجلس بين يدي، ثم قالوا: بالله يا سيدنا أتغني? فقلت: نعم، وأعرفكم نفسي، أنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، ووالله إني لأتيه على الخليفة إذا طلبني وأنتم تسمعونني ما أكره منذ اليوم لأني تملحت معكم، فوالله لا نطقت بحرف ولا جلست معكم حتى تخرجوا هذا المعربد المقيت الغث، فقال له صاحبه: من هذا حذرت عليك، فأخذ يعتذر، فقلت: والله لا نطقت بحرف ولا جلست معكم حتى يخرج، فأخذوا بيده فأخرجوه وعادوا. فبدأت وغنيت الأصوات التي غنتها الجارية من صنعتي، فقال لي الرجل: هل لك في خصلة? قلت: ما هي? قال: تقيم عندي شهرا، والجارية والحمار لك مع ما عليها من حلي، قلت: أفعل، فأقمت عنده ثلاثين يوما لا يدري أحد أين أنا، والمأمون يطلبني في كل موضع فلا يعرف لي خبرا. فلما كان بعد ثلاثين يوما أسلم إلي الجارية والحمار والخادم، فجئت بذلك إلى منزلي، وركبت إلى المأمون من وقتي، فلما رأني قال: إسحاق ويحك أين تكون? فأخبرته بخبري? فقال: علي بالرجل الساعة? فدللتهم على بيته فأحضر، فسأله المأمون عن القصة فأخبره، فقال له: أنت رجل ذو مروءة وسبيلك أن تعاون عليها، وأمر له بمائة ألف درهم، وقال: لا تعاشرن ذلك المعربد النذل البتة وأمر لي بخمسين ألف درهم، وقال: احضرني الجارية، فأحضرتها فغنته، فقال لي: قد جعلت لها نوبة في كل يوم ثلاثاء تغنيني وراء الستارة مع الجواري، وأمر لها بخمسين ألف درهم. فربحت والله بتلك الركبة وأربحت.
ذكرتك أن مرت بنا أم شادن أمام المطايا تشرئب وتسنح
صفحة : 614
من المؤلفات الرمل أدماء حرة شعاع الضحى في متنها يتوضح الشعر لذي الرمة. والغناء لإسحاق ثقيل أول بالسبابة والوسطى، عن ابن المكي. ومن أغاني إسحاق:
قل لمن صد عاتبا ونأى عنك جانبـا
قد بلغت الذي أرد ت وإن كنت لاعبا
الطلول الـدوارس فارقتها الأوانـس
أوحشت بعد أهلها فهي قفر بسابس الشعر لابن ياسين، شاعر مجهول قليل الشعر، كان صديقا لإسحاق. والغناء لإسحاق خفيف ثقيل. وهذا الصوت من أوابد إسحاق وبدائعه.
أخبرني عمي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال: كنت عند الواثق، فغنته شجى التي وهبها له إسحاق هذا الصوت، فقال لمخارق وعلويه: والله لو عاش معبد ما شق غبار إسحاق في هذا الصوت فقالا له: إنه لحسن يا أمير المؤمنين، فغضب وقال: ليس عندكما فيه إلا هذا ثم أقبل على أحمد بن المكي فقال: دعني من هذيه الأحمقين، أول بيت في هذا الصوت أربع كلمات: الطلول كلمة، و لا الدوارس كلمة، وفارقتها كلمة، و الأوانس كلمة، فانظر هل ترك إسحاق شيئا من الصنعة يتصرف فيه المغني لم يدخله في هذه الكلمات الأربع بدأ بها نشيدا، وتلاه بالبسيط، وجعل فيه صياحا، وإسجاحا، وترجيحا للنغم، واختلاسا فيها، وعمل هذا كله في أربع كلمات، فهل سمعت أحدا تقدم أو تأخر فعل مثل هذا أو قدر عليه? فقال: صدق أمير المؤمنين، فد لحق من قبله وسبق من بعده.
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني إسحاق قال: لما خرجت مع الواثق إلى النجف درنا بالحيرة ومررنا بدياراتها، فرأيت دير مريم وحسن بنائه، فقلت:
نعم المحل لمن يسعى للـذتـه دير لمريم فوق الظهر معمور
ظل ظليل وماء غير ذي أسـن وقاصرات كأمثال الدمى حور فقال الواثق: لا نصطبح والله غدا إلا فيه، وأمر بأن يعد فيه ما يصلح من الليل، وباكرناه فاصطبحنا فيه على هذا الصوت، وأمر بمال ففرق على أهل ذلك الدير، وأمر لي بجائزة. لحن إسحاق في هذين البيتين ثاني ثقيل بالبنصر.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: أخرج إلي عبدالله بن طاهر يوما بيتي شعر في رقعة وقال: هذان البيتان وجدتهما على بساط طبري أصبهبذي أهدى إلي من طبرستان، فأحب أن تغنيني فيهما، فقرأتهما فإذا هما:
لج بالعـين واكـف من هوى لايساعف
كلما كف غربـهـا هيجته المعـارف قال: فغنيت فيهما وغدوت بهما إليه، فأعجب بالصوت ووصلني بصلة سنية، وكان يشتهيه ويقترحه، وطرحته على جميع جواريه، وشاع خبر إعجابه به، فبينا المعتصم يوما جالس يعرض عليه فرش الربيع، إذ مر به بساط ديباج في نهاية الحسن عليه هذان البيتان ومعهما:
إنما الموت أن تفا رق من أنت آلف
لك حبان في الفؤا د تليد وطـارف فأمر بالبساط فحمل إلى عبدالله بن طاهر، وقال للرسول: قل له: إني قد عرفت شغفك بالغناء في هذا الشعر، فلما وقع هذا البساط أحببت أن أتم سرورك به. فشكر عبدالله ما تأذى إليه من هذه الرسالة وأعظم مقداره، وقال لي: والله يا أبا محمد لسروري بتمام الشعر أشد من سروري بكل شيء، فألحقهما في الغناء بالبيتين الأولين، فألحقتهما.
لج بالعـين واكـف من هوى لا يساعف
كلما كف غربـهـا هيجته المـعـازف
إنما الموت أن تفـا رق من أنت آلـف
لك حبان في الفـؤا د تلـيد وطـارف ولم أعرف من خبر شاعره غير ما ذكرته في هذا الخبر. والغناء لإسحاق هزج بالوسطى.
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني عن ابن المكي عن أبيه قال: قلت لإسحاق يوما: يا أبا محمد، كم تكون صنعتك. فقال: ما بلغت مائتين قط.
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا حماد بن إسحاق قال:
صفحة : 615
قال لي وكيل بن الحروني: قلت لأبيك إسحاق: يا أبا محمد، كم يكون غناؤك. قال: نحوا من أربعمائة صوت. قال: وقال له رجل بحضرتي: مالك لا تكثر الصنعة كما يكثر الناس. قال: لأني إنما أنقر في صخرة. ولإسحاق أخبار كثيرة قليلة الفائدة كثيرة الحشو، طرحتها لذلك، وله أخبار أخر حسن ذكرها في مواضع تليق بها فأخرتها واحتبستها عليها وفيما ذكرته هاهنا منها مقنع.
وتوفي إسحاق ببغداد في أول خلافة المتوكل. فأخبرني الصولي قال ذكر إبراهيم بن محمد الشاهيني: أن إسحاق كان يسأل الله ألا يبتليه بالقولنج لما رأى من صعوبته على أبيه، فرأى في منامه كأن قائلا يقول له: قد اجيبت دعوتك ولست تموت بالقولنج، ولكنك تموت بضده، فأصابه ذرب في شهر رمضان سنة خمس وثلاثين ومائتين، فكان يتصدق في كل يوم أمكنه أن يصومه بمائة درهم، ثم ضعف عن الصوم فلم يطقه ومات في شهر رمضان.
نعي إسحاق إلى المتوكل في وسط خلافته، فغمه وحزن عليه، وقال: ذهب صدر عظيم من جمال الملك وبهائه وزينته، ثم نعي إليه بعمه أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فقال: تكافأت الحالتان، وقام الفتح بوفاة أحمد وما كنت آمن وثبته علي مقام الفجيعة بإسحاق، فالحمد لله على ذلك.
حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني رجل من الكتاب من أهل قطربل قال حدثني أبي عن أبيه قال: رأيت فيما يرى النائم قائلا يقول لي:
مات الحسان ابن الحسا ن ومات إحسان الزمان فأصبحت من غد فركبت في بعض حوائجي، فتلقاني خبر وفاة إسحاق الموصلي.
وقال إدريس بن أبي حفصة يرثي إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
سقي الله يابن الموصلي بوابل من الغيث قبرا أنت فيه مقيم
ذهبت فأوحشت الكرام فمايني بعبرته يبكي علـيك كـريم
إلى الله أشكو فقد إسحاق إنني وإن كنت شيخا بالعراق يتيم وقال محمد بن عمرو الجرجاني يرثيه:
على الحدث الشرقي عوجا فسلمـا ببغداد لما ضـن عـنـه عـوائده
وقولا له لو كان للـمـوت فـدية فداك من الموت الطريف وتالـده
أإسحاق لا تبعد وإن كان قد رمـى بك الموت وردا ليس يصدر وارده
إذا هزل اخضرت فنون حـديثـه ورقت حواشيه وطابت مشاهـده
إن جد كان القول جدا وأقسـمـت مخارجه ألا تـلـين مـعـاقـده
فبك على ابن الموصلي بـعـبـرة كما ارفض من نظم الجمان فرائده وققال مصعب بن عبد الله الزبيري يرثيه نسخت ذلك من كتاب جعفر بن قدامة، وذكر أن حماد بن إسحاق انشده إياها ونسخته أيضا من كتاب الحرمي بن أبي العلاء يذكر فيه عن الزبير عن عمه مصعب أنه أنشده لنفسه يرثثي إسحاق:
أتدري لمن تبكي العيون الـذوارف وينهل منها واكـف ثـم واكـف
نعم لامرئ لم يبق في الناس مثلـه مفيد لعلم أو صـديق مـلاطـف
تجهز إسحاق إلـى الـلـه غـاديا فلله ما ضمـت عـلـيه الـلائف
وما حمل النعش المزجى عـشـية إلى القبر إلا دامع العـين لاهـف
صدورهم مرضى علـيه عـمـيدة لها أزمة مـن ذكـره وزفـازف
ترى كل محزون تفيض جفـونـه دموعا على الخدين والوجه شاسف
جزيت جزاء المحسنين مضاعـفـا كما كان جدواك الندى المتضاعف
فكم لك فينا مـن خـلائق جـزلة سبقت بها منها حـديث وسـالـف
هي الشهد أو أحلى إلينـا حـلاوة من الشهد لم يمزج به الماء غارف
ذهبت وخليت الصـديق بـعـولة به أسف من حزنـه مـتـرادف
إذا خطرات الذكر عاودن قـلـبـه تتابع منهن الشـؤون الـنـوازف
حبيب إلى الإخوان يرزون مـالـه وآت لما يأتي امرؤ الصدق عارف
هو المن والسلوى لمن يسـتـفـيده وسم على من يشرب السم زاعف
بكت داره من بعـده وتـنـكـرت معالم من آفاقـهـا ومـعـارف
فما الدار بالدار التي كنت أعتـري وإني بها لولا افتقـاديك عـارف
صفحة : 616
هي الدار إلا أنها قد تخـشـعـت وأظلم منها جانب فهو كـاسـف
وبان الجمال والفعال كـلاهـمـا من الدار واستنت عليها العواصف
خلت داره من بعده فـكـأنـمـا بعاقبة لم يغن في الدار طـارف
وقد كان فيها للصديق مـعـرس وملتمس إن طاف بالدار طـائف
كرامة إخوان الصـفـاء وزلـفة لمن جاء تزجيه إليه الـرواجـف
صحابته الغر الكـرام ولـم يكـن ليصحبه السود اللئام المـقـارف
يؤول إليه كـل أبـلـج شـامـخ ملوك وأبناء الملوك الغـطـارف
فلقيت في يمنـى يديك صـحـيفة إذا نشرت يوم الحساب الصحائف
يسر الذي فيهـا إذا مـا بـدا لـه ويفتر منها ضاحكا وهو واقـف
بما كان ميمونا على كل صاحـب يعين على ما نـابـه ويكـانـف
سريع إلى إخـوانـه بـرضـائه وعن كل ماساء الأخلاء صارف
أرى الناس كالنسناس لم يبق منهـم خلافك إلاحـشـوة وزعـانـف أخبرنا يحيى بن علي قال: أنشدني أبو أيوب لأحمد بن إبراهيم يرثي إسحاق في قصيدة له:
لقد طاب الحمام غداة ألوى بنفس أبي محمد الحمـام
فلو قبل الفداء إذا فـدتـه ملوك كان يألفهـا كـرام
فلاتبعد فكل فتى سيثـوى عليه الترب يحثى والرجام قال وقال أيضا يرثيه:
لله أي فتى إلـى دار الـبـلـى حمل الرجال ضحى على الأعواد
كم من كريم ما تجف دمـوعـه من حاضر يبكي عـلـيه وبـاد
أمسى يؤبنه ويعرف فـضـلـه من كان يثلبه مـن الـحـسـاد
فسقتك يا بن الموصـلـي روائح تروى صداك بصوبهـا وغـواد وقد بقيت من أخبار إسحاق بقايا مثل أخباره مع بني هاشم، وأخباره مع إبراهيم بن المهدي وغيرها، فإنها كثيرة، ولها مواضع ذكرت فيها وحسن ذكرها هنالك، فأخرتها لذلك عن أخباره التي ذكرت هاهنا، حسبما شرطنا في أول الكتاب.
ألا قاتل الله اللوى مـن مـحـلة وقاتل دنيانا بـهـا كـيف ذلـت
غنينا زمانا باللوى ثم أصبـحـت عراص اللوى من أهلها قد تخلت عروضه من الطويل. الشعر للصمة القشيري، والغناء لإسحاق، ولحنه المختار ثقيل أول بالوسطى في مجراها.
الجزء السادس
بسم الله الرحمن الرحيم
أخبار الصمة القشيري
نسبه
هو الصمة بن عبدالله بن الطفيل بن قرة بن هبيرة بن عامربن سلمة الخيربن قشيربن كعب بن ربيعة بن عامربن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار.
شاعر إسلامي بدوي مقل، من شعراء الدولة الاموية. ولجده قزة بن هبيرة صحبة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أحد وفود العرب الوافدين عليه صلى الله عليه وسلم واله.
وفد جده قرة على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم: أخبرني بخبره عبيد الله بن محمد الرازي. وعمي قالا حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي بكر الهذلي وابن دأب وغيرهما من الرواة قالوا: وفد قرة بن هبيرة بن عامر بن سلمة الخيربن قشيربن كعب بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، وقال له: يا رسول الله، إنا كنا نعبد الآلهة لا تنفعنا ولا تضرنا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعم ذا عقلا .
وقال ابن دأب: وكان من خبر الصمة أنه هوي امرأة من قومه ثم من بنات عمه دنية يقال لها العامرية بنت غطيف بن حبيب بن قرة بن هبيرة، فخطبها إلى أبيها فأبى أن يزوجه إياها، وخطبها عامر بن بشر بن أبي براء بن مالك بن ملاعب الأسنة بن جعفر بن كلاب، فزوجه إياها. وكان عامر قصيرا قبيحا، فقال الصمة بن عبدالله في ذلك:
فإن تنكحوها عامرا لاطلاعكم إليه يدهدهكم برجليه عامـر شبهه بالجعل الذي يدهده البعرة برجليه.
صفحة : 617
فال: فلما بنى بها زوجها، وجد الصمة بها وجدا شديدا وحزن عليها، فزوجه أهله امرأة منهم يقال لها جبرة بنت وحشي بن الطفيل بن قرة بن هبيرة، فأقام عليها مقاما يسيرأ، ثم رحل إلى الشأم غضبا على قومه، وخلف امرأته فيهم، وقال لها:
كليم التمرحتى تهرم النخل واضفري خطامك ماتدرين ما اليوم من أمس وقال فيها أيضا:
لعمري لئن كنتم على النأى والقلـى بكم مثل ما بي إنـكـم لـصـديق
إذا زفرات الحب صعدن في الحشى رددن ولم تنهـج لـهـن طـريق وقال فيها أيضا:
إذا ما أتتنا الريح من نحو أرضكم أتتنا برياكم فطاب هبـوبـهـا
أتتنا بريح المسك خالط عنـبـرا وريح الخزامى باكرتها جنوبها وقال فيها أيضا:
هل تجزيني العامـرية مـوقـفـي على نسوة بين الحمى وغضى الجمر
مررن بأسباب الصبا فـذكـرنـهـا فأومأت إذ ما من جواب ولا نـكـر وقال ابن دأب: وأخبرني جماعة من بني قشير أن الصمة خرج في غزي من المسلمين إلى بلد الديلم فمات بطبرستان.
قال ابن دأب: وأنشدني جماعة من بني قشير للصمة:
ألا تسألان الله أن يسقي الحـمـى بلى فسقى الله الحمى والمطالـيا
وأسأل من لاقيت هل مطرالحمى فهل يسألن عني الحمى كيف حاليا الغناء في هذين البيتين لإسحاق، ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى، وهو من مختار الأغاني ونادرها.
أخبرني محمد بن خلف وكيع وعمي قالا حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال قال عبدالله بن محمد بن إسماعيل الجعفري حدثنا عبدالله بن إسحاق الجعفري عن عبد العزيز بن أبي ثابت قال حدثني رجل من أهل طبرستان كبير السن قال: بينا أنا يوما أمشي. في ضيعة لي فيها ألوان من الفاكهة والزعفران وغير ذلك من الأشجار، إذ أنا بإنسان في البستان مطروح عليه أهدام خلقان، فدنوت منه فإذا هو يتحرك ولا يتكلم، فأصغيت إليه فإذا هو يقول بصوت خفي:
تعز بصبـر لا وجـدك لا تـرى بشام الحمى أخرى الليالي الغوابر
كأن فؤادي من تذكره الحـمـى وأهل الحمى يهفو به ريش طائر قال: فما زال يردد هذين البيتين حتى فاضت نفسه، فسألت عنه فقيل لي: هذا الصمة بن عبدالله القشيري.
كان ابن الأعرابي يستحسن شعرا له: أخبرني عمي قال حدثنا الخراز أحمد بن الحارث قال: كان ابن الأعرابي يستحسن قول الصمة:
أما وجلال الله لو تذكـرينـنـي كذكريك ما كفكفت للعين مدمعا
فقالت بلى والله ذكرا لـو أنـه يصب على صم الصفا لتصدعا غنى في هذين البيتين عبيد الله بن أبي غسان ثاني ثقيل بالوسطى. وفيهما لعريب خفيف رمل:
ولما رأيت البشر قـد حـال بـينـن وجالت بنات الشوق في الصدر نزعا
تلفث نحو الحي حتـى وجـدتـنـي وجعت من الإصغاء ليتا وأخـدعـا أخبرني أبو الطيب بن الوشاء قال: قال لي إبراهيم بن محمد بن سليمان الأزدعي: لو حلف حالف أن أحسن أبيات قيلت في الجاهلية والإسلام في الغزل قول الصمة القشيري ما حنث:
حننت إلى ريا ونفسك بـاعـدت مزارك من ريا وشعباكما معـا
فما حسن أن تأتي الأمر طائعـا وتجزع أن داعي الصبابة أسمعا
بكت عيني اليمنى فلما زجرتهـا عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
وأذكر أيام الحمى ثم أنـثـنـي على كبدي من خشية أن تصدعا
فليست عشيات الحمى برواجـع عليك ولكن خل عينيك تدمعـا غنت في هذين البيتين قرشية الزرقاء لحنا من الثقيل الأول عن الهشامي. وهذه الأبيات التي أولها حننت إلى ريا تروى لقيس بن ذريح في أخباره وشعره بأسانيد قد ذكرت في مواضعها، ويروى بعضها للمجنون في أخباره، بأسانيد قد ذكرت أيضا في أخباره. والصحيح في البيتين الأولين أنهما لقيس بن ذريح وروايتهما له، آثبت، وقد تواترت الروايات بأنهما له من عدة طرق، والأخر مشكوك فيها أهي للمجنون أم للصمة.
صفحة : 618
أنشدنا محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم للصمة القشيري قال: وكان أبو حاتم يستجيدهما، وأنشدنيهما عمي عن الكراني عن أبي حاتم، وأنشدنيهما الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن أبي حاتم:
إذا نأت لم تفارقنـي عـلاقـتـهـا وإن دنت فصدود العاتب الـزاري
فحـال عـينـي مـن يومـــيك واحدة تبكي لفرط صدود أونوى دار أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبيد الله بن إسحاق بن سلام قال حدثني أبي عن شعيب بن صخر عن بعض بني عقيل قال: مررت بالصمة بن عبدالله القشيري يوما وهو جالس وحده يبكي ويخاطب نفسه ويقول: لا والله ما صدقتك فيما قالت، فقلت: من تعني. ويحك أجننت قال: اعني التي أقول فيها:
أما وجلال الله لو تذكرينـنـي كذكريك ماكفكفت للعين مدمعا
فقالت بلى والله ذكرا لـوأنـه يصب على صم الصفا لتصدعا أسلي نفسي عنها وأخبرها أنها لو ذكرتني كما قالت لكانت في مثل حالي.
أخبرني عمي قال حدثنا عبدالله بن أبي سعد قال حدثني مسعود بن عيسى بن إسماعيل العبدي عن موسى بن عبدالله التيمي قال.
خطب الصمة القشيري بنت عمه وكان لها محبا، فاشتط عليه عمه في المهر فسأل أباه أن يعاونه وكان كثير المال فلم يعنه بشيء فسأل عشيرته فأعطوه، فأتى بالإبل عمه، فقال: لا أقبل هذه في مهر ابنتي، فاسأل أباك أن يبدلها لك فسأل ذلك أباه فأبى عليه، فلما رأى ذلك من فعلهما قطع عقلها وخلاها، فعاد كل بعير منها إلى ألافه. وتحمل الصفة راحلا. فقالت بنت عمه حين رأته يتحمل: تالله ما رأيت كاليوم رجلا باعته عشيرته بأبعرة. ومضى من وجهه حتى لحق بالثغر فقال وقد طال مقامه واشتاقها وندم على فعله:
أتبكي على ريا ونفسك باعـدت مزارك من ريا وشعباكما معـا
فماحسن أن تأتي الأمرطـائعـا وتجزع أن داعي الصبابة أسمعا وقد أخبرني بهذا الخبر جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي: أن الصمة خطب ابنة عمه هذه إلى أبيها فقال له: لا أزوجكها إلا على كذا وكذا من الإبل، فذهب إلى أبيه فأعلمه بذلك وشكا إليه ما يجد بها فساق الإبل عنه إلى أخيه فلما جاء بها عدها عمه فوجدها تنقص بعيرا، فقال: لا آخذها إلا كاملة، فغضب أبوه وحلف لا يزيده على ما جاء به شيئا. ورجع إلى الصمة، فقال له: ما وراءك. فأخبره، فقال: تالله ما رأيت قط ألأم منكما جميعاة وإني لألأم منكما إن أقمت بينكما ثم ركب ناقته ورحل إلى ثغر من الثغور، فأقام به حتى مات. وقال في ذلك:
أمن ذكر دار بالرقاشين أصبـحـت بها عاصفات الصيف بدءأ ورجعـا
حننت إلى ريا ونفسـك بـاعـدت مزارك من ريا وشعباكما مـعـا
فما حسن أن تأتي الأمـر طـائعـا وتجزع أن داعي الصبابة أسمعـا
كأنك لم نـشـهـد وداع مـفـارق ولم ترشعبي صاحبين تقـطـعـا
بكت عيني اليسرى فلما زجرتـهـا عن الجهل بعد الحلم أسبلتا مـعـا
تحمل أهلي من قـنـين وغـادروا به أهل ليلى حين جيد وأمـرعـا
ألا يا خليلـي الـلـذين تـواصـيا بلومي إلا أن أطـيع وأسـمـعـا
قفا إنه لا بد مـن رجـع نـظـرة يمانية شتى بها الـقـوم أو مـعـا
لمغتصب قد عزه الـقـوم أمـره حياء يكف الدمع أن يتـطـلـعـا
تبرض عينيه الصـبـابة كـلـمـا دنا الليل أو أوفى من الأرض ميفعا
فليست عشيات الحمـى بـرواجـع إليك ولكن خل عينـيك تـدمـعـا
قل لأسماء أنـجـزي الـمـيعـادا وانظري أن تـزودي مـنـك زادا
إن تكوني حللت ربعا مـن الـشـأ م وجـاورت حـمـيرا أومـرادا
أوتناءت بك النـوى فـلـقـد قـد ت فؤادي لـحـينـه فـانـقـادا
ذاك أني علقت منـك جـوى الـح ب ولـيدا فـزدت سـنـا فـزادا
صفحة : 619
الشعر لداود بن سلم. والغناء لدحمان، ولحنه المختار من الثقيل الأول بالوسطى. وقد كنا وجدنا هذا الشعر في رواية علي بن يحيى عن إسحاق منسوبا إلى المرقش، وطلبناه في أشعار المرقشين جميعا فلم نجده، وكنا نظنه من شاذ الروايات حتى وقع إلينا في شعر داود بن سلم، وفي خبر أنا ذاكره في أخبار داود. وإنما نذكر ما وقع إلينا عن رواته، فما وقع من غلط فوجدناه أو وقفنا على صحته أثبتناه وأبطلنا ما فرط منا غيره، وما لم يجر هذا المجرى فلا ينبغي لقارىء هذا الكتاب أن يلزمنا لوم خطأ لم نتعمده ولا اخترعناه، وإنما حكيناه عن رواته واجتهدنا في الإصابة. وإن عرف صوابا مخالفا لما ذكرناه وأصلحه، فإن ذلك لا يضره ولا يخلو به من فضل وذكر جميل إن شاء الله.
أخبار داود بن سلم ونسبه
داود بن سلم مولى بني تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، ثم يقول بعض الرواة: إنه مولى آل أبي بكر، ويقول بعضهم: إنه مولى آل طلحة. وهو مخضرم من شعراء الدولتين الأموية والعباسية، من ساكني المدينة، يقال له داود الآدم وداود الأرمك. وكان من أقبح الناس وجها.
وكان سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف يستثقله، فرآه ذات يوم يخطر خطرة منكرة فدعا به، وكان يتولى المدينة، فضربه ضربا مبرحا. وأظهر أنه إنما فعل ذلك به من أجل الخطرة التي تخايل فيها في مشيته. فقال بعض الشعراء في ذلك وأظنه ابن رهيمة:
ضرب العادل سعـد ابن سلم في السماجه
فقضى الله لسـعـد من أميركل حاجـه أخبرني محمد بن سليمان الطوسي قال حدثنا الزبير بن بكار قال: سألت محمد بن موسى بن طلحة عن داود بن سلم، هل هو مولاهم? فقال: كذلك يقول الناس، هو مولانا، أبوه رجل من النبط، وأمه بنت حوط مولى عمر بن عبيد الله بن معمر فانتسب إلى ولاء أمه. وفي ذلك يقول ويمدح ابن معمر:
وإذا دعا الجاني النصير لنصـره وأرتني الغرر النصيرة معمـر
متخازرين كـأن أسـد خـفـية بمقامها مستـبـسـلات تـزأر
متجاسرين بحمل كـل مـلـمة متجبرين على الذي يتـجـبـر
عسل الرضا فإذا أردت خصامهم خلط الشمام بفيك صاب مفقـر
لا يطبعون ولا ترى أخلاقـهـم إلا تطيب كما يطيب العنـبـر
رفعوا بناي بعتق حـؤط دتـية جدي وفضلهم الذي لا ينـكـر أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق الموصلي قال: كان داود بن سلم مولى بني تيم بن مرة، وكان يقال له: الآدم لشدة سواده، وكان من أبخل الناس فطرقه قوم وهو بالعقيق، فصاحوا به: العشاء والقرى يابن سفم، فقال لهم: لا عشاء لكم عندي ولا قرى، قالوا: فأين قولك في قصيدتك إذ تقول فيها:
يا دار هنل ألا حـييت مـن دار لم أمض منك لباناتي وأوطـاري
عودت فيها إذاما الضيف نبهـنـي عقرالعشار على يسري وإعساري قال: لستم من أولئك الذين عنيت.
قال: ودخل على السري بن عبدالله الهاشمي، وقد أصيب بابن له فوقف بين يديه ثم أنشده:
يا من على الأرض من عجم ومن عرب استرجعوا خاست الـدنـيا بـعـبـاس
فجعت من سبعة قد كـنـت آمـلـهـم من ضنء والدهم بـالـسـيد الـراس قال: وداود بن سلم الذي يقول:
قل لأسماء أنجزي المـيعـادا وانظري أن تزودي منك زادا
إن تكوني حللت ربعا من الشأ م وجاورت حميرا أومـرادا
أوتناءت بك النوى فلقـد قـد ت فؤادي لحينه فـانـقـادا
ذاك أني علقت منك جوى الح ب وليدا فزدت سنـا فـزادا قال أبو زيد: أنشدنيها أبو غسان محمد بن يحيى وإبراهيم بن المنذر لداود بن سلم.
يادار هند ألا حـييت مـن دار لم أقض منك لباناتي وأوطاري أخبرنا الطوسي قال حدثنا الزبير قال أخبرني مصعب بن عثمان قال:
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:48 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية5
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:46 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية4
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:45 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية3
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:44 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية2
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:42 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:41 pm من طرف Admin
» نموذج من بناء الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:39 pm من طرف Admin
» كيف تنشأ الرواية أو المسرحية؟
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:38 pm من طرف Admin
» رواية جديدة
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:26 pm من طرف Admin