خرج منا فتى حتى إذا كان ببئر ميمون إذا جماعة فوق بعض تلك الجبال، وإذا معهم فتى أبيض طوال جعد كأحسن من رأيت من الرجال على هزال منه وصفرة، وإذا هم متعلقون به، فسألته عنه، فقيل لي: هذا قيس المجنون خرج به أبوه يستجير له بالبيت، وهو على أن يأتي به قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدعو له هناك لعله يكشف ما به، فإنه يصنع بنفسه صنيعا يرحمه منه عدوه، يقول: أخرجوني لعلني أتنسم صبا نجد، فيخرجونه فيتوجهون به نحو نجد، ونحن مع ذلك نخاف أن يلقي نفسه من الجبل، فإن شئت الأجر دنوت منه فأخبرته أنك أقبلت من نجد، فدنوت منه وأقبلوا عليه فقالوا له: يا أبا المهدي، هذا الفتى أقبل من نجد، فتنفس تنفسة ظننت أن كبده قد انصدعت، ثم جعل يسألني عن واد واد وموضع موضع، وأنا أخبره وهو يبكي أحر بكاء وأوجعه للقلب، ثم أنشأ يقول:
ألا ليت شعري عن عوارضتي قنا لطول الليالي هل تغيرتا بـعـدي
وهل جارتانا بالبتيل إلى الحـمـى على عهدنا أم لم تدوما على العهد
وعن علويات الـرياح إذا جـرت بريح الخزامى هل تهب على نجد
وعن أقحوان الرمل ما هو فاعـل إذا هو أسرى ليلة بثرى جـعـد
وهل أنفضن الدهر أفنان لمـتـى على لاحق المتنين مندلق الوخـد
وهل أسمعن الدهر أصوات هجمة تحدر من نشز خصيب إلى وهـد سؤاله زوج ليلى عن عشرته معها
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي والعتبي قالا: مر المجنون بزوج ليلى وهو جالس يضطلي في يوم شات، وقد أتى ابن عم له في حي المجنون لحاجة، فوقف عليه ثم أنشأ يقول: صوت
بربك هل ضممت إليك ليلى قبيل الصبح أو قبلت فاهـا
وهل رفت عليك قرون ليلى رفيف الأقحوانة في نداها فقال: اللهم إذ حلفتني فنعم، قال: فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من الجمر، فما فارقهما حتى سقط مغشيا عليه، وسقط الجمر مع لحم راحتيه، وعض على شفته فقطعها، فقام زوج ليلى مغموما بفعله متعجبا منه فمضى.
غنى في البيتين المذكورين في هذا الخبر الحسين بن محرز، ولحنه رمل بالوسطى عن الهشامي.
مروره بجبلي نعمان وشعره في ذلك
أخبرني أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال قال محمد بن الحكم عن عوانة: إنه حدثه ووافقه ابن نصر وابن حبيب قالوا: إن أهل المجنون خرجوا به معهم إلى وادي القرى قبل توحشه ليمتاروا خوفا عليه من أن يضيع أو يهلك، فمروا في طريقهم بجبلي نعمان، فقال له بعض فتيان الحي: هذان جبلا نعمان، وقد كانت ليلى تنزل بهما، قال: فأي الرياح يأتي من ناحيتهما? قالوا: الصبا، قال: فوالله لا أريم هذا الموضع حتى تهب الصبا، فأقام ومضوا فامتاروا لأنفسهم، ثم أتوا عليه فأقاموا معه ثلاثة أيام حتى هبت الصبا، ثم انطلق معهم فأنشأ يقول: صوت
أيا جبلي نعمان بـالـلـه خـلـيا سبيل الصبا يخلص إلي نسيمهـا
أجد بردها أو تشف مني حـرارة على كبد لم يبق إلا صميمـهـا
فإن الصبا ريح إذا ما تنسـمـت على نفس محزون تجلت همومها ارتحال أهل ليلى وما قاله في ذلك
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسين بن الحرون قال حدثني الكسروي عن جماعة من الرواة قال: لما منع أبو ليلى المجنون وعشيرته من تزويجه بها، كان لا يزال يغشى بيوتهم ويهجم عليهم، فشكوه إلى السلطان فأهدر دمه لهم، فأخبروه بذلك فلم يرعه وقال: الموت أروح لي فليتهم قتلوني، فلما علموا بذلك وعرفوا أنه لا يزال يطلب غرة منهم حتى إذا تفرقوا دخل دورهم، فارتحلوا عنها وأبعدوا، وجاء المجنون عشية فأشرف على دورهم فإذا هي منهم بلاقع، فقصد منزل ليلى الذي كان بيتها فيه، فألصق صدره به وجعل يمرغ خديه على ترابه ويبكي ، ثم أنشأ يقول، - وذكر هذه الأبيات ابن حبيب وأبو نصر له بغير خبر -:
أيا حرجات الحي حيث تحملوا بذي سلم لا جادكـن ربـيع
وخيماتك اللاتي بمنعرج اللوى بلين بلى لم تبـلـن ربـوع
صفحة : 122
ندمت على ما كان مني نـدامة كما يندم المغبـون حـين يبـيع
فقدتك من نفس شعاع فإنـنـي نهيتك عن هذا وأنت جـمـيع
فقربت لي غير القريب وأشرفت إليك ثنايا ما لـهـن طـلـوع حديثه مع نسوة فيهن ليلى
وذكر خالد بن جميل وخالد بن كلثوم في أخبارهما التي صنعاها أن ليلى وعدته قبل أن يختلط أن تستزيره ليلة إذا وجدت فرصة لذلك، فمكث مدة يراسلها في الوفاء وهي تعده وتسوفه، فأتى أهلها ذات يوم والحي خلوف، فجلس إلى نسوة من أهلها حجرة منها بحيث تسمع كلامه، فحادثهن طويلا ثم قال: ألا أنشدكن أبياتا أحدثها في هذه الأيام? قلن: بلى، فأنشدهن: صوت
يا للرجال لهـم بـات يعـرونـي مستطرف وقديم كـاد يبـلـينـي
من عاذري من غريم غير ذي عسر يأبى فيمطلنـي دينـي ويلـوينـي
لا يبعد النقد من حقي فـينـكـره ولا يحدثني أن سوف يقضـينـي
وما كشكرى شكر لو يوافـقـنـي ولا مناي سـواه لـو يوافـينـي
أطعته وعصيت النـاس كـلـهـم في أمره وهواه وهو يعصـينـي قال: فقلن له: ما أنصفك هذا الغريم الذي ذكرته وجعلن يتضاحكم وهو يبكي، فاستحيت ليلى منهن ورقت له حتى بكت، وقامت فدخلت بيتها وانصرف هو.
- في الثلاثة الأبيات الأولى من هذه الأبيات هزج طنبوري للمسدود - قالا في خبرهما هذا: وكان للمجنون ابنا عم يأتيانه فيحدثانه ويسليانه ويؤانسانه، فوقف عليهما يوما وهما جالسان، فقالا له: يا أبا المهدي ألا تجلس? قال: لا، بل أمضي إلى منزل ليلى فاترسمه وأرى آثارها فيه، فأشفي بعض ما في صدري بها، فقالا له: فنحن معك، فقال: إذا فعلتما أكرمتما وأحسنتما، فقاما معه حتى أتى دار ليلى، فوقف بها طويلا يتتبع آثارها ويبكي ويقف في موضع موضع منها ويبكي ثم قال: صوت
يا صاحبي ألما بـي بـمـنـزلة قد مر حين عليهـا إيمـا حـين
إني أرى رجعات الحب تقتلـنـي وكان في بدئها ما كان يكفـينـي
لا خير في الحب ليست فيه قارعة كأن صاحبها في نزع مـوتـون
إن قال عذاله مهلا فـلان لـهـم قال الهوى غير هذا القول يعنيني
ألقى من اليأس تارات فتقتلـنـي وللرجاء بشاشات فـتـحـيينـي الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل من جامع غنائه وقال هشام بن الكلبي عن أبي مسكين: إن جماعة من بني عامر حدثوه قالوا: كان رجل من بني عامر ابن عقيل يقال له: قيس بن معاذ، وكان يدعى المجنون، وكان صاحب غزل ومجالسة للنساء، فخرج على ناقة له يسير، فمر بامرأة من بني عقيل يقال لها: كريمة، وكانت جميلة عاقلة، معها نسوة فعرفنه ودعونه إلى النزول والحديث، وعليه حلتان له فاخرتان وطيلسان وقلنسوة، فنزل فظل يحدثهن وينشدهن وهن أعجب شيء به فيما يرى، فلما أعجبه ذلك منهن عقر لهن ناقته، وقمن إليها فجعلن يشوين ويأكلن إلى أن أمسى، فأقبل غلام شاب حسن الوجه من حيهن فجلس إليهن، فأقبلن عليه بوجوههن يقلن له: كيف ظللت يا منازل اليوم? فلما رأى ذلك من فعلهن غضب، فقام وتركهن وهو يقول:
أأعقر من جـرا كـريمة نـاقـتـي ووصلي مفروش لوصل مـنـازل
إذا جاء قعقن الحـلـي ولـم أكـن إذا جئت أرضى صوت تلك الخلاخل قال: فقال له الفتى: هلم نتصارع أو نتناضل، فقال له: إن شئت ذلك فقم إلى حيث لا تراهن ولا يرينك، ثم ما شئت فافعل، وقال:
إذا ما انتضلنا في الخلاء نضلتـه وإن يرم رشقا عندها فهو ناضلي
صفحة : 123
وقال ابن الكلبي في هذا الخبر: فلما أصبح لبس حلته وركب ناقته ومضى متعرضا لهن، فالفى ليلى جالسة بفناء بيتها، وكانت معهن يومئذ جالسة، وقد علق بقلبها وهويته، وعندها جويريات يحدثنها، فوقف بهن وسلم، فدعونه إلى النزول وقلن له: هل لك في محادثة من لا يشغله عنك منازل ولا غيره? قال: إي لعمري، فنزل وفعل فعلته بالأمس، فأرادت أن تعلم هل لها عنده مثل ما له عندها، فجعلت تعرض عن حديثه ساعة بعد ساعة وتحدث غيره، وقد كان علق حبها بقلبه وشغفه واستملحها، فبينا هي تحدثه إذ أقبل فتى من الحي فدعته فسارته سرارا طويلا ثم قالت له انصرف، فانصرف، ونظرت إلى وجه المجنون قد تغير وامتقع وشق عليه ما فعلت، فأنشأت تقول:
كلانا مظهر للناس بغضا وكل عند صاحبه مكـين
تبلغنا العيون مقالـتـينـا وفي القلبين ثم هوى دفين قد نسبت هذا الشعر متقدما فلما سمع هذين البيتين شهق شهقة عظيمة وأغمي عليه فمكث كذلك ساعة، ونضحوا الماء على وجهه حتى أفاق، وتمكن حب كل واحد منهما في قلب صاحبه وبلغ منه كل مبلغ.
حدثني عمي عن عبد الله بن أبي سعد عن إبراهيم بن محمد بن إسماعيل القرشي قال حدثنا أبو العالية عن أبي ثمامة الجعدي قال: لا يعرف فينا مجنون إلا قيس بن الملوح.
حديث اتصاله بليلى في صباه
قال: وحدثني بعض العشيرة قال: قلت لقيس بن الملوح قبل أن يخالط: ما أعجب شيء أصابك في وجدك بليلى? قال: طرقنا ذات ليلة أضياف ولم يكن عندنا لهم أدم، فبعثني أبي منزل أبي ليلى وقال لي: اطلب لنا وقال لي: اطلب لنا منه أدما، فأتيته فوقفت على خبائه فصحت به، فقال: ما تشاء? فقلت: طرقنا ضيفان ولا أدم عندنا لهم فأرسلني أبي نطلب منك أدما، فقال: يا ليلى، أخرجي إليك ذلك النحي، فاملئن له إناءه من السمن، فأخرجته ومعي قعب، فجعلت تصب السمن فيه ونتحدث، فألهانا الحديث وهي تصب السمن وقد امتلأ القعب ولا نعلم جميعا، وهو يسيل استنقعت أرجلنا في السمن، قال: فأتيتهم ليلة ثانية أطلب نارا، وأنا متلفع ببرد لي، فأخرجت لي نارا في عطبة فأعطتنيها ووقفنا نتحدث، فلما احترقت العطبة خرقت من بردي خرقة وجعلت النار فيها، فكلما احترقت خرقت أخرى وأذكيت بها النار حتى لم يبق علي من البرد إلا ما وارى عورتي، وما أعقل ما أصنع، وأنشدني:
أمستقبلي نفح الصبا ثم شـائقـي ببرد ثنـايا أم حـسـان شـائق
كأن على أنيابها الخمر شجـهـا بماء الندى من آخر الليل عاتق
وما شمته إلا بعيني تـفـرسـا كما شيم في أعلى السحابة بارق ومن الناس من يروي هذه الأبيات لنصيب، ولكن هكذا روي في هذا الخبر.
حدث الأصمعي أنه لم يكن مجنونا
أخبرنا محمد بن خلف وكيع عن عبد الملك بن محمد الرقاشي عن عبد الصمد بن المعذل قال: سمعت الأصمعي يقول - و قد تذاكرنا مجنون بني عامر - قال: هو قيس ابن معاذ العقيلي، ثم قال: لم يكن مجنونا إنما كانت به لوثة، وهو القائل:
أخذت محاسن كـل مـا ضنت محاسنه بحسنـه
كاد الغزال يكـونـهـا لولا الشوى ونشوز قرنه قال: وهو القائل: صوت
ولم أر ليلى بعد مـوقـف سـاعة بخيف منى ترمي جمار المحصب
ويبدي الحصى منها إذا قذفت بـه من البرد أطراف البنان المخصب
فأصبحت من ليلى الغداة كناظـر مع الصبح في أعقاب نجم مغرب
ألا إنمـا غـادرت يا أم مـالـك صدى إينما تذهب به الريح يذهب في هذه الأبيات لحن من الثقيل الأول، ابتداؤه نشيد من صنعة الواثق وهو المشهور. وذكره ابن المكي لأبيه يحيى. وهو في جامع غناء سليم بن سلام له. وذكره حبش في موضعين من كتابه فنسبه في طريقه الثقيل الأول في أحدهما إلى ابن محرز، والآخر إلى يحيى المكي. وزعم الهشامي أن فيه لسليم بن سلام لحنا آخر من الثقيل الأول.
صفحة : 124
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن عبد الجبار الصوفي قال حدثني إبراهيم بن سعد الزهري قال: أتاني رجل من عذرة لحاجة، فجرى ذكر العشق والعشاق، فقلت له: أنتم أرق قلوبا أم بنو عامر? إنا لأرق الناس قلوبا، ولكن غلبتنا بنو عامر بمجنونها.
شيء من أوصافه
أخبرني أحمد بن عمر بن موسى بن زكويه القطان إجازة قال حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال أخبرني عبد الجبار بن سليمان بن نوفل بن مساحق عن أبيه عن جده قال: أنا رأيت مجنون بني عامر، وكان جميل الوجه أبيض اللون قد علاه شحوب، واستنشدته فأنشدني قصيدته التي يقول فيها:
تذكرت ليلى والسنين الخوالـيا وأيام لا أعدي على اللهو عاديا أخبرني محمد بن الحسن الكندي خطيب مسجد القادسية قال حدثنا الرياشي قال: سمعت أبا عثمان المازني يقول: سمعت معاذا وبشر بن المفضل جميعا ينشدان هذين البيتين وينسبانهما لمجنون بني عامر:
طمعت بليلى أن تريع وإنمـا تقطع أعناق الرجال المطامع
ودانيت ليلى في خلاء ولم يكن شهود على ليلى عدول مقانع وحدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب عن ابن سلام قال: قضى عبيد الله الحسن بن الحصين بن أبي الحر العنبري على رجل من قومه قضية أوجبها الحكم عليه، وظن العنبري أنه تحامل عليه وانصرف مغضبا، ثم لقيه في طريق، فأخذ بلجام بغلته وكان شديدا أيدا، ثم قال له: إيه يا عبيد الله
طمعت بليلى أن تريع وإنمـا تقطع أعناق الرجل المطامع فقال عبيد الله:
وبايعت ليلى في خلاء ولم يكن شهود عدول عند ليلى مقانـع خل عن البغلة. قال الصولي في خبره هذا: والبيتان للبعيث هكذا، قال: فلا أدري أمن قوله هو أم حكاية عن أبي خليفة.
زيارة ليلى له وحديثه معها
أخبرنا محمد بن القاسم الأنباري عن عبد الله بن خلف الدلال قال حدثنا زكريا بن موسى عن شعيب بن السكن عن يونس النحوي قال: لما اختلط عقل قيس بن الملوح وترك الطعام والشراب، مضت أمه إلى ليلى فقالت لها: إن قيسا قد ذهب حبك بعقله، وترك الطعام والشراب، فلو جئته وقتا لرجوت أن يثوب إليه بعض عقله، فقالت ليلى: أما نهارا فلا لأنني لا آمن قومي على نفسي ولكن ليلا، فأتته ليلا فقالت له: يا قيس، إن أمك تزعم أنك جننت من أجلي وتركت المطعم والمشرب، فاتق الله وأبق على نفسك، فبكى وأنشأ يقول:
قالت جننت على أيش فقلت لها الحب أعظم مما بالمـجـانـين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبـه وإنما يصرع المجنون في الحين قال: فبكت معه، وتحدثا حتى كاد الصبح أن يسفر، ثم ودته وانصرفت، فكان آخر عهده بها.
سبب جنونه بيت شعر قاله
أخبرنا ابن المرزبان قال قال القحذمي: لما قال المجنون:
قضاها لغيري وابتلاني بحبها فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا سلب عقله. الغناء لحكم ثقيل أول، وقيل إنه لابن الهربذ. وفيه لمتيم خفيف ثقيل أول من جامع أغانيها. وحدثني جحظة بهذا الخبر عن ميمون بن هارون أنه بلغه أنه لما قال هذا البيت برص.
سبب تسميته المجنون
واختلاف الرواة في ذلك
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن طاهر القرشي عن ابن عائشة قال: إنما سمي المجنون بقوله:
ما بال قلبك يا مجنون قد خـلـعـا في حب من لا ترى في نيله طمعا
الحب والود نيطا بالـفـؤاد لـهـا فأصبحا في فؤادي ثابتـين مـعـا حدثنا وكيع عن ابن يونس قال قال الأصمعي: لم يكن المجنون، إنما جننه العشق، وأنشد له:
يسمونني المجنون حين يرونني نعم بي من ليلى الغداة جنـون
ليالي يزهى بي شباب وشـرة وإذ بي من خفض المعيشة لين أخبرني محمد بن المرزبان عن إسحاق بن محمد بن أبان قال حدثني علي بن سهل عن المدائني: أنه ذكر عنده مجنون بني عامر فقال: لم يكن مجنونا، وإنما قيل له المجنون بقوله:
وإني لمجنون بلـيلـى مـوكـل ولست عزوفا عن هواها ولا جلدا
إذا ذكرت ليلى بكـيت صـبـابة لتذكارها حتى يبل البكا الـخـدا
صفحة : 125
أخبرني عمر بن جميل العتكي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عون بن عبد الله العامري أنه قال: ما كان والله المجنون الذي تعزونه إلينا مجنونا، إنما كانت به لوثة وسهو أحدثهما به حب ليلى، وأنشد له:
وبي من هوى ليلى الذي لو أبـثـه جماعة أعدائي بكت لي عيونـهـا
أرى النفس عن ليلى أبت أن تطيعني فقد جن من وجدي بليلى جنونـهـا أخبرني ابن المرزبان قال قال العتبي: إنما سمي المجنون بقوله:
يقول أناس عل مجنـون عـامـر يروم سلوا قلت أنى لـمـا بـيا
وقد لامني في حب ليلى أقاربـي أخي وابن عمي وابن خالي وخاليا
يقولون ليلى أهـل بـيت عـداوة بنفسي ليلى من عـدو ومـالـيا
ولو كان في ليلى شذا من خصومة للويت أعناق المطي الـمـلاويا أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي عن عيسى بن إسماعيل قال قال ابن سلام: لو حلفت أن مجنون بني عامر لم يكن مجنونا لصدقت، ولكن توله لما زوجت ليلى وأيقن اليأس منها، ألم تسمع إلى قوله:
أيا ويح من أمسى تخلس عقلـه فأصبح مذهوبا به كل مذهـب
خليعا من الخلان إلا مجـامـلا يساعدني من كان يهوى تجنبي
إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت عوزاب قلبي من هوى متشعب أخبرني به الحسن بن علي عن دينار بن عامر التغلبي عن مسعود بن سعد عن ابن سلام ونحوه.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أنشدني صالح بن سعيد قال أنشدني يعقوب بن السكيت للمجنون.
يسمونني المجنون حين يرونني نعم بي من ليلى الغداة جنون قال: وأنشدنا له أيضا: صوت
وشغلت عن فهم الحديث سوى ما كان فيك فإنه شـغـلـي
وأديم لحظ محـدثـي لـيرى أن قد فهمت وعندكم عقلـي الحديث عن تكنيته ليلى بأم مالك
أخبرني ابن المرزبان عن محمد بن الحسن دينار الأحول عن علي بن المغيرة الأثرم عن أبي عبيدة: أن صاحبة مجنون بني عامر التي كلف بها ليلى بنت مهدي بن سعد بن مهدي بن ربيعة بن الحريش، وكنيتها أم مالك، وقد ذكر هذه الكنية المجنون في شعره فقال:
تكاد بلاد الله يا أم مـالـك بما رحبت يوما علي تضيق وقال أيضا:
فإن الذي أملت من أم مـالـك أشاب قذالي واستهـام فـؤاديا
خليلي إن دارت على أم مالـك صروف الليالي فابغيا لي ناعيا وقال أبو عمرو الشيباني: علق المجنون ليلى بنت مهدي بن سعد من بني الحريش، وكنيتها أم مالك، فشهر بها وعرف خبره فحجبت عنه، فشق عليه فخطبها إلى أبيها فرده وأبى أن يزوجه إياها، فاشتد به الأمر حتى جن وقيل له: مجنون بني عامر فكان على حاله يجلس في نادي قومه فلا يفهم ما يحدث به ولا يعقله إلا إذا ذكرت ليلى. وأنشد له أبو عمرو: صوت
الرائية
ألا ما لليلى لا ترى عند مضجعـي بليل ولا يجـري بـذلـك طـائر
بلى إن عجم الطير تجري إذا جرت بليلى ولكن ليس للطـير زاجـر
أزالت عن العهد الذي كان بينـنـا بذي الأثل أم قد غيرتها المـقـادر
فوالله ما في القرب لي منك راحة ولا البعد يسليني ولا أنا صـابـر
ووالـلـه مـا أدري بـأية حـيلة وأي مرام أو خطـار أخـاطـر
وتالله إن الدهر في ذات بـينـنـا علي لها في كل حـال لـجـائر
فلو كنت إذ أزمعت هجري تركتني جميع القوى والعقل منـي وافـر
ولكن أيامي بـحـقـل عـنـيزة وبالرضم أيام جناها الـتـجـاور
وقد أصبح الود الذي كان بـينـنـا أماني نفس والـمـؤمـل حـائر
لعمري لقد رنقـت يا أم مـالـك حياتي وساقتني إليك الـمـقـادر قال أبو عمرو: وأخبرني بعض الشأميين قال: دخلت أرض بني عامر، فسألت عن المجنون الذي قتله الحب، فخبروني عنه أنه كان عاشقا لجارية منهم يقال لها ليلى، ربا معها ثم حجبت عنه، فاشتد عليه وذهب عقله، فأتاه إخوان من إخوانه يلومونه على ما يصنع بنفسه، فقال: صوت
صفحة : 126
يا صاحبي ألما بي بمـنـزلة قد مر حين عليها أيما حـين
في كل منزلة ديوان معـرفة لم يبق باقية ذكـر الـدواوين
إني أرى رجعات الحب تقتلني وكان في بدئها ما كان يكفيني الغناء لابن جامع خفيف ثقيل.
جنونه بليلى وهيامه على وجهه
من أجلها
أخبرني هاشم الخزاعي عن العباس بن الفرج الرياشي قال: ذكر العتبي عن أبيه قال: كان المجنون في بدء أمره يرى ليلى ويألفها ويأنس بها ثم غيبت عن ناظره، فكان أهله يعزونه عنها ويقولون: نزوجك أنفس جارية في عشيرتك، فيأبى إلا ليلى ويهذي بها ويذكرها فكان ربما استراح إلى أمانيهم وركن إلى قولهم ، وكان ربما هاج عليه الحزن والهم فلا يملك مما هو فيه أن يهيم على وجهه، وذلك قبل أن يتوحش مع البهائم في القفار، فكان قومه يلومونه ويعذلونه، فأكثروا عليه في الملامة والعذل يوما فقال: صوت
يا للرجال لهـم بـت يعـرونـي مستطرف وقديم كان يعـنـينـي
على غريم مليء غـير ذي عـدم يأبى فيمطلني دينـي ويلـوينـي
لا يذكر البعض من ديني فينكـره ولا يحدثني أن سوف يقضـينـي
وما كشكري شكر لو يوافـقـنـي ولا منى كمـنـاه إذ يمـنـينـي
أطعته وعصيت النـاس كـلـهـم في أمره ثم يأبى فهو يعصـينـي
خيري لمن يبتغي خيري ويأمـلـه من دون شري وشري غير مأمون
وما أشارك في رأيي أخا ضعـف ولا أقول أخي مـن لا يواتـينـي في هذه الأبيات هزج طنبوري للمسدود من جامعه.
وقال أبو عمرو الشيباني: حدثني رباح العامري قال: كان المجنون أول ما علق ليلى كثير الذكر لها والإتيان بالليل إليها، والعرب ترى ذلك غير منكر أن يتحدث الفتيان إلى الفتيات، فلما علم أهلها بعشقه لها منعوه من إتيانها وتقدموا إليه، فذهب لذلك عقله ويئس منه قومه واعتنوا بأمره، واجتمعوا إليه ولاموه وعذلوه على ما يصنع بنفسه، وقالوا: والله ما هي لك بهذه الحال، فلو تناسيتها رجونا أن تسلو قليلا، فقال لما سمع مقالتهم وقد غلب عليه البكاء: صوت
فواكبدا من حب من لا يحبنـي ومن زفرات ما لهـن فـنـاء
أريتك إن لم أعطك الحب عن يد ولم يك عنـدي إذ أبـيت إبـاء
أتاركتي للموت أنـت فـمـيت وما للنفوس الخائفـات بـقـاء ثم أقبل على القوم فقال: إن الذي بي ليس بهين، فاقلوا من ملامكم فلست بسامع فيها ولا مطيع لقول قائل.
قصة حبه ليلى برواية رباح العامري أخبرني عمي ومحمد بن حبيب وابن المرزبان عن عبد الله بن أبي سعد عن عبد العزيز صالح عن أبيه عن ابن دأب عن رباح بن حبيب العامري: أنه سأله عن حال المجنون وليلى، فقال: كانت ليلى من بني الحريش وهي بنت مهدي بن سعيد بن مهدي بن ربيعة بن الحريش، وكانت من أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن جسما وعقلا وأفضلهن أدبا وأملحهن شكلا، وكان المجنون كلفا بمحادثة النساء صبا بهن، فبلغه خبرها ونعتت له، فصبا إليها وعزم على زيارتها، فتأهب لذلك ولبس أفضل ثيابه ورجل جمته ومس طيبا كان عنده، وارتحل ناقة له كريمة برحل حسن وتقلد سيفه وأتاها، فسلم فردت عليه السلام وتحفت في المسئلة، وجلس إليها فحادثته وحادثها فأكثرا، وكل واحد منهما مقبل على صاحبه معجب به، فلم يزالا كذلك حتى أمسيا، فانصرف إلى أهله فبات بأطول ليلة شوقا إليها، حتى إذا أصبح عاد إليها فلم يزل عندها حتى أمسى، ثم انصرف إلى أهله فبات بأطول من ليلته الأولى واجتهد أن يغمض فلم يقدر على ذلك، فأنشأ يقول:
نهاري نهار الناس حتى إذا بـدا لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ويجمعني والهم بالليل جامـع
لقد ثبتت في القلب منك محـبة كما ثبتت في الراحتين الأصابع
صفحة : 127
- عروضه من الطويل، والغناء لإبراهيم الموصلي رمل بالوسطى عن عمرو - قال: وأدام زيارتها وترك من يأتيه فيتحدث إليه غيرها، وكان يأتيها في كل يوم فلا يزال عندها نهاره أجمع حتى إذا أمسى انصرف، فخرج ذات يوم يريد زيارتها فلما قرب من منزلها لقيته جارية عسراء فتطير منها، وأنشأ يقول:
وكيف يرجى وصل ليلى وقد جـرى بجد القوى والوصل أعسر حاسـر
صديع العصا صعب المرام إذا انتحى لوصل امرىء جدت عليه الأواصر ثم سار إليها في غد فحدثها بقصته وطيرته ممن لقيه، وأنه يخاف تغير عهدها وانتكاثه وبكى، فقالت: لا ترع، حاش لله من تغير عهدي، لا يكون والله ذلك أبدا إن شاء الله، فلم يزل عندها يحادثها بقية يومه، ووقع له في قلبها مثل ما وقع لها في قلبه، فجاءها يوما كما كان يجيء، وأقبل يحدثها فأعرضت عنه، وأقبلت على غيره بحديثها، تريد بذلك محنته وأن تعلم ما في قلبه، فلما رأى ذلك جزع جزعا شديدا حتى بان في وجهه وعرف فيه، فلما خافت عليه أقبلت عليه كالمسرة إليه فقالت:
كلانا مظهر للناس بغضنا وكل عند صاحبه مكين فسري عنه وعلم ما في قلبها، فقالت له: إنما أردت أن أمتحنك والذي لك عندي أكثر من الذي لي عندك، وأعطي الله عهدا إن جالست بعد يومي هذا رجلا سواك حتى أذوق الموت إلا أن أكره على ذلك، قال: فانصرفت عنه وهو من أشد الناس سرورا وأقرهم عينا، وقال:
أظن هواها تاركي بـمـضـلة من الأرض لا مال لدي ولا أهل
ولا أحد أفضي إلـيه وصـيتـي ولا صاحب إلا المطية والرحل
محا حبها حب الألى كن قبلـهـا وحلت مكانا لم يكن حل من قبل شعره بعد أن تزوجت وأيس منها أخبرني جعفر بن قدامة عن أبي العيناء عن العتبي قال: لما حجبت ليلى عن المجنون خطبها جماعة فلم يرضهم أهلها، وخطبها رجل من ثقيف موسر فزوجوه وأخفوا ذلك عن المجنون ثم نمي إليه طرف منه لم يتحققه، فقال:
دعوت إلهي دعوة ما جهلتـهـا وربي بما تخفي الصدور بصير
لئن كنت تهدي برد أنيابها العـلا لأفقر مني إنـنـي لـفـقـير
فقد شاعت الأخبار أن قد تزوجت فهل يأتيني بالطـلاق بـشـير وقال أيضا:
ألا تلك ليلى العامرية أصبـحـت تقطع إلا من ثقيف حـبـالـهـا
هم حبسوها محبس البدن وابتغـى بها المال أقوام ألا قل مـالـهـا
إذا التفتت والعيس صعر من البرى بنخلة جلت عبرة العين حالـهـا قال: وجعل يمر بيتها فلا يسأل عنها ولا يلتفت إليه، ويقول إذا جاوزه: صوت
ألا أيها البيت الـذي لا أزوره وإن حله شخص إلي حبـيب
هجرتك إشفاقا وزرتك خائفـا وفيك علي الدهر منك رقيب
سأستعتب الأيام فيك لعلـهـا بيوم سرور في الزمان تؤوب الغناء لعريب ثاني ثقيل بالوسطى. قال: وبلغه أن أهلها يريدون نقلها إلى الثقفي فقال: صوت
كأن القلب ليلة قيل يغدى بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح - عروضه من الوافر. الغناء لابن المكي خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها عن إسحاق، وفيه خفيف ثقيل آخر لسليمان مطلق في مجرى البنصر، وفيه لإبراهيم رمل بالوسطى في مجراها عن الهشامي - قال: فلما نقلت ليلى إلى الثقفي قال: <H6 قصيدته العينية</H6
طربت وشاقتك الحمول الـدوافـع غداة دعا بالبـين أسـفـع نـازع
شحا فاه نعبا بـالـفـراق كـأنـه حريب سليب نازح الـدار جـازع
فقلت ألا قد بين الأمر فانـصـرف فقد راعنا بالبـين قـبـلـك رائع
سقيت سموما من غراب فأنـنـي تبينت ما خبرت مـذ أنـت واقـع
ألم تر أنـي لا مـحـب ألـومـه ولا ببديل بعـدهـم أنـا قـانـع
ألم تر دار الحي في رونق الضحى بحيث انحنت للهضبتين الأجـارع
صفحة : 128
وقد يتناءى الإلف من بـعـد ألـفة ويصدع ما بين الخليطـين صـادع
وكم من هوى أو جيرة قد ألفتـهـم زمانا فلم يمنعهم الـبـين مـانـع
كأني غداة الـبـين مـيت جـوبة أخو ظمأ سدت عليه المـشـارع
تخلس من أوشـال مـاء صـبـابة فلا الشرب مبذول ولا هو نـاقـع
وبيض تطلى بالعـبـير كـأنـهـا نعاج الملا جيبت عليها البـراقـع
تحملن من وادي الأراك فأومضـت لهن بأطراف العيون الـمـدامـع
فما رمن ربع الدار حتى تشابهـت هجائنها والجون منها الخـواضـع
وحتى حلمن الحور من كل جانـب وخاضت سدول الرقم منها الأكارع
فلما استوت تحت الخدور وقد جرى عبير ومسك بالـعـرانـين رادع
أشرن بأن حثوا الجمال فـقـد بـدا من الصيف يوم لافح الحر ماتـع
فلما لحقنا بالحمـول تـبـاشـرت بنا مقصرات غاب عنها المطامـع
يعرضن بالدل الـمـلـيح وإن يرد جناهن مشغوف فهـن مـوانـع
فقلت لأصحابي ودمعي مـسـبـل وقد صدع الشمل المشتت صـادع
أليلى بأبواب الخدور تـعـرضـت لعيني أم قرن من الشمس طالـع مروره على حمامة تهدل
وما قال في ذلك من الشعر
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا الهيثم بن فراس قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي: أن أبا المجنون حج به ليدعو الله عز وجل في الموقف أن يعافيه، فسار ومعه ابن عمه زياد بن كعب بن مزاحم، فمر بحمامة تدعو على أيكة فوقف يبكي، فقال له زياد: أي شيء هذا? ما يبكيك أيضا? سر بنا نلحق الرفقة، فقال:
أأن هتفـت يومـا بـواد حـمـامة بكيت ولم يعذرك بالجهـل عـاذر
دعت ساق حر بعد ما علت الضحى فهاج لك الأحزان أن نـاح طـائر
تغني الضحى والصبح في مرجحنة كثاف الأعالي تحتها المـاء حـائر
كأن لم يكن بالغيل أو بـطـن أيكة أو الجزع من تول الأشاءة حاضـر
يقول زياد إذ رأى الحي هـجـروا أرى الحي قد ساروا فهل أنت سائر
وإني وإن غال التقـادم حـاجـتـي ملم على أوطان ليلـى فـنـاظـر هيامه إلى نواحي الشأم
وما يقوله من الشعر عند عوده ورؤبة التوباد
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر عن الزبير عن محمد بن عبد الله البكري عن موسى بن جعفر بن أبي كثير وأخبرني عمي عن عبد الله بن شبيب عن هارون بن موسى الفروي عن موسى بن جعفر بن أبي كثير وأخبرني ابن المرزبان عن ابن الهيثم عن العمري عن العتبي قالوا جميعا: كان المجنون وليلى وهما صبيان يرعيان غنما لأهلها عند جبل في بلادهما يقال له التوباد، فلما ذهب عقله وتوحش، كان يجيء إلى ذلك الجبل فيقيم به، فإذا تذكر أيام كان يطيف هو وليلى به جزع جزعا شديدا واستوحش فهام على وجهه حتى يأتي نواحي الشأم، فإذا ثاب إليه عقله رأى بلدا لا يعرفه فيقول للناس الذين يلقاهم: بأبي أنتم، أين التوباد من أرض بني عامر? فيقال له: وأين أنت من أرض بني عامر أنت بالشأم عليك بنجم كذا فأمه، فيمضي على وجهه نحو ذلك النجم حتى يقع بأرض اليمن، فيرى بلادا ينكرها وقوما لا يعرفهم فيسألهم عن التوباد وأرض بني عامر، فيقولون: وأين أنت من أرض بني عامر عليك بنجم كذا وكذا، فلا يزال كذلك حتى يقع على التوباد، فإذا رآه قال في ذلك: أبياته التي يصف فيها انصباب الدمع
وأجهشت للتوباد حـين رأيتـه وكبر للرحمـن حـين رآنـي
وأذريت دمع العين لما عرفتـه ونادى بأعلى صوته فدعـانـي
فقلت له قد كان حولـك جـيرة وعهدي بذاك الصرم منذ زمان
فقال مضوا واستودعوني بلادهم ومن ذا الذي يبقى على الحدثان
وإني لأبكي اليوم من حذري غدا فراقك والحيان مجتـمـعـان
سجالا وتهتـانـا ووبـلا وديمة وسحا وتسجاما إلى هـمـلان سبب ذهاب عقله
صفحة : 129
أخبرني عمي عن عبد الله بن شبيب عن هارون بن موسى الفروي عن موسى بن جعفر بن أبي كثير قال: لما قال المجنون:
خليلي لا واللـه لا أمـلـك الـذي قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا
قضاها لغيري وابتلاني بحـبـهـا فهلا بشيء غير ليلى ابـتـلانـيا سلب عقله.
وحدثني جحظة عن ميمون بن هارون عن إسحاق الموصلي أنه لما قالهما برص.
شعره حين توهم هاتفا باسم ليلى
قال موسى بن جعفر في خبره المذكور: وكان المجنون يسير مع أصحابه فسمع صائحا يصيح: يا ليلى في ليلة ظلماء أو توهم ذلك، فقال لبعض من معه: أما تسمع هذا الصوت? فقال: ما سمعت شيئا، قال: بلى، والله هاتف يهتف بليلى، ثم أنشأ يقول:
أقول لأدنى صـاحـبـي كـلـيمة أسرت من الأقصى أجب ذا المناديا
إذا سرت في الأرض الفضاء رأيتني أصانع رحلـي أن يمـيل حـيالـيا
يمينا إذا كانت يمـينـا وإن تـكـن شمالا ينازعني الهوى عن شمالـيا شعر له في منى وغيرها
يرويه غرير بن طلحة
وقال ابن شبيب وحدثني هارون بن موسى قال: قلت لغريز بن طلحة المخزومي: من أشعر الناس ممن قال شعرا في منى ومكة وعرفات? فقال: أصحابنا القرشيون، ولقد أحسن المجنون حيث يقول:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أحزان الفـؤاد ومـا يدري
دعا باسم ليلى غرها فـكـأنـمـا أطار بليلى طائرا كان في صدري فقلت له: هل تروي للمجنون غير هذا? قال: نعم، وأنشدني له:
أما والذي أرسى ثبيرا مـكـانـه عليه السحاب فوقه يتـنـصـب
وما سلك الموماة من كل جسـرة طليح كجفن السيف تهوي فتركب
لقد عشت من ليلى زمانا أحبـهـا أخا الموت إذ بعض المحبين يكذب أخبرني محمد بن مزيد عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كانت كنية ليلى أم عمرو، وأنشد للمجنون: صوت
أبى القلب إلا حـبـه عـامـرية لها كنية عمرو وليس لها عمـرو
تكاد يدي تندى إذا ما لمـسـتـهـا وينبت في أطرافها الورق الخضر الغناء لعريب ثقيل أول، وقال حبش: فيه لإسحاق خفيف ثقيل.
خطبة ليلى برجل من ثقيف
وما قاله المجنون في ذلك من الشعر
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي عن دماذ عن أبي عبيدة قال: خطب ليلى صاحبة المجنون جماعة من قومها فكرهتهم، فخطبها رجل من ثقيف موسر فرضيته، وكان جميلا فتزوجها وخرج بها، فقال المجنون في ذلك:
ألا إن ليلى كالمنيحة أصـبـحـت تقطع إلا من ثقيف حـبـالـهـا
فقد حبسوها محبس البدن وابتغـى بها الريح أقوام تساحت مـالـهـا
خليلي هل من حيلة تعلـمـانـهـا يدني لنا تكليم ليلى احـتـيالـهـا
فإن أنتما لم تعلماها فـلـسـتـمـا بأول بـاغ حـاجة لا ينـالـهــا
كأن مع الركب الذين اغتدوا بـهـا غمامة صيف زعزعتها شمالـهـا
نظرت بمفضى سيل جوشن إذ غدوا تخب بأطراف المـخـارم آلـهـا
بشافية الأحزان هـيج شـوقـهـا مجـامـعة الآلاف ثـم زيالـهـا
إذا التفتت من خلفها وهي تعتـلـي بها العيس جلى عبرة العين حالهـا أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب عن أبي نصر أحمد بن حاتم قال: وأنشدناه المبرد للمجنون فقال: صوت
وأحـبـس عـنـك الـنـفـس والـنـفـــس صـــبة بذكـراك والـمـــمـــشـــى ألـــيك قـــريب
مخـافة أن تـسـعــى الـــوشـــاة بـــظـــنة وأحــرســـكـــم أن يســـتـــريب مـــريب
فقد جعلت نفسي وأنت اجترمتهوكنت أعز الناس عنك تطيب
فلو شئت لم أغضب عليك ولم يزل لك الـدهـر مـنـي مـــا حـــييت نـــصـــيب
أمـا والـذي يبـلـو الــســـرائر كـــلـــهـــا ويعـلـم مــا تـــبـــدي بـــه وتـــغـــيب
لقـد كـنـت مـمـن تـصـطـفـي الـنـفـس خـــلة لهـا دون خـلان الــصـــفـــاء حـــجـــوب ذكر يحيى المكي أنه لابن سريج ثقيل أول، وقال الهشامي: إنه منحول يحيى إليه.
خبر أبي الحسن الببغاء
والمرأة التي أحبت صديقا له من قريش
صفحة : 130
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الحسن بن محمد بن طالب الديناري قال حدثني إسحاق الموصلي، وأخبرني به محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني سعيد بن سليمان عن أبي الحسن الببغاء قال: بينا أنا وصديق لي من قريش نمشي بالبلاط ليلا، إذا بظل نسوة في القمر، فسمعت إحداهن تقول: أهو هو? فقالت لها أخرى معها: أي والله إنه لهو هو? فدنت مني ثم قالت: يا كهل، قل لهذا الذي معك:
ليست لياليك في خاخ بعائدة كما عهدت ولا أيام ذي سلم فقلت: أجب فقد سمعت، فقال: قد والله قطع بي وأرتج علي فأجب عني، فقلت:
فقلت لها يا عز كل مـصـيبة إذا وطنت يوما لها النفس ذلت ثم مضينا حتى إذا كنا بمفرق طريقين مضى الفتى إلى منزله ومضيت إلى منزلي، فإذا أنا بجويرية تجذب ردائي فالتفت، فقالت لي: المرأة التي كلمتها تدعوك، فمضيت معها حتى دخلت دارا واسعة ثم صرت إلى بيت فيه حصير، وقد ثنت لي وسادة فجلست عليها، ثم جاءت جارية بوسادة مثنية فطرحتها، ثم جاءت المرأة فجلست عليها، فقالت لي: أنت المجيب? قلت: نعم، قالت: ما كان أفظ لجوابك وأغلظه فقلت لها: ما حضرني غيره، فسكتت، ثم قالت: لا والله ما خلق الله خلقا أحب إلي من إنسان كان معك فقلت لها: أنا الضامن لك عنه ما تحبين، فقالت: هيهات أن يقع بذلك وفاء، فقلت: أنا الضامن وعلي أن آتيك به في الليلة القابلة فانصرفت، فإذا الفتى ببابي، فقلت: ما جاء بك? قال: ظننت أنها سترسل إليك وسألت عنك فلم أعرف لك خبرا، فظننت أنك عندها، فجلست أنتظرك، فقلت له: وقد كان الذي ظننت، وقد وعدتها أن آتيك فأمضي بك إليها في الليلة المقبلة، فلما أصبحنا تهيأنا وانتظرنا المساء، فلما جاء الليل رحلنا إليها، فإذا الجارية منتظرة لنا، فمضت أمامنا حين رأتنا حتى دخلت تلك الدار ودخلنا معها، فإذا رائحة طيبة ومجلس قد أعد ونضد، فجلسنا على وسائد قد ثنيت لنا، وجلست مليا ثم أقبلت عليه فعاتبته مليا ثم قالت: صوت
وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني وأشمت بي من كان فيك يلوم
وأبرزتني للناس ثم تركتنـي لهم غرضا أرمى وأنت سليم
فلو كان قول يكلم الجلد قد بدا بجلدي من قول الوشاة كلوم هذه الأبيات لأميمة امرأة ابن الدمينة، وفيها غناء لإبراهيم الموصلي ذكره إسحاق ولم يجنسه. وقال الهشامي: هو خفيف رمل. وفيه لعريب خفيف ثقيل أول ينسب إلى حكم الوادي وإلى يعقوب. قال: ثم سكتت وسكت الفتى هنيهة ثم قال:
غدرت ولم أغدر وخنت ولم أخن وفي بعض هذا للمحب عـزاء
جزيتك ضعف الود ثم صرمتني فحبك من قلـبـي إلـيك أداء فالتفتت إلي فقالت: ألا تسمع ما يقول قد خبرتك، فغمزته أن كف فكف، ثم أقبلت عليه وقالت: صوت
تجاهلت وصلي حين جدت عمايتي فهلا صرمت الحبل إذ أنا أبصـر
ولي من قوى الحبل الذي قد قطعته نصيب وإذ رأيي جميع مـوفـر
ولكنما آذنت بـالـصـرم بـغـتة ولست على مثل الذي جئت أقـدر - الغناء لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى عن عمرو - فقال:
لقد جعلت نفسي وأنت اجترمتهوكنت أعز الناس عنك تطيب قال: فبكت، ثم قالت: أو قد طابت نفسك لا، والله ما فيك بعدها خير، ثم التفتت إلي وقالت: قد علمت أنك لا تفي بضمانك ولا يفي به عنك. وهذا البيت الأخير للمجنون، وإنما ذكر هذا الخبر هنا وليس من أخبار المجنون لذكره فيه.
رجع الخبر إلى سياق أخبار المجنون
رأى المجنون أبيات أهل ليلى فقال شعرا
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي أن رهط المجنون اجتازوا في نجعة لهم بحي ليلى، وقد جمعتهم نجعة فرأى أبيات أهل ليلى ولم يقدم على الإلمام بهم وعدل أهله إلى جهة أخرى، فقال المجنون:
لعمرك إن البيت بالقبـل الـذي مررت ولم ألمم عليه لشـائق
وبالجزع من أعلى الجنيبة منزل شجا حزن صدري به متضايق
كأني إذا لم ألق ليلى معـلـق بسبين أهفوا بين سهل وحالـق
صفحة : 131
على أنني لو شئت هاجت صبابتي علي رسوم عي فيها التنـاطـق
لعمرك إن الحـب يا أم مـالـك بقلبي براني الله منه لـلاصـق
يضم علي الليل أطراف حبـكـم كما ضم أطراف القميص البنائق صوت
وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا سوى أن يقولوا إنني لك عاشق
نعم صدق الواشون إنت حبـيبة إلي وإن لم تصف منك الخلائق الغناء لمتيم ثقيل أول من جامعها. وفيه لدعامة رمل عن حبش.
حديث ليلى جارة لها من عقيل
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني أحمد بن الطيب قال قال ابن الكلبي: دخلت ليلى على جارة لها من عقيل وفي يدها مسواك تستاك به، فتنفست ثم قالت: سقى الله من أهدى لي هذا المسواك؛ فقالت لها جارتها: من هو? قالت: قيس بن الملوح، وبكت ثم نزعت ثيابها تغتسل؛ فقالت: ويحه لقد علق منى ما أهلكه من غير أن أستحق ذلك، فنشدتك الله، أصدق في صفتي أم كذب? فقالت: لا والله، بل صدق؛ قال: وبلغ المجنون قولها فبكى ثم أنشأ يقول:
نبئت ليلى وقد كنا نـبـخـلـهـا قالت سقى المزن غيثا منزلا خربا
وحبذا راكب كـنـا نـهـش بـه يهدي لنا من أراك الموسم القضبا
قالت لجارتها يوما تـسـائلـهـا لما استحمت وألقت عندها السلبـا
يا عمرك الله ألا قـلـت صـادقة أصدقت صفة المجنون أم كـذبـا ويروى: نشدتك الله ويروى: أصادقا وصف المجنون أم كذبا .
خروج ليلى مع زوجها وشعره فيه
وقال أبو نصر في أخباره: لما زوجت ليلى بالرجل الثقفي سمع المجنون رجلا من قومها يقول لآخر: أنت ممن يشيع ليلى? قال: ومتى تخرج? قال: غدا، ضحوة أو الليلة، فبكى المجنون ثم قال: صوت
كأن القلب ليلة قيل يغدى بليليى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح الغناء ليحيى المكي خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو، وفيه رمل ينسب إلى إبراهيم وإلى أحمد بن يحيى المكي؛ وقال حبش: فيه خفيف ثقيل بالوسطى لسليم.
وعظه رجل من بني عامر فأنشده شعرا
وقال الهيثم بن عدي في خبره. حدثني عبد الله بن عياش الهمداني قال حدثني رجل من بني عامر قال: مطرنا مطرا شديدا في ربيع ارتبعناه، ودام المطر ثلاثا ثم أصبحنا في اليوم الرابع على صحو وخرج الناس يمشون على الوادي، فرأيت رجلا جالسا حجرة وحده فقصدته، فإذا هو المجنون جالس وحده يبكي فوعظته وكلمته طويلا وهو ساكت لم يرفع رأسه إلي، ثم أنشدني بصوت حزين لا أنساه أبدا وحرقته.
صوت
جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى وفاضت له من مقلـتـي غـروب
ومـا ذاك إلا حـين أيقـنـت أنـه يكـون بـواد فـــيه قـــريب
يكون أجاجا دونكم فـإذا انـتـهـى إليكم تلقـى طـيبـكـم فـيطـيب
أظل غريب الدار في أرض عامـر ألا كل مهجـور هـنـاك غـريب
وإن الكثيب الفرد من أيمن الحمـى إلـي وإن لـم آتـه لـحـبــيب
فلا خير في الدنيا إذا أنت لـم تـزر حبيبا ولم يطـرب إلـيك حـبـيب وأول هذه القصيدة - وفيه أيضا غناء -: صوت
ألا أيها البيت الذي لا أزوره وهجرانه منى إلـيه ذنـوب
هجرتك مشتاقا وزرتك خائفا وفيك علي الدهر منك رقيب
سأستعطف الأيام فيك لعلهـا بيوم سرور في هواك تثيب هذه الأبيات في شعر محمد بن أمية مروية، ورويت ها هنا للمجنون في هذه القصيدة . وفيها لعريب ثقيل أول. ولعبد الله بن العباس ثاني ثقيل. ولأحمد بن المكي خفيف ثقيل.
وأفردت إفراد الطريد وبـاعـدت إلى النفس حاجات وهن قـريب
لئن حال يأس دون ليلى لـربـمـا أتى اليأس دون الأمر فهو عصيب
ومنيتني حتـى إذا مـا رأيتـنـي على شرف للـنـاظـرين يريب
صددت وأشمت العدو بصرمـنـا أثابك يا ليلى الـجـزاء مـثـيب
صفحة : 132
لقاؤه في توحشه ليلى وشعره في ذلك
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا مهدي بن سابق قال حدثنا بعض مشايخ بني عامر أن المجنون مر في توحشه فصادف حي ليلى راحلا ولقيها فجأة فعرفها وعرفته فصعق وخر مغشيا على وجهه، وأقبل فتيان من حي ليلى فأخذوه ومسحوا التراب عن وجهه، وأسندوه إلى صدورهم وسألوا ليلى أن تقف له وقفة، فرقت لما رأته به، وقالت: أما هذا فلا يجوز أن أفتضح به، ولكن يا فلانة - لأمة لها - اذهبي إلى قيس فقولي له: ليلى تقرأ عليك السلام، وتقول لك: أعزز علي بما أنت فيه، ولو وجدت سبيلا إلى شفاء دائك لوقيتك بنفسي منه، فمضت الوليدة إليه وأخبرته بقولها، فأفاق وجلس وقال: أبلغيها السلام وقولي لها هيهات إن دائي ودوائي أنت، وإن حياتي ووفاتي لفي يديك، ولقد وكلت بي شقاء لازما وبلاء طويلا. ثم بكى وأنشأ يقول:
أقـول لأصـحـابـي هـي الـشـمـــس ضـــوءهـــا قريب ولـكـن فـي تــنـــاولـــهـــا بـــعـــد
لقـد عـارضـتـنـا الـريح مـنـهــا بـــنـــفـــحة علـى كـبـدي مــن طـــيب أرواحـــهـــا بـــرد
فمـا زلـت مـغـشـيا عـلـــي وقـــد مـــضـــت أنـــ
ألا ليت شعري عن عوارضتي قنا لطول الليالي هل تغيرتا بـعـدي
وهل جارتانا بالبتيل إلى الحـمـى على عهدنا أم لم تدوما على العهد
وعن علويات الـرياح إذا جـرت بريح الخزامى هل تهب على نجد
وعن أقحوان الرمل ما هو فاعـل إذا هو أسرى ليلة بثرى جـعـد
وهل أنفضن الدهر أفنان لمـتـى على لاحق المتنين مندلق الوخـد
وهل أسمعن الدهر أصوات هجمة تحدر من نشز خصيب إلى وهـد سؤاله زوج ليلى عن عشرته معها
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي والعتبي قالا: مر المجنون بزوج ليلى وهو جالس يضطلي في يوم شات، وقد أتى ابن عم له في حي المجنون لحاجة، فوقف عليه ثم أنشأ يقول: صوت
بربك هل ضممت إليك ليلى قبيل الصبح أو قبلت فاهـا
وهل رفت عليك قرون ليلى رفيف الأقحوانة في نداها فقال: اللهم إذ حلفتني فنعم، قال: فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من الجمر، فما فارقهما حتى سقط مغشيا عليه، وسقط الجمر مع لحم راحتيه، وعض على شفته فقطعها، فقام زوج ليلى مغموما بفعله متعجبا منه فمضى.
غنى في البيتين المذكورين في هذا الخبر الحسين بن محرز، ولحنه رمل بالوسطى عن الهشامي.
مروره بجبلي نعمان وشعره في ذلك
أخبرني أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال قال محمد بن الحكم عن عوانة: إنه حدثه ووافقه ابن نصر وابن حبيب قالوا: إن أهل المجنون خرجوا به معهم إلى وادي القرى قبل توحشه ليمتاروا خوفا عليه من أن يضيع أو يهلك، فمروا في طريقهم بجبلي نعمان، فقال له بعض فتيان الحي: هذان جبلا نعمان، وقد كانت ليلى تنزل بهما، قال: فأي الرياح يأتي من ناحيتهما? قالوا: الصبا، قال: فوالله لا أريم هذا الموضع حتى تهب الصبا، فأقام ومضوا فامتاروا لأنفسهم، ثم أتوا عليه فأقاموا معه ثلاثة أيام حتى هبت الصبا، ثم انطلق معهم فأنشأ يقول: صوت
أيا جبلي نعمان بـالـلـه خـلـيا سبيل الصبا يخلص إلي نسيمهـا
أجد بردها أو تشف مني حـرارة على كبد لم يبق إلا صميمـهـا
فإن الصبا ريح إذا ما تنسـمـت على نفس محزون تجلت همومها ارتحال أهل ليلى وما قاله في ذلك
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسين بن الحرون قال حدثني الكسروي عن جماعة من الرواة قال: لما منع أبو ليلى المجنون وعشيرته من تزويجه بها، كان لا يزال يغشى بيوتهم ويهجم عليهم، فشكوه إلى السلطان فأهدر دمه لهم، فأخبروه بذلك فلم يرعه وقال: الموت أروح لي فليتهم قتلوني، فلما علموا بذلك وعرفوا أنه لا يزال يطلب غرة منهم حتى إذا تفرقوا دخل دورهم، فارتحلوا عنها وأبعدوا، وجاء المجنون عشية فأشرف على دورهم فإذا هي منهم بلاقع، فقصد منزل ليلى الذي كان بيتها فيه، فألصق صدره به وجعل يمرغ خديه على ترابه ويبكي ، ثم أنشأ يقول، - وذكر هذه الأبيات ابن حبيب وأبو نصر له بغير خبر -:
أيا حرجات الحي حيث تحملوا بذي سلم لا جادكـن ربـيع
وخيماتك اللاتي بمنعرج اللوى بلين بلى لم تبـلـن ربـوع
صفحة : 122
ندمت على ما كان مني نـدامة كما يندم المغبـون حـين يبـيع
فقدتك من نفس شعاع فإنـنـي نهيتك عن هذا وأنت جـمـيع
فقربت لي غير القريب وأشرفت إليك ثنايا ما لـهـن طـلـوع حديثه مع نسوة فيهن ليلى
وذكر خالد بن جميل وخالد بن كلثوم في أخبارهما التي صنعاها أن ليلى وعدته قبل أن يختلط أن تستزيره ليلة إذا وجدت فرصة لذلك، فمكث مدة يراسلها في الوفاء وهي تعده وتسوفه، فأتى أهلها ذات يوم والحي خلوف، فجلس إلى نسوة من أهلها حجرة منها بحيث تسمع كلامه، فحادثهن طويلا ثم قال: ألا أنشدكن أبياتا أحدثها في هذه الأيام? قلن: بلى، فأنشدهن: صوت
يا للرجال لهـم بـات يعـرونـي مستطرف وقديم كـاد يبـلـينـي
من عاذري من غريم غير ذي عسر يأبى فيمطلنـي دينـي ويلـوينـي
لا يبعد النقد من حقي فـينـكـره ولا يحدثني أن سوف يقضـينـي
وما كشكرى شكر لو يوافـقـنـي ولا مناي سـواه لـو يوافـينـي
أطعته وعصيت النـاس كـلـهـم في أمره وهواه وهو يعصـينـي قال: فقلن له: ما أنصفك هذا الغريم الذي ذكرته وجعلن يتضاحكم وهو يبكي، فاستحيت ليلى منهن ورقت له حتى بكت، وقامت فدخلت بيتها وانصرف هو.
- في الثلاثة الأبيات الأولى من هذه الأبيات هزج طنبوري للمسدود - قالا في خبرهما هذا: وكان للمجنون ابنا عم يأتيانه فيحدثانه ويسليانه ويؤانسانه، فوقف عليهما يوما وهما جالسان، فقالا له: يا أبا المهدي ألا تجلس? قال: لا، بل أمضي إلى منزل ليلى فاترسمه وأرى آثارها فيه، فأشفي بعض ما في صدري بها، فقالا له: فنحن معك، فقال: إذا فعلتما أكرمتما وأحسنتما، فقاما معه حتى أتى دار ليلى، فوقف بها طويلا يتتبع آثارها ويبكي ويقف في موضع موضع منها ويبكي ثم قال: صوت
يا صاحبي ألما بـي بـمـنـزلة قد مر حين عليهـا إيمـا حـين
إني أرى رجعات الحب تقتلـنـي وكان في بدئها ما كان يكفـينـي
لا خير في الحب ليست فيه قارعة كأن صاحبها في نزع مـوتـون
إن قال عذاله مهلا فـلان لـهـم قال الهوى غير هذا القول يعنيني
ألقى من اليأس تارات فتقتلـنـي وللرجاء بشاشات فـتـحـيينـي الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل من جامع غنائه وقال هشام بن الكلبي عن أبي مسكين: إن جماعة من بني عامر حدثوه قالوا: كان رجل من بني عامر ابن عقيل يقال له: قيس بن معاذ، وكان يدعى المجنون، وكان صاحب غزل ومجالسة للنساء، فخرج على ناقة له يسير، فمر بامرأة من بني عقيل يقال لها: كريمة، وكانت جميلة عاقلة، معها نسوة فعرفنه ودعونه إلى النزول والحديث، وعليه حلتان له فاخرتان وطيلسان وقلنسوة، فنزل فظل يحدثهن وينشدهن وهن أعجب شيء به فيما يرى، فلما أعجبه ذلك منهن عقر لهن ناقته، وقمن إليها فجعلن يشوين ويأكلن إلى أن أمسى، فأقبل غلام شاب حسن الوجه من حيهن فجلس إليهن، فأقبلن عليه بوجوههن يقلن له: كيف ظللت يا منازل اليوم? فلما رأى ذلك من فعلهن غضب، فقام وتركهن وهو يقول:
أأعقر من جـرا كـريمة نـاقـتـي ووصلي مفروش لوصل مـنـازل
إذا جاء قعقن الحـلـي ولـم أكـن إذا جئت أرضى صوت تلك الخلاخل قال: فقال له الفتى: هلم نتصارع أو نتناضل، فقال له: إن شئت ذلك فقم إلى حيث لا تراهن ولا يرينك، ثم ما شئت فافعل، وقال:
إذا ما انتضلنا في الخلاء نضلتـه وإن يرم رشقا عندها فهو ناضلي
صفحة : 123
وقال ابن الكلبي في هذا الخبر: فلما أصبح لبس حلته وركب ناقته ومضى متعرضا لهن، فالفى ليلى جالسة بفناء بيتها، وكانت معهن يومئذ جالسة، وقد علق بقلبها وهويته، وعندها جويريات يحدثنها، فوقف بهن وسلم، فدعونه إلى النزول وقلن له: هل لك في محادثة من لا يشغله عنك منازل ولا غيره? قال: إي لعمري، فنزل وفعل فعلته بالأمس، فأرادت أن تعلم هل لها عنده مثل ما له عندها، فجعلت تعرض عن حديثه ساعة بعد ساعة وتحدث غيره، وقد كان علق حبها بقلبه وشغفه واستملحها، فبينا هي تحدثه إذ أقبل فتى من الحي فدعته فسارته سرارا طويلا ثم قالت له انصرف، فانصرف، ونظرت إلى وجه المجنون قد تغير وامتقع وشق عليه ما فعلت، فأنشأت تقول:
كلانا مظهر للناس بغضا وكل عند صاحبه مكـين
تبلغنا العيون مقالـتـينـا وفي القلبين ثم هوى دفين قد نسبت هذا الشعر متقدما فلما سمع هذين البيتين شهق شهقة عظيمة وأغمي عليه فمكث كذلك ساعة، ونضحوا الماء على وجهه حتى أفاق، وتمكن حب كل واحد منهما في قلب صاحبه وبلغ منه كل مبلغ.
حدثني عمي عن عبد الله بن أبي سعد عن إبراهيم بن محمد بن إسماعيل القرشي قال حدثنا أبو العالية عن أبي ثمامة الجعدي قال: لا يعرف فينا مجنون إلا قيس بن الملوح.
حديث اتصاله بليلى في صباه
قال: وحدثني بعض العشيرة قال: قلت لقيس بن الملوح قبل أن يخالط: ما أعجب شيء أصابك في وجدك بليلى? قال: طرقنا ذات ليلة أضياف ولم يكن عندنا لهم أدم، فبعثني أبي منزل أبي ليلى وقال لي: اطلب لنا وقال لي: اطلب لنا منه أدما، فأتيته فوقفت على خبائه فصحت به، فقال: ما تشاء? فقلت: طرقنا ضيفان ولا أدم عندنا لهم فأرسلني أبي نطلب منك أدما، فقال: يا ليلى، أخرجي إليك ذلك النحي، فاملئن له إناءه من السمن، فأخرجته ومعي قعب، فجعلت تصب السمن فيه ونتحدث، فألهانا الحديث وهي تصب السمن وقد امتلأ القعب ولا نعلم جميعا، وهو يسيل استنقعت أرجلنا في السمن، قال: فأتيتهم ليلة ثانية أطلب نارا، وأنا متلفع ببرد لي، فأخرجت لي نارا في عطبة فأعطتنيها ووقفنا نتحدث، فلما احترقت العطبة خرقت من بردي خرقة وجعلت النار فيها، فكلما احترقت خرقت أخرى وأذكيت بها النار حتى لم يبق علي من البرد إلا ما وارى عورتي، وما أعقل ما أصنع، وأنشدني:
أمستقبلي نفح الصبا ثم شـائقـي ببرد ثنـايا أم حـسـان شـائق
كأن على أنيابها الخمر شجـهـا بماء الندى من آخر الليل عاتق
وما شمته إلا بعيني تـفـرسـا كما شيم في أعلى السحابة بارق ومن الناس من يروي هذه الأبيات لنصيب، ولكن هكذا روي في هذا الخبر.
حدث الأصمعي أنه لم يكن مجنونا
أخبرنا محمد بن خلف وكيع عن عبد الملك بن محمد الرقاشي عن عبد الصمد بن المعذل قال: سمعت الأصمعي يقول - و قد تذاكرنا مجنون بني عامر - قال: هو قيس ابن معاذ العقيلي، ثم قال: لم يكن مجنونا إنما كانت به لوثة، وهو القائل:
أخذت محاسن كـل مـا ضنت محاسنه بحسنـه
كاد الغزال يكـونـهـا لولا الشوى ونشوز قرنه قال: وهو القائل: صوت
ولم أر ليلى بعد مـوقـف سـاعة بخيف منى ترمي جمار المحصب
ويبدي الحصى منها إذا قذفت بـه من البرد أطراف البنان المخصب
فأصبحت من ليلى الغداة كناظـر مع الصبح في أعقاب نجم مغرب
ألا إنمـا غـادرت يا أم مـالـك صدى إينما تذهب به الريح يذهب في هذه الأبيات لحن من الثقيل الأول، ابتداؤه نشيد من صنعة الواثق وهو المشهور. وذكره ابن المكي لأبيه يحيى. وهو في جامع غناء سليم بن سلام له. وذكره حبش في موضعين من كتابه فنسبه في طريقه الثقيل الأول في أحدهما إلى ابن محرز، والآخر إلى يحيى المكي. وزعم الهشامي أن فيه لسليم بن سلام لحنا آخر من الثقيل الأول.
صفحة : 124
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن عبد الجبار الصوفي قال حدثني إبراهيم بن سعد الزهري قال: أتاني رجل من عذرة لحاجة، فجرى ذكر العشق والعشاق، فقلت له: أنتم أرق قلوبا أم بنو عامر? إنا لأرق الناس قلوبا، ولكن غلبتنا بنو عامر بمجنونها.
شيء من أوصافه
أخبرني أحمد بن عمر بن موسى بن زكويه القطان إجازة قال حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال أخبرني عبد الجبار بن سليمان بن نوفل بن مساحق عن أبيه عن جده قال: أنا رأيت مجنون بني عامر، وكان جميل الوجه أبيض اللون قد علاه شحوب، واستنشدته فأنشدني قصيدته التي يقول فيها:
تذكرت ليلى والسنين الخوالـيا وأيام لا أعدي على اللهو عاديا أخبرني محمد بن الحسن الكندي خطيب مسجد القادسية قال حدثنا الرياشي قال: سمعت أبا عثمان المازني يقول: سمعت معاذا وبشر بن المفضل جميعا ينشدان هذين البيتين وينسبانهما لمجنون بني عامر:
طمعت بليلى أن تريع وإنمـا تقطع أعناق الرجال المطامع
ودانيت ليلى في خلاء ولم يكن شهود على ليلى عدول مقانع وحدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب عن ابن سلام قال: قضى عبيد الله الحسن بن الحصين بن أبي الحر العنبري على رجل من قومه قضية أوجبها الحكم عليه، وظن العنبري أنه تحامل عليه وانصرف مغضبا، ثم لقيه في طريق، فأخذ بلجام بغلته وكان شديدا أيدا، ثم قال له: إيه يا عبيد الله
طمعت بليلى أن تريع وإنمـا تقطع أعناق الرجل المطامع فقال عبيد الله:
وبايعت ليلى في خلاء ولم يكن شهود عدول عند ليلى مقانـع خل عن البغلة. قال الصولي في خبره هذا: والبيتان للبعيث هكذا، قال: فلا أدري أمن قوله هو أم حكاية عن أبي خليفة.
زيارة ليلى له وحديثه معها
أخبرنا محمد بن القاسم الأنباري عن عبد الله بن خلف الدلال قال حدثنا زكريا بن موسى عن شعيب بن السكن عن يونس النحوي قال: لما اختلط عقل قيس بن الملوح وترك الطعام والشراب، مضت أمه إلى ليلى فقالت لها: إن قيسا قد ذهب حبك بعقله، وترك الطعام والشراب، فلو جئته وقتا لرجوت أن يثوب إليه بعض عقله، فقالت ليلى: أما نهارا فلا لأنني لا آمن قومي على نفسي ولكن ليلا، فأتته ليلا فقالت له: يا قيس، إن أمك تزعم أنك جننت من أجلي وتركت المطعم والمشرب، فاتق الله وأبق على نفسك، فبكى وأنشأ يقول:
قالت جننت على أيش فقلت لها الحب أعظم مما بالمـجـانـين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبـه وإنما يصرع المجنون في الحين قال: فبكت معه، وتحدثا حتى كاد الصبح أن يسفر، ثم ودته وانصرفت، فكان آخر عهده بها.
سبب جنونه بيت شعر قاله
أخبرنا ابن المرزبان قال قال القحذمي: لما قال المجنون:
قضاها لغيري وابتلاني بحبها فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا سلب عقله. الغناء لحكم ثقيل أول، وقيل إنه لابن الهربذ. وفيه لمتيم خفيف ثقيل أول من جامع أغانيها. وحدثني جحظة بهذا الخبر عن ميمون بن هارون أنه بلغه أنه لما قال هذا البيت برص.
سبب تسميته المجنون
واختلاف الرواة في ذلك
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن طاهر القرشي عن ابن عائشة قال: إنما سمي المجنون بقوله:
ما بال قلبك يا مجنون قد خـلـعـا في حب من لا ترى في نيله طمعا
الحب والود نيطا بالـفـؤاد لـهـا فأصبحا في فؤادي ثابتـين مـعـا حدثنا وكيع عن ابن يونس قال قال الأصمعي: لم يكن المجنون، إنما جننه العشق، وأنشد له:
يسمونني المجنون حين يرونني نعم بي من ليلى الغداة جنـون
ليالي يزهى بي شباب وشـرة وإذ بي من خفض المعيشة لين أخبرني محمد بن المرزبان عن إسحاق بن محمد بن أبان قال حدثني علي بن سهل عن المدائني: أنه ذكر عنده مجنون بني عامر فقال: لم يكن مجنونا، وإنما قيل له المجنون بقوله:
وإني لمجنون بلـيلـى مـوكـل ولست عزوفا عن هواها ولا جلدا
إذا ذكرت ليلى بكـيت صـبـابة لتذكارها حتى يبل البكا الـخـدا
صفحة : 125
أخبرني عمر بن جميل العتكي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عون بن عبد الله العامري أنه قال: ما كان والله المجنون الذي تعزونه إلينا مجنونا، إنما كانت به لوثة وسهو أحدثهما به حب ليلى، وأنشد له:
وبي من هوى ليلى الذي لو أبـثـه جماعة أعدائي بكت لي عيونـهـا
أرى النفس عن ليلى أبت أن تطيعني فقد جن من وجدي بليلى جنونـهـا أخبرني ابن المرزبان قال قال العتبي: إنما سمي المجنون بقوله:
يقول أناس عل مجنـون عـامـر يروم سلوا قلت أنى لـمـا بـيا
وقد لامني في حب ليلى أقاربـي أخي وابن عمي وابن خالي وخاليا
يقولون ليلى أهـل بـيت عـداوة بنفسي ليلى من عـدو ومـالـيا
ولو كان في ليلى شذا من خصومة للويت أعناق المطي الـمـلاويا أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي عن عيسى بن إسماعيل قال قال ابن سلام: لو حلفت أن مجنون بني عامر لم يكن مجنونا لصدقت، ولكن توله لما زوجت ليلى وأيقن اليأس منها، ألم تسمع إلى قوله:
أيا ويح من أمسى تخلس عقلـه فأصبح مذهوبا به كل مذهـب
خليعا من الخلان إلا مجـامـلا يساعدني من كان يهوى تجنبي
إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت عوزاب قلبي من هوى متشعب أخبرني به الحسن بن علي عن دينار بن عامر التغلبي عن مسعود بن سعد عن ابن سلام ونحوه.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أنشدني صالح بن سعيد قال أنشدني يعقوب بن السكيت للمجنون.
يسمونني المجنون حين يرونني نعم بي من ليلى الغداة جنون قال: وأنشدنا له أيضا: صوت
وشغلت عن فهم الحديث سوى ما كان فيك فإنه شـغـلـي
وأديم لحظ محـدثـي لـيرى أن قد فهمت وعندكم عقلـي الحديث عن تكنيته ليلى بأم مالك
أخبرني ابن المرزبان عن محمد بن الحسن دينار الأحول عن علي بن المغيرة الأثرم عن أبي عبيدة: أن صاحبة مجنون بني عامر التي كلف بها ليلى بنت مهدي بن سعد بن مهدي بن ربيعة بن الحريش، وكنيتها أم مالك، وقد ذكر هذه الكنية المجنون في شعره فقال:
تكاد بلاد الله يا أم مـالـك بما رحبت يوما علي تضيق وقال أيضا:
فإن الذي أملت من أم مـالـك أشاب قذالي واستهـام فـؤاديا
خليلي إن دارت على أم مالـك صروف الليالي فابغيا لي ناعيا وقال أبو عمرو الشيباني: علق المجنون ليلى بنت مهدي بن سعد من بني الحريش، وكنيتها أم مالك، فشهر بها وعرف خبره فحجبت عنه، فشق عليه فخطبها إلى أبيها فرده وأبى أن يزوجه إياها، فاشتد به الأمر حتى جن وقيل له: مجنون بني عامر فكان على حاله يجلس في نادي قومه فلا يفهم ما يحدث به ولا يعقله إلا إذا ذكرت ليلى. وأنشد له أبو عمرو: صوت
الرائية
ألا ما لليلى لا ترى عند مضجعـي بليل ولا يجـري بـذلـك طـائر
بلى إن عجم الطير تجري إذا جرت بليلى ولكن ليس للطـير زاجـر
أزالت عن العهد الذي كان بينـنـا بذي الأثل أم قد غيرتها المـقـادر
فوالله ما في القرب لي منك راحة ولا البعد يسليني ولا أنا صـابـر
ووالـلـه مـا أدري بـأية حـيلة وأي مرام أو خطـار أخـاطـر
وتالله إن الدهر في ذات بـينـنـا علي لها في كل حـال لـجـائر
فلو كنت إذ أزمعت هجري تركتني جميع القوى والعقل منـي وافـر
ولكن أيامي بـحـقـل عـنـيزة وبالرضم أيام جناها الـتـجـاور
وقد أصبح الود الذي كان بـينـنـا أماني نفس والـمـؤمـل حـائر
لعمري لقد رنقـت يا أم مـالـك حياتي وساقتني إليك الـمـقـادر قال أبو عمرو: وأخبرني بعض الشأميين قال: دخلت أرض بني عامر، فسألت عن المجنون الذي قتله الحب، فخبروني عنه أنه كان عاشقا لجارية منهم يقال لها ليلى، ربا معها ثم حجبت عنه، فاشتد عليه وذهب عقله، فأتاه إخوان من إخوانه يلومونه على ما يصنع بنفسه، فقال: صوت
صفحة : 126
يا صاحبي ألما بي بمـنـزلة قد مر حين عليها أيما حـين
في كل منزلة ديوان معـرفة لم يبق باقية ذكـر الـدواوين
إني أرى رجعات الحب تقتلني وكان في بدئها ما كان يكفيني الغناء لابن جامع خفيف ثقيل.
جنونه بليلى وهيامه على وجهه
من أجلها
أخبرني هاشم الخزاعي عن العباس بن الفرج الرياشي قال: ذكر العتبي عن أبيه قال: كان المجنون في بدء أمره يرى ليلى ويألفها ويأنس بها ثم غيبت عن ناظره، فكان أهله يعزونه عنها ويقولون: نزوجك أنفس جارية في عشيرتك، فيأبى إلا ليلى ويهذي بها ويذكرها فكان ربما استراح إلى أمانيهم وركن إلى قولهم ، وكان ربما هاج عليه الحزن والهم فلا يملك مما هو فيه أن يهيم على وجهه، وذلك قبل أن يتوحش مع البهائم في القفار، فكان قومه يلومونه ويعذلونه، فأكثروا عليه في الملامة والعذل يوما فقال: صوت
يا للرجال لهـم بـت يعـرونـي مستطرف وقديم كان يعـنـينـي
على غريم مليء غـير ذي عـدم يأبى فيمطلني دينـي ويلـوينـي
لا يذكر البعض من ديني فينكـره ولا يحدثني أن سوف يقضـينـي
وما كشكري شكر لو يوافـقـنـي ولا منى كمـنـاه إذ يمـنـينـي
أطعته وعصيت النـاس كـلـهـم في أمره ثم يأبى فهو يعصـينـي
خيري لمن يبتغي خيري ويأمـلـه من دون شري وشري غير مأمون
وما أشارك في رأيي أخا ضعـف ولا أقول أخي مـن لا يواتـينـي في هذه الأبيات هزج طنبوري للمسدود من جامعه.
وقال أبو عمرو الشيباني: حدثني رباح العامري قال: كان المجنون أول ما علق ليلى كثير الذكر لها والإتيان بالليل إليها، والعرب ترى ذلك غير منكر أن يتحدث الفتيان إلى الفتيات، فلما علم أهلها بعشقه لها منعوه من إتيانها وتقدموا إليه، فذهب لذلك عقله ويئس منه قومه واعتنوا بأمره، واجتمعوا إليه ولاموه وعذلوه على ما يصنع بنفسه، وقالوا: والله ما هي لك بهذه الحال، فلو تناسيتها رجونا أن تسلو قليلا، فقال لما سمع مقالتهم وقد غلب عليه البكاء: صوت
فواكبدا من حب من لا يحبنـي ومن زفرات ما لهـن فـنـاء
أريتك إن لم أعطك الحب عن يد ولم يك عنـدي إذ أبـيت إبـاء
أتاركتي للموت أنـت فـمـيت وما للنفوس الخائفـات بـقـاء ثم أقبل على القوم فقال: إن الذي بي ليس بهين، فاقلوا من ملامكم فلست بسامع فيها ولا مطيع لقول قائل.
قصة حبه ليلى برواية رباح العامري أخبرني عمي ومحمد بن حبيب وابن المرزبان عن عبد الله بن أبي سعد عن عبد العزيز صالح عن أبيه عن ابن دأب عن رباح بن حبيب العامري: أنه سأله عن حال المجنون وليلى، فقال: كانت ليلى من بني الحريش وهي بنت مهدي بن سعيد بن مهدي بن ربيعة بن الحريش، وكانت من أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن جسما وعقلا وأفضلهن أدبا وأملحهن شكلا، وكان المجنون كلفا بمحادثة النساء صبا بهن، فبلغه خبرها ونعتت له، فصبا إليها وعزم على زيارتها، فتأهب لذلك ولبس أفضل ثيابه ورجل جمته ومس طيبا كان عنده، وارتحل ناقة له كريمة برحل حسن وتقلد سيفه وأتاها، فسلم فردت عليه السلام وتحفت في المسئلة، وجلس إليها فحادثته وحادثها فأكثرا، وكل واحد منهما مقبل على صاحبه معجب به، فلم يزالا كذلك حتى أمسيا، فانصرف إلى أهله فبات بأطول ليلة شوقا إليها، حتى إذا أصبح عاد إليها فلم يزل عندها حتى أمسى، ثم انصرف إلى أهله فبات بأطول من ليلته الأولى واجتهد أن يغمض فلم يقدر على ذلك، فأنشأ يقول:
نهاري نهار الناس حتى إذا بـدا لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ويجمعني والهم بالليل جامـع
لقد ثبتت في القلب منك محـبة كما ثبتت في الراحتين الأصابع
صفحة : 127
- عروضه من الطويل، والغناء لإبراهيم الموصلي رمل بالوسطى عن عمرو - قال: وأدام زيارتها وترك من يأتيه فيتحدث إليه غيرها، وكان يأتيها في كل يوم فلا يزال عندها نهاره أجمع حتى إذا أمسى انصرف، فخرج ذات يوم يريد زيارتها فلما قرب من منزلها لقيته جارية عسراء فتطير منها، وأنشأ يقول:
وكيف يرجى وصل ليلى وقد جـرى بجد القوى والوصل أعسر حاسـر
صديع العصا صعب المرام إذا انتحى لوصل امرىء جدت عليه الأواصر ثم سار إليها في غد فحدثها بقصته وطيرته ممن لقيه، وأنه يخاف تغير عهدها وانتكاثه وبكى، فقالت: لا ترع، حاش لله من تغير عهدي، لا يكون والله ذلك أبدا إن شاء الله، فلم يزل عندها يحادثها بقية يومه، ووقع له في قلبها مثل ما وقع لها في قلبه، فجاءها يوما كما كان يجيء، وأقبل يحدثها فأعرضت عنه، وأقبلت على غيره بحديثها، تريد بذلك محنته وأن تعلم ما في قلبه، فلما رأى ذلك جزع جزعا شديدا حتى بان في وجهه وعرف فيه، فلما خافت عليه أقبلت عليه كالمسرة إليه فقالت:
كلانا مظهر للناس بغضنا وكل عند صاحبه مكين فسري عنه وعلم ما في قلبها، فقالت له: إنما أردت أن أمتحنك والذي لك عندي أكثر من الذي لي عندك، وأعطي الله عهدا إن جالست بعد يومي هذا رجلا سواك حتى أذوق الموت إلا أن أكره على ذلك، قال: فانصرفت عنه وهو من أشد الناس سرورا وأقرهم عينا، وقال:
أظن هواها تاركي بـمـضـلة من الأرض لا مال لدي ولا أهل
ولا أحد أفضي إلـيه وصـيتـي ولا صاحب إلا المطية والرحل
محا حبها حب الألى كن قبلـهـا وحلت مكانا لم يكن حل من قبل شعره بعد أن تزوجت وأيس منها أخبرني جعفر بن قدامة عن أبي العيناء عن العتبي قال: لما حجبت ليلى عن المجنون خطبها جماعة فلم يرضهم أهلها، وخطبها رجل من ثقيف موسر فزوجوه وأخفوا ذلك عن المجنون ثم نمي إليه طرف منه لم يتحققه، فقال:
دعوت إلهي دعوة ما جهلتـهـا وربي بما تخفي الصدور بصير
لئن كنت تهدي برد أنيابها العـلا لأفقر مني إنـنـي لـفـقـير
فقد شاعت الأخبار أن قد تزوجت فهل يأتيني بالطـلاق بـشـير وقال أيضا:
ألا تلك ليلى العامرية أصبـحـت تقطع إلا من ثقيف حـبـالـهـا
هم حبسوها محبس البدن وابتغـى بها المال أقوام ألا قل مـالـهـا
إذا التفتت والعيس صعر من البرى بنخلة جلت عبرة العين حالـهـا قال: وجعل يمر بيتها فلا يسأل عنها ولا يلتفت إليه، ويقول إذا جاوزه: صوت
ألا أيها البيت الـذي لا أزوره وإن حله شخص إلي حبـيب
هجرتك إشفاقا وزرتك خائفـا وفيك علي الدهر منك رقيب
سأستعتب الأيام فيك لعلـهـا بيوم سرور في الزمان تؤوب الغناء لعريب ثاني ثقيل بالوسطى. قال: وبلغه أن أهلها يريدون نقلها إلى الثقفي فقال: صوت
كأن القلب ليلة قيل يغدى بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح - عروضه من الوافر. الغناء لابن المكي خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها عن إسحاق، وفيه خفيف ثقيل آخر لسليمان مطلق في مجرى البنصر، وفيه لإبراهيم رمل بالوسطى في مجراها عن الهشامي - قال: فلما نقلت ليلى إلى الثقفي قال: <H6 قصيدته العينية</H6
طربت وشاقتك الحمول الـدوافـع غداة دعا بالبـين أسـفـع نـازع
شحا فاه نعبا بـالـفـراق كـأنـه حريب سليب نازح الـدار جـازع
فقلت ألا قد بين الأمر فانـصـرف فقد راعنا بالبـين قـبـلـك رائع
سقيت سموما من غراب فأنـنـي تبينت ما خبرت مـذ أنـت واقـع
ألم تر أنـي لا مـحـب ألـومـه ولا ببديل بعـدهـم أنـا قـانـع
ألم تر دار الحي في رونق الضحى بحيث انحنت للهضبتين الأجـارع
صفحة : 128
وقد يتناءى الإلف من بـعـد ألـفة ويصدع ما بين الخليطـين صـادع
وكم من هوى أو جيرة قد ألفتـهـم زمانا فلم يمنعهم الـبـين مـانـع
كأني غداة الـبـين مـيت جـوبة أخو ظمأ سدت عليه المـشـارع
تخلس من أوشـال مـاء صـبـابة فلا الشرب مبذول ولا هو نـاقـع
وبيض تطلى بالعـبـير كـأنـهـا نعاج الملا جيبت عليها البـراقـع
تحملن من وادي الأراك فأومضـت لهن بأطراف العيون الـمـدامـع
فما رمن ربع الدار حتى تشابهـت هجائنها والجون منها الخـواضـع
وحتى حلمن الحور من كل جانـب وخاضت سدول الرقم منها الأكارع
فلما استوت تحت الخدور وقد جرى عبير ومسك بالـعـرانـين رادع
أشرن بأن حثوا الجمال فـقـد بـدا من الصيف يوم لافح الحر ماتـع
فلما لحقنا بالحمـول تـبـاشـرت بنا مقصرات غاب عنها المطامـع
يعرضن بالدل الـمـلـيح وإن يرد جناهن مشغوف فهـن مـوانـع
فقلت لأصحابي ودمعي مـسـبـل وقد صدع الشمل المشتت صـادع
أليلى بأبواب الخدور تـعـرضـت لعيني أم قرن من الشمس طالـع مروره على حمامة تهدل
وما قال في ذلك من الشعر
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا الهيثم بن فراس قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي: أن أبا المجنون حج به ليدعو الله عز وجل في الموقف أن يعافيه، فسار ومعه ابن عمه زياد بن كعب بن مزاحم، فمر بحمامة تدعو على أيكة فوقف يبكي، فقال له زياد: أي شيء هذا? ما يبكيك أيضا? سر بنا نلحق الرفقة، فقال:
أأن هتفـت يومـا بـواد حـمـامة بكيت ولم يعذرك بالجهـل عـاذر
دعت ساق حر بعد ما علت الضحى فهاج لك الأحزان أن نـاح طـائر
تغني الضحى والصبح في مرجحنة كثاف الأعالي تحتها المـاء حـائر
كأن لم يكن بالغيل أو بـطـن أيكة أو الجزع من تول الأشاءة حاضـر
يقول زياد إذ رأى الحي هـجـروا أرى الحي قد ساروا فهل أنت سائر
وإني وإن غال التقـادم حـاجـتـي ملم على أوطان ليلـى فـنـاظـر هيامه إلى نواحي الشأم
وما يقوله من الشعر عند عوده ورؤبة التوباد
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر عن الزبير عن محمد بن عبد الله البكري عن موسى بن جعفر بن أبي كثير وأخبرني عمي عن عبد الله بن شبيب عن هارون بن موسى الفروي عن موسى بن جعفر بن أبي كثير وأخبرني ابن المرزبان عن ابن الهيثم عن العمري عن العتبي قالوا جميعا: كان المجنون وليلى وهما صبيان يرعيان غنما لأهلها عند جبل في بلادهما يقال له التوباد، فلما ذهب عقله وتوحش، كان يجيء إلى ذلك الجبل فيقيم به، فإذا تذكر أيام كان يطيف هو وليلى به جزع جزعا شديدا واستوحش فهام على وجهه حتى يأتي نواحي الشأم، فإذا ثاب إليه عقله رأى بلدا لا يعرفه فيقول للناس الذين يلقاهم: بأبي أنتم، أين التوباد من أرض بني عامر? فيقال له: وأين أنت من أرض بني عامر أنت بالشأم عليك بنجم كذا فأمه، فيمضي على وجهه نحو ذلك النجم حتى يقع بأرض اليمن، فيرى بلادا ينكرها وقوما لا يعرفهم فيسألهم عن التوباد وأرض بني عامر، فيقولون: وأين أنت من أرض بني عامر عليك بنجم كذا وكذا، فلا يزال كذلك حتى يقع على التوباد، فإذا رآه قال في ذلك: أبياته التي يصف فيها انصباب الدمع
وأجهشت للتوباد حـين رأيتـه وكبر للرحمـن حـين رآنـي
وأذريت دمع العين لما عرفتـه ونادى بأعلى صوته فدعـانـي
فقلت له قد كان حولـك جـيرة وعهدي بذاك الصرم منذ زمان
فقال مضوا واستودعوني بلادهم ومن ذا الذي يبقى على الحدثان
وإني لأبكي اليوم من حذري غدا فراقك والحيان مجتـمـعـان
سجالا وتهتـانـا ووبـلا وديمة وسحا وتسجاما إلى هـمـلان سبب ذهاب عقله
صفحة : 129
أخبرني عمي عن عبد الله بن شبيب عن هارون بن موسى الفروي عن موسى بن جعفر بن أبي كثير قال: لما قال المجنون:
خليلي لا واللـه لا أمـلـك الـذي قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا
قضاها لغيري وابتلاني بحـبـهـا فهلا بشيء غير ليلى ابـتـلانـيا سلب عقله.
وحدثني جحظة عن ميمون بن هارون عن إسحاق الموصلي أنه لما قالهما برص.
شعره حين توهم هاتفا باسم ليلى
قال موسى بن جعفر في خبره المذكور: وكان المجنون يسير مع أصحابه فسمع صائحا يصيح: يا ليلى في ليلة ظلماء أو توهم ذلك، فقال لبعض من معه: أما تسمع هذا الصوت? فقال: ما سمعت شيئا، قال: بلى، والله هاتف يهتف بليلى، ثم أنشأ يقول:
أقول لأدنى صـاحـبـي كـلـيمة أسرت من الأقصى أجب ذا المناديا
إذا سرت في الأرض الفضاء رأيتني أصانع رحلـي أن يمـيل حـيالـيا
يمينا إذا كانت يمـينـا وإن تـكـن شمالا ينازعني الهوى عن شمالـيا شعر له في منى وغيرها
يرويه غرير بن طلحة
وقال ابن شبيب وحدثني هارون بن موسى قال: قلت لغريز بن طلحة المخزومي: من أشعر الناس ممن قال شعرا في منى ومكة وعرفات? فقال: أصحابنا القرشيون، ولقد أحسن المجنون حيث يقول:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أحزان الفـؤاد ومـا يدري
دعا باسم ليلى غرها فـكـأنـمـا أطار بليلى طائرا كان في صدري فقلت له: هل تروي للمجنون غير هذا? قال: نعم، وأنشدني له:
أما والذي أرسى ثبيرا مـكـانـه عليه السحاب فوقه يتـنـصـب
وما سلك الموماة من كل جسـرة طليح كجفن السيف تهوي فتركب
لقد عشت من ليلى زمانا أحبـهـا أخا الموت إذ بعض المحبين يكذب أخبرني محمد بن مزيد عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كانت كنية ليلى أم عمرو، وأنشد للمجنون: صوت
أبى القلب إلا حـبـه عـامـرية لها كنية عمرو وليس لها عمـرو
تكاد يدي تندى إذا ما لمـسـتـهـا وينبت في أطرافها الورق الخضر الغناء لعريب ثقيل أول، وقال حبش: فيه لإسحاق خفيف ثقيل.
خطبة ليلى برجل من ثقيف
وما قاله المجنون في ذلك من الشعر
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي عن دماذ عن أبي عبيدة قال: خطب ليلى صاحبة المجنون جماعة من قومها فكرهتهم، فخطبها رجل من ثقيف موسر فرضيته، وكان جميلا فتزوجها وخرج بها، فقال المجنون في ذلك:
ألا إن ليلى كالمنيحة أصـبـحـت تقطع إلا من ثقيف حـبـالـهـا
فقد حبسوها محبس البدن وابتغـى بها الريح أقوام تساحت مـالـهـا
خليلي هل من حيلة تعلـمـانـهـا يدني لنا تكليم ليلى احـتـيالـهـا
فإن أنتما لم تعلماها فـلـسـتـمـا بأول بـاغ حـاجة لا ينـالـهــا
كأن مع الركب الذين اغتدوا بـهـا غمامة صيف زعزعتها شمالـهـا
نظرت بمفضى سيل جوشن إذ غدوا تخب بأطراف المـخـارم آلـهـا
بشافية الأحزان هـيج شـوقـهـا مجـامـعة الآلاف ثـم زيالـهـا
إذا التفتت من خلفها وهي تعتـلـي بها العيس جلى عبرة العين حالهـا أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب عن أبي نصر أحمد بن حاتم قال: وأنشدناه المبرد للمجنون فقال: صوت
وأحـبـس عـنـك الـنـفـس والـنـفـــس صـــبة بذكـراك والـمـــمـــشـــى ألـــيك قـــريب
مخـافة أن تـسـعــى الـــوشـــاة بـــظـــنة وأحــرســـكـــم أن يســـتـــريب مـــريب
فقد جعلت نفسي وأنت اجترمتهوكنت أعز الناس عنك تطيب
فلو شئت لم أغضب عليك ولم يزل لك الـدهـر مـنـي مـــا حـــييت نـــصـــيب
أمـا والـذي يبـلـو الــســـرائر كـــلـــهـــا ويعـلـم مــا تـــبـــدي بـــه وتـــغـــيب
لقـد كـنـت مـمـن تـصـطـفـي الـنـفـس خـــلة لهـا دون خـلان الــصـــفـــاء حـــجـــوب ذكر يحيى المكي أنه لابن سريج ثقيل أول، وقال الهشامي: إنه منحول يحيى إليه.
خبر أبي الحسن الببغاء
والمرأة التي أحبت صديقا له من قريش
صفحة : 130
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الحسن بن محمد بن طالب الديناري قال حدثني إسحاق الموصلي، وأخبرني به محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني سعيد بن سليمان عن أبي الحسن الببغاء قال: بينا أنا وصديق لي من قريش نمشي بالبلاط ليلا، إذا بظل نسوة في القمر، فسمعت إحداهن تقول: أهو هو? فقالت لها أخرى معها: أي والله إنه لهو هو? فدنت مني ثم قالت: يا كهل، قل لهذا الذي معك:
ليست لياليك في خاخ بعائدة كما عهدت ولا أيام ذي سلم فقلت: أجب فقد سمعت، فقال: قد والله قطع بي وأرتج علي فأجب عني، فقلت:
فقلت لها يا عز كل مـصـيبة إذا وطنت يوما لها النفس ذلت ثم مضينا حتى إذا كنا بمفرق طريقين مضى الفتى إلى منزله ومضيت إلى منزلي، فإذا أنا بجويرية تجذب ردائي فالتفت، فقالت لي: المرأة التي كلمتها تدعوك، فمضيت معها حتى دخلت دارا واسعة ثم صرت إلى بيت فيه حصير، وقد ثنت لي وسادة فجلست عليها، ثم جاءت جارية بوسادة مثنية فطرحتها، ثم جاءت المرأة فجلست عليها، فقالت لي: أنت المجيب? قلت: نعم، قالت: ما كان أفظ لجوابك وأغلظه فقلت لها: ما حضرني غيره، فسكتت، ثم قالت: لا والله ما خلق الله خلقا أحب إلي من إنسان كان معك فقلت لها: أنا الضامن لك عنه ما تحبين، فقالت: هيهات أن يقع بذلك وفاء، فقلت: أنا الضامن وعلي أن آتيك به في الليلة القابلة فانصرفت، فإذا الفتى ببابي، فقلت: ما جاء بك? قال: ظننت أنها سترسل إليك وسألت عنك فلم أعرف لك خبرا، فظننت أنك عندها، فجلست أنتظرك، فقلت له: وقد كان الذي ظننت، وقد وعدتها أن آتيك فأمضي بك إليها في الليلة المقبلة، فلما أصبحنا تهيأنا وانتظرنا المساء، فلما جاء الليل رحلنا إليها، فإذا الجارية منتظرة لنا، فمضت أمامنا حين رأتنا حتى دخلت تلك الدار ودخلنا معها، فإذا رائحة طيبة ومجلس قد أعد ونضد، فجلسنا على وسائد قد ثنيت لنا، وجلست مليا ثم أقبلت عليه فعاتبته مليا ثم قالت: صوت
وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني وأشمت بي من كان فيك يلوم
وأبرزتني للناس ثم تركتنـي لهم غرضا أرمى وأنت سليم
فلو كان قول يكلم الجلد قد بدا بجلدي من قول الوشاة كلوم هذه الأبيات لأميمة امرأة ابن الدمينة، وفيها غناء لإبراهيم الموصلي ذكره إسحاق ولم يجنسه. وقال الهشامي: هو خفيف رمل. وفيه لعريب خفيف ثقيل أول ينسب إلى حكم الوادي وإلى يعقوب. قال: ثم سكتت وسكت الفتى هنيهة ثم قال:
غدرت ولم أغدر وخنت ولم أخن وفي بعض هذا للمحب عـزاء
جزيتك ضعف الود ثم صرمتني فحبك من قلـبـي إلـيك أداء فالتفتت إلي فقالت: ألا تسمع ما يقول قد خبرتك، فغمزته أن كف فكف، ثم أقبلت عليه وقالت: صوت
تجاهلت وصلي حين جدت عمايتي فهلا صرمت الحبل إذ أنا أبصـر
ولي من قوى الحبل الذي قد قطعته نصيب وإذ رأيي جميع مـوفـر
ولكنما آذنت بـالـصـرم بـغـتة ولست على مثل الذي جئت أقـدر - الغناء لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى عن عمرو - فقال:
لقد جعلت نفسي وأنت اجترمتهوكنت أعز الناس عنك تطيب قال: فبكت، ثم قالت: أو قد طابت نفسك لا، والله ما فيك بعدها خير، ثم التفتت إلي وقالت: قد علمت أنك لا تفي بضمانك ولا يفي به عنك. وهذا البيت الأخير للمجنون، وإنما ذكر هذا الخبر هنا وليس من أخبار المجنون لذكره فيه.
رجع الخبر إلى سياق أخبار المجنون
رأى المجنون أبيات أهل ليلى فقال شعرا
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي أن رهط المجنون اجتازوا في نجعة لهم بحي ليلى، وقد جمعتهم نجعة فرأى أبيات أهل ليلى ولم يقدم على الإلمام بهم وعدل أهله إلى جهة أخرى، فقال المجنون:
لعمرك إن البيت بالقبـل الـذي مررت ولم ألمم عليه لشـائق
وبالجزع من أعلى الجنيبة منزل شجا حزن صدري به متضايق
كأني إذا لم ألق ليلى معـلـق بسبين أهفوا بين سهل وحالـق
صفحة : 131
على أنني لو شئت هاجت صبابتي علي رسوم عي فيها التنـاطـق
لعمرك إن الحـب يا أم مـالـك بقلبي براني الله منه لـلاصـق
يضم علي الليل أطراف حبـكـم كما ضم أطراف القميص البنائق صوت
وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا سوى أن يقولوا إنني لك عاشق
نعم صدق الواشون إنت حبـيبة إلي وإن لم تصف منك الخلائق الغناء لمتيم ثقيل أول من جامعها. وفيه لدعامة رمل عن حبش.
حديث ليلى جارة لها من عقيل
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني أحمد بن الطيب قال قال ابن الكلبي: دخلت ليلى على جارة لها من عقيل وفي يدها مسواك تستاك به، فتنفست ثم قالت: سقى الله من أهدى لي هذا المسواك؛ فقالت لها جارتها: من هو? قالت: قيس بن الملوح، وبكت ثم نزعت ثيابها تغتسل؛ فقالت: ويحه لقد علق منى ما أهلكه من غير أن أستحق ذلك، فنشدتك الله، أصدق في صفتي أم كذب? فقالت: لا والله، بل صدق؛ قال: وبلغ المجنون قولها فبكى ثم أنشأ يقول:
نبئت ليلى وقد كنا نـبـخـلـهـا قالت سقى المزن غيثا منزلا خربا
وحبذا راكب كـنـا نـهـش بـه يهدي لنا من أراك الموسم القضبا
قالت لجارتها يوما تـسـائلـهـا لما استحمت وألقت عندها السلبـا
يا عمرك الله ألا قـلـت صـادقة أصدقت صفة المجنون أم كـذبـا ويروى: نشدتك الله ويروى: أصادقا وصف المجنون أم كذبا .
خروج ليلى مع زوجها وشعره فيه
وقال أبو نصر في أخباره: لما زوجت ليلى بالرجل الثقفي سمع المجنون رجلا من قومها يقول لآخر: أنت ممن يشيع ليلى? قال: ومتى تخرج? قال: غدا، ضحوة أو الليلة، فبكى المجنون ثم قال: صوت
كأن القلب ليلة قيل يغدى بليليى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح الغناء ليحيى المكي خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو، وفيه رمل ينسب إلى إبراهيم وإلى أحمد بن يحيى المكي؛ وقال حبش: فيه خفيف ثقيل بالوسطى لسليم.
وعظه رجل من بني عامر فأنشده شعرا
وقال الهيثم بن عدي في خبره. حدثني عبد الله بن عياش الهمداني قال حدثني رجل من بني عامر قال: مطرنا مطرا شديدا في ربيع ارتبعناه، ودام المطر ثلاثا ثم أصبحنا في اليوم الرابع على صحو وخرج الناس يمشون على الوادي، فرأيت رجلا جالسا حجرة وحده فقصدته، فإذا هو المجنون جالس وحده يبكي فوعظته وكلمته طويلا وهو ساكت لم يرفع رأسه إلي، ثم أنشدني بصوت حزين لا أنساه أبدا وحرقته.
صوت
جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى وفاضت له من مقلـتـي غـروب
ومـا ذاك إلا حـين أيقـنـت أنـه يكـون بـواد فـــيه قـــريب
يكون أجاجا دونكم فـإذا انـتـهـى إليكم تلقـى طـيبـكـم فـيطـيب
أظل غريب الدار في أرض عامـر ألا كل مهجـور هـنـاك غـريب
وإن الكثيب الفرد من أيمن الحمـى إلـي وإن لـم آتـه لـحـبــيب
فلا خير في الدنيا إذا أنت لـم تـزر حبيبا ولم يطـرب إلـيك حـبـيب وأول هذه القصيدة - وفيه أيضا غناء -: صوت
ألا أيها البيت الذي لا أزوره وهجرانه منى إلـيه ذنـوب
هجرتك مشتاقا وزرتك خائفا وفيك علي الدهر منك رقيب
سأستعطف الأيام فيك لعلهـا بيوم سرور في هواك تثيب هذه الأبيات في شعر محمد بن أمية مروية، ورويت ها هنا للمجنون في هذه القصيدة . وفيها لعريب ثقيل أول. ولعبد الله بن العباس ثاني ثقيل. ولأحمد بن المكي خفيف ثقيل.
وأفردت إفراد الطريد وبـاعـدت إلى النفس حاجات وهن قـريب
لئن حال يأس دون ليلى لـربـمـا أتى اليأس دون الأمر فهو عصيب
ومنيتني حتـى إذا مـا رأيتـنـي على شرف للـنـاظـرين يريب
صددت وأشمت العدو بصرمـنـا أثابك يا ليلى الـجـزاء مـثـيب
صفحة : 132
لقاؤه في توحشه ليلى وشعره في ذلك
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا مهدي بن سابق قال حدثنا بعض مشايخ بني عامر أن المجنون مر في توحشه فصادف حي ليلى راحلا ولقيها فجأة فعرفها وعرفته فصعق وخر مغشيا على وجهه، وأقبل فتيان من حي ليلى فأخذوه ومسحوا التراب عن وجهه، وأسندوه إلى صدورهم وسألوا ليلى أن تقف له وقفة، فرقت لما رأته به، وقالت: أما هذا فلا يجوز أن أفتضح به، ولكن يا فلانة - لأمة لها - اذهبي إلى قيس فقولي له: ليلى تقرأ عليك السلام، وتقول لك: أعزز علي بما أنت فيه، ولو وجدت سبيلا إلى شفاء دائك لوقيتك بنفسي منه، فمضت الوليدة إليه وأخبرته بقولها، فأفاق وجلس وقال: أبلغيها السلام وقولي لها هيهات إن دائي ودوائي أنت، وإن حياتي ووفاتي لفي يديك، ولقد وكلت بي شقاء لازما وبلاء طويلا. ثم بكى وأنشأ يقول:
أقـول لأصـحـابـي هـي الـشـمـــس ضـــوءهـــا قريب ولـكـن فـي تــنـــاولـــهـــا بـــعـــد
لقـد عـارضـتـنـا الـريح مـنـهــا بـــنـــفـــحة علـى كـبـدي مــن طـــيب أرواحـــهـــا بـــرد
فمـا زلـت مـغـشـيا عـلـــي وقـــد مـــضـــت أنـــ
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:48 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية5
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:46 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية4
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:45 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية3
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:44 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية2
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:42 pm من طرف Admin
» من كتاب الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:41 pm من طرف Admin
» نموذج من بناء الشخصية
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:39 pm من طرف Admin
» كيف تنشأ الرواية أو المسرحية؟
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:38 pm من طرف Admin
» رواية جديدة
الإثنين ديسمبر 09, 2013 5:26 pm من طرف Admin